الإصلاح والتغيير .. والنخبة
| |
المسيري | |
بقلم : سعد رجب صادق
..........................
- هل يمكن إصلاح مجتمع ما بدون نخبة مخلصة وأمينة وصادقة وواعية ؟
الإجابة القطعية هى : لا .. لا يمكن إصلاح أى مجتمع بشرى بدون نخبة مخلصة وأمينة وصادقة وواعية .
- إذن .. هل تَعَثُر المجتمع المصرى فى الإصلاح والنهوض والتحضر خلال القرنين الماضيين ، ومنذ محمد على باشا ، مبعثه غياب تلك النخبة المخلصة والأمينة والصادقة والواعية ؟
الإجابة القطعية هى : نعم ، ورغم وجود أسباب وعوامل أخرى كثيرة ومتنوعة ، إلا أن غياب النخبة الصالحة كان العامل الحاسم فى تعوييق أية نهضة مصرية حقيقية خلال تلك الفترة .
- والسؤال الآن : هل فى مصر المعاصرة ، وبعد انتفاضتها الأخيرة ، نخبة قادرة على وضع مشروع للنهضة ، وتعهده بالدفع والرعاية ، حتى يؤتى ثماره فى عقدين من الزمان أو نحوها ؟
الإجابة القطعية هى : لا .. لا يوجد فى مصر نخبة قادرة على أى شئ فيه صلاح لهذا المجتمع ، بل على النقيض من ذلك ، فإن نخبتنا ، أو من نُطلق عليهم تجوّزاً مصطلح النخبة ، هم سبب بلاء تلك الأمة ، وسبب ما حل بها من كوارث وهزائم ، وما حاق بها من إخفاقات وانتكاسات .
- ولكن .. هل الأمر بتلك البساطة ؟!
الإجابة : أن الأمر ليس بسيطا ، وولكنه أيضا ليس معَّقدا ، وذلك لحقيقة بديهية وهى : أن هناك أسبابا ، وثقافة مجتمعية ، للنهضة والحضارة والنصر والقوة والتمكن وغيرها مما يُعلى شأن الأمم ، ويرفع من قدرها ، كما أن هناك أيضا أسبابا ، وثقافة مجتمعية ، للتأخر والضعف والهزيمة وغيرها مما يُشين الأمم ، ويحط من قدرها ، وكلا الأمرين مرتبط بسنن تاريخية ، هى فى حقيقتها سنن إلهية ، تسرى على الناس والأمم جميعا ، منذ آدم عليه السلام ، وحتى نهاية البشرية ، ولا تفرق بين مسلمهم وكافرهم ، ولا تميل لقوم أو جنس أو ملة أو طائفة .. إنها سنن إلهية عادلة ، من انتفع بها ، واستعمل قوانينها ، علا قدره فى الدنيا ، وعظمت مكانته فى عالم البشر ، ومن تغافل عنها انحط قدره فى الدنيا ، وانحدرت مكانته فى عالم البشر ، بينما يبقى الجزاء الأخروى قصرا على من آمن بالله وعمل صالحا ، ويبقى العقاب الأخروى قصرا على من كفر بالله وعمل سوءا ، ولا ينفعه مع ذلك ما فعل فى دنيا البشر .. يُلقى هذا المقال الأضواء على نخبتنا المصرية ، ورغم أن أضواء الكاميرات والحفلات والإعلام مسلطةٌ عليهم باستمرار ، فإن الأضواء هنا هى أضواء التأمل والبحث عن الحقيقة ، فى أجواء التزييف والتزوير ، والغش والتدليس، والتعتيم والغموض، التى تفيض بها بيئتنا المصرية فى جميع جنباتها ، كما أن هذا المقال أيضا يضع النخبة فى الميزان ، من أجل تقييمها ، والحكم عليها ، فيما ارتكبته من أخطاء فادحة ، وتجاوزات مشينة ، شوهت بها ماضى هذه الأمة ، وأصّلت للفوضى والتخبط والضياع على حاضرها ، وقامرت بمستقبلها ، وفرص أجيالها القادمة
أولا : ما هى النخبة ؟
يذكر معجم [ لسان العرب ] أن نُخْبةَ القوم ونُخَبتُهم هم خِيارهم ، وتُنطق الكلمة بضم النون وسكون الخاء ( نُخْبة ) ، أو ضم النون وفتح الخاء ( نُخَبة ) ، واللغة الجيدة بالضم والفتح ( كما اختار الأصمعى ) ، والانتخاب هو الاختيار والانتقاء والانتزاع ، ومنه النُخَبة أى الجماعة تُختار من الرجال فتنتزع منهم ، والنَّخْبُ هو النزع ، فيقال نَخَبْتُه أَنْخَبُه إذا نزعته .
ويُوصف أفراد النخبة عادة بالثقافة ، فيقال عنهم مثقفون ، والثقافة كما يُعَّرفها [ لسان العرب ] من الفعل ثَقِفَ ، فيقال ثَقِفَ الشئ ثَقْفاً وثِقافاً وثُقُوفةً أى حَذَقَه ، ورجل ثَقْفٌ ، وثَقِفٌ ، وثَقُفٌ أى حاذِقٌ فَهِم ، وثَقُفَ الرجل ثَقافةً أى صار حاذقاً فَطِناً .
- أى أن النخبة حسب التعريف اللغوى هم خِيار الناس وصفوتهم ، وخيار الناس لا يكونون خِيارا بأنفسهم وإنما بفضلهم وعلمهم وحكمتهم ، ودورهم فى المجتمع .. فى إحقاق الحق ، وإبطال الباطل ، ومدى ما يقدمونه للناس من توعية وتنوير ، وتفهيم وتثقيف ، وما يتحقق على أيديهم من خدمات ومنافع ، ولا يمكن لهؤلاء أن يقوموا بتلك الأشياء وغيرها الكثير بدون العلم والمعرفة ، والخبرة والحكمة ، والحذق والفطنة ، أى أنهم لا بد أن يكونوا أصحاب ثقافة ، أى لا بد أن يكونوا مثقفين ، ولا بد لهم أيضا أن يكونوا مختارين ، وليسوا مفروضين ، بمعنى أن يتراضى الناس على الإقرار لهم بالفضل والعلم والحكمة ، والمكانة والدور البنّاء والإيجابى فى حياتهم ، وفى شؤون مجتمعهم ، ويلزم أن يكونوا متواضعين للناس ، غير متعالين عليهم ، وأن يفعلوا الخير لا يفعلونه لمكسب مادى أو منفعة عاجلة أو آجلة ، أو التماسا لصيت أو شهرة أومكانة أدبية .
- وهم أيضا الجماعة التى وصفها القرآن الكريم ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ) آل عمران : 104 ، وعمل هؤلاء فى الدعوة إلى الخير ، والأمر بالمعروف ، والنهى عن المنكر ، واجب عليهم ، ولذلك كان الأمر فى الآية ( ولتكن ) ، كما أن عملهم أيضا لازم من لوازم الفلاح والنجاح والتوفيق ، ولهذا كان الفلاح فى الآية الكريمة منوطا به ( وأولئك هم المفلحون ) ، وهو أيضا فرض كفاية على هؤلاء القادرين عليه ، والأكفاء والمؤهلين له .. يذكر الإمام القرطبى فى تفسيره [ الجامع لأحكام القرآن : 165/4 ] : " فى قوله منكم للتبعيض ، ومعناه أن الآمرين يجب أن يكونوا علماء ، وليس كل الناس علماء ... الأمر بالمعروف ، والنهى عن المنكر ، فرض على الكفاية ، وقد عينهم " ، والمعروف كما يُعَّرفه [ لسان العرب ] ضد المنكر ، وهو كل ما تعرفه النفس من الخير ، وتطمئن إليه ، وهو اسم جامع لكل ما عُرف من طاعة الله ، والتقرب إليه ، والإحسان إلى الناس ، وكل ما ندب إليه الشرع من المحسنات ، ونهى عنه من المقبحات ، وهو من الصفات الغالبة ، أى أن آمر معروف بين الناس إذا رأوه لا ينكرونه ، ويُعَّرف [ لسان العرب ] المنكر بأنه خلاف المعروف ، وهو كل ما قبّحه الشرع وحرَّمه وكرهه .
وقد تحدث القرآن الكريم عن الاصطفاء فى عشرة مواضع ، فقال تعالى عن أنبيائه الكرام ( وإنهم عندنا لمن الصطفين الأخيار ) ص : 47 ، وقال عن بعضهم ( إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ) آل عمران : 33 ، وتحدث عن الاختيار فى سبعة مواضع ( وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى ) طه : 13 ، ( واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا ...) الأعراف : 155 ، وتحدث عن تباين الأنبياء وتباين الناس فى الفضل والدرجة والمكانة ( ... ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض ... ) الإسراء : 55 ، ( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ... ) البقرة : 253 ، ( ... ولكن الله يجتبى من رسله من يشاء ... ) آل عمران : 179 ، ( هم درجات عند الله ... ) آل عمران : 163
ومما يؤكد أيضا على أهمية النخبة وضرورتها للمجتمعات ما تعرض له القرآن الكريم فى مواضع كثيرة عن فساد غالبية الخلق وانحرافهم ، وهو ما يجعل وجود القادة والرواد والمصلحين ، ووجود الآمرين بالمعروف ، والناهين عن المنكر ، ضرورة حتمية لا مجال لإنكارها : ( ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين ) الصافات : 71 ، ( ... ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) الروم : 30 ، ( ... ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ) غافر : 59 ، ( ولقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون ) الزخرف : 78 ، ( ... وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم ... ) الأنعام : 119 ، ( وإن تطع أكثر من فى الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون ) الأنعام : 116 ، ( وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغنى من الحق شيئا ... ) يونس : 36 ، ( ... ولكن لا تحبون الناصحين ) الأعراف : 79 ، ( ... وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون ) يونس : 92
وقد تضاءلت أهمية الدعوة إلى الخير ، والأمر بالمعروف ، والنهى عن المنكر ، فى قلوب وعقول الكثيرين من المسلمين ، بعدما ضيّقت الأنظمة المستبدة على المُصْلحين ، وتلاعب الإعلام المحلى والعالمى بالمفاهيم ، حتى لتكادَ وظيفة الإعلام والصحافة والفن الآن فى معظمها أن تكون دعوة صريحة للمنكر ، ونهياً عن المعروف ، وعلى الجانب الآخر فإن نجاح الإعلام والصحافة والفن فى زماننا هذا فى إحداث هذا التأثير السلبى الهائل على الناس ، لهو أكبر دلالة على أهمية ما ألزمنا الله تعالى به فى الآية السابقة ، وما جعله صفة للمجتمع المسلم ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ... ) التوبة : 71 ، وما ربط به خيرية هذه الأمة على ما سواها ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ) آل عمران 110
- وهم أيضا من وصفهم الحديث النبوى الشريف عن أبى الدرداء (رض) : ( العلماء ورثة الأنبياء ) الترمذى 2682 ، أبو داود 3641 ، فهم صفوة الأمة ، كلُ عالمٍ فى مجاله وتخصصه ، يحفظون ميراث النبوة ، ويهدون الناس إلى الخير ، ويدعونهم إلى المعروف ، وينهونهم عن المنكر .. أليست كل دعوة للعلم ، والإنتاج ، والاكتفاء من مواردنا وثرواتنا ، واحترام النظام والقانون، والعدل والمساواة بين الناس ، والأخذ بأسباب الرقى والقوة فى جميع المجالات .. أليس كل ذلك وغيره الكثير أمرا بالمعروف ؟! .. أليس النهى عن الظلم والبغى والعدوان ، واستغلال الناس ، وأكل حقوقهم بالباطل .. أليس ذلك نهيا عن المنكر ؟! .. أليس النهى عن الاستبداد والطغيان ، والغش والفساد ، والفوضى والعشوائية ، والانحلال والإباحية وغيرها من معايبنا الكثيرة ، نهيا عن المنكر ؟!
- وهم أيضا من عناهم الشاعر الجاهلى " الأفوه الأزدى " ، وهو حكيم من حكماء العرب المعدودين ، و كان سيد قومه ، يسترشدون برأيه ، ويستنصحون بنصيحته ، فى قصيدة جميلة يذكر فيها ، أن صلاح الناس مرتبط بوجود نخبة من أهل الرأى ، تضع الأمور فى مواضعها الصحيحة ، وأن غيابهم يعنى الفوضى ، وسيادة الجهلاء ، وقيادة الأشرار ، يقول :
لا يصلح الناس فوضى لا سَّراة لهم * ولا سَّراة إذا ما جهالهم سادوا
تهدى الأمور بأهل الرأى ما صلحت * فإن تولت فبالأشرار تنقـــــاد
والسَّراة فى البيت الأول هم نخبة الناس من أهل الشرف والمروءة ، والكلمة كما يشرحها [ لسان العرب ] من الفعل سَرَا يَسْرو سَرْوا إذا شَرُفَ ، أى صار سَرياً ، وجمعها السَّرَاةُ ، والسَّرْوُ : المروءة والشرف ، وفى القرآن الكريم يخاطب الله سبحانه مريم عليها السلام فيقول ( قد جعل ربك تحتك سريا ) ، أى عيسى عليه السلام ، وصفه تعالى بالشرف وعلو القدر .
