الإصلاح والتغيير .. ومعضلة الدولة
|
مستقبل العشوائيين |
بقلم : سعد رجب صاق
......................
هل مصر حقاً أُمُ الدنيا ؟ وماذا نعنى بذلك ؟ هل نعنى أنها أقدم البلاد ، وأقدم الحضارات ، وأقدم أشكال الدولة المركزية ؟ وهل يشفع ذلك لها الآن ، وقد مالت أحوالها ، وتقهقرت مكانتها ، وتعاظمت مشاكلها ، وتقلص نفوذها ، وانكمش دورها ؟ وعلى الجانب الآخر ماذا يضيرها إذا لم تكن أُمَ الدنيا ، وبلد النيل والأهرام ؟ هل ذلك يقلل من قدرها فى نفوس أهلها ، وقلوب أبنائها ؟ وهل تقاس مكانة الأمم بماضيها أم بحاضرها أم بما ينتظرها فى مستقبل أيامها ؟ وهل يعوّض الماضى الزاهر عن الحاضر البائس والمستقبل المجهول ؟ وهل حب المرء لبلده مرتبط بحالها ؟ وهل يقوى أو يضعف تبعا لأوضاعها ؟ وهل الولاء والانتماء مرتبطان بمكانتها ، وما تفيضه على أبنائها من حدب ورعاية ؟ وما دور المصريين فى صناعة ماضيهم ، وتقرير حاضرهم ، والإعداد لمستقبلهم ؟
يجيب هذا المقال عن تلك الأسئلة وغيرها ، فى محاولة لتجلية الحقائق ، وكشف الأكاذيب والخرافات والأوهام ، وحماية الناس من تغييب الوعى ، والاستغراق فى الوهم ، فالأمم لا تبنى حاضرها على الزيف ، ولا تصنع مجدها ، وتعد لمستقبلها إلا على الحقيقة .
أولا : مصر ليست أُمَ الدنيا
حكاية أن مصر أُمُ الدنيا بدأها أهل الريف الذين يتوافدون على القاهرة للزيارة أو لقضاء مصالحهم ، فينبهرون بكبرها ، واتساع شوارعها ، وتعدد أحيائها ، وزحامها ، ومبانيها ، وأضوائها ، ومواصلاتها ، واحتوائها على كافة المرافق ، ومزارات الصالحين وآل البيت ، فأطلقوا على القاهرة أُمَ الدنيا ، ومن المعلوم أن القاهرة فى عرف أغلب المصريين هى مصر ، ولذلك لو سألت أحدا من الناس : إلى أين أنت ذاهب ؟ أو من أين أنت قادم ؟ سيقول لك : ذاهب إلى مصر ، أو قادم من مصر ، والمقصود القاهرة ، ثم أصبح المقصود فى كل الكتابات والحكايات ، وأحاديث الإعلام ، ومقالات الصحف ، والأعمال الفنية ، أن مصر الدولة هى أُمُ الدنيا ، لقِدَمها الموغل فى أعماق التاريخ ، وحضارتها الفرعونية التى أضافت الكثير من الإنجازات للتراث البشرى ، وأثّرّت فى الحضارات المجاورة ، ولآثارها الباقية التى تثير الدهشة بعظمتها ، ودقة نقوشها ، وزهاء ألوانها ، ولكن كل ذلك لا يعنى أن مصر هى أُمُ الدنيا ، فللدنيا أُمُ أخرى كما يجمع علماء الحضارات والتاريخ القديم ، وهى العراق ، أو ما كان يُطلق عليه Mesopotamia [1] حيث حدثت سلسلة من التطورات البشرية الهامة أدت إلى ظهور :
1- أول قرية فى التاريخ البشرى first village [2]
عاش الإنسان على الصيد ، والنباتات النامية طبيعيا ، حتى حوالى عشرة آلاف سنة مضت ، حيث طوّر فى منطقة الشرق الأوسط أنماطا أخرى للمعيشة ، معتمدا على الزراعة ، وتدجين الحيوانات ، وهو ما يعتبره بعض المؤرخين ثورة أدت إلى تغيرات جذرية فى الحياة "About ten thousand years ago , people in the Middle East evolved a radically different subsistence pattern based on agriculture and the management of domesticated animals . Some historians refer to this momentous development as a revolution , thereby implying sweeping change " وكان هذا أبرز ما يكون فى العراق ، حيث بدأ الناس يتجمعون فى قرى صغيرة ، وهو ما ترتب عليه تغيير فى أنماط المعيشة والسلوك والتنظيم والحياة الاجتماعية "we see the transition vividly in Iraq
people began settling in small villages
The domestication of plants and animals brought with it substantial changes in social outlook, behavior , and organization" ونتج عن هذه التغيرات زيادة حجم الأسر ، واختراع أنواع من الأدوات الزراعية المصنوعة من الحجر والخشب ، وظهور السلال والمنسوجات ، وحوالى 6,500 سنة قبل الميلاد اخترع الإنسان أهم أدوات ذلك الزمان ، وهى الفخاريات ، التى تُستعمل لأغراض عديدة مثل الطبخ والتجهيز والنقل والتخزين "Agriculture success resulted in large families
population growth
new technologies developed for items as ground-stone tools , wooden implements, baskets , and textiles
The most important innovation was pottery
about 6,500 B.C.E
adaptable to wide range of uses
storage, transport, preparation , and cooking" وطَوّر أول نظام للرى من شبكة من القنوات ، وما يرتبط بذلك من تنظيم توزيع المياه .. يطلق علماء الآثار على تلك الفترة Ubaid ، وتمتد لحوالى 1,600 عام ، من 5,900 إلى 4,300 قبل الميلاد ، وتشمل كل العراق حتى هضبة الأناضول وشمال سوريا "The dearth of rainfall in the south required irrigation for the cultivation of cereal crops
irrigation involved community participation in the construction and maintenance of network of ditches , as well as decisions about who was to receive how much water , where , and when "
2- أول مدينة فى التاريخ البشرىfirst city [3]
حوالى 3,600 سنة قبل الميلاد ظهرت فى جنوب العراق أول مدن فى التاريخ البشرى ، وأكبرها هى Uruk والتى يحيطها سور من 10 كيلومترات ، ومدخل فخم ، وأعمدة يصل قطر الواحد منها إلى 2 متر ، مزينة بموزيك من الطين المحروق والجبس "Uruk is a city many times larger than any other settlement observed in Iraq at the time
Uruk had a monumental entrance , whose double staircase and massive columns , over 2 meters in diameter , were decorated with mosaics made from tens of thousands of baked clay or gypsum cones , painted blocks , red, or white " كما ظهرت لأول مرة فى التاريخ أعمال فنية تمثل أشخاصا وآلهة "A critical development was the world's first art made to represent specific , identifiable persons and deities" كما ظهرت لأول مرة أيضا الأختام التى استخدمت فى ختم أقفال حجرات التخزين والمخازن ، والوثائق ، وللتدليل على السلطة والملكية ، وفى الشحن وغيرها "Another innovation of this period was the cylinder seal
of soft or hard stones or other material
to seal the door locks of storerooms and warehouses , as well as packages of goods and top of containers
seals were also used in connection with record-keeping
to signify authority and ownership
"
3- أول دولة فى التاريخ البشرى first state [4]
فى جنوب العراق أسس السومريون Sumerians منذ 3,000-4,000 ق.م مجموعة من المدن التى كانت من الكبر فى حجمها ، وسكانها ، وأنشطتها الاقتصادية ، ونظامها الإدارى ، ما جعل المؤرخين يعتبرون كل واحدة منها دولة ، ولذلك أطلقوا عليها المدن الدول أو city-states ، حكم كل واحدة منها ملك ، وتعاون هؤلاء الملوك معا لأغراض عسكرية ودينية وتجارية .
4- أول امبراطورية فى التاريخ البشرى first empire [5]
أسسها الأكاديون Akkadians على يد ملكهم Sargon فى 2334 ق.م فى جنوب العراق ، وكان عمادها جيش قوى فى عدده وعدته ، ونظام اقتصادى تجاوز الزراعة وتربية الحيوان إلى الاعتماد على الذهب والفضة كمصدر للثروة ، واستمرت حوالى قرن من الزمان .
تلخص هالة فتاح [6] فى كتابها (تاريخ العراق المختصر) [7]' A Brief History of Iraq ' عددا من الإنجازات التى حدثت فى العراق للمرة الأولى فى تاريخ البشرية ، وهى : أول مدينة ، وأول نظام للرى ، وأول دولة ، وأول امبراطورية ، وأول نظام للكتابة ، وأول معابد ، وأول ديانات معروفة ، وأن السومريين والأكاديين والبابليين والأشوريين أسسوا حضارات عظيمة فى تلك المنطقة " Historically , Iraqi society boasts a number of firsts : Ancient Mesopotamia was the site of the world's first cities, first irrigation systems, first states , first empires , first writing , first monuments , and first recorded religions
Sumerians , Akkadians , Babylonians , and Assyrians built and rebuilt large , well-organized civilizations "
[1] يُشار إلى العراق فى التاريخ القديم بالمصطلح الأغريقى Mesopotamia ، والذى يعنى بلاد ما بين النهرين ، إشارة إلى نهرى دجلة والفرات ، ويستعمل علماء الآثار والتاريخ القديم المصطلح للدلالة على الأرض الممتدة بين النهرين من الخليج وحتى هضبة الأناضول ، بينما يستخدم الكتاب المعاصرون المصطلح للإشارة إلى العراق ما قبل الإسلام ، بينما تستخدم كلمة العراق للإشارة إلى تلك المنطقة بعد الإسلام .
[2] Foster, Benjamin.R . and Karen Polinger Foster . Civilizations of Ancient Iraq .pp.7-11. Princeton University Press , NJ , 2009
[3] المرجع السابق ص 15-22
[4] المرجع السابق ص 35-50
[5] المرجع السابق ص 51-70
[6] هالة فـتّاح Hala Fattah حاصلة على الدكتوراة فى تاريخ الشرق الأوسط المعاصر من جامعة كاليفورنيا لوس أنجيلوس .
[7] Fattah, Hala and Frank Caso . A Brief History of Iraq. p.1 . Facts on File , NY, 2009
ثانيا : مصر فى القرآن الكريم
يردد المصريون كثيرا أن مصر هى البلد الوحيد الذى ورد ذكره مرارا فى القرآن الكريم ، وأن ذلك يعنى أن لها مكانة خاصة ، وأنها محفوظة بحفظ القرآن الكريم ، والحقيقة غير ذلك تماما ، والمتأمل فى الآيات الخمسة التى ورد اسم مصر فيها صراحة يجد الآتى :
1- " وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذى هو أدنى بالذى هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضُربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون " البقرة : 61 .. فاليهود هنا أرادوا استبدال " الذى هو خير " : المن والسلوى ، بـ " الذى هو أدنى " : البقل والقثاء والفوم والعدس والبصل ، فأمرهم الله تعالى بالذهاب إلى مصر ففيها ما سألوا ، وليس فى الكلام هنا أية خصوصية لمصر سوى أن بها الذى هو أدنى وأقل من المأكولات التى تاقت إليها نفوس اليهود ، مع مراعاة أن المفسرين اختلفوا فى المقصود بمصر ، فبعضهم يرى أن " مصراً " فى الآية إشارة إلى مصر من الأمصار غير معين ، وليس إلى مصر المعروفة ، وآخرين يرون أنها مصر المعروفة [ ابن الجوزى فى (زاد المسير ) [.
2- " وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين " يونس : 87 .. الآية هنا تقرر حقيقة مكانية ، فقوم موسى وهارون عليهما السلام كانوا فى مصر ، واتخاذ بيوتهم قبلة ولإقامة الصلاة أمرٌ من الله تعالى ، لخوف المؤمنين من بطش فرعون وجبروته إذا مارسوا صلواتهم علانية .
3- " وقال الذى اشتراه من مصر لامرأته أكرمى مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف فى الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون " يوسف : 21 .. الآية تشير إلى حقيقة تاريخية ، وهى أن من اشترى يوسف عليه السلام ، بعد أن أخرجه بعض السيارة من غيابة الجب ، التى ألقاه بها أخوته ، هو واحد من مصر .
4- " فلما دخلوا على يوسف أوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين " يوسف : 99 .. هنا يرحب يوسف عليه السلام بأبويه ، وقد أنعم الله عليه وأصبح وزيرا ، أى أن أهله فى أمان وسلام ، ومن كان وزيرا أو حاكما أو مسؤولا كبيرا لا شك أنه يضمن الأمن والسلام لأهله ، سواء كان ذلك فى مصر أو غيرها ، أى أن الأمن هنا مرتبط بتلك الواقعة المحددة وليس على إطلاقه .
5- " ونادى فرعون فى قومه قال يا قوم أليس لى ملك مصر وهذه الأنهار تجرى من تحتى أفلا تبصرون " الزخرف : 51 .. هنا حاكم ظالم يدّعى ملكيته للبلاد ، ولا يمكن أن يكون ذلك إلا ذما للحاكم الذى طغى وتكبر ، وللبلاد التى استسلمت لطغيانه وتكبره .
أشار القرآن الكريم إلى مصر فى مواضع أخرى عديدة ( 23 مرة ) بدون ذكر اسمها صراحة ، ومن ذلك قوله تعالى : " قال اجعلنى على خزائن الأرض إنى حفيظ عليم " يوسف : 55 ، " وكذلك مكنا ليوسف فى الأرض يتبوأ منها حيث يشاء " يوسف : 56 ، ففى الآية الأولى يطلب يوسف عليه السلام من عزيز مصر أن يجعله وزيرا لماليتها أو مسؤولا عن اقتصادها ، وتشير الآية الثانية إلى الاستجابة لطلبه ، والتمكين له ، وفى كلتيهما تُستخدم كلمة الأرض للتدليل على مصر ، والكلام لا يعنى أن مصر خزانة الله فى أرضه كما يدّعى البعض ، ولكن استعمال كلمة الأرض مازال شائعا فى ريف مصر للدلالة على المال والثروة والتمكين والنفوذ وغيرها من الدلالات المشابهة .
أشار القرآن الكريم إلى بعض المواقع أو الأماكن فى مصر فى كثير من الآيات ومنها : " والتين والزيتون * وطور سينين " التين : 1-2 ، " وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين " المؤمنون : 20 ، " والطور * وكتاب مسطور * فى رق منشور " الطور : 1-3 ، " وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا " مريم : 52 ، " إنى أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى " طه : 12 ، " وهل أتاك حديث موسى * إذ ناده ربه بالوادى المقدس طوى " النازعات : 15-16، " ... فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا ... " الآعراف : 143، " فلما أتاها نودى من شاطئ الواد الأيمن فى البقعة المباركة من الشجرة ... " القصص : 30 ، " وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة ... " الأعراف : 171.. كل تلك الآيات تشير إلى سيناء ، وجبل الطور ، والوادى المقدس ، وهى مواضع مرتبطة بقصة موسى عليه السلام ، وتجلى الله تعالى له ، وهبوط الوحى عليه ، ورفع الجبل فوق بنى إسرائيل ، مع ملاحظة أن هناك من المفسرين من يرى أن كل تلك المواضع ليست فى سيناء المصرية ، ولكنها فى منطقة أخرى فى شمال جزيرة العرب
أشار القرآن الكريم أيضا إلى مواضع أخرى فى مصر مثل مجمع البحرين حيث التقى موسى والخضر عليهما السلام " وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين ... " الكهف : 60 ، وإلى الربوة التى أوى إليها عيسى ومريم عليهما السلام " وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين " المؤمنون : 50 ، مع ملاحظة اختلاف المفسرين فى موضع هذه الربوة كما قال ابن الجوزى فى (زاد المسير ) على أربعة أقوال ... والرابع : مصر ، وقد أشار القرآن الكريم أيضا إلى نهر النيل " ... فاذا خفت عليه فألقيه فى اليم ... " القصص : 7
من الواضح فى كل تلك الآيات أن القرآن الكريم لم يرتب لمصر أية خصوصية أو فضل على غيرها من البلاد ، ومدار الآيات حول حقائق زمانية أو مكانية أو أحداث تعرض لها بعض أنبياء الله مع أقوامهم : يوسف ، وموسى ، وهارون عليهم السلام ، ووقوع تلك الأحداث ، أو وجود هؤلاء الأنبياء على أرض معينة لا يعنى تقديس تلك الأرض أوتفضيلها إلا إذا كان هناك نص واضح وصريح بذلك ، وفى حالة مصر فإن هذا النص غير موجود ، ومحاولة إيجاد تلك القداسة أو الأفضيلة إجحاف بالنص ، وتحميله ما لا يحتمل .