إذن النخبة أو الصفوة فى مجتمع ما هم أهل العلم والمعرفة والثقافة ، وأصحاب الفضل والأمانة والمصداقية ، غير أن تلك المواصفات وغيرها لا تصلح وحدها ، ولا تكفى بمفردها ، إذ يلزم ممارستها فى واقع الحياة ، ومن أجل مصلحة الناس ، فلا قيمة لأصحاب الدرجات العلمية ، ولا معنى للمعرفة والخبرة والثقافة ، إلا إذا اقترنت بأداء دور مجتمعى يعود بالنفع والفائدة على غالبية الأفراد ، ولذلك ارتبط وصف تلك النخبة أو الصفوة أو الأمة فى التعبير القرآنى بالدعوة إلى الخير ، الذى هو اسم جامع لكل ما هو ضد الشر، وكل ما هو نافع للناس ، وبالأمر بالمعروف ، وبالنهى عن المنكر ، وارتبط المعنى فى الحديث الشريف بإرث النبوة ، والذى هو العلم والدعوة إلى الصلاح على منهاج الله تعالى ، وارتبط المعنى فى التعريف اللغوى ، وفى مفهوم الشاعر الجاهلى الحكيم بإصلاح الناس ، وهدايتهم إلى طريق الحق والصواب ، ولذلك فإن المتقوقع على نفسه أيا كان علمه وفهمه ، لا يعنى فى الحقيقة شيئا لأهله أو إخوانه أو بنى وطنه أو الناس عموما ، كما أنه من البديهى أيضا أن صاحب العلم الذى يستخدمه فى التضليل والإفساد ، كما هو حال غالبية نخبتنا ، لا يمكن أن نعتبره من النخبة الحقيقية ، إذ يجب كما ذكرت آنفا ، وكما يدلل الاشتقاق اللغوى على ضرورة اختيار الناس للنخبة ، بمعنى رضاهم وشهادتهم لهؤلاء بالفضل وعلو القدر ، وإقرارهم بدورهم وجهدهم فى صيانة المجتمع من المفاسد ، والدفاع عنه ضد المخاطر ، وكذلك دورهم وجهدهم فى التطوير والإصلاح والبناء . . كتب د . على جمعة مفتى مصر ، فى صحيفة " المصرى اليوم " بتاريخ 15 ديسمبر 2011 ، مقالا بعنوان " أسباب الفوضى الثلاثة " : " أما السبب الثانى فيعود إلى غياب النخبة والحكماء الذين يضبطون الأمور ، وهم الذين يتخصصون فى شتى المجالات ، فيخلصون لله فى تخصصاتهم ، ويتعاملون مع شؤونهم بمهنية عالية ، وحياد علمى ، فمفهوم النخبة مستقر فى كتاب الله ، وسنة النبى (ص) ، ومستقر كذلك عند العقلاء " .
- وتتوافق تلك التعريفات العربية عموما مع نظيرتها فى الثقافة الغربية ، حيث تُستخدم مصطلحات عديدة للدلالة على النخبة مثل elite والتى تعنى أصحاب الذكاء والموهبة العقلية ، أو المكانة الاجتماعية والاقتصادية ، وتُعَّرف المعاجم اللغوية مصطلح النخبوية elitism بأنه الاعتقاد أو وجهة النظر التى ترى أن توجهات النخبة وآراءها تحمل ثقلا وأهمية تستدعى الاهتمام بها ، وأنها فى أغلب الأحيان تكون أفكارا بناءة للمجتمعات ، وأن الحكمة والخبرة والمقدرة الذهنية تجعل من هؤلاء عادة مؤهلين للحكم والقيادة ، ومن المصطلحات التى تدلل على النخبة أيضا intellictuals ، وكذلك intelligentsia ، وهناك مصطلح آخر حديث الاستعمال ( بدأ استعماله فى 1966 ) وهو think tank أو think factory ويعنى مجموعة من الأفراد أو معهدا متخصصا فى الدراسات العميقة والمكثفة ، من أجل حل المشكلات ، وإعداد الأبحاث والدراسات وخاصة الاجتماعية أو التقنية أو الاستراتيجية أو السياسية .
ثانيا : جرائم النخبة المصرية فى حق المجتمع
ملحوظة : يُقصد بمصطلح النخبة أو الصفوة فى هذا المقال النخب السياسية الحاكمة أو المعارضة ، وكذلك النخبة الإعلامية والصحافية ، والثقافية والأدبية والعلمية ، والاقتصادية ، والرياضية والفنية ، وعلماء المسلمين فى المؤسسات الدينية الرسمية وخارجها ، وأيضا رموز الأقليات الدينية ، وكلهم مسؤولون دينيا وأخلاقيا وأدبيا ، وبعضهم يجمع مع ذلك المسؤولية الدستورية والقانونية ، فى القيام بكل ما يجب من أجل نهضة المجتمع ورخائه ، وكرامة ورفعة أبنائه .
أجرمت النخبة المصرية ، والنخب العربية عموما ، جرما فاحشا فى حق شعوبها ، مما أدى إلى إيقاع تلك الشعوب فريسة لكل أنواع السلبيات ، وإلى إجهاض كل فرصها فى النهضة والتقدم ، هذا إلى جانب التيه والضلال ، وافتقاد البوصلة ، وغياب المشروع الحضارى الذى يجتمع حوله الناس .. يعملون ويجتهدون من أجل تحقيقه ، ويأملون ويطمحون فى جنى آثاره ، المتمثلة فى غد أحسن ، ومستقبل أفضل ، وحياة عزيزة كريمة ، لهم ولأجيالهم القادمة ، ومن أقبح تلك الجرائم ما يلى :
1- صناعة الفراعين والآلهة
فى الزمن المصرى القديم ، حوّل الكهنةُ الحكامَ إلى فراعين وآلهة ، وخلعوا عليهم كل صفات الكمال والجلال والقدرة ، حتى أصبح الفرعون هو كل شئ ، ولا قيمة لكل ما سواه ، حتى ولو كان الشعب نفسه ، ولذلك فإن القرآن الكريم عندما يتحدث عن تكليف الله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام لا يذكر الشعب المصرى ، ولكن يذكر فرعون فقط ( اذهب أنت وأخوك بآياتى ولا تنيا فى ذكرى * اذهبا إلى فرعون إنه طغى ) طه : 43-42 ، ( اذهب إلى فرعون إنه طغى ) طه : 24 ، ( هل آتاك حديث موسى * إذ ناداه ربه بالوادى المقدس طوى * اذهب إلى فرعون إنه طغى ) النازعات : 17-15 ، ( ... كما أرسلنا إلى فرعون رسولا ) المزمل : 15 ، بينما عند الحديث عن الأنبياء الآخرين يذكر أقوامهم ( لقد أرسلنا نوحا إلى قومه ... ) الأعراف : 59 ، ( وإلى عاد أخاهم هودا ... ) الأعراف : 65 ، ( وإلى مدين أخاهم شعيبا ... ) الأعراف : 85 ، ( إنا أرسلنا إليكم رسولا كما أرسلنا إلى فرعون رسولا ) المزمل : 15 .. - إليكم فى الآية الكريمة تشير إلى العرب – .
وتصف مراجع التاريخ المصرى القديم (1) كلام الفرعون بأنه قانون ، وأن العدالة هى ما يحب ، والخطأ هو ما يكره ، وأن أبسط كلمة تخرج من بين شفتيه هى الوحى الحكيم ، وأن ممارساته لواجبات حكمه متزاوجة بدوره ومكانته كإله ، ولذا فكل تصريح له يتصف بالقداسة ، ويجب تنفيذه كقانون تشريعى His word was literally law . Justice was defined as ‘ what Pharaoh loves ‘ , wrongdoings as ‘ what Pharaoh hates ’ . The king’s slightest word was oracular...His role as secular ruler was inseparably combined with his role as god . He kept his people in good order by means of divine utterance : his statements were statues in themselves . In theory he directed every phase of secular and religious activity ، وفى نفس المرجع (2) ينقل المؤلف حديث أحد كبار المسؤولين المصريين فى زمن الأسرة الثانية عشرة إلى أبنائه عن الفرعون أمنمحتب الثالث : " هو الإله الذى بنوره نرى ، وبضيائه تستضئ جنبات مصر أكثر من قرص الشمس نفسه ، وهو الذى يجعل أرضها أكثر خضرة من فيضان النيل .. إنه من يملأ أرجاءها بالقوة والحياة ، ويدافع عنها ، من أطاعه وجبت له الحماية ، ومن عصاه حق عليه العذاب ، ولذلك اعملوا جاهدين على نيل رضاه " The esteem in which the ancient Egyptians held their king may be judged from the words in which a high official spoke to his children of his royal master , the great Amenemhat III of the Twelfth Dynasty . ‘ He is the god Ra whose beams enable us to see . He gives more light to the Two Lands than the sun’s disc . He makes the earth more green than the Nile in flood . He has filled the Two Lands with strength and life . He is the Ka ( i.e. the guardian spirit ) ... He is the goddess Bast who defends Egypt . Whoever worships him is under his protection. But he is Sekhmet , the terrible lion goddess , to those who disobey him .Take care not to defy him
وفى مرجع آخر (3) يذكر المؤلف دور كهنة المعابد فى التأكيد على الطبيعة الإلهية للحاكم The temples of ancient Egypt assert unequivocally that the nation’s king was a god . In art and texts pharaoh is shown in the company of other deities , either as their equal or as their unique child ، ويضيف الكاتب أن من يعارضون الفرعون دائما ما يوصفون بالمفسدين والمتمردين وأصحاب الطبيعة المختلة Those who opposed him were dismissed as impotent , rebellious or twisted of character ، وذلك لأن الفرعون هو الإله الكامل The king also carried the unique title ‘ perfect god ‘ ( netjer nefer ) ... to indicate that the king existed in a divine state like other gods , but also in a physical state like ourselves but unlike other gods ) , and so embodied the experience of both gods and people ).. ولكى يكون هذا الإله الفرعون قادرا على أداء مسؤولياته رتّب له الكهنة مواصفات مثل الفهم ، ودقة الكلام ، والقدرة على القيادة والسيطرة ، وهى وإن كانت مواصفات مشتركة مع بنى البشر ، إلا أنهم جعلوها متميزة بوراثتها فى الرحم من الإله رع To fulfill his responsibilities the king was endowed with exceptional qualities such as sia ( understanding ) , hu ( accurate speaking ) , wedj ( command ) and heqa( power to control ) .. These are not attributes unique to gods , but they do distance the king from most of the humanity . More importantly , the king inherited these attributes ‘ in the egg ‘ because he was ‘ the son of Re , of his body ‘ , that is a child born from the very substance of the sun god ، وحيث أن هؤلاء الكهنة هم نخبة ذلك الزمان ، وهم من يكتبون التاريخ ، ويصنعون الأخبار على هواهم ، لذلك خلت أدبياتهم من أى نقد اللفرعون (4) : Given that the literature was composed by a small number of people close to the king , criticism is perhaps not to be expected
وفى الزمن المصرى المعاصر كررت نخبتنا الفاسدة نفس المنهاج فى تقديس الحاكم وتبجيله ، وجعله كل شئ ، ولا قيمة لشئ سواه ، وتبرير كل إخفاقاته ، وإيجاد المعاذير لتجاوزاته ، وإختلاق الأسباب لفشله وانتكاساته .. يقول محمد حسنين هيكل ، كبير كهنة الفرعونية الناصرية ، عقب الهزيمة الساحقة فى 1967 : " إن العدو أراد إسقاط الزعيم ، والزعيم لم يسقط ، لذا فقد انتصرنا .. انتصرنا " .. لا قيمة بالطبع لضياع سيناء ، وضياع ما تبقى من فلسطين ، وقتل عشرات الألوف من جنود الجيش المصرى ، وتدمير كل معداته التى ذاق الفلاح المصرى كل صنوف المعاناة لدفع أثمانها .. لا قيمة لكل ذلك ، لأن الأهم هو بقاء الزعيم .. لا قيمة للهوان والذل والإحباط الذى أصاب المصريين والعرب جميعا ، لأن الأهم هو بقاء الزعيم ، الذى قال عنه عمرو عبد السميع ، صاحب برنامج ( حالة حوار ) وهو منافق ومتملق آخر من نخبتنا الضالة : " السلام عليه يوم وُلد ، ويوم يموت ، ويوم يُبعث حيا " .. ساواه بعيسى عليه السلام ، وعيسى عليه السلام ساواه النصارى بفراعنة مصر ، عندما أخذوا عنهم سفهاً من عند أنفسهم ، وعدواناً على مقام الله تعالى ، ومقام نبيهم الكريم ، حكاية الطبيعة الإلهية والجسد البشرى ، هذا الزعيم جعلته نخبتنا خالدا وملهما ، وجعلناه القائد الأعلى للقوات المسلحة ، ورئيس المجلس الأعلى للقضاء ، ورئيس المجلس الأعلى للشرطة ، وجعلناه السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية .. إنه مصر ، ومصر هو ، وما نحن جميعا إلا الهتّيفة بحياته ، الذين يرون بنوره ، وتستضئ البلاد بضيائه ، وتخضر الأرض ببركاته .. تماما كما كان الحال فى زمن الفرعونية القديمة .
وعندما مات فرعون الاشتراكية والقومية ، وورث البلاد والعباد فرعون الرأسمالية والليبرالية ، تحولت نخبتنا إلى التطبيل والتهليل للزمن الساداتى .. ضيّع نصرنا فى 1973 فوصفوه ببطل الحرب والسلام .. أخذ نساء مصر يرقصن لضيوفه فنعتوه بالرئيس المؤمن ، وطالبوا به رئيسا مدى الحياة .. فتح الأبواب للصوص لعيثوا فى المجتمع فسادا ، فغنوا لانفتاحه ، ومنوا الناس بالخير والبركات ، فازدننا فقرا وبؤسا ومعاناة .. أخرجنا من التاريخ والجغرافيا ، وعاند وكابر ، واستبد وطغى ، وحقّر كل من سواه ، واستغنى عن كل أصدقائنا من العرب والمسلمين والأفارقة وغيرهم ، فأطلقوا عليه كبير العائلة ، وصاحب الرؤية النافذة للمستقبل .
وعندما قُتل شر قتلة ، واصل خلَفه السير على مساره ، حتى تفشى الفساد والعشوائية فى كل النفوس ، وفى كل جنبات المجتمع ، فأثنت نخبتنا على حكمته ، وعلى استقرار البلاد فى عهده ، وعلى بعد نظره ، وسلامة منطقه .. جعلوا الجمود استقرارا ، وسموا التخلف والتدهور الشامل للمجتمع حكمةً وبعدَ نظر .. غير أن المفارقة الجديرة بالتأمل أن نخبة الزمن المصرى القديم كانت مقتصرة على كهنة المعابد ، وكانت مصر فى الغالب من فتراتها ناهضة ومتقدمة فى الكثير من المعارف ، وكانت تفهم معنى أمنها القومى ، وتدافع عنه ، وتمتد حدودها إلى بلاد الشام ، وكانت تكتفى من غذائها وإنتاجها ، بل كان جيرانها يأتونها لسد احتياجاتهم ، بينما فى الزمن المصرى المعاصر أصبحت نخبتنا كثيرة الأطياف ، دينية وأكاديمية وسياسية وإعلامية وصحافية وأدبية وفنية ورياضية ، أى كل من تتوسم فيهم المجتمعات نهضتها ورفعتها وعلو شأنها ، وأصبح دورهم أوسع انتشارا ، وأعمق تاثيرا ، غير أنهم خذلونا جميعا ، وتحولوا للتطبيل والتهليل للحكام المستبدين ، وللأنظمة الفاسدة .. لقد أصدر مشايخ السلاطين الفتاوى لتأييد الحاكم رغم ظلمه وفسوقه ، والفتاوى لخلع الشرعية على قراراته رغم مجافاتها للشرع والدين ، وكتب الصحافيون ، وتحدث الإعلاميون ، فى تمجيد الرؤساء والمسؤولين ، والثناء عليهم ، وغنى المغنواتية ، ومثّل المشخصاتية الأفلام والمسرحيات ، ونافقت الشخصيات السياسية ، ودلّست الرموز الأكاديمية ، وحتى من عارض وانتقد من تلك الأطياف فعل إما على استحياء ، أو كجزء من ديكور مزيف لمشهد عام من الهزل والكذب والتدليس .
كتب عماد الدين حسين مقالا فى صحيفة [ الشروق ] بتاريخ 15 مايو 2010 ، تحت عنوان " ترشيد النفاق " ، وفيه يقول : " يُولد الشخص ، خصوصا المسؤول ، بريئا نقيا متواضعا ، حتى يُحوله الإعلام إلى نصف إله ، وفى أحيان كثيرة يرفعه فوق مرتبة الإله ... فلا يوجد هناك شخص يتحول إلى عابد لذاته من تلقاء نفسه ، نحن الذين نفسد المسؤولين ، والمقصود بنحن بوضوح الإعلاميون ولا أحد غيرهم . بعض الزملاء الإعلاميين يمدحون بعض المسؤولين بأوصاف أعتقد جازما أن المسؤولين أنفسهم لا يصدقونها ، وربما يحتقرونهم فى قرارة أنفسهم ... ما الذى يدفع صحفيا لا يحتاج مالاً أن ينافق مسؤولا بكلام مكشوف ، ولا يمكن أن يصدقه أحد ؟ " .
(1) White, J.E.Manchip. Ancient Egypt its Culture and History. Dover Publication ,Inc.NY,2007 ,P.16
(2) المرجع السابق ، صفحة 18
(3) Manley , Bill ( Editor) , The Seventy Great Mysteries of Ancient Egypt , Ch. 44 : Was the King Really a God ? by Manley, Bill . Thames & Hudson Ltd, London , 2003 , p. 192
(4) المرجع السابق ، صفحة 193
2- تحقير الإنسان المصرى ، والتهوين من قدره ، والحد من إمكانياته وطموحاته
لم تكتف النخبة بتحويل الحكام إلى فراعين وآلهة ، وإنما واصلت دورها الشيطانى فغرست فى النفسية المصرية الشعور بالذل والهوان ، وأصّلت لعقدة الضعف ، واستعذاب العبودية والمهانة ، وحب الخنوع والخضوع ، وسدت كل منافذ الأمل فى التغيير والإصلاح .. فليس فى الإمكان أفضل مما نحن فيه ، وليس فى التاريخ حسب زعمهم ما يدلل على قدرة الإنسان المصرى على التغيير ، أو على شق عصا الطاعة على الحكام الظالمين ، والمتأمل فى أدبيات العقود العديدة الماضية ، يجد عجبا من أقوال هؤلاء وكتاباتهم .
كتب د . حسن نافعة أستاذ العلوم السياسية ، فى صحيفة [ المصرى اليوم ] ، بتاريخ 3 مايو 2009 ، مقالا بعنوان " كيف دخلت مصر القفص ؟! " ، وفيه يقول : " ولأن مجتمع " عشة الفراخ " هو مجتمع مركب ، وليس بسيطا كما قد يتصور البعض ... بدا لى حين تذكرت هذا المشهد أننى عثرت على " نظرية " قادرة على تفسير ما جرى لمصر وفيها خلال الأعوام الثلاثين الماضية ... نظرية أكثر قدرة وكفاءة على تفسير بعض الظواهر الاجتماعية من كل نظريات العلوم السياسية ، التى أفنيت معظم سنوات عمرى فى محاولة استيعابها ... لماذا لا يُطلق عليها " نظرية عشة الفراخ " ... وحين عدت إلى صوابى ، ألحت علىّ من جديد صورة قفص كبير وبداخله شعب مصر كله ... ورحت أدقق النظر فى المشهد الراهن ، وجدت شعب مصر فى قفص كبير ، وفى حالة خضوع تام ... تخلى الديكة عن أدوارها ، واكتفت بالمشاركة فى تربية الكتاكيت فى هدوء إيثارا للسلامة " ، وهكذا حوّل أستاذ السياسة الشعب المصرى إلى مجموعة من الفراخ ، تعيش فى عشة لا ديوك فيها ، أو ديوكها تخلت عن دورها ، ورضيت بأن تعيش كالفراخ ذليلة مكسورة الجناح .. ما الذى منع أستاذ السياسة أن يتقدم الصفوف ، وأن يجعل من نفسه ديكا لتلك الفراخ البائسة ؟! .. لا شئ !! ، رغم مساحة الحرية الهائلة والمتاحة فى الحقبة المباركية ، وانتظر الأستاذ حتى ظهور البرادعى ليتوارى خلفه ، كما فعل آخرون كثيرون ، وعندما خذلهم صاحب نوبل للسلام !! ، انفض غالبية أعضاء الجمعية الوطنية للتغيير من حوله ، ومنهم د . نافعة ، وبعد الانتفاضة المصرية فى يناير 2011 ، والتصويت على التعديلات الدستورية فى مارس من نفس العام ، والتى لم تحظ برضا النخبة المصرية ، خرج علينا د . نافعة يلوم الفراخ مرة أخرى .. يلومها إن لزمت الصمت قبل الانتفاضة ، ويلومها إن حاولت الحركة والمشاركة في إصلاح أحوالها ، رغم غياب القيادة ، وغياب الرؤية ، بسبب انصراف النخبة إلى التنظير والسفسطة .. إنهم يريدون الفراخ أن تأتى إليهم ، وتحملهم على أجنحتها ، وتهتف بهم قادة وزعماء ، فإن لم تفعل الفراخ ذلك فهى فراخ ضالة وليست على صواب .. كتب د. نافعة فى [ المصرى اليوم ] بتاريخ 5 يونيو 2011 ، مقالا بعنوان " الأغلبية ليست دائما على حق " يدلل فيه على فساد رأى الفراخ ، وانحراف فكرها : " تصويت الأغلبية هو الفيصل فى العملية الإجرائية الرامية لتحويل وجهات النظر المتنافسة على الساحة إلى سياسات وتشريعات وقوانين وإجراءات ولوائح قابلة للتنفيذ ، غير أن هذه العملية الإجرائية لا تعنى أن الأغلبية دائما على حق ، وأن الموقف الذى تعبر عنه ، أو تنطق به ، أو تنحاز إليه ، هو الموقف الصحيح بالضرورة ، والأكثر تحقيقا للنفع ، أو للصالح العام ، وأن الموقف الذى تبنته الأقلية كان هو الموقف الخاطئ بالضرورة ... والتاريخ ملئ بالأمثلة الدالة على أن الأغلبية ليست دائما وبالضرورة على حق " ، ثم يذكر أمثلة من التاريخ الأوربى للتدليل على صحة رأيه ، يتبعها بالترويج لحاجة المصريين الفراخ إلى حصافة وحكمة ديوك النخبة : " تحتاج المجتمعات فى لحظات التحولات الكبرى ، التى عادة ما تعقب الحروب العسكرية والثورات الشعبية ، إلى من يعينها على إدراك عمق مغزاها ، ويعرف كيف يستثمرها لإحداث نقلة نوعية ... وها هو التاريخ يتيح لمصر من جديد ، عقب ثورة 25 يناير الكبرى ، لحظة تستطيع فيها إحداث نقلة نوعية كبرى فى اتجاه المستقبل ، لكنها على وشك أن تفلت منا ... حصول الجانب المؤيد للتعديلات على أقل قليلا من %78 ، والجانب الرافض على أكثر قليلا من %22 ... ما الذى تعنيه هذه النتيجة بالضبط ؟
... هل ستفضى بنا هذه العملية السياسية إلى نظام ديموقراطى حقيقى مكتمل الأركان ؟ أشك كثيرا ... الالتزام برأى الأغلبية ليس معناه أن على الذين صوتوا إلى جانب الأقلية ، وأنا واحد منهم ، أن يغيروا من قناعاتهم ، أو أن يعترفوا بأن موقفهم الرافض للتعديلات الدستورية كان خطأ يتعين تصحيحه ، أو إثما يتعين التوبة عنه ، فالواقع أن كل يوم يمر يؤكد أن رأى الاغلبية سيقودنا جميعا إلى مأزق ، وأن النهج الذى اعتمده الاستفتاء لن يوصلنا إلى الهدف الذى لا يتعين أبدا أن يكون محل خلاف بيننا " .. طبعاً لا الدكتور نافعة ولا غيره من نخبتنا يذكر أن تعثر المرحلة الانتقالية مبعثه الألاعيب والمناورات التى يقومون بها ، بدءا من تهييج وإثارة الشباب ، والدعوات المتكررة للمليونات العبثية ، والإصرار على مجلس رئاسى ، وضرورة وجود مبادئ فوق دستورية ، ونزع صلاحيات المجالس المنتخبة فى تعيين لجنة صياغة الدستور ، وهزليات الدستور أولا أو لاحقا ، وتضييع الوقت والجهد والطاقة فى الإصرار على محاكمات وغيرها مما يفتح أبوابا للفتن والصدام والخلافات ، غير أن العجيب أن د . نافعة يمارس دوره الآن فى المجلس الاستشارى الذى يعلم الجميع أنه لا دور له غير الالتفاف على شرعية الانتخابات ، وترتيب حقوق للمجلس العسكرى الذى ينتقده د . نافعة فى كل كتاباته !!