ثالثا : مصر فى السنة النبوية الشريفة
كما زعم الكثيرون أن القرآن الكريم اختص مصر بمكانة وبأفضلية ، وبذكرها صراحة دون غيرها ، فإن آخرين زعموا أن هناك أحاديث كثيرة فى فضل مصر ومناقبها ، وهم مخطئون أيضا ، فمعظم الأحاديث الواردة فى شأن مصر مكذوبة أو منكرة أو ضعيفة أو لا أصل لها ، ومن أشهرها :
1- " إذا فتح الله عليكم مصر ، فاتخذوا فيها جندا كثيفا ، فذلك الجند خير أجناد الأرض ، فقال أبو بكر : ولِمَ يا رسول الله ؟ قال : لأنهم وأزواجهم فى رباط إلى يوم القيامة " .. هذا الحديث إسناده ضعيف ، لأن فيه ابن لهيعة وهو ضعيف ، وفيه الأسود بن مالك وليس له ترجمة ، وفيه بحير بن ذاخر وهو مجهول الحال .
2- " مصر كنانة الله فى أرضه ، ما طلبها عدو إلا أهلكه الله " .. الكنانة هى الجعبة الصغيرة من الجلد لحفظ السهام ، والمعنى أن مصر تشبه كنانة السهام التى يصيب الله تعالى بها الطغاة والظالمين ، والحديث لا سند ولا أصل له ، ولم يرد فى أى من كتب السنة .
3- " مصر أطيب الأرضين ترابا ، وعجمها أكرم العجم أنسابا " .. حديث مكذوب أو موضوع .
4- " من أعيته المكاسب فعليه بمصر ، وعليه بالجانب الغربى منها " .. حديث ضعيف .
5- " قُسمت البركة عشرة أجزاء ، فجعلت تسعة فى مصر ، وجزء بالأمصار " .. حديث لا أصل له .
6- " الله الله فى أهل المدرة السوداء ، السحم الجعاد ، فإن لهم نسبا وصهرا " .. حديث لا أصل له .. المدرة : التراب ، السحم : السُود ، ومفردها أسحم ، الجعاد : أصحاب الشعر الجعد .
7- " تكون فتنة أسلم الناس فيها ، أو خير الناس فيها ، الجند الغربى " قال عمرو بن العاص : فلذلك قدمت عليكم مصر ..حديث ضعيف أو منكر .
8- " ذكرت مصر عند رسول الله (ص) ، فقال : السوداء تربتها ، المنتنة أرضها ، الحلفاء نباتها ، القبط أهلها ، من دخل فيها ، وسكن فيها ، وأكل فى آنيتها ، وغسل رأسه بطينها ، ألبسه الله الذل والهوان ، وأذهب عنه الغيرة ، وإن كان لا بد من السكنى فيها ، فعليكم بجبل يقال له المقطم ، فإنه مقدس ، أو بقرية يقال لها الأسكندرية فإنها إحدى العروسين ليوم القيامة " .. حديث منكر .
9- " إن الله سيفتح عليكم مصر من بعدى فانتجعوها " .. حديث لا أصل له .
10- " الجيزة روضة من رياض الجنة ، ومصر خزائن الله فى الأرض " .. حديث موضوع .
11- " بارك الله فى عسل بنها " .. حديث منكر .
12- " كنا عند رسول الله (ص) يوما ، فأتى بثوب من ثياب المعافر ، فقال أبو سفيان : لعن الله هذا الثوب ، ولعن من يعمل له ، فقال رسول الله (ص) : لا تلعنهم فإنهم منى وأنا منهم " .. حديث ضعيف .. المعافر : نوع من الثياب .
13- " أوصيكم بأهل البلدة السوداء " .. حديث لا أصل له .
14- " أهل مصر الجند الضعيف ، ما كادهم أحد إلا كفاهم الله مؤنته " .. حديث منكر.
15- " إنكم ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط ، فاستوصوا بأهلها خيرا ، فإن لهم ذمة ورحما ، فإذا رأيتم رجلين يقتتلان فى موضع لبنة فاخرج منها " .. رواه مسلم (2543) عن أبى ذر (رض) ، وذكره الالبانى فى (صحيح الجامع / 2307 ) : " إنكم ستفتحون مصر ، وهى أرض يسمى فيها القيراط ، فإذا فتحتوها فاستوصوا بأهلها خيرا فإن لهم ذمة ورحما " ، وذكر الألبانى أيضا فى (صحيح الجامع / 698) : " إذا فتحت مصر فاستوصوا بالقبط خيرا ، فإن لهم ذمة ورحما " .. استوصوا أى اقبلوا وصيتى فيهم ، والوصية هنا من باب الوصية الحسنة ، وليست من باب الفضل أو المنقبة ، والقيراط جزء من أجزاء الدينار والدرهم وغيرها ، والذمة هى الحرمة والحق والأمان ، والرحم القرابة ، لأن هاجر أم إسماعيل عليهما السلام منهم .
16- " الله الله فى قبط مصر ، فإنكم ستظهرون عليهم ، ويكونون لكم عدة وأعوانا فى سبيل الله " .. حديث صحيح .. القبط إشارة إلى أهل مصر على وجه العموم ، وليس إلى النصارى ، وقد ورد فى الحديث السابق أيضا الوصية بالخير لأهل مصر ، وهما الحديثان الصحيحان الوحيدان بين أحاديث كثيرة كلها ليست صحيحة ، وما محاولة البعض وخاصة فى أيامنا المعاصرة خلع بعض الأفضال على مصر وأهلها أو جيشها باستخدام أحاديث ضعيفة أو مكذوبة أو لا أصل لها ، إلا من قبيل الدعاية الكاذبة ، والحيل السياسية الخائبة ، والضحك على الناس وتضليلهم ، والغريب أنه أيضا من قبيل توظيف الدين فى السياسة ، أو من أجل مكاسب سياسية أو دنيوية ، وهو ما يلومون الإسلاميين دائما على فعله .. ذكرت صحيفة (الوفد) فى عددها بتاريخ 10 يوليو 2013 ، تصريحا للمفتى الأسبق ، وعضو هيئة كبار العلماء ، يقول فيه د. نصر فريد واصل : " الجيش خط أحمر ، وقتال الجيش محاربة لله ورسوله ، وعندما نحارب الجيش الذى قال عنه الرسول الكريم " خير أجناد الأرض " ، فإنه من يُقتل فى هذه الحالة فهو معتد بعيد كل البعد عن الشهادة ... كيف نستقوى بالأجانب ليحتلوا بلادنا ، ونحن مأمورون بالجهاد ضدهم ؟ فـ " مصر كنانة الله فى أرضه " " .. هنا يستشهد المفتى الأسبق بحديث ضعيف الإسناد " ... خير أجناد الأرض " ، وحديث لا أصل له " مصر كنانة الله ... " ، والغريب أن المفتى السابق الشيخ على جمعه ، يستخدم أيضا وصف " الجند الغربى " الذى جاء فى حديث ثالث ضعيف أو منكر ، فى حديثه أمام الفريق السيسى ووزير الداخلية ، حسب فيديو إدارة الشؤون المعنوية بوزارة الدفاع ، بتاريخ 18 أغسطس 2013.
رابعا : حكاية أجدع شعب
هل الشعب المصرى هو أجدع الشعوب حقاً ؟ الإجابة : لا ، الشعب المصرى ليس هو أجدع الشعوب ، والقول بذلك نوع من تضليل النفس والضحك عليها ، فالشعب المصرى له من العيوب والنقائص ما لا يمكن تجاهله ، ويكفى أنه شعب لا يحترم القانون ولا النظام ، ولا يحترم العلم ولا العمل ، وغيرها الكثير ( راجع مقال : الإصلاح والتغيير .. ومعضلة الشعب ) .
كتب عماد الدين حسين فى صحيفة ( الشروق ) بتاريخ 23 أغسطس 2013 ، مقالا تحت عنوان ( لسنا أجدع شعب ) ، وفيه يبدأ بالتساؤل : " هل صحيح أننا أفضل وأمهر وأجدع شعب فى العالم ؟ " .. ثم يجيب : " طبعا لا ، وربما حتى صياغة السؤال عنصرية خاطئة ، والمؤكد أننا شعب عادى مثل أى شعب على وجه الأرض ، نتفوق عندما نطبق قواعد التفوق ، ونتخلف عندما لا نفعل ذلك " ، ثم يذكر الكاتب أمثلة من تصرفات وسلوكيات شاذة ، مثل : وضع البعض فلنكات أمام قطار سريع فى محطة البدرشين ، ومحاولة آخرين سرقة رأس أحد أسود كوبرى قصر النيل ، ومحاولة مجموعة من الركاب العاديين تعطيل القطار السريع القادم من القاهرة ، وبعدها يتساءل : " لماذا تتكرر هذه النوعية الشاذة من السلوك كثيرا فى الفترة الأخيرة ؟ ".. ثم يجيب على تساؤله : " الثورة كشفت عن وجود هؤلاء البشر غير الأسوياء ، ولكنها لم تخلقهم من العدم ... كانوا يعيشون بيننا ، لكن الغطاء القمعى المحكم الذى كان يضعه نظام مبارك لم يكن يجعل معظمنا يرى هذا المجتمع ' المسوس والمدود ' ، وعندما سقط مبارك وانكشف الغطاء ، اكتشفنا وجود هذا ' البكابورت ' ... إنهم الأبناء الحقيقيون لمبارك ، الذين درسوا فى مدارسه المتخلفة ، وكونوا ثقافتهم الهشة من إعلامه المتعفن ، ولم يتلقوا أى خدمات حقيقية تجعلهم يتحولون إلى مواطنين صالحين يخدمون مجتمعهم ... علينا أن نتواضع قليلا ونتوقف عن مقولة أننا أجدع شعب فى العالم ، فالجدعنة تنشأ عند وجود دولة عادلة وقوية بها سيادة قانون يطبق على الجميع . "
قد نستطيع أن نضحك على أنفسنا بادعاء الجدعنة ، ونضحك على غيرنا بالتظاهر بالجدعنة ، ولكننا بالقطع نعلم أننا نفتقد الجدعنة فى كل تصرفاتنا وسلوكياتنا ، ولا يمكن أن نكون جدعانا إلا إذا أقررنا بعيوبنا ، وأصلحنا من أخطائنا ، وسلكنا مسلك الأسوياء .
خامسا : حكاية خير الأجناد
فى الفقرة الثالثة من هذا المقال وجدنا أن حديث " ... خير أجناد الأرض ... " حديث غير صحيح ، رغم أن الإعلاميين والكثير من الأفّاكين ما زالوا يصرون عليه استهبالا واستعباطا ، ولكن دعنا من تلك المحاولات البلهاء لإثبات خيرية غير موجودة , ولننظر للأمر من زوايا أخرى ، نعرفها ولكننا نتغاضى عنها ، ظناً أن الوطنية تفرض علينا ذلك ، رغم أن الوطنية الحقيقية تفرض على أصحابها الصراحة والمكاشفة والشفافية ، فهى أساسيات الإصلاح والتغيير .. فى هذه الفقرة سأتناول قضيتين هامتين :
1- خير الأجناد لا يتدخلون فى السياسة والاقتصاد
.
فى 1952 حدث ما أسميناه ثورة 23 يوليو .. المجتمع وقتها كان فى حاجة ملحة إلى تغيير وإصلاح ، فحدث الانقلاب العسكرى الذى أبهر المصريين بشعاراته ، ولكنه خذلهم بممارساته ، وبدل أن ينسحب العسكر ، ويتركوا الأمر لأهل الخبرة والسياسة والاقتصاد ، ليبدأ المجتمع تطوره الطبيعى على طريق الحرية والديموقراطية والنهضة ، تمسكوا بالسلطة ، وأساؤوا التصرف ، واستخدموا القمع والترهيب ، ليحوّلوا مصر إلى دولة التعذيب الأولى فى العالم ، وليتحقق على أيديهم فى 1967 أكبر هزيمة عسكرية فى التاريخ المعاصر ، وبعد انتهاء الحقبة الناصرية ، استمر العسكر فى سيطرتهم على كل مفاصل الدولة ، منتهجين نفس السياسات القمعية الإرهابية ، ولكنهم تحولوا من السياسات الاقتصادية الاشتراكية إلى نقيضها الرأسمالى الانفتاحى الذى لا كوابح ولا ضوابط له ، وتحققت عللى أيديهم مرة أخرى أكبر هزيمة فى التاريخ المعاصر , ولكنها هذه المرة هزيمة سياسية ، غير أنها أشد فى ضررها وعواقبها من الهزيمة العسكرية ، متمثلة فى اتفاقية السلام ومعاهدة كامب ديفيد مع إسرائيل ، والتى باعت القضية الفلسطينية ، وفرّقت العرب ، وقضت على مكانة مصر عربيا وإقليميا ودوليا .. يقول جمال حمدان فى أوراقه الخاصه ، والتى نشرها شقيقه عبد الحميد صالح حمدان ، فى كتاب بعنوان ( العلامة الدكتور جمال حمدان ولمحات من مذكراته الخاصة ) ، أصدرته ( عالم الكتب ) فى 2010 : " أنه بقيام إسرائيل فى عام 1948 ، فقدت مصر ربع دورها التاريخى ، ثم فقدت نصف وزنها بهزيمة 1967 ، ثم فقدت بقية وزنها جميعه فى كامب ديفيد ... مصر الآن جثة محنطة ، مومياء سياسية ، كمومياواتها الفرعونية القديمة " .. أى أن الحكم العسكرى الناصرى الساداتى قضى على مكانة مصر عربيا وإسلاميا وإقليميا وعالميا .. يصف جمال حمدان فى أوراقه الخاصة ما آلت إليه مصر : " لم تعد مستقلة ذات سيادة ، وإنما هى محمية أمريكية تحت الوصاية الإسرائيلية ، أو العكس محمية إسرائيلية تحت الوصاية الأمريكية " ... لقد : " تم دفنها فى كامب ديفيد ، وفى كامب ديفيد ماتت فلسطين ، وتم دفنها فى مدريد وواشنطن " ( إشارة إلى مؤتمر مدريد للسلام فى 1991) .. لقد حول العسكر مصر من دولة واعدة إلى كيان هش ضعيف ، وتناسوا شعارات الحرية والكرامة ، وحولوها إلى الكبت والإرهاب ، وسحل الإنسان المصرى وتحقيره وامتهانه ، وبدلا من العدالة الاجتماعية التى طنطنوا بها أصبح المصريون جميعا فقراء ، يتكففون العرب والعجم ، ويتحينون الفرصة للهروب أو الهجرة .. ثم جاء الزمن المباركى ليواصل نفس النهج الساداتى فى التبعية العمياء للغرب وإسرائيل ، وفى تدمير أساسات الاقتصاد المصرى ، وبيع أصوله بثمن بخس ، ومواصلة تدمير النظام التعليمى والصحى ، والحياة السياسية ، والروابط الاجتماعية .. ستون عاما من حكم العسكر لم تترك شيئا أو أحدا إلا وحرفته عن الحالة والطبيعة السوية ، لتكون المحصلة النهائية : " دولة بلا شعب ، وشعب بلا دولة . "
جاءت انتفاضة 25 يناير 2011 كبارقة أمل فى عهد جديد ، يرجع فيه العسكر إلى وظيفتهم الأساسية فى حماية حدود البلاد ، وبعد انتخابات مجلس الشعب والشورى والانتخابات الرئاسية وإقرار دستور جديد ، فى جو جديد من النزاهة والشفافية ، استبشر الكثيرون خيرا ، ولكن العسكر كانوا بالمرصاد للديموقراطية الوليدة ، فلم يتركوها تنمو وتتطور ، وتكالبت عليها قوى الفساد القديمة جميعها : العسكر والشرطة والقضاء والإعلام وأصحاب الثروة الحرام ، وحتى الأزهر والكنيسة ، ليتم تخليق ما يسمى بحركة تمرد ، وجمع توقيعات يتشكك الكثيرون فى مصداقيتها ، ثم مظاهرات 30 يونيو 2013 التى تم تضخيمها بصورة هزلية تدلل على أننا شعب مازالت ( كلمة توديه وكلمة تجيبه ) ، وانحاز العسكر إلى فصيل من المجتمع ضد باقى المجتمع ، وقاموا بانقلابهم فى أكبر تجاوز للشرعية والقانون والعقل والمنطق ، لتعود مصر مرة أخرى أسيرة حكم عسكرى أمنى قمعى ، تجاوز فى همجيته ودمويته كل الحدود .. ما حدث فى مصر بين 25 يناير 2011 ، 3 يوليو 2013 يحتاج وقفة لتـأمل معانيه ودلالاته الكثيرة ، ولكن ما يهمنى فى هذا المقام الأمور التالية :
أولا : الانقلابات العسكرية أيا كانت أسبابها ، كارثية فى تأثيراتها وعواقبها
دأب المصريون طوال تاريخهم على تسمية الأشياء بغير أسمائها ، وهى علة من أكبر عللنا ، ومرض من أخطر أمراضنا ، لأن ذلك يعنى ببساطة أننا نضحك على أنفسنا ، ومن يضحك على نفسه يعيش الوهم والخيال ، ولا يستفيق من هلاوسه وخزعبلاته .. عندما تطالب نخبةُ المجتمع العسكرَ بالانقلاب على الشرعية ، فلا بد أنها نخبة تهلوس ، وعندما يطالب قطاع من الشعب العسكر بالانقلاب على الشرعية ، فلا بد أنهم يهلوسون ، وعنما يهلل الإعلاميون والصحافيون لانقلاب عسكرى ، فلا بد أنهم يهلوسون ، وعندما نسمى انقلابا عسكريا ثورة ، فلا بد أننا نهلوس ، وعندما نصف قطاعا من المجتمع بالإرهابيين ، فلا بد أننا نهلوس ، وعندما يصبح أصدقاؤنا أعداءً ، وأعداؤنا أصدقاءً ، فلا بد أننا نهلوس ، ولا بد أن خللا فكريا وعقليا ونفسيا قد أصابنا وتمكن منا .