إذا كان المصريون فراخا لا ديك لها عند د . نافعة ، فهم أيضا عند أستاذ السياسة معتز بالله عبد الفتاح مجتمع بلا " دكر " : " من الآخر : مطلوب دكر ، أو بتعبير أدق 100 دكر ، ينبهون الناس ، ويرفعون الالتباس ، يفكرون بحزم ، ويعملون بعزم " [ معتز بالله عبد الفتاح : ماذا لو ؟ ، الشروق ، 25 أكتوبر 2011 ] ، وهم عند سلامة أحمد سلامة ، النخبوى الذى يُوصف دائما بالكاتب الكبير ، قطيع من الأغنام ، يجرى فى كل اتجاه ، خوفا من ذئب النظام الحاكم : " إن الحرية التى يتمتع بها المصريون ، هى الحرية التى يتمتع بها قطيع الأغنام ، فى الجرى والهرب إلى الأمام ، أو فى كل اتجاه ، تجنبا للوقوع فى براثن الذئب ، والحقيقة أنه لا يوجد وصف للعلاقة بين الحاكم والمحكوم فى مصر سوى هذا الوصف على قسوته " [ الشروق ، 5 مايو 2010 : الذئب والقطيع ] .
وليت الأمر يقف عند حدود المملكة الحيوانية ، وإنما يتجاوز ذلك إلى مملكة العدم .. أجرت نشوى الحوفى محررة صحيفة [ المصرى اليوم ] حوارا مع أنيس منصور .. نخبوى آخر يُوصف بالكبير وبالفليسوف وبالموسوعى .. نشرته الصحيفة بتاريخ 1 يناير 2009 ، وفيه يقول : " مصر أصبحت كجسد استفحل فيه المرض ، لدرجة أن التفكير فى العلاج بات نوعا من الترف ، والبكاء والدعاء لله ليشفيها أيضا بات نوعا من الترف ، حالة ميؤوس منها ... والسبب ببساطة أننا أمة انتهى عمرها الافتراضى " .. يا سلام على الفيلسوف الذى قضى عمره المديد يجمع حثالات الكتب والمجلات الغربية الهايفة ، ويضمنها فى كتبه ومقالاته الكثيرة .. فكّر وقدّر ووصل إلى نتيجة حتمية لا مناص منها .. أننا أمة انتهى عمرها الافتراضى ، وسندخل لا محالة مرحلة العدم .. هل فى تاريخ البشرية أمة ميؤوس منها ؟! هل فى تاريخ البشرية أمة انقضى عمرها ، وتعيش على هامش الحياة قبل فنائها ؟! هل فى تاريخ علاقة الناس بربهم جل وعلا إغلاق لباب الدعاء والاستجابة ؟! ، ولكن المثير للدهشة أن هذا الكاتب الكبير والفيلسوف والموسوعى!! ، لا يجد غضاضة فى زيارة أصدقائه فى إسرائيل ، ذلك الكيان الاصطناعى المزيف ، والزائل حتما لا محالة .. يقول أنيس فى الجزء الثانى من حواره مع [ المصرى اليوم ] ، والمنشور بتاريخ 2 يناير 2009 ، تحت عنوان " لا أخجل من اتهامى بالتطبيع .. وأعتز بأصدقائى فى إسرائيل " : " علاقتى بإسرائيل تعود حتى قبل مرافقتى للرئيس السادات فى رحلته الشهيرة للقدس ... اكتشاف الآخر ضرورى لتحديد طرق التعامل معه ... فإذا رفضت شخصا أو كيانا دون معرفة ، فكيف أبرر رفضى له ، أو أتعرف على نظرته لى " .. مصر صاحبة التاريخ المديد ، والذى تتبعه بعض علماء المصريات (1) إلى 39,000 عاما قبل الميلاد ، أمة انتهى عمرها الافتراضى عند أنيس منصور ، بينما العصابات الإجرامية التى جمعها الغرب من كل مكان ، ليقيم منها إسرائيل على أرض فلسطين ، ليس لهم عمر افتراضى ..إنهم أصدقاؤه الذين زارهم أكثر من خمسين مرة .. كتب محمد عبد القدوس فى [ المصرى اليوم ] بتاريخ 19 يناير 2010 ، تحت عنوان " كلام فى الحب " : " زار أنيس منصور إسرائيل أكثر من 50 مرة ... زار أرض فلسطين المحتلة خمسين مرة حتى هذه اللحظة ، وله صداقات وطيدة مع أعدائنا من قادة إسرائيل " .. كل تلك الزيارات للتعارف ، وكأن القرآن الكريم ، والتاريخ ، والأحداث اليومية ، ليست كافية جميعها ، ليعرف المصريون والعرب والناس جميعا الطبيعة اليهودية التى لا لبس فى مواصفاتها وسلوكياتها .. أنيس منصور ما زال يبحث عن سبب لتبرير الرفض العربى لإسرائيل ، وكأن احتلال أرض الغير فى عرفه ليس سببا كافيا !!
وتمضى بنا نخبتنا الفاسدة حتى النخاع ، من عالم الفراخ والنعاج ، إلى عالم العدم ، إلى عالم المعاتيه والمهاوييس والمجانين .. تصف د . غادة شريف الشعب المصرى فى مقالها " ما هذا الشعب التراللى ؟ " ، والمنشور فى صحيفة [ المصرى اليوم ] بتاريخ 13 أبريل 2010 ، فتقول : " واضح يا شعب إنك أصبحت استنجالينا ... ولهذا أتعجب كيف يا شعب يا تراللى يا استنجالينا تطالب أنظمتك بالتغيير للأحسن ، بينما أنت تتغير للأسوأ والأتفه ؟ " .. د . غادة بالقطع لم تتعلم شيئا من دراستها بالولايات المتحدة ، ولم تتعلم شيئا من اللياقة واللباقة فى حياتها تعرف بها أصول النقد ، ولو كانت تعلمت شيئا لما كتبت هذا الكلام الفارغ ، ولو حدث هذا فى مجتمع غربى لتم فصلها من الصحيفة ، ولتم إجبارها على تقديم اعتذار للشعب الذى شتمته ، ولقدمت الصحيفة أيضا اعتذارا للشعب الذى تطاولوا عليه .. إنها كبقية النخبة المصرية تعيش فى عالمها الوهمى الخاص ، ولو لم تكن وهى التى تكتب بالعامية الركيكة ، لتستميل القارئ ، وتعطيه الانطباع بتلاحمها معه وإحساسها بمشاكله ، لما كتبت فى مقال آخر " محدش بياكلها بالساهل " ، والمنشور فى [ المصرى اليوم ] بتاريخ 6 يناير 2012 : " فى الأسبوع الماضى كنت فى جلسة لطيفة مع مجموعة قريبة إلى قلبى من أصدقاء قدامى ، وكان من بينهم منتج شهير ، وبدأنا حديثا فلسفيا عن أنواع الحب ... أذكر أننى عندما كنت طالبة بالجى سى إى كان مقررا علينا فى مادة الأدب الإنجليزى قصائد للشاعر البريطانى اللورد ألفريد تنيسون ... " .. هل تعلم غادة أن شغل الأسرة المصرية الشاغل ليس أنواع الحب ، وإنما كيفة زواج البنات ، بعدما أصبحت العنوسة أمرا مألوفا ؟! ، هل تعلم غادة أن شغل الأسرة المصرية الشاغل ليس أشعار اللورد ألفريد ، والجى سى إى ، وإنما كيفية تدبير نفقات الدروس الخصوصية فى نظام تعليمى فاشل ؟! .. مَنْ الأولى أن نَصِفَه باللتراللى والاستنجالينا .. الكاتبة ومقالها أم شعبا من ثمانين مليونا ؟!
دفعت تلك القناعات الخاطئة غالبية النخبة إلى الإيمان باستحالة تغيير الإنسان المصرى ، ومن ثم استحالة ثورته على الأنظمة الفاسدة ، وطبقا لتصورات هؤلاء فإنه لا أمل فى حراك الناس من أجل صلاح المجتمع .. كتب د . عمرو الشوبكى ، أستاذ العلوم السياسية ، مقالا بعنوان " لماذا لن يثور المصريون " ، نشرته صحيفة [ المصرى اليوم ] بتاريخ 15 يوليو 2010 ، وفيه يبدأ بذكر مجموعة من الأسباب يراها تقدم إجابات جزئية على السؤال : " تساءل الكثيرون عن أسباب عدم ثورة المصريين ، وذكروا فى معرض إجاباتهم عن هذا السؤال أسبابا تتعلق بطبيعة الشعب المصرى المستسلم لجبروت السلطة ، وأخرى تتعلق بقسوة القبضة الأمنية ، وميراث الاستبداد الشرقى ، وثالثة تتعلق بالقهر الاجتماعى والاقتصادى والجرى على لقمة العيش ، وأخيرا هناك أسباب ثقافية أخرى تتعلق بالإرث الفرعونى الذى ألّه فيه الشعب فرعونه ورؤساءه معا ، وظلت كل هذه الإجابات تغطى جانبا من السؤال وجانبا من الحقيقة ، ولكن الجانب الأكبر من المشكلة لا يكمن فى الإجابة ، إنما فى السؤال نفسه ، وهو : لماذا مطلوب من المصريين دون غيرهم من شعوب الأرض أن يثوروا على حكامهم ، ولماذا يصر البعض على طرح هذا السؤال المغلوط حتى يصل إلى إجابة غير صحيحة عن استسلام المصريين وخنوعهم أمام الحكام " ، ثم يمضى الشوبكى مبررا قناعته بأن الشعب المصرى لن يثور ، فيذكر نماذج شتى لحالات عربية وعالمية : " لماذا لم يثر العراقيون والجزائريون الأكثر حدة بين الشعوب العربية ... ولماذا لم يثر الأتراك منذ أسس مصطفى كمال أتاتورك الجمهورية التركية عام 1923 ... أما بلدان أوروبا الشرقية ... فلم تعرف نموذجا واحدا للثورة الشعبية أو العصيان المدنى ، من أجل التخلص من استبداد نظمها الشيوعية ، إنما صورا مختلفة من الاحتجاجات السياسية والاجتماعية ، لم يكن فى أى منها ثورة مليونية واحدة ، بما فيها رومانيا التى تحدث الإعلام الغربى بخصوصها عن ثورة حدثت فى التلفزيون وليس فى الواقع ، بل إن قلعة الاشتراكية فى الاتحاد السوفيتى انهارت من داخلها ، وعبر إصلاحات بدأت من داخل النظام ، على يد الزعيم الشيوعى ميخائيل جورباتشوف ، وليس عبر الثورة الشعبية ، والمؤكد أيضا أن كل دول أمريكا اللاتنية لم تتغير عبر ثورات شعبية مليونية ... فى حين أن الديموقراطية جاءت إلى أسبانيا والبرتغال من خلال النظام القائم ... ولم يتهم باقى الأوروبيين الأسبان والبرتغاليين بالخنوع والسلبية ... دول أوربا الغربية تحولت نحو الديموقراطية عبر عملية تطور داخلى " ، ويخلص الشوبكى من تلك الأمثلة إلى نتيجتين : الأولى : " اعتبار الثورة هى المسطرة التى نقيس عليها إيجابية الشعوب من عدمها وَهْمٌ كبير ... فباستثناء الثورة الفرنسية والروسية والإيرانية ، لم ير العالم ثورات شعبية كبيرة تتحرك فيها الجماهير من أجل إسقاط النظام القائم ... نماذج التغيير بالثورة الشعبية والعصيان المدنى كانت استثناء فى تاريخ التجارب التى تحولت نحو الديموقراطية فى العالم كله " ، والثانية : " إذا قرأنا واقعنا جيدا سنكتشف أن البلاد ستعرف مزيدا من الاحتجاجات والانتفاضات التى لن تؤدى إلى ثورة شعبية عارمة ، ولكنها يمكن أن تمثل قوة ضغط حقيقية على النظام ، فى حال إذا تفاعلت معها نخبة إصلاحية واعية داخل النظام وخارجه ، ونشطاء جدد بدأوا يظهرون ويقدمون نمطا جديدا فى ممارسة العمل السياسى ، ربما تكون مصر فى حاجة أكثر من أى وقت مضى إلى لوبى للإصلاح ، ينقذ البلاد من خطر تفكك الدولة ، وتحلل النظام ، وانهيار المؤسسات والمرافق العامة ، لأن من الصعب أن تستمر البلاد ضحية جمود النظام وتكلسه وعدم كفاءته ، ووَهْم الثورة الشعبية التى لم تعرفها مصر إلا فى مواجهة المحتل ، ومعها معظم دول العالم " ، والشوبكى فى طرحه هذا كَمَنْ يقول لنا : الشعب المصرى لن يثور ، ولا يجب أن نطلب منه ذلك ، وعلينا أن نعَّولَ على الإصلاح النخبوى ، الذى يحدث من داخل نخبة النظام ، بالتعاون مع نخبة المجتمع ، أو ما يسميه " لوبى الإصلاح " ، تحت ضغوط الاحتجاجات الفئوية والمحدودة ، وما عدا ذلك من توقع ثورة شعبية وَهْمٌ وخيال ، ومشكلة هذا الطرح أنه يؤكد على نفس مشكلة سوء الظن فى الإنسان المصرى وقدراته ، بل إنه يبرر ذلك ، كما أنه أيضا يستبدل وَهْمَ الثورة الشعبية حسب تصوره ، بوَهْمٍ آخر أشد خيالا ، وأصعب تحققا ، وهو إصلاح النظام من داخله بالتعاون مع النخبة ، والمتأمل فى حركة التاريخ يعلم أن الثورات فعل استثنائى يحدث عندما تنحدر المجتمعات ، وتستمر فى انحدارها ، وتنعدم الآمال فى الإصلاح والعدالة والكرامة .. عندما يرى الإنسان المصرى أحواله وهى تزداد سوءا كل يوم ، ويحس فى نفسه وقلبه وعقله بتلاشى الأمل أو انعدامه فى الإصلاح والتغيير ، عند ذلك يكون المجتمع المصرى أو أى مجتمع بشرى على موعد مع انتفاضة شعبية أو ثورة ، لإعادة التوازن ، وتصحيح المسار ، وهو ما حدث فى مصر ، وحدث وسيظل يحدث طوال التاريخ البشرى ، والمقارنة مع الحالات التى ذكرها الشوبكى فيه إغفال لقابلية كثير من الأنظمة التى ذكرها للتطور والإصلاح من داخلها ، وعبر حراك مجتمعى عام ، علاوة على أن كل تلك المجتمعات كانت فى وضع أفضل من المجتمع المصرى ، والطبيعة البشرية قد تتغاضى عن بعض من حريتها فى سبيل حياة كريمة ، أو أوضاع تلبى احتياجاتها الإنسانية الأساسية ، بينما الحال عندنا ببساطة : لا حرية ، ولا كرامة ، ولا تلبية لأدنى احتياجات النفس البشرية .