ما حدث فى 3 يوليو 2013 هو انقلاب عسكرى بكل خصائصه ومواصفاته ، وبكل عواقبه الكارثية على المجتمع ، ولكن لأنه حدث فى مصر ، فهو ليس انقلابا وإنما ثورة ، وهو ما أضحك الآخرين علينا ، وجعلهم يتندرون من منطقنا العجيب .. كتب Robert Fisk [1] ساخرا : ( متى يكون الإنقلاب العسكرى ليس انقلابا عسكريا ؟ عندما يحدث فى مصر )'When a Military Coup not a Military Coup ? When it Happens in Egypt , Apparently ' ثم مضى يتحدث عن أنه وللمرة الأولى فى تاريخ العالم ، فإن الجيش يستولى على السلطة ، ويعزل ويسجن رئيسا منتخبا ديموقراطيا ، ويعطل الدستور ، ويعتقل المعارضين ، ويغلق المنافذ الإعلامية ، وينشر مدرعاته فى شوارع العاصمة ، ومع ذلك فالانقلاب العسكرى ليس انقلابا عسكريا "For the first time in the history of the world , a coup is not a coup . The army take over , depose and imprison the democratically elected president , suspend the constitution , arrest the usual suspects , close down television stations and mass their armor in the streets of the capital " ثم يجد الكاتب شيئا آخر يحدث ولأول مرة فى العالم : أن تطالب الجماهير بانقلاب عسكرى قبل حدوثه فعلاً " the first massed people in the world to demand a coup prior to the actual coup taking place " ثم يختم الكاتب قائلا : ورغم ذلك فإسرائيل لا بد وأن تكون سعيدة بما حدث ، لأنها تعرف ما هو الانقلاب ، وتعرف أيضا أن بإمكانها أن تعاود لعب دورها المعهود كالديموقراطية الوحيدة فى المنطقة ، محاطة بجيران من الحكام العسكريين الذين تفهمهم جيدا "Israel , however , must be pleased . It knows a coup when it sees one- and it's now back playing its familiar role as the only democracy in the Middle East , and with the kind of neighbors it understands : military rulers "
يتفكه William Saletan [2] مما حدث أيضا ، فيكتب : جنرالات مصر يزيحون رئيسهم ، ويُقْسمون أن ذلك ليس إنقلابا ، ولكنه من أجل الديموقراطية "It's not a coup , we swear
it's all about democracy"
يناقش Marc Lynch [3] ما حدث فى مصر ، واصفا إياه بالسقوط ، ويقول : لا ينبغى لأحد أن يحتفل بالانقلاب العسكرى ضد أول رئيس مصرى منتخب انتخابا حرا ، أيا كانت درجة فشله فى إدارة شؤون الدولة ، وأيا كانت درجة كراهيته للإخوان ، فتدخل الجيش إقرار بفشل النخبة السياسية ، ودلالة على السقوط الكارثى فى تجاوز المرحلة الانتقالية ، كما أن تحقيق الاستقرار على حساب العملية الديموقراطية يعنى الفشل السياسى "Nobody should celebrate a military coup against Egypt's first freely elected president , no matter how badly he failed or how badly they hate the Muslim Brotherhood" إن مشكلة مصر الحقيقية هى ضعف مؤسساتها وافتقادها للشرعية ... والخطر الحقيقى الذى يواجهها الآن هو أن تقع فريسة لمسلسل لا نهاية له من سقوط الحكومات ، وتدخل الجيش ، والانتفاضات الشعبية .. لقد أثبتت المؤسسة العسكرية عدم قدرتها أو كفاءتها فى إدارة شؤون الدولة ، كما أن الانقلابات العسكرية نادرا ما تكون خيارا حقيقيا تجاه الاستقرار والديموقراطية ، ويلزم قيام مؤسسات شرعية ، وعملية سياسية لتحقيق التوافق ، وحل الخلافات "the real problem was always the weakness and illegitimacy of political institutions
Egypt faces a real risk of becoming trapped in an endless loop of failed governments, military interventions, and popular risings
The Egyptian military has already proved its own inability to effectively run the country , and military coups are rarely a viable pathway toward democracy or stability"
يصف المفكر الأمريكى الشهير Noam Chomsky [4]فى كلمات قاطعة ما حدث فى مصر بالانقلاب العسكرى what happened was definitely a military coup"" .. وهو ما يراه أيضا أستاذ السياسة الأمريكى Takona Park [5] : ' نعم .. ماحدث فى مصر هو انقلاب عسكرى' Yes , That's a coup in Egypt ' '
قد يجادل البعض بأن الانقلابات العسكرية ربما تكون نافعة ومفيدة فى بعض الأحيان ، وفى الحالة المصرية أنها استجابة لرغبة شعبية ، ولكن الحقيقة تبقى أنها جميعها ضارة ، وأنها عدوان على الديموقراطية ، وانحراف عن مسارها ، وتجاوزلآلياتها ، وتعويق لعملية التطور الطبيعى لنظام الحكم ومؤسساته السياسية ، والنضج السياسى والفكرى للدول والمجتمعات ، وزج للمؤسسات العسكرية فى غير مجالها ، وفتح لشهيتها للجور على المؤسسات الشرعية المنتخبة تحت مختلف الحجج والدعاوى ، وإثارة لدعاوى الفتن والتشرذم والاختلاف بين أطياف المجتمع .. إن الانقلابات العسكرية هى بلطجة ، وفرض قسرى لتوجهات أصحاب البيادة والدبابة ، ومن يدور فى فلكهم من الهامشيين والشراذم السياسية التى تلفظها المجتمعات ، ولا يجدون لأنفسهم دورا أو مكانة إلا من خلال موالاة العسكر وتملقهم ، والحالة التُرْكية ليست منا ببعيد ، وحالة الأحزاب الليبرالية واليسارية وغيرها من سقط المتاع الحزبى فى مصر واضحة ومعروفة ، ولا يمكن لمجتمع يبغى الاستقرار ، وينشد المضى قدما بخطوات راسخة ، أن يلجأ إليها .. وحتى الادعاء بأنها تمت فى مصر بناء على رغبة شعبية ، حيث أن الشعب هو مصدر السلطة والشرعية ، ادعاء باطل ، فليس هناك دليل عددى أو قانونى ( الدليل العددى والقانونى الوحيد ، والمتعارف عليه ، والمقبول من كل البشرية ، هو صندوق الانتخاب ) أن غالبية الشعب المصرى طلبت ذلك ، كما لا يمكن اعتبار أن فصيل من المجتمع هو المجتمع أو الناس ، وأن الاستجابة لهذا الفصيل ضد الفصيل الآخر ، تمثل أى تصرف عادل أو ديموقراطى أو مُجنب حقاً لشرور الفوضى الأهلية أو الاحتراب الداخلى .. يقول Noam Chomsky [6]: ' إن القرارات السياسية للإخوان يمكن نقدها ، ولكن لا يمكن تجاهل الحركة لأنها جزء من الناس ، وهذا سبب لقادة الانقلاب أن يكفوا عن ادعاء أنهم يتصرفون بالنيابة عن الناس فى مصر ' "The Muslim Brotherhood's political decisions could be criticized , but one cannot ignore the movement because it is part of the people . That's yet another reason for the coup leaders not to claim that they are acting on behalf of the people of Egypt "
ويمكن الإضافة لذلك بأن المعارضة للانقلاب لم تكن مقصورة على الإخوان ، وبالقطع ليست الآن مقصورة عليهم ، ولكن قطاعات عريضة من المجتمع قد انضمت إليهم وإلى غيرهم فى رفض الانقلاب وممارساته ، وهو ما يضعف حجة الانقلابيين ، ويقتطع من دعواهم بالنيابة عن الناس .
تناول كثير من الأكاديميين وعلماء السياسة احتمالية أن تجلب الانقلابات العسكرية الاستقرار والديموقراطية للمجتمعات ، ومنهم على سبيل المثال Joseph Keaton [7]فى مقال بمجلة ( السياسة الخارجية ) الأمريكية ، بعنوان : ' هل من الممكن أن يكون الانقلاب العسكرى ديموقراطيا ؟ ' Can a Coup ever be Democratic ? ' ' ، وكذلك Ozan Varol [8] فى دراسة نشرتها الدورية العلمية للقانون الدولى تحت عنوان : ' الانقلاب العسكرى الديموقراطى ' ' The Democratic Coup d'Etat ? '
، وقد خلصت تلك الدراسات وغيرها إلى ما عبر عنه Omar Encarnacion [9] ( أستاذ الدراسات السياسة فى Bard College بنيويورك ) فى عنوان جميل لمقال نشره بمجلة ( السياسة الخارجية ) الأمريكية : ( حتى الانقلابات العسكرية (الحسنة ) غير ( حسنة ) ) Even Good Coups are Bad ' ' ، وفيه يستعيد الكاتب فكرة طرحها لأول مرة فى عام 2002 ، وفيها يفرّق بين الانقلاب العسكرى الذى يتم بدون دعم شعبى ، وبين ما يسميه ( انقلاب المجتمع المدنى ) civil society coup والذى يحدث بالتحالف بين فئات من المجتمع المدنى والعسكر ( من أمثلة ذلك ما حدث فى فنزويلا فى 2002 ، الفيليبين فى 2001 ، إكوادور فى 2002 ، تايلاند فى 2006 ، هندوراس 2009 ) ، ولكنه يخلص فى نهاية مقاله إلى نفس الفكرة التى يبرزها عنوانه : ' انقلابات المجتمع المدنى نادرا إن لم يكن أبدا نافعة أو مفيدة للتحول الديموقراطى ، والمصريون ربما سيكونون أفضل حالا لو لم ينقلبوا على الرئيس مرسى ، وتركوه يكمل مدته ، حتى وإن كان أداؤه ليس على المستوى المرغوب ... إذا كان هناك شئ تعلمه المراقبون لأحوال العالم فى العقود القليلة الماضية ، فإن الديموقراطية تعتمد بدرجة ليست قليلة على انتظار الناس لهزيمة من لا يرغبون فيه من الرؤساء والحكومات خلال صناديق الانتخاب ، وليس فى الشوارع ' "Civil society coups are seldom , if ever , a good thing for democracy . Indeed , Egyptians might have been better off letting Morsi serve his full term in office rather than aborting his clumsy but democratic tenure
If the last few decades have taught observers anything , it is that democracy depends , in no small measure , on people waiting to defeat the incumbent government at the ballot box rather than in the streets"
الخلاصة أن ما حدث فى مصر فى الفترة من 30 يونيو إلى 3 يوليو 2013 ، خليط من التهريج والاستهبال الشعبى ، والبلطجة والفتونة العسكرية ، ولا يمكن أن يقود إلا إلى مزيد من التخريب والتآكل لبنية الدولة المصرية .
قضية العسكر فى مصر تتجاوز الدور السياسى إلى دور اقتصادى ، وطبقا لصحيفة Washington Post الأمريكية ، فإن الجيش المصرى يمتلك نصيبا غير معروف بالضبط من اقتصاد الدولة ، ولكنه قد يصل إلى %40 ، وهى لا شك نسبة كبيرة ، ويرى Nick Cohen [10] أن احتكار الجيش لكثير من أوجه النشاط الاقتصادى ، نوع من السرقة ، يضاف إلى مسؤوليته عن قتل كثير من المصريين بعد انقلابه على الرئيس المنتخب ، وأن ذلك يساهم فى إفقار المصريين لأنه يقضى على المنافسة فى الأنشطة الإقتصادية "To add robbery to murder, it has built a military-industrial complex that keeps Egyptians poor by preventing new businesses competing with the elite monopolies it controls"
ثانيا : شرعية الشوارعية تعنى اللاشرعية
إذا كانت الانقلابات العسكرية ثورات فى الأعراف المصرية ، وهذا فى حد ذاته هزل وعبث ومسخرة ، فإن هناك ما هو أكثر هزلا وعبثا وسخرية .. هناك شرعية جديدة وُلدت عى أرض (مصر المحروسة) : شرعية الشوارعية .. فليتفرجْ التاريخ على آخر ابتكاراتنا .. بعد انتفاضة 25 يناير 2011 ، أصبحت تعبيرات مثل : شرعية الشوارع والميادين ، شرعية ميدان التحرير ، الشرعية الشعبية ، متداولة على الألسن ، وشائعة فى معظم الكتابات ، وعانى المجتمع منذ ذلك التاريخ من مظاهرات واعتصامات ومليونيات متواصلة ، واعتداءات على المرافق العامة ، وتعطيلها أو إغلاقها .. إنهاك متواصل ، وتبديد للوقت والجهد ، وتخريب للمصالح العامة والخاصة ، تحت دعاوى الشرعية الجديدة ، ونسى هؤلاء أن الناس هم مصدر السلطات ، فلا سلطة لرئيس أو حكومة بدون رضاهم ، ولكن الشرعية للدستور والقانون ، كما أن التعبير عن الرأى بالمظاهرات أو غيرها ، يخضع لشرعية القانون ، ولا يجوز فيه تحت أى مبرر الاعتداء على القانون ، أو تعطيل مصالح العباد ، كما أن التعبير الوحيد المقبول والقادر على ترجمة الرغبة الشعبية هو صندوق الانتخاب .
كتب الأستاذ فهمى هويدى فى صحيفة ( الشروق ) بتاريخ 20 يوليو 2013 ، مقالا تحت عنوان ( بدعة الشرعية الشعبية ) ، وفيه يقول : " الشرعية كما يعرفها أهل القانون تعنى اتباع ما تعارف عليه المجتمع من إجراءات ونظم للحقوق والواجبات ، ولذلك فإن كل مجتمع يلتزم بتلك النظم التى تم التعارف عليها يصبح ممثلا للشرعية الدستورية ... خطورة مصطلح الشرعية الشعبية تكمن فى أمرين : الأول أنها تلغى النظم والقوانين ، وتطلق ما يمكن أن يسمى حاكمية الشارع ، التى تمثل مغامرة كبرى تفتح الأبواب لشرور لا حدود لها , الأمر الثانى أنها لا يمكن أن تكون حالة دائمة ، بحيث يصبح لأى جماعة من الناس صغرت أو كبرت ، أن تنزل إلى الشارع فى أى وقت لتفرض ما تشاء على السلطة والمجتمع ... صحيح أن الشعب مصدر السلطات ، ولكن العالم تجاوز الفكرة إلى آلياتها وطرق ممارسة تلك السلطات ... لقد انتهى عصر التنافس السياسى الذى يحتكم إلى الحشود ، وأصبحت الصناديق هى الوسيلة التى ارتضاها العالم المتحضر لحسم التنافس بين القوى السياسية المختلفة . "
ثالثا : فساد الدولة والمجتمع المصرى يفوق حدود الخيال
كما ذكرتُ مرارا فإن مشكلة مصر الكبرى هى الثقافة الفاسدة ، والثقافة الفاسدة تعنى أفكارا فاسدة ، يتم التعبير عنها فى سلوكيات فاسدة ، وهو ما يجعلها صعبة ومعقدة ، وتحتاج جهدا أكبر ، ووقتا أطول للتغلب عليها .. هذا الفساد طال الدولة بكل مؤسساتها وأجهزتها ، وطال الأفراد والجماعات ، وطال علاقة الدولة بالشعب ، وعلاقة الشعب بالدولة ، وأنتج ما يُمكن تسميته : ' دولة بلا شعب ، وشعب بلا دولة ' ، هذه الحالة الفريدة يُغذّيها فكر فاسد، تدفع به النخبة والإعلام صباحا ومساء ، محاصرا عقول الناس ونفوسهم وضمائرهم وأذواقهم ، ولذلك فلا عجب أن وصل الفساد حدا تجاوز المألوف والمقبول فى كل المجتمعات ، ولأن الناس أنفسهم تقبلوا الفساد ، وأصبحوا جزءا من منظومة كبرى تتعايش كل مكوناتها فى تناغم واتساق ، وجب أن يدق الأمناء والمخلصون نواقيس الخطر ، فإما أن نستيقظ من غفوتنا وأوهامنا وضلالاتنا ، وإلا فلا مستقبل لنا .
زفة عوالم النفاق والتضليل والتدليس ، تطوف بلادنا ليلا ونهارا ، تنشر الفكر الفاسد ، والكلام الفارغ ، مُغيّبة للعقول ، ومُزيّفة للوعى ، ومُخدّرة للمشاعر والأحاسيس .. إنهم أفيون مصر ، وأفيون المصريين .. ليتأمل معى القارئ تلك الجرعة من كلام د. وسيم السيسى فى مقاله ( سوف نتبرع لكم بجينات مصرية ) ، والمنشور فى صحيفة (المصرى اليوم ) بتاريخ 7 يونيو 2013 : " قل لى من يحكم مصر ، أقل لك من يحكم العالم .. توصل إليها بونابرات لأنه كان مفكرا قائدا ، كان على بارجته 178 عالما ، وليس 178 مدفعا . إنها الجينات العبقرية ، جينات لا تعرف الانقسام ، جينات الوحدة والتوحد ، جينات سعد زغلول فى توكيلاته ، ظهرت فى تمرد . تحدت مصر بريطانيا فى عز مجدها سنة 1919 ، كما تحدت الولايات المتحدة فى عز جبروتها ، وقرأت عليها مرسوم عزلها وفشلها فى 2013 ... مصر علمت العالم ، مصر صانعة التاريخ ، مصر أعطت أملا للشعب الأمريكى أن يتحرر من قبضة الصهيونية العالمية ، عليهم أن يرسلوا إلينا علماء الهندسة الوراثية حتى نتبرع لهم بجينات مصرية ... إن مشكلة أمريكا كما عبر عنها شارل ديجول قائلا : أمريكا انتقلت من التخلف للانحطاط دون المرور على الحضارة ، يؤكد لى ما قالته لى فى نيويورك عالمة الحضارات القديمة دكتورة جروس : بالرغم من الأمية والفقر فى مصر إلا أن الحضارة تحت جلود المصريين " .. الكلام الذى لا يعرفه الكاتب أن من يحب وطنه حقا يعرف أن الاعتراف بالعيوب فضيلة ، ومن يحب وطنه حقا يعرف أن التضليل رذيلة ، بل وجريمة ، بل وخيانة للوطن ولأهله .. هل هناك من يحب وطنه حقا ويمجد فى الحملة الفرنسية التى أتت بغرض السيطرة والاحتلال ؟ أين تعليم العالم ، وأين صناعة التاريخ ، وأين الحضارة التى تحت جلودنا ؟ ومن هذا الذى يرغب فى جيناتنا ؟ .. شعارات جوفاء ، وطنطنات فارغة ، وترديد أبله لكلام ربما لا يصدقه قائله .. المجتمع الذى يتعامى عن عيوبه هو عدو نفسه ، وهو المجرم فى حق نفسه ، وهو الخائن لنفسه .
مثال آخر من أمثلة الوهم والتدليس : كتبت فاطمة ناعوت فى صحيفة (المصرى اليوم ) بتاريخ 7يوليو 2013 ، تحت عنوان ( 306306 مصر سيدة العالم ) : " شعب لا مثيل له ، مثله لم تلد الأكوان ، دوّخ علماء الفلك الراهنين ، وأعظم المعماريين العالميين ، بما شيّده قبل خمسين قرنا، دوّخ علماء الطب والكيمياء والفيزياء والهندسة والتكامل ، وبهر النحاتين والتشكيليين والشعراء والموسيقيين ، بما أنجزه فى حقولهم منذ خمسين قرنا ، من أى عجينة بشرية وجينية وعرقية قُدَّهذا الكائن المصرى ؟ ... انتمائى للإنسانية لا يتناقض مع تطرفى حب مصر ، وفخرى بانتمائى لأسلافى الفراعنة الذين كتبوا السطر الأول فى كتاب التاريخ ، وعلموا البشرية الحضارة ، وقت كانت الأمم ترفل فى الهمجية والبداوة. كيف لا أفخر بشعب صنع ثورتين من أعظم ثورات التاريخ خلال عامين ." .. وصلة فجّة من ادعاء الوطنية ، وابتذال الوطنية ، والتجارة بالوطنية ، والمزايدة على مصر ، وتجاهل أن حاضرها البائس ، ومستقبلها المجهول ، بسبب أن أهلها يعيشون الوهم والخيال .
لذلك لا عجب أننا أصبحنا مجتمعا كوميديا ، يمارس بَنِيه ، وتمارس دولته ، أدوارا كوميدية هزلية عبثية بلهاء .. كتب وائل قنديل مقالا بعنوان ( ليس انقلابا عسكريا .. بل ثورة الكوميديا ) ، نشرته صحيفة (الشروق ) فى 23 يوليو 2013 ، وفيه : " من حيث المصنعية نسيئ كثيرا لمفهوم الانقلابات العسكرية ... ذلك أن كمية التخبط والعشوائية والارتجال وعدم القدرة على صياغة وحبكة المبررات الكاذبة ، تجعلنا بصدد الآتى : مجموعة من المغامرين قرروا أن يستولوا على سيارة حديثة جدا ، وينطلقوا بها ، غير أنهم بعد التخلص من صاحبها وركابها ، اكتشفوا أنهم لا يجيدون القيادة ، فمكثوا يتخبطون فى الخلاء . إننا أمام انقلاب كوميدى فى حقيقة الأمر ، تبدأ وقائعه قبل الثلاثين من يونيو بكثير ... وبعدها انطلقت عروض عبثية تجوب مصر كلها ، تتحدث عن وطن كان جيشا فقط ، ثم نبتت له دولة ، بما يعنى أن مصر هبة القوات المسلحة ".
هذه الضحالة والفساد الفكرى ، يقود مصر الآن فى حراك معاكس للتاريخ أو خارجه إلى المجهول ، وهو ما عبّر عنه الأستاذ فهمى هويدى فى مقاله ( مصر إلى المجهول وخارج التاريخ ) ، المنشور فى صحيفة (الشروق ) بتاريخ 22 أكتوبر 2013 : " حين يستمر تمدد المؤسسة العسكرية فى الفراغ السياسى الراهن ، ويتصاعد دورها على نحو لم تعد تخطئه العين ، فذلك يعنى أن مصر صارت تتحرك خارج مجرى التاريخ ... نحو المجهول " .
2- خير الأجناد يعلمون أن الحزم والجد والانضباط لا يعنى سوء المعاملة .
من البديهيات أن الحزم والجد والانضباط لا يعنى سوء المعاملة ، ومن المعروف بالضرورة فى مصر أن الخدمة العسكرية تعنى القسوة وسوء المعاملة ، ولذلك ارتبط التجنيد فى مصر بقصصِ من يتهيبون الخدمة لدرجة إحداث عاهات فى أجسامهم ، وارتبط بحكايات كثيرة عن تحقير الجندى وامتهانه وتصغيره والإساءة له ، رغم أن شرف الدفاع عن الوطن ، والتضحية فى سبيله من صفات الفطرة السليمة عند غالبية المصريين ، أى أن ذلك لا يتطلب بالضرورة القسوة وسوء المعاملة ، تحت دعاوى الإعداد والتأهيل للحياة العسكرية ، حيث أن تلك النوعية من المعاملة تحدث نفورا وتأثيرا سلبيا ، وإضعافا لولاء المرء وانتمائه لوطنه .
كتب إبراهيم رضوان مقالا بعنوان ( خير أجناد ) ، نشرته صحيفة ( المصريون ) بتاريخ 23 أغسطس 2012 ، وفيه يتحدث عن الجندية ما يرتبط بها فى ذهنه : " ارتبطت الخدمة العسكرية فى ذهنى بصديق الطفولة ... الذى قرر الهروب من الجندية بقطع أحد أصابع قدمه ، ليخرج من هذه التجربة بساق واحدة ... وببحثى عن وسائط الدنيا ، كى لا أكون ضابطا احتياطيا لمدة 3 سنوات من عمرى فى خدمة الوطن ، وهكذا وجدت كثيرين غيرى .. وبظاهرة التسطيح فوق القطارات ، والتى كانت سائدة فى الثمانينيات والتسعينيات هربا من دفع ثمن التذكرة " ، ثم يمضى قائلا : " وفى الواقع فإن العسكرى المصرى بائس الحال ، يحتاج إلى الشفقة ، رث الثياب ، مشتت الفكر ، يؤدى الخدمة مجبرا ، ويستقبله أهله فى كل زيارة بالزغاريد ، ويودعونه بالدموع ... عندما حكم العسكر مصر ، أهملوا أول لبنة فى الجيش ، وهو العسكرى الفرد ، واهتموا بأنفسهم فقط ، وبالنجوم التى تزين أكتافهم ، ثم جاءت حرب أكتوبر ، لينسب الجنرالات لأنفسهم النصر ، وليسرقه شخص واحد فى الضربة الجوية .. إن الجندى المصرى فى حاجة إلى إعادة تأهيل ، وفى حاجة إلى رد اعتبار ، بعد سنوات طويلة من القهر والاستذلال .. إن الجندى أول لبنة فى الجيش ، وكثيرا منهم يدخلون الجندية ويخرجون منها بلا إضافة حقيقية فى حياتهم ، بل إن كثيرا منهم يحاول التهرب من الخدمة ، وكثيرا منهم يدخلونها وكأنها عبء يؤخر حياتهم ، وكثيرا منهم يتم المتاجرة بهم ، وإجبارهم على العمل بالسخرة فى قصور ومزارع وشاليهات الجنرالات الكبار الذين ترهلوا وسمنوا ، وكثيرا منهم تجرى لهم عمليات غسيل مخ ، بأن الوطن هو النظام ، والشعب هو العدو .. فلنُعِدْ للجندى المصرى وضعه وإنسانيته وهيبته وكرامته ووطنيته ، ولنَكُفْ عن الكذب والشعارات المستهلكة ."
[1] Fisk , Robert . When a Military Coup not a Military Coup? When it Happens in Egypt, Apparently. The Independent, July 6 , 2013
[2] Saletan , William . It's not a Coup , we Swear . Egypt's Generals just Overthrew their President . Now they're Telling us it's all about Democracy. slate.com., July , 5,2013
[3] Lynch , Marc . Downfall in Cairo . Foreign Policy , July,3,2013
[4] middleeastmonitor.org.uk., Oct., 18, 2013
[5] Park ,Takona. Yes, That's a Coup in Egypt. Foreign Policy, July, 3, 2013
[6] نفس المصدر فى [4]
[7] Keating , Joseph . Can a Coup ever be Democratic ? Foreign Policy , July ,3,2013
[8] Varol , Ozan . The Democratic Coup d'Etat . Harvard International Law Journal , Vol.53, No.2
[9] Encarnacion , Omar . Even Good Coups are Bad . Foreign Policy , July , 9 , 2013
[10] Cohen , Nick . Egypt : We may despite the Muslim Brotherhood , but a Coup is a Coup . The Guardian , Aug., 17 , 2013
سادسا : مصر وخطبة العريفى
فى 16 ديسمبر 2012 ألقى الشيخ السعودى د. محمد العريفى ، خطبة الجمعة فى مسجد ( البوادى ) بالرياض ، وكان موضوعها أفضال مصر ، وفيها عدّد مواضع وشخصيات وأحداث تاريخية اعتبرها جميعها دلائل على فضل مصر ومكانتها ، ومنها على سبيل المثال أن فى مصر الوادى المقدس طوى ، والجبل الذى كلّم الله تعالى عليه موسى عليه السلام ، والربوة التى آوى إليها عيسى ومريم عليهما السلام ، وأن على أرضها ضرب موسى الحجر وفلق البحر ، وأن الله اختار من مصر أنبياء ، وأتى إليها 350 صحابيا ، وأنها ذُكرت فى القرآن الكريم ، وفى السنة النبوية الشريفة ، ومنها علماء مشهورون فى التاريخ الإسلامى ، وغيرها .. لو تجاوزنا عن الخلاف فى بعض الأحداث التاريخية ، ومكان وقوعها بالتحديد ، وعن أن الآيات الكريمة الواردة فى حق مصر لا ترتب لها خصوصية أو فضلا ، وأن معظم الأحاديث الشريفة فى شأنها مكذوبة أو ضعيفة ، نجد أنفسنا أمام وصلة دعائية إعلامية تتناول أشياء من الماضى ، ولا تستطيع أن تجد شيئا واحدا من الحاضر للمباهاة به .. إنها نفس الفجاجة والابتذال فى ادعاء الحب والهيام بمصر ، والتى أشرت إليها فى كتابات د. وسيم السيسى وفاطمة ناعوت ، رغم أن من يحب مصر حقا ، ومن يهيم بها عشقا ، عليه أن يقر بمشاكلها ، وتخبط سياساتها ، وتدنى أحوالها فى عالم اليوم ، وأن يبحث عن الحلول اللازمة لاستنهاضها والقيام على أمرها .