الشئ المثير للانتباه فى كلام رموز النخبة المصرية أنه فى الوقت الذى يقللون فيه من شأن الإنسان المصرى ، ويصفونه بكل صفات الخنوع والمذلة والاستكانة ، حتى أنه لا أمل فى ثورته على أنظمته الفاسدة ، وأحواله المتردية ، نجد على الجانب الآخر أن كثيرا من الدارسين الغربيين للحالة المصرية ، والأحوال العربية عموما ، ينظرون للأمور نظرة مختلفة ، فمثلا مجلة The Economist البريطانية ، وهى من المجلات المحترمة ، والتى دائما ما تهتم بالشأن المصرى ، أفردت ملفها الرئيسى فى عددها الصادر بتاريخ 15 يوليو 2010 للشأن المصرى ، تحت عنوان " تقرير خاص عن مصر " A special report on Egypt ، وفيه يذكر كاتب التقرير Max Rodenbeck أن الانتظار الطويل ، وبعد ثلاثة عقود من الانجازات الاقتصادية ( المقصود هنا طبعا حسب مفاهيم التنمية المفروضة من البنك الدولى ) والشلل السياسى .. هذا الانتظار يوشك على الانتهاء ، فالتغيير قادم The long wait .. After three decades of economic progress but political paralysis , change is in the air ، وفى موضع آخر يذكر أن نهاية الحقبة المباركية لا محالة أصبح قريبا the end of an era inevitably looms ever closer ، ويبرر الكاتب ذلك بالأجيال الجديدة ، المتعلمة والمتمدنة والمنفتحة على الخارج ، والأقل صبرا على الأحوال الفاسدة ، والمختلفة عن الأجيال السابقة والمعروفة بسلبيتها السياسية Egyptians may be renowned for being politically passive , but the rising generation is very different from previous ones . It is better educated , highly urbanized , far more exposed to the outside world and much less patient
وفى نفس عدد المجلة البريطانية ، وتحت عنوان الديكتاتورية العربية Arab autocracy يذكر الكاتب أن التغيير قادم بسرعة لمصر والسعودية change is coming to Egypt and Saudi Arabia soon ، وأنه رغم التنمية الاقتصادية ، وبعض الاصلاحات فى كلتا البلدين ، فإن انغلاق النظام السياسى ، ومخاوف الصراع على قمة السلطة ، وشيوع الفساد ، سيؤدى إلى ازدياد غضب القاعدة العريضة من الشعب ، ومع تنامى وسائل الاتصال الحديثة من الانترنت ، والتليفونات الخلوية ، وسهولة التنقل والسفر ، ستزداد فرص انتشار هذا الغضب ، وصعوبة التحكم فيه The rulers of Egypt and Saudi Arabia ... have made improvements ... But the closed political system ... , the uncertainties of dynastic power – mongering and the corruption inherent in patronage – ridden autocracies still often leads to plotting at the top and frustration that could spill over into anger at the bottom . That becomes more likely as the internet , mobile phones and easier travel make people far less easy to control
وقبل عامين من تقرير مجلة The Economist صدر كتاب (2) " فى داخل مصر " Inside Egypt للكاتب البريطانى John R. Bradley ، وتحت عنوانه الرئيسى عنوان فرعى يقول : " أرض الفراعنة على شفا الثورة " The Land of the Pharaohs on the Brink of a Revolution ، وفيه يتنبأ المؤلف (3) بثورة شعبية فى مصر .
والسؤال الآن : كيف يرى الأجانب السنن التاريخية واضحة جلية ، وكيف يتوقعون زوال النظام المباركى ، وكيف يعولون على الأجيال الجديدة ، وما توافر لديها من تقنيات ، لتلعب دورا رئيسيا فى التغيير ؟! ، وعلى الجانب الآخر كيف تعمى نخبتنا عن إدراك تلك السنن التاريخية ، وكيف تعجز عن رؤية التغيير القادم ، وكيف تتجاهل الأجيال الشابة ، وما تعانيه من بطالة ويأس وإحباط ، وما توافر لها أيضا من تقنيات التواصل الحديثة ، وغيرها من المميزات التى لم تتوافر للأجيال السابقة ؟! .. المفارقة العجيبة أنه فى نفس اليوم الذى نشر فيه د . عمرو الشوبكى مقاله المشار إليه سابقا " لماذا لن يثور المصريون ؟ " ، صدر عدد مجلة The Economist السابق الإشارة إليه ، والذى يستشف زوال النظام المباركى ، بل وحتى السعودى !! .. بالطبع نخبتنا مشغولة فى لوم الناس ، ووصفهم بالعجز والكسل ، ونعتهم باستعذاب الذل ، واستلذاذ الهوان ، وفى نفس الوقت مشغولة بنفاق الأنظمة وتملقها ، وتحويل قادتها إلى فراعين وآلهة ، ومن يمارس هذا الدور الإجرامى سيعمى بالقطع عن الحقائق ، وسيتجاهل أساليب البحث ، وجمع المعلومات وتحليلها ، واستخلاص النتائج منها .. وما حاجة نخبتنا للتعب والمشقة ، وبذل الجهد والطاقة ؟! أليس يكفيهم الجدل العقيم ، والسفسطة الفارغة ؟! ثم إنهم أكبر أعداء التغيير ، وأشد الناس انتفاعا بالأنظمة الفاسدة ، والتى لولاها لبارت بضاعتهم فى الكذب والتدليس .. إن الشوبكى نفسه يدرك تلك الحقيقة ، يقول : " حين يُبسّط البعض محاولة التغيير فى مصر ، ويتصور أن الغالبية الساحقة من الناس مع التغيير ، فى مقابل قلة قليلة من أصحاب السلطة والثروة الفاسدين ، يبتعد كثيرا عن الواقع ، وحين يتصور البعض أن مشكلة التغيير هى فقط أو أساسا فى وجود آلة القمع الجهنمية ، فإنه أيضا يختزل الأمور ويُبسّطها ، لأنها أعقد من ذلك بكثير ، فبقاء أى نظام غير ديموقراطى فترات طويلة فى الحكم ، لا يرجع فقط أنه يمتلك سطوة أمنية ، إنما لأن أعداد المستفيدين والمتواطئين معه أكبر من الراغبين فى تغييره ... إن النجاح الذى حققه الحكم الحالى يكمن فى أنه جعل بعض المنادين بالتغيير كلاماً مستفيدين من عدم التغيير ، وكثير ممن يتحدثون بصوت الشعب من الإعلاميين هم متاجرون به ... إن المجتمع وليس فقط النظام يحتاج إلى إصلاح " [ المصرى اليوم ، 24 يونيو 2010 : من هم أنصار الوضع القائم ؟ ] .
(1) Malkowski, Edward F. Ancient Egypt 39,000 BCE : The History , Technology, and Philosophy of Civilization X . Bear & Company , 2010
(2) Bradley, John F. Inside Egypt . Palgrave Macmillan , 2008
(3) الكاتب البريطانى John R. Bradley من مواليد 1970 ، تخرج من جامعة University College London ، عاش فى مصر لفترات ، ويتقن اللغة العربية باللهجة المصرية ، وكتابه " فى داخل مصر " محاولة جيدة وجادة لتحليل أوضاع المجتمع المصرى ، وخاصة أنه اعتمد على محاثة الناس ومعايشتهم كأحد الوسائل لفهم المجتمع وقضاياه ، غير أن تلك الجودة والجدية تفتقد شيئا كثيرا من الأمانة والمصداقية عندما يتحدث عن الإخوان ( الفصل الثانى ) ، أو الأقباط ( الفصل الثالث ) ، ويبدو فى بعض مواضع الكتاب تحامل واضح على التيارات الإسلامية ، ويظهر هذا أيضا جلياً فى كتابه الذى صدر فى بدايات يناير 2012 تحت عنوان " بعد الربيع العربى وكيف اختطف الاسلاميون الثورات " After the Arab Spring How Islamists Hijacked the Middle East Revolts ، وله كتابان آخران أحدهما يتناول النظام الحاكم فى السعودية Saudi Arabia Exposed : Inside a Kingdom in Crisis ، والآخر يتناول العلاقات الجنسية فى المنطقة العربية Behind the Veil of Vice : The Business and Culture of Sex in the Middle East ، وجميع تلك الكتب صدرت عن نفس دار النشر ، ورغم الملاحظات على بعض كتاباته إلا أنه يبقى كاتبا ذا إسهامات هامة فى تناول القضايا العربية ، وخاصة مع خلو الساحة من الكتابات العربية الجادة .