الغريب أن الجميع انتشى للخطبة ، واحتفى بصاحبها .. كتب د. حسن نافعة فى صحيفة (المصرى اليوم ) فى 14 يناير 2013 ، تحت عنوان ( احتفاء مبرر أم تسول ؟ ) : " لم تكتف وسائل الإعلام المملوكة للدولة والمرتبطة بالنظام الحاكم ، ببث تسجيل كامل لخطبة الشيخ العريفى ، فى سابقة بدت لى فريدة من نوعها ، وإنما قامت أجهزة رسمية بتوجيه دعوة للرجل لزيارة مصر ، نظمت له خلالها برنامجا حافلا ، فقد التقى رئيس الوزراء ، وشيخ الجامع الأزهر ، وألقى خطبا فى أربعة مساجد ... كما تمت استضافته فى لقاءات خاصة حاوره فيها مشاهير الإعلاميين ... لا أخفى على القراء أن الحملة الإعلامية الضخمة التى صاحبت زيارة الشيخ السعودى فيها من مظاهر الابتذال والتزلف ما جعلنى أشعر بالإهانة كمواطن مصرى ... وعكست عندى شعورا بعقدة نقص وبنزعة تسول ." .. وفى نفس الصحيفة كتب سليمان جودة بتاريخ 5 يناير 2013 تحت عنوان ( العريفى الذى أنسانا أنفسنا ) : " بدا من الأمر أننا فى أغلبنا قليلو الثقة فى أنفسنا ، وفى إمكانات بلدنا ، إلى حد أننا نظل فى انتظار كلمة أو حرف من النوع الذى وقف الشيخ العريفى يرويه ... لم يلتفت الذين أسكرتهم الخطبة إلى أن الرجل كان يتكلم طوال الوقت عن الماضى عندنا ، لا الحاضر ، وأن مشكلتنا فى كل وقت كانت فى حاضرنا البائس التعيس ."
سابعا : الدولة الفاشلة
تصدر مجلة Foreign Policy الأمريكية بالتعاون مع Fund for Peace تقريرا سنويا ( صدر حتى الآن 9 مرات ) تحت عنوان ( الدول الفاشلة ) Failed States ' ' ، وفيه تستخدم 12 معيارا أو دليلا اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا لقياس الفشل ، وفى آخر إصدار ( يوليو/أغسطس 2013 ) جاءت مصر فى المرتبة الـ 34 ( كانت 49 فى 2010 ، و 45 فى 2011 ، و 31 فى 2012 ) ، فى قائمة تتصدرها الصومال ، ثم السودان فى المرتبة الثالثة ، واليمن وأفغانستان فى المرتبة السادسة والسابعة على التوالى ، والعراق فى المرتبة الحادية عشرة ، وسوريا فى المرتبة 21 ، وموريتانيا فى المرتبة 31 ، وتلت مصر من الدول العربية لبنان فى المرتبة 46 ، وليبيا فى المرتبة 54 .. لكى تكتمل الصورة فى ذهن القارئ يلزم الإشارة إلى المعايير أو الدلائل المستخدمة للوصول إلى مقياس الفشل ، والدرجة التى حصلت عليها مصر فى كل منها ( درجة من عشرة .. كلما زادت الدرجة كلما كان الفشل كبيرا ) ، وهى كالآتى :
أولا : معايير أو دلائل اجتماعية وتشمل :
1- الضغوط السكانية Demographic pressure : الأمراض ، الأمراض المتوطنة ، التلوث ، سوء التغذية ، متوسط العمر ، ندرة أو توفر الغذاء .. ( 7.2 )
2- وجود اللاجئين Refugees
( نتيجة احتراب داخلى أو طائفى أو كوارث طبيعية أو غيرها ) .. ( 6.5)
3- شكوى أو معاناة طوائف أو مجاميع Group Grievance نتيجة للتفرقة العنصرية أو العرقية أو الدينية أو العنف .. ( 8.5)
4- هجرة العقول Human Flight and Brain Drain .. ( 5.4)
ثانيا : معايير أو دلائل اقتصادية وتشمل :
1- التطور غير المتناغم أو المتوازن Uneven Economic Development .. (7.1)
2- الفقر والتدهور الاقتصادى Poverty and Economic Decline .. (8.2)
ثالثا : معايير أو دلائل سياسية ويشمل :
1 - تدهور مكانة الدولة ودورها De-legitimization of the States .. (8.9)
2 - الخدمات العامة Public Services .. (5.6)
3- حقوق الإنسان ودور القانون Human Rights and Rule of Law .. (9.6)
4- الجهاز الأمنى Security Apparatus .. ( 7.3)
5- النخبة Factionalized Elite .. (8.7)
6- التدخلات الخارجية External Intervention : المساعدات الخارجية ، وجود قوات
لحفظ السلام ، بعثات الأمم المتحدة ، الحصار أو المقاطعة ، درجة المقدرة على
الاقتراض credit rating ، التدخل العسكرى الخارجى .. (7.7)
أى أن مصر حصلت على درجة أعلى من 7 فى 9 من 12 من تلك المعايير .. كون مصر أصلا بين الدول الفاشلة عارٌ لا ينبغى التجاوز عنه ، وكان الأولى بكل الذين يطبّلون ويهلّلون ، مثل د. وسيم السيسى وفاطمة ناعوت والشيخ العريفى وغيرهم الكثير ، أن يذكروا مكانتنا الحالية البائسة ، والتى لا تبشر بخير فى المستقبل القريب على الأقل ، بدلا من ترديد شعارات وطنطنات وعنتريات لا قيمة لها ، ولا عائد من ورائها .
يفرق أستاذ العلوم السياسية د. عمرو الشوبكى بين ما يسميه النظم الفاشلة والدول الفاشلة فى مقال بعنوان ( صناعة النظم الفاشلة ) ، نشرته صحيفة ( المصرى اليوم ) فى 27 سبتمبر 2012 : " فالأولى يصنعها الحكام ، والثانية هى تراكم من الفشل يتجاوز من فى يدهم الحكم فى الوقت الحالى ، فتاريخ الدولة الفاشلة فى مصر بدأ مع الرئيس السادات ، وتعمق فى عهد مبارك ، حتى أصبحت مصر نموذجا لانعدام كفاءة مؤسسات الدولة ، وانهيار التعليم والصحة والخدمات والمواصلات ... الديموقراطية لا تنقذ الدول الفاشلة ، كما جرى فى العراق وباكستان والمكسيك وغيرها ، حيث أن نظمها ذات مظهر ديموقراطى يتيح تداول السلطة ، دون أن يشعر المواطن بأى تغيير فى واقعه الاقتصادى والاجتماعى " .. الحقيقة عندى أن النظم الفاشلة والدول الفاشلة ، صناعة مشتركة بين الحكام والنخب السياسية والشعوب المتهاونة فى حقوقها ، كما أن مقولة إن الديموقراطية لا تنقذ الدول الفاشلة صحيحة فقط فى حالة الديموقراطية الشكلية ، وهى هنا ليست ديموقراطية .
فى مقياس آخر صدر فى 2011 عن مؤسسة Freedom House الأمريكية ، تحت عنوان ( دول على مفترق طرق ) ' Countries at the Crossroads' ، وفيه قياس لدرجة التطور الديموقراطى لـ 35 دولة ، ويغطى الفترة بين أبريل 2007 حتى ديسمبر 2010 ، ويتناول أربعة معايير ، وهى : مساءلة الحكومات ودور الشعب ، الحريات المدنية ، ودور القانون فى المجتمع ، والشفافية ومحاربة الفساد ، وقد أحرزت مصر الدرجات التالية فى كل معيار : 1.64 ، 1.91 ، 2.68 ، 1.7 ، وهى درجات من عشرة ( كلما قلت الدرجة كلما كان التطور ضعيفا ) ، وجاءت مصر فى المركز السابع ، تسبقها إرتريا ، وليبيا ، وسوريا ، ورواندا ، ولاوس ، والصين .
هناك مؤشرات عديدة تصدرها الأمم المتحدة ، وهيئات ومنظمات دولية أخرى ، لقياس تطور الدول والمجتمعات .. فى مارس من هذا العام صدر مؤشر التطور البشرى Human Development Index ( HDI) ( يقيس مؤشرات مختلفة مثل متوسط العمر ، والثقافة ، والتعليم ، والدخل ، ونوعية الحياة ) لعام 2012 عن الأمم المتحدة ، وشمل 187 دولة (عدد الدول الأعضاء فى الامم المتحدة 193 ) ، وجاءت مصر فى الترتيب رقم 112 ، وسبقها من الدول العربية : قطر 36 ، والإمارات 41 ، والبحرين 48 ، والكويت 54 ، والسعودية 57 ، وعمان 84 ، والجزائر 93 ، وتونس 94 ، والأردن 100 ، وجاءت السودان فى المرتبة 171 ، بينما كان ترتيب إسرائيل 12 .. فى جزيئة التعليم Education Index جاءت مصر فى المرتبة 136 ، بينما كانت كوبا فى المرتبة الخامسة بعد نيوزيلاند ، وفلندا ، والدانيمارك ، وأستراليا ، بينما جاءت إسرائيل فى المرتبة 37 .. فى جزئية مؤشر نوعية الحياة Quality of Life Index جاءت مصر فى المرتبة 64 من مجموع 67 دولة ، وجاءت مدينة القاهرة فى المرتبة 123 من مجموع 133 مدينة عالمية ( لاحظ أن المؤشرات المختلفة قد تتفاوت فى عدد الدول ، حيث أن البيانات والمعلومات قد تكون غير متاحة فى بعض المجالات ) .
لفت نظرى فى مؤشر نوعية الحياة نقطة هامة جديرة بالإشارة إليها ، وهى أنه لتحقيق الرضا والسعادة ، لا بد من التناغم بين الجديد والقديم ، والحفاظ على التقاليد الراسخة فى المجتمعات مع التطوير والتحديث ، وهذا أبلغ رد على الشراذم العلمانية المارقة فى مصر وغيرها من بلاد العرب ، ودعوتهم البلهاء للثورة على القديم والخلاص منه ، إذ لا يمكن تحقيق السعادة فى الحياة بدون الجمع بين الدين وبين كل ما ينفع الإنسان من الابتكارات والمخترعات وقد ضرب المؤشر مثلا بأيرلندا التى احتلت المركز الأول ، وجمعت فى نفس الوقت بين المحافظة على تماسك الأسرة ، وترابط الحياة الاجتماعية ، مع كل جديد ومفيد من الماديات "The results of the surveys seem to indicate that an interplay of modernity and tradition is essential in determining life satisfaction . Ireland , which took the top slot , successfully combines the most desirable elements of the new-material wellbeing , low unemployment rates , political liberties- with the conservation of certain satisfaction-enhancing , or modernity-cushioning , elements of the old , such as stable family and preservation of community"
ثامنا : طظ فى مصر
هناك كثير من الكتابات والأحاديث ما زالت تلوك مقولة " طظ فى مصر " الصادرة عن مرشد جماعة الإخوان المسلمين السابق ، الأستاذ محمد مهدى عاكف ، ورغم مضى سنوات على ذلك ، ورغم أن المرشد قالها فى سياق أن مصر بدون محيطها العربى والإسلامى لا قيمة لها ، وبالتالى طظ فيها فى هذه الحالة ، إلا أن الأمر يحتاج وقفة للإجابة على تساؤلين :
1- هل لمصر قيمة أو مكانة بدون بعدها العربى والإسلامى ؟
الإجابة البديهية هى : لا ، فمصر بدون انتمائها العربى والإسلامى لا قيمة لها ، حتى لو انصلحت أحوالها ، فالتكامل العربى والإسلامى حتمية لصالح مصر ، وحتمية لصالح العرب والمسلمين ، ومصر أو غيرها بدون هذا التكامل غير قادرة بمفردها على مواجهة الغرب وإسرائيل ، وغير قادرة بمفردها على تحقيق نهضة اقتصادية أو علمية أو غيرها ، فنحن فى زمن التكتلات الكبرى ، وفى زمن لا قيمة فيه للفرادى والضعفاء ، ومن لا يجدون مساعدا أو معينا .
2- هل الولاء للإسلام مقدم على الولاء للوطن ؟ وهل هناك تعارض بينهما ؟
بديهية أخرى أنه لا تعارض بين الولاء للدين وبين الولاء للوطن ، فالدين يُعلى من قيمة الوطن ، ويُوجب الدفاع عنه ، والشهادة فى سبيله ، والوطن الصالح يُعلى من قيمة الدين ، ووجوب الدفاع عنه ، لأن الدين هو أهم مكون من مكونات ثقافة المجتمع ، وأكبر مهيمن ومفجر ومحفز لطاقات الإنسان فى الحياة ، ويوم أن يتعارض الوطن مع الدين ، فالخيار الصحيح للأسوياء هو الدين ، فالمرء يُسأل يوم القيامة عن دينه ، وليس عن جنسيته .. الشراذم العلمانية المريضة فى عقولها وقلوبها ، فى مصر وغيرها من بلاد المسلمين ، تؤجج عداء لا ضرورة له بين متناغمين : الدين والوطن .. فى دراسة لمركز ' بيو 'للأبحاث Pew Research Center ، نُشرت فى 17 نوفمبر 2011 ، تحت عنوان : ( فجوة القيم بين الأمريكيين والأوروبيين الغربيين ) ' The American Western European Value Gap '' وجدت الدراسة أن %64 من المسيحيين الأمريكيين يرون أنفسهم مسيحيين أولا قبل أن يكونوا أمريكيين ، وأن %70 من البيض الإنجيليين مرتبطون بمسيحيتهم قبل قوميتهم الأمريكية "%64 of Christians in the U.S. see themselves primarily as Christians and the same number consider themselves Americans first
Among Christians in the U.S. , white Evangelicals are especially inclined to identify first with their faith ; %70 in this group sees themselves first as Christians rather than an Americans " .. صحيح أن النسبة تقل فى ألمانيا إلى %23 ، وفى أسبانيا إلى %22 ، وفى بريطانيا إلى %21 ، وفى فرنسا إلى %8 ، ولكن الاستشهاد هنا للتدليل على أن الولاء للدين حتى عند غير المسلمين يُقدم عند نسبة معتبرة من الناس على الولاء للوطن ، ولكنه لا يعنى أبدا التعارض بينهما ، إلا فى الأدمغة المختلة للعلمانيين المصريين ، الذين يتصيدون ما يدل على كراهيتهم للدين ، ولا يدل بحال على حبهم للوطن .