3- صناعة الطائفية والتشرذم وتأجيج الصراعات بين أطياف المجتمع
لكى تكتمل أركان جريمة النخبة فى حق الأمة ، عمدت متعاونة مع النخب الحاكمة وأعداء الخارج من الإسرائيليين والغربيين إلى تفتيت مكونات المجتمع ، وهلهلة نسيجه ، وإضعاف لُحْمته ، وتمزيق أوصاله ، فقسّموا أهل مصر إلى مسلمين وأقباط ، واليوم تضيف بعض كتاباتهم البهائيين واليهود والملاحدة ، ثم فرّقوا بين السنة والشيعة والصوفية ، وبين الرجال والنساء ، وبين كبار السن والشباب ، وبين المدينة والقرية ، وبين سكان الوادى والدلتا وسكان سيناء ، وبين المصريين والنوبيين ، ثم أمعنوا فى التفريق والتفتيت فميزوا بين الإسلاميين والعلمانيين بطوائفهم المختلفة ، من اشتراكيين وليبراليين وغيرهم ، ولم يكتفوا بذلك ، بل وضعوا المسلمين فى طبقات ، فمن كان معتزا بهويته ، ومحافظا على شعائره ، فهذا متطرف ، أو متزمت ، أو رجعى ، أو ظلامى ، أو أصولى ، أوسلفى ، أو وهابى ، ومن كان غير ذلك فهو معتدل ، أو تنويرى ، أو حداثى ، وسارت النخب العربية كلها على نفس الطريق ، فأصبحت المجتمعات ممزقة بين مكوناتها العرقية والقبلية .. العرب والأكراد والدروز والأمازيغ والآشوريين والتركمان وغيرهم ، وبين تركيباتها القبلية كما فى اليمن والسودان ، وبين مذاهبها الإسلامية .. السنة والشيعة والزيدية والعلوية وغيرها ، وساهمت أسماء نخبوية كبيرة فى هذا العبث الإجرامى ، مثل د. حسن الترابى ، خريج جامعة السربون الفرنسية ، وواحد من أكبر الأيدى العابثة بمستقبل السودان واستقرارها ، وقد حوّل عداءه للرئيس السودانى عمر البشير إلى عداء للسودان بأكمله ، ودوره فى تأجيج الصراعات بين قبائل دارفور معروف ومعلوم ، كما لا يخفى دوره فى انفصال الجنوب ، مساهمة مع الدور المصرى والليبى والخارجى ، وكذلك وليد جنبلاط فى لبنان .. نموذج آخر للقبح والعبث باستقرار المجتمع ، لم يجد غضاضة فى التصريح بأنه لا يمانع فى فرض الوصاية الدولية على لبنان عقب اغتيال الحريرى ، نكاية فى حزب الله ، رغم أنه لا يعنيه الحريرى ولا غيره ، وكيف يعنيه وهو الذى لا تعنيه بلده بأكملها ؟! ، وها هم أقباط مصر المهجريون ينفخون فى نيران الفرقة والعداء ، ويؤلبون الداخل والخارج بغية تقسيم مصر ، ولا يخفى على كل عربى مهموم بقضايا هذه الأمة ما فعلته النخبة العراقية الخائنة والغادرة والعميلة من تفتيت المجتمع وتقزيمه ، ونهب أمواله وثرواته ، وإراقة دماء مئات الألوف من أبنائه ظلما وعدوانا .
ولا يمكن إغفال سكوت النخب العربية عموما عما يحدث فى البحرين ، بحجة أنه يخص الشيعة ، رغم أنهم جزء أصيل من تركيبة المجتمع البحرينى ، ولا يمكن أيضا إغفال بعض التصريحات الحمقاء لرموز شيعية فى بلدان أخرى ، لأنها تفضح مكنون قلوب هؤلاء ، ومنها على سبيل المثال ما قاله الشيخ نمر باقر النمر : " كرامتنا أغلى من وحدة هذه الأرض " [ القدس العربى ، 7 مارس 2009 ] ، مشيرا إلى إمكانية مطالبة الشيعة فى السعودية بالانفصال عن المملكة .
لقد فشلت الأنظمة الحاكمة فى بناء الدولة الحديثة بمؤسساتها وقوانينها التى تكفل للجميع الحرية والكرامة والمساواة ، وفشلت فى صياغة مشروع حضارى تلتف حوله كل طبقات المجتمع وفئاته ، فلجأت إلى شرذمة المجتمعات العربية وتفتيتها ، لإلهائها عن أحلامها فى التنمية والتطور ، وشغلها بكياناتها الصغيرة ، وتوجهاتها الضيقة ، وهوياتها الدينية والعرقية والقبلية والفكرية والثقافية ، وساعدتها النخب العربية فى هذا المخطط الجهنمى ، وها هى مصر وغيرها من بلاد العرب ما زالت تعانى الخلافات الداخلية المريرة ، وتعانى هواجس التقسيم والتفتيت .. نفس المخطط الفرعونى البغيض يتم تنفيذه مرة أخرى وبحذافيره ( إن فرعون علا فى الأرض وجعل أهلها شيعا ...) القصص : 4
4- تبرير الهزائم والانتكاسات ، وتسويغ التراجعات والإخفاقات
دأبت النخب الحاكمة ، ونخب المجتمع ، طوال فترة ما بعد الاستعمار ، على إيجاد المبررات لكل الهزائم والانتكاسات ، واختلاق الأسباب لكل التراجعات والإخفاقات ، فأوجدوا فى المجتمع شعورا عاما بعدم المسؤولية ، وعدم تحمل النتائج ، وعدم المساءلة ، وعدم الشفافية ، وامتد هذا الشعور ليصبح سلوكا عاما طال الناس بكل طوائفهم ، من الرئيس والمسؤولين إلى عوام الشعب ، وهو ما أصّل أيضا لتجاهل القوانين ، واحتقار اللوائح والضوابط ، وتجاوز الأعراف والعادات .. لقد برروا الهزيمة العسكرية الساحقة فى 1967 ، بل واعتبروها نكسة ، والآن وبعد مضى حوالى نصف قرن ما زلنا لا نعرف من المسؤول عنها ، وما زلنا لم نتقص حقائقها وأسبابها .. وبرروا الهزيمة السياسية للسادات أمام الغرب وإسرائيل ، وإضاعته لنصر أكتوبر ، وهى هزيمة لا تقل قبحا ومرارة عن الهزيمة العسكرية فى 1967 .. وبرروا كل الإخفاقات الاقتصادية ، وفشل كل مشاريع التنمية .. وبرروا تعذيب الإنسان المصرى ، وإذلاله وإمتهان كرامته ، وحرمانه من كل حقوقه فى الحياة العزيزة الكريمة .. بل إنهم برروا للآخرين العدوان علينا ، والتدخل فى شؤوننا .. برروا لإسرائيل عدوانها المستمر ، وبرروا للغرب والولايات المتحدة حصاره للعراق وليبيا والسودان .. وبرروا لهم الحرب على العراق وأفغانستان وليبيا .. مسلسلات مستمرة من التبريرات ، ومعها ضاعت الحقائق ، وانتفت المسؤولية عن المسؤولين ، حتى أصبحنا مجتمعاً بلا حدود أو ضوابط لتصرفات المسؤولين وعوام الناس ، وبلا نظام للمساءلة والحساب على أخطاء المسؤولين وعوام الناس .. إنه نظام أقرب إلى الفوضى والعشوائية منه إلى النظام والمسؤولية .
5- تزييف الوعى ، وتضليل الناس ، ومسخ العقل والسلوك والشعور الجمعى للمجتمع
الهزائم والانتكاسات ، والتراجعات والإخفاقات ، لها أسباب عملية ومنطقية ، يمكن فهمها من خلالها ، ولو كانت هناك شفافية ومساءلة ، وتصحيح مستمر للأخطاء ، لكان هذا أمرا طبيعيا مرتبطا بالسلوك البشرى ، واحتمالات الخطأ الواردة فى الفهم والاجتهاد والتنفيذ ، ولكن مشكلة النخب الحاكمة ، ونخب المجتمع الأخرى ، أبعد مدى ، وأعمق قرارا .. إنهم عامدين ومتآمرين معا على عقل المجتمع ووعيه ، أوهموا الناس من ناحية بصحة تصرفاتهم ، وسلامة قراراتهم ، ومن ناحية أخرى ألقوا باللائمة على كل ما عداهم .. أوهموهم أن التآمر الخارجى هى السبب الرئيسى فى كل إخفاقاتنا ، وتآمر الغرب علينا حقيقة لا تقبل جدالا ، ولكن هذا التآمر ما كان له أن ينجح أبدا إلا بسبب الضعف الداخلى الذى صنعوه بفشلهم وخيانتهم .. وأوهموهم أن الخروج على الدين والأخلاق حرية تفكير وإبداع .. وأوهموهم أن الفقر ، وفشل مشاريع التنمية ، وإخفاق السياسات الاقتصادية ، مرجعه زيادة السكان ، وميل الناس للإنجاب .. وأوهموهم أن المعارضين والداعين للإصلاح ، متآمرون ومارقون وخارجون على العرف والقانون ، وأنهم بذلك يستحقون السجن والتعذيب والامتهان والإذلال .. وأوهموهم أن حصار أهلنا فى غزة ضرورة لأمننا القومى ، وأن تعاوننا مع إسرائيل والغرب لتصفية القضية الفلسطينية ، ضرورة لاستقرارنا ، وتفرغنا لمشاكلنا الداخلية .. لقد تمت خلال العقود العديدة الماضية أكبر عملية تزييف للوعى مصرياً وعربياً ، وأكبر حملة لتضليل الإنسان المصرى والعربى والمسلم ، وكانت النتائج مدمرةً لأبعد الحدود ، متمثلة فى مسخ شبه كامل للعقل والسلوك والشعور الجمعى للمجتمع ، وهو ما سيحتاج لإزالة آثاره إلى نظام تعليمى وإعلامى قويم ، وإلى عقود من التعديل والإصلاح والتقويم .
ثالثا : ما هى مشكلة النخبة المصرية ، والنخب العربية عموما ؟
1- الهزيمة الأخلاقية والروحية والحضارية
لا يمكن أبدا للمهزوم أخلاقيا وروحيا أن يبنى حضارة ، أو يصنع مجدا ، أو يجلب نفعا لنفسه وأهله ووطنه ، وهذا هو السبب الجوهرى فى فشل النخبة المصرية والعربية فى إيجاد مشروع حضارى ، يتلاءم مع هويتنا وثقافتنا وظروفنا وإمكانياتنا ، ليلتف حوله الناس ، وليتعهدونه بالرعاية ، ولتتضافر جهودهم وطاقاتهم من أجل إنجاحه ، وتحقيق أهدافه ، وقد بدأ هذا الإحساس بالدونية والإنهزامية مع سقوط دولة الخلافة العثمانية ، واحتلال المنطقة العربية وتقسيمها ، وبزوغ نجم الغرب عسكريا وعلميا وثقافيا ، وبدلا من محاولة البحث عن عوامل انحطاطنا ، وسبل النهوض من كبوتنا ، وطرق شحذ هممنا ، وإيقاد عزائمنا ، واستغلال ما حبانا به الله تعالى من دين كامل ، وموارد بشرية وطبيعية هائلة ، وإرث تاريخى وحضارى ضارب فى القِدَم .. بدلا من كل ذلك ، وجدنا أنفسنا حكاما ومحكومين أمام شعور جارف بالدونية تجاه الغرب ، وإحساس عميق بالهزيمة النفسية والحضارية ، وحتى عندما أوفد محمد على باشا البعثات إلى أوربا لتحصيل علوم الغرب ومعارفه ، رجع هؤلاء إلى مصر ، لا ليطبقوا ما تعلموه من معارف وتقنيات ، وإنما ليشغلوا الناس بكل ما يناقض عقيدتهم ، ويخالف هويتهم ، ولا يتناغم مع تراثهم وثقافتهم ، وحتى ما طبقوه من تلك المعارف والتقنيات فشلوا فى تحويره وتعديله ليتوافق مع ناس ليسوا كالغربيين ، ومجتمع وأحوال مختلفة ومتباينة عن مجتمعات الغرب وأحواله ، ومن هنا بدأ الفصام النكد بين النخبة والمجتمع ، واستمرت البعثات إلى الغرب والشرق منذ ذلك التاريخ ، ومع كل عودة للمبعوثين يتأصل الفصام والانفصال ، ويتعمق الخلاف ، وتزداد الهوة بين الناس والمجتمع من جانب والنخبة من جانب آخر .
طه حسين على سبيل المثال ، وهو من علّمونا ، ورددوا على أسماعنا طوال العقود ، أنه " عميد الأدب العربى " ، ولا أدرى مَنْ نصّبوه لعمادة الأدب ، وفى أعلام ذلك الزمان من هم أجدر منه ، وأعلى قدرا ، وأرفع مكانة ، وأخلص فى حبهم للعرب والعربية .. ذكر فى كتابه (1) " مستقبل الثقافة فى مصر " أنه يجب علينا : " أن نسير سيرة الأوربيين ، ونسلك طريقهم ، لنكون لهم أندادا ، ولنكون لهم شركاء فى الحضارة ، خيرها وشرها ، حلوها ومرها ، وما يُحب منها وما يُكره ، وما يُحمد منها وما يُعاب " .. طه حسين الذى عينوه مديرا للجامعة المصرية ، ثم وزيرا للمعارف ، رغم ترهاته التى نقلها من كتابات المستشرق (2) البريطانى Margoliouth ، ونسبها لنفسه ، ليطعن فى القصص القرآنى ، ثم أتى بعده فرج فوده ليمارس نفس هواية التدليس والتزوير ، وترديد نفس الترهات للطعن فى الإسلام ، والتشكيك فى سماوية رسالته ، وليتبعه على درب الإفك واللصوصية نصر حامد أبو زيد ، وسيد القمنى الذى منحوه جائزة الدولة التقديرية ، وكأن الألقاب والجوائز لا تمنح فى بلادنا إلا للمستغربين واللصوص والكارهين لديننا وهويتنا .