تاسعا : ماذا فعل المصريون لـ " أم الدنيا "
عند الحديث عن مصر وأحوالها ، وادعاءات الوطنية الفجة والمبتذلة ، للكثيرين من المسؤولين والإعلاميين والصحافيين وأهل الفن والمغنى وكثيرين من المصرين ، غالبا ما أتذكر ذلك البيت الجميل من الشعر لمجنون بنى عامر :
وكلٌ يدّعى وصلاً بليلى *** وليلى لا تُقر لهم بذلك
كل واحد فى هذا المجتمع يزعم الحب لمصر ، والغرام بتاريخها ، وعشق نيلها ، والهيام بأرضها ، والصبابة فى كل ما يتعلق بها ، ولكن مصر تنظر إليهم قائلة : كذبتم .. إننى لا أرى علامات لحبكم ، ولا أحس بغرامكم ، ولا أشعر بهيامكم .. هاتوا لى دليلا واحدا على عشقكم ، أو أمارة واحدة على صبابتكم .. لقد خذلتمونى جميعا ، ونشرتم فى ربوعى كل أنواع المفاسد ، وتركتمونى نهبا لأعداء الداخل والخارج ، حتى وجدت نفسى فى مؤخرة الأمم ، ذليلة كسيرة مهيضة الجناح .. أفقرتم أبنائى ، وبددتم ثرواتى ، وأثقلتمونى بالديون ، ونشرتم الأمراض فى جنباتى ، ولوثتم مائى وهوائى .. لو كنتم تحبوننى حقا ما كان هذا حالى .. أنا لا أريد منكم كلاما وأغانى وأناشيد وشعارات ، أريد فقط من كل واحد فيكم أن يفعل من أجلى شيئا واحدا نافعا ولو صغيرا .
إذا كنا ندّعى أن مصر أُمُ الدنيا ، وأنها مهد الحضارات ، وبلد الأهرام والآثار .. أليس من الواجب أن نحفظ آثارها ، وأن نجذب لها السياح من كل صوب وحدب ؟ .. فى تلك الفقرة من المقال سأتناول هذين الموضوعين :
1- السياحة .. والعوامل الطاردة الكثيرة
فى تقرير مؤشر التنافسية فى السفر والسياحة لعام 2013 ' The Travel & Tourism Competitiveness Index ' والذى يصدره World Economic Forum جاءت مصر فى المرتبة الـ 85 ، بينما كانت فى المرتبة الـ 75 فى 2011 ، بينما كانت المراكز العشر الأولى من نصيب : سويسرا ، ألمانيا ، النمسا ، أسبانيا ، بريطانيا ، الولايات المتحدة ، فرنسا ، كندا ، السويد ، سنغافورة ، على التوالى ، وجاءت الإمارات العربية المتحدة فى المرتبة الـ 28 ، وماليزيا 34 ، وقطر 41 ، وتركيا 46 ، وإسرائيل 53 ، وعمان 57 ، والأردن 60 ، والسعودية 62 ، ولبنان 60 ، والمغرب 71 ، بينما جاءت دولتان صاحبتا آثار وتاريخ طويل مثلنا ، وهما إيطاليا واليونان فى المركزين 26 ، 32 على التوالى .. أى أن هناك دولا عربية عديدة قد سبقتنا فى الترتيب ، كما سبقتنا دول إسلامية ، وحتى إسرائيل .. هذا التقرير المشار إليه ، والذى شمل 140 دولة ، يُعنى بمدى وضع الدول للسياسات ، وتهيئتها للعوامل ، التى تجعل السفر والسياحة إليها جذّابة ومثيرة وشيّقة ، من أجل نمو اقتصادياتها ، وخلق مزيد من فرص العمل لأبنائها 'reducing barriers to economic growth and job creation'
ذكر وزير السياحة السابق د. منير فخرى عبد النور ، فى حواره مع الإعلامى طارق الشامى ، فى 9 ديسمبر 2011 ، على قناة (الحرة ) أن عدد السياح الذين زاروا مصر فى 2010 وصل إلى 14 مليونا ، 800 ألف سائح ، بينما انخفض العدد فى 2011 إلى عشرة ملايين ، بتراجع %35 ، وذكر أيضا أن السياحة هى أكبر مصدر للعملة الأجنبية ، وتمثل %12.5 من الناتج القومى الإجمالى ، ويعمل بها أربعة ملايين ، يمثلون 6/1 القوة العاملة فى مصر .
مشكلة السياحة فى مصر يلخصها ما كتبه Brian Whitaker [1] : " Imagine a country; (Egypt) that relies heavily on tourism but has no figures showing why people visit or why they think of their stay" والمعنى أن مصر التى تعتمد على السياحة بدرجة كبيرة ، لا تمتلك الإحصائيات ، أو استبيانات الرأى ، عن العوامل الجاذبة للسياح ، وعن انطباعاتهم ودرجة رضاهم عن الفترة التى قضوها فى مصر .. أى أن صناعة السياحة فى مصر لا تعتمد على تخطيط ودراسات مستفيضة ، لزيادة العوامل الجاذبة ، وتقليل العوامل الطاردة .. لقد اكتفينا بالمقولة الشائعة عن جَونا المشمس الدافئ ، وآثارنا ، ونسينا أن ذلك وحده ليس كافيا ، ولذلك جاء ت كثير من الدول الأقل فى آثارها ، ومناخها ، متقدمة علينا فى الترتيب فى المؤشر السابق الإشارة إليه .. وصفت Charlene Gubash فى تقرير لها أذاعه البرنامج الأمريكى NBC News فى 6 أبريل 2013 ، جمال منطقة شرم الشيخ ، ومياه البحر التركوازية ، ومافيها من شعب مرجانية ساحرة ، وحياة بحرية متنوعة ، ومتعة لهواة الغوص ، وجبال سيناء ، والأسعار الرخيصة ، وغيرها مما لا نحسن استخدامه بالصورة المثلى " Sharm was and remains a Mecca for divers and snorkelers . It has stunning colored coral reefs teaming with 1,200 species of marine life , a protected marine park and world renowned dive sites
Sinai mountains , shimmering turquoise sea , alluring vacation packages and much cheaper rates "
2- الآثار .. وتاريخ طويل من الإهمال
بالرغم من احتواء مصر على حوالى 3/1 آثار العالم ، والتى تشمل العصر الفرعونى والإغريقى والرومانى والإسلامى ، إلا أن الآثار المصرية تعرضت وما زالت تتعرض للإهمال ، والسرقة
والتهريب ، والاتجار بها فى السوق السوداء ، وإهدائها إلى الأجانب بواسطة المسؤولين .. فى صحيفة ( الأهرام ) بتاريخ 12 نوفمبر 2011 ، استعرضت صفاء الجريسى كتاب ( حصاد العصر فى سرقة آثار مصر ) ، لمؤلفه على القماش ، وفيه " يتحدث عن قضية سرقة الآثار الكبرى عام 1994 ، والتى قدر فيها وزن الآثار المسروقة بـ 8.5 طنا ، وإبلاغ مواطنة ألمانية عن وجود أكثر من 10.000 قطعة أثرية مصرية مسروقة ، تشكل متحفا كاملا لدى أحد تجار الآثار هناك ، وعن سرقة آثار مصر فى سيناء بعد احتلال اليهود لها فى 1967 ، وعن إهداء الرئيس السادات وزوجته لعشرات القطع الأثرية ، لضيوفهما من الملوك والرؤساء ، ومنها مجموعات كاملة تمثل معبد دندرة الصغير ، والذى كان مقاما على أرض النوبة ، وتم إهداؤه للرئيس الأمريكى ريتشارد نيكسون ، عند زيارته لمصر فى 1974 ، ويتحدث الكتاب أيضا عن الإهمال والسرقات التى تعرضت لها الآثار فى عهد الرئيس مبارك ، ووزير ثقافته فاروق حسنى ، وعن رسالة دكتوراة للمستشار وليد محمد رشاد فى 2005 ، وفيها أن هناك 14,000 قضية آثار أمام المحاكم ، كما نشرت ( الأهرام ) فى 25 مارس 1995 إحصائية تظهر سرقة 13,150 قطعة أثرية فى عام 1994 ، والغريب أنه فى كل تلك الحالات لم تحرك الدولة ، ولم يتم استعادة معظم المسروقات ، بل إن الكاتب الصحافى أحمد بهاء الدين يذكر أن ما يتم ضبطه من المسروقات لا يتجاوز %5 فقط . "
الشئ الذى يصعب فهمه ويصعب قبوله ، هو إهداء المسؤولين المصريين لآثار مصر ، وبعضها لا يمكن تعويضه ، ومن أمثلة ذلك مسلة لندن التى أهداها محمد على باشا ( حكم مصر من 1805-1848) إلى بريطانيا ، ونُقلت إلى لندن فى 21 يناير 1878 ، ومسلة نيويورك والتى أهداها الخديوى إسماعيل للولايات المتحدة بعد افتتاح قناة السويس فى عام 1869 ، ومُنحت رسميا بخطاب موقع من ابنه الخديوى توفيق فى عام 1879 .. هاتان المسلتان شُيدتا منذ أكثر من 3,500 عام ، وكانتا ضمن 13 مسلة فى معبد الكرنك ، لم يبق منها غير ثلاثة ، وتحملان نقوشا من زمن تحتمس الثالث ، وإضافات من زمن رمسيس الثانى ، وقد أهدى محمد على باشا مسلة أخرى إلى فرنسا ، تم بناؤها فى عهد رمسيس الثانى فى مدخل معبد الأقصر ، وهى موضوعة الآن فى ساحة الكونكورد ، وهناك مسلات أخرى تم إهداؤها لإيطاليا كانت قائمة فى معبد الكرنك .
قصة الآثار المصرية مع الإهمال والفوضى وغياب التشريعات طويلة تمتد إلى زمن محمد على باشا .. فى عام 1828 جاء إلى مصر مع البعثة الفرنسية Jean-Francoise Champollion (1790-1832) الذى اكتشف حجر رشيد .. قدّم شامبليون التماسا إلى محمد على باشا لتنظيم حفريات الآثار ، وسن القوانين التى تحميها من السرقة والتهريب ، غير أن محمد على لم يُلق بالا لالتماسه ، وبعدها بعامين قدّم رفاعة الطهطاوى التماسا آخر كان نصيبه مثل التماس شامبيليون ، حتى جاء أوجست مارييت Mariette ( 1821-1881) ليسعى نحو إنشاء مصلحة ومتحف للآثار المصرية ، وهو ما وافق عليه محمد على حيث أصدر قرار الإنشاء قى 1843 ، وفى عام 1857 تم إنشاء مصلحة الآثار التى تولى مارييت نفسه إدارتها ، وفى عام 1863 تم تشييد متحف الآثار على النيل فى بولاق .. ساهم مارييت فى اكتشاف كثيرة وهامة ، ومنها اكتشاف معبد السرابيوم ، ومعبد الدير البحرى ، ونقوش رحلة بونت ، وعندما أرسل فى 1867أكثر من 5,000 قطعة أثرية من اكتشافاته لعرضها فى متحف اللوفر بفرنسا ، أصر على استرجاعها مرة أخرى ، واقفا ضد رغبة الملكة أوجينى فى استبقائها .
جاء ماسبيرو [2] الذى كان يتقن العربية إلى مصر فى 1881، ليخلف مارييت فى إدارة مصلحة الآثار ، وليتولى منصب أمين المتحف المصرى ، وليؤسس المعهد الفرنسى للآثار فى القاهرة ، والذى تجاوزت اهتماماته الآثار الفرعونية لتشمل الإسلامية وغيرها ، كما واصل ماسبيرو أيضا جهود مارييت فى اكتشافات معبدى إدفو وأبيدوس ، وإزالة الرمال عن (أبو الهول ) ، ونقل محتويات متحف الآثار ببولاق إلى المتحف المصرى الحالى , وإعادة ترتيبها ، وضم إليها مئات المومياوات والآثار المنهوبة ، وساعده فى تلك الجهود المؤرخ وخبير المصريات أحمد كمال بك [3] ، وكان ماسبيرو شديد الاهتمام بالمقابر المحتوية على نصوص هيروغليفية ، حيث عثر على حوالى 4,000 نص قام بتصويرها وطباعتها ، واكتشف بمعبد الكرنك كثيرا من التماثيل المنتمية لعصور مختلفة .
لعب ماسبير دورا هاما فى وضع التشريعات الحامية للآثار ، فسنّ قانونا صدر فى 1912 ينص على ألا يسمح للأفراد بالتنقيب عن الآثار ، وقصر ذلك على البعثات العلمية ، بعد الموافقة على مشاريعها البحثية ، وألا يُمنح للقائمين على الحفائر تأشيرة مغادرة مصر إلا بعد تركهم للمواقع الأثرية بصورة مرضية ، كما ألغى حق المنقّبين فى الحصول على نصف اكتشافاتهم ، وقصر ذلك على القطع التى لها مثيل بالمتحف المصرى ، وفى 1881 ألقى ماسبيرو القبض على عائلة أشهر تجار الآثار ( عائلة عبد الرسول ) ، وحصل منهم على اعترافات بالسرقات التى ارتكبوها ، وعلى معلومات قادت إلى كتشافات هامة بمعبد الدير البحرى ، حيث عثر على مومياوات لعديد من مشاهير ملوك الفراعنة ، ومنهم أحمس الأول Ahmose I ، وتحتمس الثالث Thutmose III ، وسيتى الأول Sety I ، ورمسيس الثانى Ramesses II .
المتأمل فى معظم إن لم يكن جميع الاكتشافات والمؤلفات والبحوث والتشريعات والجهود التى تناولت الآثار الفرعونية ، يجد أنها تمت على أيدى بريطانيين وفرنسيين وإيطاليين وأمريكان وغيرهم ، كما أنه فى معظم المتاحف الشهيرة فى البلاد الغربية توجد أقسام للآثار الفرعونية .. لقد اكتفينا نحن المصريين بترديد مقولات أم الدنيا ، وبلد الآثار والحضارة الفرعونية ، ونسينا أن تلك الحضارة تحتاج إلى من ينقب عن آثارها ، ويكتشف أسرارها ، ويصنفها ويحفظها ويعرضها بصورة لائقة على العالم أجمع كتراث بشرى خالد على مر العصور .
ماذا فعلنا لآثارنا ؟ تركناها تُسرق أمام أعيننا ، وتركناها للإهمال فى مخازن غير معدة أصلا لحفظها ، ولا يمر شهر الآن بدون أن تنشر الصحف أخبارا عن تبديدها بين اللصوص والمهربين وتجار السوق السوداء ، فمثلا ذكرت صحيفة ( الشروق ) فى 12سبتمبر 2013 أن أحمد جبر مدير متاحف ميت رهينة بالجيزة صرّح بأنه تم السطو على مخزن الآثار بالمنطقة ، وسرقة 238 قطعة أثرية ، منها 33 مسجلة ، والباقى قيد الدراسة ، وذكرت نفس الصحيفة فى 19 سبتمبر أن مباحث مطار القاهرة تمكنت من كشف 30 قطعة أثرية ، ما بين تماثيل ولوحات وقطع تعود إلى العصر القديم ، مخبأة فى دولاب منزل أمريكى يعمل مديرا إقليميا لإحدى مؤسسات المعونة الأمريكية ، كما عُثر على قطع أثرية أخرى بقرية البضائع بالمطار ، وفى خبر ثالث لنفس الصحيفة فى 25 أكتوبر أكد وزير الدولة لشؤون الآثار أنه تمت استعادة 680 قطعة أثرية من مسروقات متحف ملوى بمحافظة المنيا ، وأن هناك 409 قطعة أخرى ما زالت مفقودة .
[1] Whitaker , Brian . The Politics of Egypt's Feeble Statistics. The Guardian , Oct., 26 ,2013
[2] وُلد جاستون ماسبيرو Maspero Gastonفى باريس عام 1846 لأبوين إيطاليين هاجرا إلى فرنسا ، والتحق بمدرسة الأساتذة العليا ، حيث قابل عالم الآثار أوجست مارييت ، الذى أوكل إليه ترجمة بعض النصوص الهيروغليفية ، لتكون بداية اهتمامه بالمصريات ، فاطلع على الآثار المصرية بمتحف اللوفر ، ونقوش مسلة الكونكورد ، ثم شغل منصب أستاذ المصريات بالكوليج دى فرانس فى عام 1874 ، وبعد مرض مارييت رحل إلى القاهرة حيث خلفه فى الاهتمام بالآثار المصرية ، ثم استقال فى 1892 بسبب المضايقات التى تعرض لها من الانجليز الذين كانوا يحتلون مصر فى ذلك الوقت ، ومن الفرنسيين الذين هيمنوا على إدارة الآثار ، ثم عاد مرة أخرى لعمله فى 1899 بعد إصرار ممثل فرنسا على عودته ، وفى عام 1914 عاد إلى فرنسا ليشغل منصب المستشار الدائم لأكاديمية الفنون والآداب . مات ماسبيرو فى 30 يونيو 1916 ، وأُطلق اسمه على مبنى الإذاعة والتلفزيون على كورنيش النيل بالقاهرة تخليدا لجهوده فى التنقيب والمحافظة على الآثار المصرية .