صدر كتاب طه حسين فى عام 1938 ، وفى عام 2011 كتب د . جلال أمين ، وهو واحد من رموز نخبتنا المعاصرة ، مقالا فى صحيفة [ الشروق ] ، بتاريخ 29 أبريل ، تحت عنوان " عن ضرورة الدولة العصرية " ، وفيه يقول : " إن علاج مشاكلنا لا يكون بإغلاق الأبواب ، والانعزال عن العالم ، وإنما بالأخذ بكل أساليب القوة والتكنولوجيا الحديثة ، رغم كل عيوبها " ، وهو كلام متطابق المعنى تماما ، وما بين طه حسين وجلال أمين ردد آخرون نفس المعانى مثل سلامة موسى الذى يرى أن تقدم مصر مرتبط بأخذها بأساليب الحضارة الصناعية ، وانتقالها من المجتمع الزراعى إلى المجتمع الصناعى ، وكذلك محمود أمين العالم وغالى شكرى وغيرهم ، ومشكلة هؤلاء جميعا تغافلهم عن طبيعتنا وظروفنا التى تختلف عن طبيعة وظروف المجتمعات الغربية .. إن تجارب الشعوب لا يمكن استنساخها ، ولكن يمكن لكل شعب أن يأخذ ويترك ويستفيد بما يلائم أوضاعه وثقافته ، ورغم البديهية والبساطة فى تلك الحقيقة إلا أن انبهار نخبتنا بالغرب أعماهم تماما عن كل الحقائق ، وكل البديهيات .
ومن رواد النخبة أيضا فى تلك الفترة أحمد لطفى السيد ، والذى أنعموا عليه بلقب " أستاذ الجيل " ، رغم تأففه من الحكم الإسلامى ، حيث عُرف عنه قوله : " إن الحكم من خلال الدين كأصل للحكومة ، هو سبب الاستبداد والظلم والتعسف " ، وكراهيته للعروبة ، فمصر عنده ليست دولة عربية ، والدين واللغة ليسا من مقومات الأمة ، وما يحدد هوية المجتمع فى نظره هى الأرض ، ولذا فإن مصر حسب رؤيته هى بلد القاطنين على ضفاف الوادى والدلتا ، .. أحمد لطفى السيد كان يفضل الاحتلال البريطانى على دولة الخلافة ، ويدافع عن الاحتلال واللورد كرومر ، ويرفض مساعدة جهاد عمر المختار والشعب الليبى ضد الاحتلال الإيطالى ، وكان معروفا بعداوته الشديدة لفكرة الجامعة الإسلامية ، وهى الفكرة الضرورية بلا شك لربط بلاد المسلمين ، حيث أن الدين يأتى على قمة أوليات سكان تلك البلاد ، وكان أيضا معروفا ببغض اللغة العربية الفصحى ، حيث يراها معقدة وقديمة ، ورغم طنطناته عن الديموقراطية وأفضالها ، تماما كما تفعل نخبة اليوم ، إلا أنه شارك فى حكومة إسماعيل صدقى ، ومحمد محمود ، وهما من أشد الحكومات بطشا ، وعدوانا على الحريات والحقوق ، ويكفى أن شخصية بمكانة عبد الرزاق السنهورى وصفته بشيخ المشككين ، وقال عنه أنور الجندى فى كتابه " عقبات فى طريق النهضة " : " إن الاستعمار الانجليزى صنع طبقة من المثقفين ، أعدها كرومر لتتسلم قيادة مصر بعد رحيلهم ، ومن أبرزها أحمد لطفى السيد " .
وبعد حركة 23 يوليو 1952 تحولت النخبة المصرية للرقص والغناء فى زفة الاشتراكية والقومية ، وبعد موت عبد الناصر خلعوا جميعا أفرولات البروليتاريا ، ونسوا العدالة الاجتماعية ، والوحدة العربية ، وانضموا لزفة الانفتاح والرأسمالية والتطبيع ، وارتدوا البذلات الأنيقة ، ورابطات العنق الفاخرة ، والأحذية اللامعة ، ويمموا شطر السفارة الأمريكية ، ولن يكون عجيبا الآن وقد دارت الأيام دورتها ، واختار الشعب الإسلاميين لقيادة البلاد ، إذا رأينا نخبتنا وقد نبتت فى جوههم الناعمة اللحى الكثيفة ، وخلعوا بذلاتهم الأنيقة واستبدلوها بجلابيب السلفيين القصيرة ، ووضعوا فى جيب الجلباب سواكا ، بدلا من المنديل الحريرى الزاهى فى جيب البذلات ، وانتعلوا الشباشب والقباقيب بدلا من الأحذية اللامعة ، وأخذوا يحدثون الناس عن حياة الضلال التى عاشوها ، وكيف منّ الله عليهم بالتوبة والهداية .. إنهم نخبة لا هوية لها ، ولا إنتماء لها ، ولا مبادئ لها .. إنهم بهلوانات يأكلون على كل الموائد ، ويلعبون على كل الحبال .
كتب محمد يوسف عدس مقالا جيدا بعنوان " بيجوفيتش : فى إطلالة على واقعنا " ، نشرته صحيفة [ المصريون ] بتاريخ 5 سبتمبر 2011 ، وفيه يتناول بعضا من الأراء السديدة ، والنظرة الثاقبة للمفكر الإسلامى(3) " على عزت بيجوفيتش " فى النخب الموجودة فى بلادنا العربية والإسلامية ، وما تعانيه من دونية وهزيمة .. يقول بيجوفيتش فى كتابه " فِرار إلى الحرية " : " إن هذه النخب ، نظرا لانبهارها الشديد بالتقدمات الغربية المذهلة ، فى شتى مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، تعانى من شعور عميق بالدونية تجاه العالم الغربى المتقدم والغنى ... إنهم فقدوا معاييرهم الأولى ، وأصبحوا يتخيلون أنهم بتخريب الأفكار المحلية ، والتقاليد والمعتقدات ، وبتقديم أفكار غربية ، سيقيمون أمريكا التى يكنون لها إعجابا مبالغا فيه ، على أرض بلادهم فى يوم وليلة ... إنهم بدلا من العمل على تطوير إمكانيات بلادهم الخاصة ، ذهبوا ينفخون فى شهوات الناس ، ويضخمون رغباتهم المادية ، فأفسحوا بذلك الطريق أمام الفساد والفوضى الأخلاقية ، إنهم لم يستطيعوا أن يفهموا أن قوة العالم الغربى لا تكمن فى طريقته فى الحياة ، وإنما فى طريقته فى العمل ، وأن قوته ليست فى الموضة والإلحاد وأوكار الليل وتمرد الشباب على التقاليد ، وإنما تكمن فى الكدح الذى لا مثيل له ، وفى المثابرة ، والعلم ، والشعور بالمسؤولية التى تتميز بها شعوبهم " ، ويمضى بيجوفيتش مبينا أنه حتى فى حالة تطبيق تلك المفاهيم المستوردة ، فإن ذلك لا يصنع مجتمعا حقيقيا مستقلا : " إن الاستقلال الذى يعتنق فلسفة أجنبية ، وأسلوبا أجنبيا للحياة ، ويستند إلى المساعدات الأجنبية ، ورؤوس الأموال الأجنبية ، والدعم الأجنبى ، لا بد أن يكون استقلالا شكليا ، لا ينطوى على حرية حقيقية ، لأن كل حرية فى صميمها هى حرية روحية ، وأى استقلال لا يحقق هذا الشرط سرعان ما يُختزل إلى مجرد السلام الوطنى ، وعَلَم جديد ، وهما عنصران تافهان بالنسبة للاستقلال الحقيقى " .. أليست هذه فعلا هى الحقيقة ؟! ، ألم تشغلنا نخبتنا بالكلام والتنظير والسفسطة عن العلمانية والاشتراكية والليبرالية والديموقراطية والمواطنة والدولة المدنية وغيرها ، ونسوا جميعا التخطيط والعمل والعلم والإتقان واحترام القانون والنظام وغيرها ؟! ، أليس استقلال جميع بلادنا فعلا استقلالا شكليا ، ونحن فى الحقيقة تابعون لغيرنا فكريا وسياسيا واقتصاديا ؟!
لذلك لم يكن أمرا صادما أن كشفت بعض وثائق الخارجية الأمريكية ، والسفارة الأمريكية فى القاهرة ، والتى نشرتها ويكيليكس ، ونقلت بعضها مؤخرا صحيفة [ الوفد ] ، أن أسماء كثيرين من رموز النخبة المصرية واردة فى تلك الوثائق ، كمترددين على السفارة ، لتقديم المعلومات عن الأوضاع المصرية ، وتلقى الأموال ، وهو ما لا يحتاج إلى توصيف أقل من الجاسوسية والعمالة والتعاون مع الولايات المتحدة لتأجيج الفتن والصراعات فى المجتمع ، وليس صادما أيضا أن شخصيات مثل عمرو الشوبكى وحسن نافعة ، وكثير من القائمين على الدكاكين المسماة منظمات المجتمع المدنى ، ومنظمات حقوق الإنسان ، واردة فى تلك الوثائق ، غير أن اللافت للانتباه أن تلك الرموز مازالت على استهبالها فى الضحك على الإنسان المصرى ، حيث وجهوا غضبهم إلى صحيفة [ الوفد ] ، واتهموها بتشويه صورتهم ، وطالبوها بالتعويضات ، ولو كانوا جادين ومخلصين لقاضوا السفارة الأمريكية ، فهى مصدر المعلومات ، ولم تفعل الصحيفة غير النشر ، علاوة على إقرار الخارجية الأمريكية نفسها ، والسفارة الأمريكية فى القاهرة ، بصحة كل الوثائق التى نشرتها ويكيليكس فى هذا الأمر وغيره .
(1) طه حسين : مستقبل الثقافة فى مصر ، طبعة دار المعارف 2001 ، ص : 41
(2) المستشرق البريطانى (David Samuel Margoliouth ( 1858-1940 ينتمى لأسرة يهودية ، عمل كأستاذ للغة العربية بجامعة أكسفورد ، وله عديد من الكتب فى التاريخ الإسلامى ، منها Mohammedanism , 1912 ، The Early Development of Mohammedanism , 1914 ، The Eclipse of the abbasid Caliphate , 1922 ، وله كتاب بالعربية : أصول الشعر العربى (1925 ) ، وهو الذى نقله طه حسين ونسبه إلى نفسه فى كتابه " فى الشعر الجاهلى " ، وكان فضيحة كبرى وقتها ، ومازالت لعنته تطارد طه حسين فى أمانته ومصداقيته ، بل وحتى فى دينه .. وقد اشتهر مرجليوث فى تناوله للتاريخ الإسلامى بالتعصب الشديد ، والبعد عن الموضوعية ، والتهويل ، وعدم التوثيق .
(3) على عزت بيجوفيتش ( 2003-1925 ) ، أول رئيس للبوسنة والهرسك ( 1996-1990 ) بعد إنتهاء الحرب فى البلقان ، تلقى تعليمه المدرسى بمدينة سراييفو ، وخلال تلك الفترة أسس مع آخرين جماعة " ملادى مسلمانى " أى الشبان المسلمين ، وتخرج من جامعة المدينة متخصصا فى القانون ، تم سجنه لعديد من المرات لمعارضته للرئيس اليوغسلافى تيتو ، له عديد من الكتب ، من أبرزها " الإسلام بين الشرق والغرب " ، وفيه تناولٌ للأفكار والفلسفات البشرية وموقف الإسلام منها .