[3] أحمد كمال بك ( 1858-1923) مؤرخ مصرى ، ترك عديدا من البحوث والمؤلفات عن المناطق الأثرية التى استكشفها ، ومن مؤلفاتهه : اللوحات البطلمية ، مؤائد القرابين ، كما ظل أيضا طوال حياته العلمية يعد قاموسا للغة المصرية القديمة ، مع مقارنة مفرداتها باللغة العربية وغيرها من اللغات السامية ، وبعد وفاته لم يواصل أحد بعده إكمال عمله .
عاشرا : ما هو الحل ؟
1- معضلة الدولة المصرية فى فساد مفهوم الدولة عند النخبة السياسية ، وفساد مفهوم الدولة عند الشعب ، فالنخبة السياسية من الحكام والحزبيين وغالبية المسؤولين لا يدركون أنهم موظفون عند الشعب ، لرعاية شؤون الدولة والتى هى شؤونه ، وليسوا سادة عليه ، والشعب نفسه لا يدرك أن الدولة دولته ، وممتلكاتها العامة ومرافقها ومواردها وثرواتها وكل شئ فيها هو ملكه ، ويجب عليه رعايتها والمحافظة عليها ، وأن الحكام والمسؤولين موظفون عنده ، ومن واجبهم ، ومن حق الشعب عليهم ، أن يرعوا كل صغيرة وكبيرة فى دولته ، كما يجب على الشعب نفسه أن يدرك أن علاقته بالدولة ترتب له حقوقا ، ولكنها تفرض عليه أيضا واجبات ، ولا يمكن للدولة والشعب أن ينهضا إلا بأداء الواجبات ، وعدم التفريط فى الحقوق .. الثقافة الفاسدة فى المجتمع أخلّت بتلك المفاهيم ، مما أحدث خللا شاملا فى كل شئ ، وتغيير الثقافة الفاسدة هو طريق الحل الطويل ، والذى يحتاج صبرا وجهدا ، ولكن نتائجه مضمونة ، وهى صلاح مؤسسات الدولة ، وصلاح سلوكيات الشعب .
2- من ضروريات تغيير الثقافة الفاسدة أن نكف عن الجعجعات والشعارات والمقولات المغلوطة ، عن كون مصر أُم الدنيا ، وكنانة الله فى أرضه ، وأن جيشها خير الأجناد ، وشعبها أجدع الناس ، وأنها من علّم الدنيا الحضارة والدين والثورة وغيرها ، لأن الحقيقة غير ذلك تماما ، فمصر دولة مثل غيرها ، ويسرى عليها من سنن الكون ما يسرى على غيرها .. لقد علّمنا البشرية أشياء ، وتعلّمنا منهم أشياء ، كما يُعلّم ويتعلّم كل البشر فى كل زمان ومكان .. إن حب الإنسان لوطنه جزء من خصائص الطبيعة البشرية التى يتشابه فيها الناس جميعا ، وعلينا جميعا أن نحب أوطاننا الحب الصحيح الذى يُعلى من قيمة العمل ، ويحترم الناس جميعا ، ويقدر إسهامات الشعوب جميعها ، وفى نفس الوقت نتحاشى العنتريات والأوهام والمعتقدات الباطلة .. إن الإنسان بطبيعته يميل إلى تحسين وتطوير أوضاعه ، ويتجه دوما نحو خالقه ، ويتمرد على الظلم والبغى والعدوان .. أليست تلك الأشياء هى الحضارة والدين والثورة التى مارستها جميع الشعوب على مدار تاريخ البشرية ؟
3- من ضروريات تغيير الثقافة الفاسدة أيضا أن يتغير فى المفاهيم دور الرئيس فى الدولة ، وأن نقضى على الفرعونية كثقافة وسلوك ومنهج فاسد لإدارة شؤون المجتمع ، فالرئيس ليس فرعونا ، وليس إلها ، ولا يمتلك البلاد والعباد ، وليس صاحب سلطة مطلقة ، وليس هناك شئ اسمه المستبد العادل ، فالمستبد لا يمكن أن يكون عادلا ، والعادل لا يمكن أن يكون مستبدا .. الرئيس الجيد هو من يجمع حوله خيرة الخبراء والأكفاء والحكماء فى كل المجالات ، ومن يمتلك الفهم والإدراك لإمكانيات المجتمع ومشاكله ، والنظرة الحكيمة لكيفية التوظيف الأمثل لتلك الموارد ، والمعالجة الواقعية والمثابرة للمشاكل ، والتصور المستقبلى لتحقيق الآمال والطموحات ، فى جو من التوفيق والتأليف بين جميع أطياف الشعب .
4- لا بد أن يستقر فى وجدان الدولة المصرية والشعب المصرى أن احترام القانون هو الفيصل بين الهمجية والغوغائية وبين الحضارة والنهضة .. على الدولة ومؤسساتها احترام حقوق الأفراد والوفاء بواجباتهم ، وعلى الأفراد احترام حق الدولة ومؤسساتها ، واحترام الحقوق بينهم وبين بعضهم البعض ، والوفاء بواجباتهم نحو الدولة ونحو بعضهم البعض .. لا يمكن لدولة أيا كانت وفرة مواردها أن تبنى نهضة فى أجواء غياب القانون والنظام ، وتفشى الفوضى والعشوائية , ومن أقبح صنوف الفوضى والعشوائية السائدة فى مصر الآن ما يعرف بالشرعية الشعبية ، أو ما أسميه شرعية الشوارعية ، والتى تعنى اللاشرعية .. كفانا ضحكا على أنفسنا ، وإضحاكا للآخرين علينا ، فلا مناص لنا إلا باحترام القانون والآليات الديموقراطية التى تعارفت عليها البشرية ، واستقرت فى الوجدان والمفاهيم فى كل العالم .
5- المؤسسة العسكرية ليست فوق الدولة ، بل هى إحدى مؤسسات المجتمع التى تخضع للدستور والقانون ، ولا يجوز لها الجور على غيرها من المؤسسات ، ولا يجب ترتيب أفضلية خاصة لها فى الدستور ، أو تحصينها ، أو استثناؤها أو ميزانيتها من المساءلة أمام اللجان الخاصة أو مجلس النواب ، ويجب منعها بتاتا من ممارسة أية أنشطة سياسية أو اقتصادية .. إنه لضرورة قصوى فى جميع المجتمعات التى تشبهنا فى ظروفها ومشاكلها وخبراتها ، أن يكون وزير الدفاع مدنيا ، يخضع لرئيس الجمهورية ، وأن يكون وزير الداخلية أيضا مدنيا ، وأن توضع التشريعات التى تمنع تغول الجيش أو الشرطة على المجتمع .. فى 23 يونيو 2010 استدعى الرئيس الأمريكى Obama قائده فى أفغانستان General Stanley McChrystal إلى واشنطن لاجتماع عاجل استغرق 20 دقيقة ، بعدها قبل الرئيس استقالته ، وسبب ذلك أن الجنرال ومساعديه وجهوا نقدا لبعض رموز الإدارة المدنية ( نائب الرئيس ، ومستشار الأمن القومى ، والسفير الأمريكى فى أفغانستان ، والمبعوث الخاص لشؤون باكستان وأفغانستان ، ولم يشمل الرئيس ) ، فى لقاء مع الصحافى Michael Hastings ، نشرته مجلة Rolling Stones فى عددها ( July 8-22,2010 ) ، أى أن المجتمعات الديموقراطية لا تقبل تدخل الجيش أو قادته فى شؤون الدولة تحت أى سبب من الاسباب ، حتى ولو كان نقدا بالكلام كما فعل ستانلى ماكريستال ومساعدوه .. بعد انكشاف ذلك أصدر الجنرال تصريحا يعتذر فيه بشدة عما حدث ، ويصفه بأنه سوء تقدير ما كان له أن يحدث ، ويعبر فيه عن إحترامه وإعجابه بالرئيس وطاقم إدارته المدنى " It was a mistake reflecting poor judgment and should never have happened
I have enormous respect and admiration for President Obama and his national security team , and for the civilian leaders " بعد استقالة الجنرال أصدر الرئيس تصريحا قال فيه : إن استقالة ماكريستال كان التصرف الصحيح من أجل مهمتنا فى أفغانستان ، ومن أجل جيشنا ، ومن أجل دولتنا " it was the right thing for our mission in Afghanistan , for our military and for our country " هذا هو ما يجب على كل المجتمعات التى تحترم مؤسساتها ، وتحترم ديموقراطيتها ، وتحترم شعوبها ، وليس توجيه الجيش إنذارات للرئيس وإدارته ، ثم انقلابه على الشرعية ، وتعطيله للدستور ، وإعلانه لحالة الطوارئ ، وإطلاقه يد الدولة فى اعتقال الناس وقتلهم ، وتكميم الأفواه ، تحت دعاوى باطلة .. فمتى نتعلم ؟ كتبت صحيفة The Guardian فى افتتاحيتها بتاريخ 17 أغسطس 2013 أنه على مصر ألا تعسكر السياسة ، وعلى الجيش أن ينسحب بسرعة من المجال السياسى ، وإلا فإنه لا حل للمشكلة المصرية " without rapid demilitarization of Egypt's politics and withdrawal of the army from the political stage , Egypt's crisis is only likely to deepen "
6- لو انصلح حال الأزهر لانصلح حال الدولة والمجتمع المصرى ، ولا صلاح للأزهر بدون انتخاب شيخه من كبار العلماء المشهود لهم بالتقوى والصلاح والجرأة فى الحق .. إن الدولة المصرية فى حاجة إلى من يلجم حكوماتها ومؤسساتها ، والشعب فى حاجة إلى من يرشده ولا يضلله ، ويقوده نحو الحلال والصواب ، ولا يخلط عليه الأمور ، ويتركه فى الحرام والخطأ .
7- لا حصانة لأحد فى دولة القانون ، ويجب محاسبة كل من يجور على حق الدولة أو حق الناس أيا كان ، حسب الضوابط والمعايير المتفق عليها ، سواء كان الرئيس أو الوزراء ، أو رجال الجيش والشرطة ، أو القضاة ، أوالإعلاميين ، أو شيخ الأزهر .
8- الأحزاب الحية المتفاعلة مع الناس ، هى الضمان لحياة نيابية سليمة ، ولا يمكن بحال أن نستمر مع تلك النماذج الحزبية البائسة التى لا يعرف عنها الناس شيئا ، ولا هم يعرفون عن الناس شيئا ، وكل همهم مقر ويافطة ، ومجموعة أعضاء من المسفسطين والمنظرين ، الذين سرعان ما ينشقون على بعضهم البعض مع أول خلاف ينشأ بينهم .
9- لا يُعقل أن نمتلك تاريخا موغلا فى القدم ، وآثارا فرعونية وإغريقية ورومانية وإسلامية ، ونتركها نهبا للإهمال وللصوص والمهربين ، أو نترك رؤساءنا وكبار مسؤولينا يهدونها لضيوفهم من الأجانب .. قضية الآثار ينبغى أن تفتح نقاشا بين الخبراء والقانونيين والسياسيين حول سبل حمايتها ، واستثمارها بالطريقة المثلى التى تحفظ هذا التراث البشرى ، وتحفز السياح للزيارة والمشاهدة ، والباحثين والمتخصصين والمستثمرين للدراسة والتنقيب والصيانة والعرض .. ينبغى أن تتغير القوانين والتشريعات لمواجهة ما اُستحدث من وسائل التهريب واللصوصية ، وكذلك للتعامل مع قضايا من نوعية تأجير الآثار ، أو استرداد ما تم تغيير ملكيته بالإهداء أو غيره ، ويجب امتلاك الجرأة والشجاعة والواقعية فى النظر لمستجدات الحياة وتطوراتها ، واحتياج المجتمع ، والنظر دائما للأمثل والأكثر نفعا وفائدة ، وقد أثارت الشائعات بتأجير ألآثار ، والتى أطلقها المرجفون من الإعلاميين والصحافيين وغيرهم أثناء ولاية الرئيس مرسى كثيرا من اللغط والعنتريات ، ولكنها لم تساهم فى إعادة النظر فى المفاهيم المغلوطة الكثيرة التى تسيطر على تفكيرنا وحياتنا ، ومن أمثلة ذلك ما كتبه عاصم حنفى فى صحيفة ( المصرى اليوم ) بتاريخ السادس من مارس 2013 ، تحت عنوان ( بيع يا بديع ) : " ومنذ أيام أعلنوا بشكل واضح لا يقبل اللبس أو التشكيك عن عزمهم تأجير الآثار ، والبداية من أهرام الجيزة ... الشارى ليس عربيا والأرجح أنه إسرائيلى الهوى ، ولا تنس أن الأهرام بالذات تسبب للإسرائيلى العقد والكلاكيع ... حكاية رهن أو بيع كل ما تقع عليه يداك ... بيع سيناء ، ثم بيع قناة السويس أو تأجيرها ، وأخيرا بيع الآثار ... تعنى أنك غير منتم لمصالح وثقافة وتاريخ المصريين ، ولا يهمك كثيرا تراب البلد أو تراثه ... نحن نفرط فى الأصول فى مواجهة أزمة اقتصادية حادة ، وهو ما يعكس دناءة وبساطة تفكير حضرات الحكام ... آثارنا وتاريخنا وحضارتنا ليست للبيع أو الإيجار " .. مقال تهريجى مثل غيره الكثير ، لا يعتمد على دليل أو بينة ، ولكنه يعتمد على المزايدة على الوطنية والتاريخ ، ولا يلمس أية قضية حقيقية .. على الجانب الآخر هناك كثير من الكتابات تطرح قضايا وأسئلة جديرة بالتأمل والدراسة ، ومنها ما كتبه John Tierney فى صحيفة The New York Timesالأمريكية ، بتاريخ 19 نوفمبر 2009 ، تحت عنوان Who Should Own the Rosetta Stone ? ' ' أى : من ينبغى أن يمتلك حجر رشيد ؟ وفيه يبدأ بالتساؤل : هل ينبغى على المتحف البريطانى أن يعيد حجر رشيد إلى مصر ؟ ثم يطرح قضية ملكية الآثار ، ويقترح توسيع الملكية لتشمل المتاحف ، والأفراد من هواة جمع الآثار ، بدلا من قصرها على الدول ، وأن ذلك سيوفر لها بيئة حفظ أفضل ، وسيوسع دائرة عرضها كتراث بشرى ، وسيحميها من أخطار الدمار والفناء ، وفساد الحكومات ، وسيضيق الفرصة على تهريب الآثار وسرقتها وتداولها فى السوق السوداء ، مع الإقرار بأن هناك بعض الآثار التى يجب دوما أن تبقى فى بلادها ، ويدعم الكاتب توجهاته باقتباس من كتاب صدر فى 2008 بعنوان :' 'Who Owns Antiquity ? لمؤلفه James Cuno مدير معهد الفن بشيكاغو ، والذى يرى أن ادعاء الدول والحكومات ملكية الآثار نوع من ألاعيب السياسة only politics' '، أو النزعات القومية المدعومة بالجغرافيا والسيادة "nationalist fantasy based on accident of geography and enforced by sovereignty" ولكنها فى الحقيقة تراث بشرى ، وأمارة على العبقرية الفنية المشتركة للإنسان "They are important artifacts of human history , evidence of our common artistic legacy " وينبغى عرضها فى المتاحف جنبا إلى جنب بدون تمييز " where the artifacts of one time and one culture can be seen next to those of other times and other cultures without prejudice " فى 15 فبراير 2013 نشرت نفس الصحيفة تحت عنوان 'Should Greece sell Lesbos to solve their debt crisis ? ' ( Lesbos مقاطعة يونانية تتكون من جزيرتين ) وفيه تقترح على اليونان أن تبيع بعض جزرها غير الآهلة بالسكان لحل مشكلة الديون التى تثقل كاهلها ، وفيها أيضا تذكير باقتراح اثنين من نواب البرلمان الألمانى لليونان أن تبيع بعض آثارها فى بعض جزرها غير المأهولة لمواجهة أزمة الديون .. لا أظن أحدا فى مصر يقترح بيع الآثار المصرية ، ولكننى لا أرى غضاضة فى استقدام الشركات العالمية المتخصصة لاستغلال تلك الآثار وعرضها والاستفادة من وجودها بصورة لائقة ، وخاصة أننا فشلنا ، وسنواصل الفشل فى تلك الناحية ، لعوامل كثيرة تحتاج عقودها لحلها والتغلب عليها .. إن العيب أن نصر على الفشل ، ونغلق كل أبواب النجاح ، وننتظر شيئا من المجهول ربما يأتى لإنقاذ آثارنا المهملة والمبعثرة فى كل مكان .. يناقش Silvia Beltrametti فى دراسة بعنوان ' Museum Strategies : Leasing Antiquities' ، نشرتها الدورية Columbia Journal of Laws & The Arts , 36:2 , 203-258 قضية تأجير الآثار من جوانبها القانونية وغيرها ، وهى أمور ينبغى أن نناقشها فى مصر من أجل استفادة مُثلى بآثارنا ، وينبغى ألا نتحرج أو نتهيب من طرح مثل تلك القضايا ، طالما وضعنا فى اعتبارنا مصالحنا ، وما يحفظ تاريخنا وحضارتنا ، ويحقق النفع والفائدة لنا .
10- المجتمعات الحية تواجه حقائق الحياة بشجاعة وشفافية ، وتبحث لنفسها عن حلول جديدة ومتطورة ، تتماشى مع التغيرات السريعة والمتلاحقة فى عالم اليوم .. فى المجتمع الإسرائيلى صدرت خلال السنوات العديدة الماضية كثير من الدراسات والكتب وصل بها الحد إلى التساؤل صراحة : هل لإسرائيل مستقبل فى تلك المنطقة ؟ وهل تستطيع البقاء ؟ ، وإذا كانت إسرائيل كيانا عنصريا ومغتصبا لحقوق الغير ، ومتشككا فى إمكانية استمراره ، فإن الولايات المتحدة الأمريكية على الجانب الآخر ، بقوتها وسيطرتها وتفوقها فى جميع العلوم والمعارف والتقنيات ، تتساءل أيضا : هل يمكنها الاستمرار فى السيادة والهيمنة ؟ ومتى ستنهار ؟ وما هى العوامل التى تعجل بتقهقرها وانحدارها ؟ لا أحد فى تلك المجتمعات يجد فى إثارة تلك الاسئلة عيبا أو نقصا فى الوطنية ، أو ضعفا فى الانتماء ، بل يجدونها ضرورة حتمية لإعداد العدة ، وتصحيح المسار .. فى مقال جيد لأستاذ الشؤون الدولية بجامعة هارفاد الأمريكية Stephen Walt ، نشرته مجلة ( السياسة الخارجية ) Foreign Policy فى عدد نوفمبر 2011 ، تحت عنوان ( أسطورة الخصوصية الأمريكية ) ' The Myth of American Exceptionalism ' ، يتحدث الكاتب عن رؤيته للخصوصية الأمريكية ، فيعدد خمس خصائص يراها واصفة ومعبرة عن الحالة الأمريكية ، وهى خصوصية الخصوصية الامريكية ' There is something exceptional about American exceptionalism ' ، الولايات المتحدة تنجز وتتصرف أفضل من غيرها من الأمم 'The United States behaves better than other nations ' ، النجاحات الأمريكية مبعثها عبقرية خاصة ' America's success is due to its special genius ' ، الولايات المتحدة مسؤولة عن معظم الحسن والجيد فى العالم The 'United States is responsible for most of the good in the world ' ، الله يقف مع الأمريكان ' ' God is on our side .. يقوم الكاتب بنقد تلك الخصوصيات ، بل إن الرئيس الأمريكى Obama نفسه أثناء حملته الانتخابية الثانية ، يصف تلك الخصوصية بأنها لا تختلف عن الخصوصية البريطانية أو الإغريقية أو غيرها من خصوصيات الشعوب المعتزة بقوميتها " American exceptionalism was no different from British exceptionalism . Greek exceptionalism , or any other country's brand of patriotic chest-thumping " .. ادعاءات الخصوصية الأمريكية تلك تشبها إلى حد ما ادعاءات الخصوصية المصرية ، وإذا كان الأمريكان ينتقدون تلك النظرة ، فمن باب أولى أن يفعل المصريون ، والذين يفصلهم عن الخصوصية فى أى شئ باع طويل .. إن ادعاء الأمريكان بأن الله يقف معهم يشبه ادعاء المصريين أيضا ، غير أن الكاتب الأمريكى كان من الشجاعة أن ذكّر الأمريكيين بمقولة أبراهام لنكولن Abraham Lincoln : 'our greatest concern should be ' whether we are on God's side ' ' وتعنى أن همنا الأكبر ينبغى أن يكون بأن نكون مع الله ، ثم أنهى الكاتب مقاله بالقول : " But if Americans want to be truly exceptional , they might start by viewing the whole idea of 'American exceptionalism' with a much more skeptical eye " أى أنه إذا أردنا فعلا خصوصية فيجب علينا أن ننظر بعين ناقدة ومتشككة فى فكرة الخصوصية .. يربط الكاتب محمد المنشاوى فى مقاله ( أساطير أمريكا الخمس ) ، والذى نشرته صحيفة ( الشروق ) بتاريخ 30 أكتوبر 2011 ، بين الحالة المصرية والأمريكية ، فيقول : " أما نحن فى مصر فعلينا أيضا أن ننسى أن لنا خصوصية من ذلك النوع ... فالإنسان أينما كان هو نفس الإنسان ، يسعى لحياة أفضل له ولذريته " .
أحد عشر : ماذا يحمل المستقبل لنا ؟
عندما قرأت لأول مرة بيت ( أبو الطيب المتنبى ) :
وكم ذا بمصر من المضحكات *** ولكنه ضحك كالبكا
ما توقفت عن مساءلة نفسى : ترى ماذا كان بمصر وقتها ، جعل شاعرا بحكمة ومكانة المتنبى يقول هذا البيت ، الذى يصف الحالة المصرية بدقة وإتقان ، فى كلمات ما زالت صادقة ومعبرة ، وستظل خالدة ؟ ورغم ميل الشعراء عموما للمبالغة والتهويل ، إلا أن الحالة المصرية ما انفكت شاهدة للمتنبى بالصدق والأمانة ، ومع الأيام ارتبطت مقولة المتنبى بمقولة أخرى ، لشخص خَبرَ مصر وشعبها وأحوالها ، بل وتزعم ثورتها فى 1919 ، وهو سعد زغلول باشا ، الذى تتحدث الروايات عن قوله لزوجته ، وهو فى سكرات الموت : " مفيش فايدة يا صفية .. غطّينى وصوّتى " .. ما الذى رآه زعيم الأمة ، وهو فى سكرات الموت ، أى فى لحظة تنكشف فيها الحجب ، ويرى الإنسان ما لا يراه غيره من حقائق الموت والحياة .. هل " مفيش فايدة فعلا " ؟ وهل ستظل مصر بلد المضحكات المبكيات ؟ وهل سنظل نضحك على أنفسنا وبعضنا البعض ؟
يعبّر Aaron David Miller عن تشاؤمه إزاء مستقبل منطقة الشرق الأوسط ، فى مقال بعنوان What's really Wrong with the Middle East ?' ' ، نشرته مجلة ( السياسة الخارجية) Foreign Policy ، بتاريخ 25 يونيو 2013 ، حيث بعد الإجابة على سؤال العنوان عن حقيقة مشكلة المنطقة ، يُنهى مقاله بالقول : يجب إعطاء المنطقة مدة جيلين آخرين للتعرف على مشاكلهم ، وطريقة حلولها ، ولكننى مع ذلك غير واثق أنهم سيفعلون ، رغم أن حقيقة مرضهم معروفة ، ولكنها حقيقة غير مريحة لهم " we must give this region a couple more generations to sort things out . Still , I'm not nearly as confident they will , even though what ails this region is an open , if inconvenient , truth "
فى مقال جميل للكاتب د. أيمن الجندى ، نشرته صحيفة ( المصرى اليوم ) فى 19 سبتمبر 2013 ، تحت عنوان ( مصر هتفضل قاسية عليا ) ، يعكس الكاتب نظرة أخرى متشائمة للمستقبل .. يقول : " كلنا نحب مصر ، ولكن الفارق أننى أعرف جيدا أنها ليست لى ، خيرها ليس لى ، وجهها ليس لى ، لا أبنى عليها آمالا زائفة ، ولا أتوقع منها شيئا ، وبالتالى لا أندهش من عناكب الفساد المعششة فى أرجائها ... أأستطيع أن أكون رومانسيا وواقعيا وفى اللحظة نفسها أحب مصر ؟ طبعا أحبها ، لكنى لا آمن جانبها لحظة ، وأعرف أننى لن أجدها فى تقلبات الأيام ، حين أمرض أو أجوع أو أهدد بدخول السجن ظلما ، أعرف وقتها أنها ستتخلى عنى ببرود مدهش ، مصر أم قاسية ، ومن يقول غير هذا ، إنما يتحدث بالأمانى ، ومنذ فجر التاريخ وأخلص أبنائها يزج بهم فى السجن ، ومصر لا تحرك ساكنا ، والحياة اليومية تمضى وكأن شيئا لم يحدث ، نتحدث عن الماضى وكأنه النبل والعشق والفروسية ، مع أن الأمس لا يختلف كثيرا عن اليوم ، الخسيس يكسب ، والنبيل يخسر ، عاشقها الكبير محمد فريد باع ألف فدان من أجل قضيتها ، ثم مات وحيدا فى شتاء أوروبا القارس ، لا يملك إلا البيجامة ... مصر هى المكان الذى جئنا إليه لنخسر فيه باستمرار ، غير أنه حين يجد الجد ، وتتعرض للخطر ، وينسحب كل مصاصى الدماء بلا حياء ، وقتها لن تهون علينا أن نتركها للغزاة ... وقتها سيكون حالنا مثل حال أمل دنقل ، الذى مات فقيرا مريضا فى مستشفى حكومى ، بينما يسافر المحظوظون لأرقى مستشفيات أوروبا لمجرد وعكة عابرة ... والله لولا يوم القيامة ، لما صار لهذه الدنيا معنى ."
هل تحتاج مصر إلى فترة انتقالية كفترات تاريخها القديم ، قبل أن تسلك طريق الإصلاح والتغيير والنهضة مرة أخرى ؟ سؤال دائما ما يُلح علىّ ، ولكننى أجد حرجا فى افتراض ذلك ، لأننا فى فترة انتقالية ممتدة منذ زمن طويل ، يتجاوز الآن عديدا من العقود ، وربما أيضا قرنين على الأقل .. فى الزمن الفرعونى القديم احتاجت مصر إلي ثلاث فترات انتقالية ، أتت كل واحدة منها بعد ضعف الدولة وفسادها واستبدادها ، وتفككها ، واهتراء روابطها مع شعبها، وتكالب أعداء الخارج عليها : الفترة الأولى First Intermediate Period ( 2181- 1991 ق.م ) وجاءت بعد حكم Pepi II آخر فراعنة المملكة القديمة Old Kingdom والذى امتد لـ 94 عاما ، كأطول فترة حكم فى التاريخ البشرى ، حيث ترهلت السلطة المركزية , وانتشر الفساد , والفقر ، وتدهورت علاقات مصر الخارجية ، وتغول الحكام المحليون ، وزادت الصراعات بينهم .. ظروف وكأنها الزمن المباركى .. وعقب المملكة الوسيطة Middle Kingdom جاءت الفترة الانتقالية الثانية Second Intermediate Period (1674-1549 ق.م ) ، وهى الفترة التى ظهر فيها الهكسوس Hyksos ، وسيطروا على شمال مصر ، وأقاموا فيها دولتهم التى اتخذت مدينة Avaris فى الدلتا عاصمة لها ، بينما انزوى ملوك مصر فى الجنوب حول عاصمتهم Thebes ليواجها من الجنوب تحديات أخرى متمثلة فى الكوشيين Kushites النوبيين ، حتى تمكن Ahmose I من التخلص من الهكسوس ، أما الفترة الانتقالية الثالثة Third Intermediate Period ( 1069 653 ق.م ) ، فكانت عقب المملكة الحديثة New Kingdom ، وبعد موت الفرعون RamessesXI فى 1070 ق.م ، وفيها تفككت مصر مرة أخرى بين حكام فى الشمال والجنوب ، كما تعرضت فيها للغزو الخارجى من قبل قبائل البربر Berber الليبية من الغرب ، وغزو الكوشيين من الجنوب ، ثم غزو الأشوريين Assyrians من العراق .. هل نحتاج إلى كوارث وهزائم لنستفيق ؟ هل نحتاج إلى هزات كبرى لنستيقظ من غفوتنا ، ونتوقف عن الهزل والعبث والخلاف ؟
رغم إيمانى الراسخ بحتمية التغيير ، لأنه سنة إلهية لا تقبل التبديل أو التحويل ، إلا أننى لا أخفى شكوكى حيال مستقبلنا القريب ، وحتى البعيد .. لقد تمزقت كل روابط الشعب بالدولة ، وكل روابط الدولة بالشعب ، فلا الدولة يعنيها شعبها ، ولا الشعب تعنيه دولته ، وهذا هو القاع السحيق الذى يحدث عنده التيه والضلال .. دولة ظالمة لشعبها ، وشعب ظالم لنفسه ، وظالم لبعضه البعض ، وظالم لدولته .. إنه صراع الظالمين بعضهم مع بعض ، حيث لا قانون ولا رحمة ولا حكمة ولا بعد نظر ، ويبدو أننا نحتاج إلى تيه كتيه اليهود ، يهلك فيه الظالمون ، ليبدأ بعد ذلك جيل جديد من أهل الخير والإخلاص والصلاح ، وساعتها يغمرُ القلوبَ أملُ الإصلاح والتغيير ، وتنتشى النفوس بشرا وفرحا بالأيام القادمة .. فمتى يكون ذلك ؟
سعد رجب صادق
Saad1953@msn.com
الإصلاح والتغيير .. والعشوائية
الاصلاح والتغيير .. والمسألة القبطية .. 1
الإصلاح والتغيير .. والمسألة القبطية .. 2
الإصلاح والتغيير .. والمسألة القبطية.. 3
الإصلاح والتغيير .. ومُعْضِلَةُ الشعب
الإصلاح والتغيير .. ومعضلة الدولة
الإصلاح والتغيير .. ومُعْضِلَةُ القيادة
الإصلاح والتغيير .. والنخبة
الإصلاح والتغيير .. والفرعونية
الاصلاح والتغيير..الرئيس القادم
الاصلاح والتغيير .. والكوتة
الاصلاح والتغيير .. والتوريث