2- التشرذم ، والانفصال عن الناس ، والتعالى عليهم
فشلت النخبة المصرية فشلا ذريعا فى الاتفاق على قواسم مشتركة لا تحيد عنها فى عملها العام من أجل الإصلاح والتغيير ، وكان الخلاف والتشاحن والتباغض والتنافر والتشرذم ورغبة الزعامة صفات أساسية فى كل محاولاتها ، ولو نظرنا مثلا لمحاولة " الجمعية الوطنية للتغيير " ، وهى محاولة حديثة بدأت مع رجوع البرادعى إلى مصر ، وتوسم فيها الكثيرون دورا أكثر جدية ونشاطا وتفاعلا .. فماذا كانت النتيجة ؟! .. ببساطة وفى كلمات قلائل : فضيحة بجلاجل .. حتى أن عمرو الشوبكى نفسه يصفها بشئ يستحيل أن يجد الإنسان له مثيلا فى العالم : " شهدت الحركات السياسية المصرية انقسامات وصراعات داخلية كثيرة ... مجرد منافسات وحسابات شخصية ... وتأسست بسرعة نادرة حركة جديدة فى أعقاب لقاء استمر عدة ساعات بين الرجل – يقصد البرادعى – وبعض رموز النخبة المصرية ، قرروا على أثرها تأسيس الجمعية المصرية للتغيير ، فى مشهد مستحيل أن تجده فى أى مكان آخر فى العالم إلا فى مصر ، حين تتأسس حركة من أجل التغيير ، تضم ألوانا مختلفة من الطيف السياسى وغير السياسى ، وبعضهم إلتقى لأول مرة ، وغالبيتهم الساحقة شاهدوا البرادعى لأول مرة ، ومع ذلك أسسوا فى أقل من ثلاث ساعات حركة مهمتها تغيير مصر " ، ثم يضرب مثلا آخر بحركة " كفاية " التى ظهرت ، ثم فشلت فى التواصل مع الناس ، وتراجع دورها لحد الاختفاء ، ويعلل فشلها وغيرها من الحركات : " ومسار الفشل معروف ومتكرر ، فيبدأ بالخلافات الداخلية ذات الطابع الشخصى غالبا ، ثم الانقسام ، ولا مانع من خروج فواصل ردح متبادل تثير شهية الإعلام ، وتتحول رسالة أى حركة وقيمها ومبادئها إلى مجرد حواديت لخلاف فلان ضد علان " ، ويفرق الشوبكى بين بديلين : " مواجهة الوضع القائم بالاحتجاج ، وبين مواجهته ببديل قادر على البناء ، ولأن كل الحركات السياسية التى شهدها المجتمع المصرى فى السنوات الست الماضية كانت بدائل احتجاجية ، اعتمدت على الصوت العالى ، والصراخ ضد الفساد والقهر وغياب الديموقراطية ، فإنها لم تبن تيارا مؤثرا بين النخبة والجماهير ، إنها حالة من الصخب المريح ... إن التجديد يجب أن يشمل كل شئ : الأفكار والوسائل والخطاب المستخدم ، وأن يخرج كثير من قادة التيارات السياسية من شرنقة التمحور حول الذات ، فيفهموا المجتمع كما هو ، وليس كما يرغبون "[ عمرو الشوبكى : لماذا تتعثر الحركات السياسية ؟ ، المصرى اليوم ، 25 مارس 2010 ] .
ويتناول معتز بالله عبد الفتاح ، وهو أستاذ آخر من أساتذة السياسة ، قضية التنظيمات المصرية ، وفشلها فى الاتفاق دائما ، ويعلل ذلك من ثلاثة مداخل مختلفة :
- مدخل نفسى سيكولوجى : يُنظر لفشل العمل الجماعى بعين العوار الوارد على بعض الأشخاص الذين يعانون فقرا فى الإحساس بالأمان الذاتى ، والرغبة الشديدة فى الزعامة والسيطرة ... وهى غريزة لا تقل فى سطوتها عن غريزة الطعام والشراب كما ذهب Harold Lasswell... وهناك ثلاثة مظاهر لشعور البعض بعدم الأمان الذاتى ، والرغبة فى تدمير أى عمل جماعى لا يكونون على قمته :
أولا : يرفض هؤلاء أن يُمدح شخص لإنجاز حققه ... لأنهم يعيشون بمنطق الناجح الأوحد .
ثانيا : الرغبة فى أن يكونوا فى كل المناصب ، وكل اللجان ، وكل الوظائف ، فى كل الوقت ، بل ويتفاخرون بتعدد الألقاب والمناصب ، لما تشبعه من نهم للسلطة ، والشعور بالقدرة على التحكم فى مصائر الآخرين .
ثالثا : هناك الرفض الشديد لتفويض الآخرين فى القيام بمهام يمكن أن يكون لها عائد لا يمكن أن يُنسب للشخص الباحث عن السلطة والسيطرة والسعى الشديد لتحميل الآخرين مسؤولية أخطائه ، فهو دائما يسعى لأن يكون النجاح منسوبا له ، ويكون الفشل منسوبا للآخرين .
- مدخل اجتماعى سوسيولوجى : تفكك تنظيماتنا الاجتماعية والسياسية من وجهة نظر علم الاجتماع يرتبط مباشرة بظاهرة التفكك الاجتماعى ، والتى ناقشها ابن خلدون حين تحدث عن العصبية الاجتماعية كمصدر للقوة والغلبة والتمكن ، وهو نفس المفهوم الذى تبناه دوركايم حين ناقش نوعين من التماسك بين البشر فى جماعات ومجتمعات : التماسك التلقائى أو الفطرى ، القائم على علاقات غير اختيارية ، مثل تماسك وتضامن أبناء الأسرة أو القبيلة الواحدة ... والتماسك العضوى أو المؤسسى المبنى على المصلحة المشتركة وتقاسم الأدوار ، وهو تماسك يتطور بتطور المجتمعات وتعدد مؤسساتها.
- مدخل سياسى أيديولوجى : غياب الأطر المؤسسية لتحديد من يحصل على ماذا ، ومتى , وكيف ، ولماذا ، فينتهى الأمر بمغالبة ميكافيلية بلا ضوابط مسبقة ، وإنما اقتلاع شخص لآخر ، أو شلة لأخرى ... ولهذا حرصت المجتمعات الأكثر تقدما على أن تدرب النشء فيها على هذه القيم ، بالتشاور ، وتحديد البدائل ، والسعى للجمع بين البدائل المتعارضة فى بدائل مستحدثة ، تجمع أكثر من بديل فى صورة حلول وسط ، ثم التصويت واحترام قرار الأغلبية ، بل ومعاقبة من يخرج على هذه التقاليد الديموقراطية [ معتز بالله عبد الفتاح : لماذا تنفجر تنظيماتنا من الداخل ؟ ، الشروق ، 26 مارس 2010 ] .
ومشكلة التشرذم لها بعد آخر يفوق فى أهميته التحليلات النفسية والإجتماعية والسياسية .. إنه غياب الأمانة والإخلاص والمصداقية ، وغياب الرغبة الأكيدة فى العمل من أجل الإصلاح والتغيير ، وغياب الاستعداد لتحمل مشاقه وتبعاته ، وذلك لبديهيات بسيطة أهمها أن اختلاف الرؤى والتصورات طبيعة بشرية ، ولكن هذا الاختلاف يتضاءل عند المخلصين والأمناء مع تقديم المصلحة الأكبر والأهم والأعم ، وهى مصلحة الوطن ، كما يتضاءل أيضا مع شئ من التوافقات والتنازلات والإلتقاء على القواسم المشتركة ، والتى هى دائما مقدمة على ما سواها ، وهناك بديهية أخرى لا تقل أهمية ، وهى أن الإنسان بطبعه يميل إلى رغبة السيطرة ، وحب الزعامة ، ولكن هذه الرغبة ، وهذا الحب ، يتواريان مع ترتيب الأدوار ، وتقسيم المسؤوليات ، من أجل المنفعة الأعم للوطن ، والأشمل لأبنائه ، والتى مع تحقيقها ، يبدو الجميع وكأنهم زعماء ورواد ومصلحون ، وتبدو إنجازاتهم وإن اختلفت فى نسبتها وقيمتها ، مبعثا للفخر والاعتزاز لهم جميعا ، والمتأمل فيما صدر من أقوالِ وكتاباتِ بعض أعضاء الجمعية الوطنية للتغيير ، بعد انسحابهم منها ، أو أقوال وكتابات أفراد من الجماعات والأحزاب الأخرى ، يدرك أن تلك الجماعات والائتلافات أقرب إلى التهريج منها إلى الجد ، وأن أعضاءها يبحثون عن أدوار للمنظرة والمباهاة والوجاهة الاجتماعية أكثر مما يبحثون عن المصلحة العامة .. كتب حمدى قنديل مقالا بعنوان " أسرار الخلاف والاتفاق مع البرادعى " ، نشرته صحيفة [ الشروق ] بتاريخ 7 يونيو 2010 ، وفيه يقول : " بات الأمر واضحا ... هناك خلاف بين الدكتور البرادعى ومعظم قيادات الجمعية الوطنية للتغيير ... خلاف جذرى " ، ثم يذكر سببين رئيسيين هما : " الأول هو غياب الدكتور البرادعى معظم الوقت عن مصر ، والثانى هو غموض نواياه وأساليب عمله ... إنه لا يثق كثيرا فى الجمعية الوطنية للتغيير " ، وكتب د. حسن نافعة فى [ المصرى اليوم ] بتاريخ 16 يناير 2012 ، تحت عنوان " انسحاب البرادعى " : " يستثنى نفسه - يقصد البرادعى – من أى نقد ذاتى ... شخصية تريد لعب دور البطولة ، دون أن تكون مستعدة لدفع أى من أثمانها الباهظة ، ولأن الدكتور البرادعى يرى نفسه فوق الجميع ، ومختلفا عن الجميع ، فهو يتصرف دائما وكأنه ينتظر من الجماهير أن تصعد هى إليه ، لتهتف باسمه ، قبل أن تحمله فوق أعناقها ، وتسير به لتجلسه على مقعد الرئاسة ، لكن لم يخطر بباله قط أن المفروض أن ينزل هو إلى الجماهير ، وأن يطوف بنفسه بالقرى والنجوع ، ليقنعها بجدارته لقيادة الأمة ، فنجاح أى شخص فى إدارة مؤسسة دولية كبيرة ، أو فى الحصول على جائزة نوبل ، ليس كافيا لإقناع الجماهير بهذه الجدارة ، وعليه ان يثبت أنه أهلها بالاحتكاك المباشر بالناس ، وليس بإرسال تغريدات عبر موقعه الإلكترونى " .
إن نخبتنا فعلاً منفصلةٌ عن الناس .. إنهم يعيشون جميعا فى عوالمهم الخاصة ، والتى لا تتجاوز مساحتهم اليومية على صفحات الجرائد ، أو الفضائيات ، وعندما يحاول بعضهم الاختلاط بالناس والتحادث إليهم ، يبدو متكلفا ومنافقا ، وغير قادر على التفاعل معهم ، بل ومستاءً إذا ناقشه أحدهم ، أو وجه إليه نقدا .. نشرت صحيفة [ المصريون ] بتاريخ 23 يونيو 2010 الخبر التالى : " انسحب الدكتور حسن نافعة من لقاء مع أعضاء روتارى نادى الجزيرة ، وترك المنصة ، بعد مشادة مع سيدة قاطعته بحدة ، وقالت له : كفاية كده ، قدموا لنا حلول ... بعض الحضور جرى وراءه ليعتذر له على أمل العودة للقاء " ، ولكنه بالطبع لم يعد ، ولم يتحمل خلافا واحدا مع سيدة فى دنيا الحقيقة والواقع ، وما فعله نافعة يفعله كل الآخرين ، حتى عمرو موسى فى جولاته للترويج لنفسه فى انتخابات الرئاسة ، عندما يجلس فى مقهى ، أو يتناول طعاما مع أسرة فقيرة على طبلية فى بيت متواضع ، لا يستطيع بتلك الأفعال أن يدخل إلى قلوب وعقول الناس ، ولكن هؤلاء النخبويين جميعا عندما يرجعون لعوالمهم الوهمية الخاصة ، لا يجدون غضاضة فى التنظير العقيم ، والسفسطة المملة ، حول مواضيع لا تهم الناس ، ولا تجذب انتباههم ، من علمانية إلى ليبرالية ، إلى الدولة المدنية المزعومة والتى لا تتواجد إلا فى خيالاتهم وهلاوسهم ، وويتناسى هؤلاء أنهم بابتعادهم عن هموم الناس اليومية ، وأحلامهم البسيطة فى حياة كريمة ، وتعاليهم عليهم بالمصطلحات الغربية ، وعجزهم عن تقديم الحلول لمشاكلهم ، وعدوانهم المستمر على دينهم وهويتهم بالكلام الفارغ عن الحرية والإبداع .. بتلك الأعمال المنكرة وغيرها فإنهم يعزلون أنفسهم فى محميات خيالية بعيدا عن جماهير الناس ، وبدون هؤلاء الناس ، فإنه بالقطع لا مكانة ولا قيمة لتلك النخبة الفاسدة المزيفة .
ويتجاوز الأمر حدود القطيعة والهجران بين نخبة مصطنعة متعالية ، وبين جماهير الناس ، ليقود إلى واحد من أهم أسباب العجز والسلبية واللامبالاة ، التى اصطبغت بها حياة الشعوب والمجتمعات العربية والمسلمة خلال العقود الماضية ، حتى ليظن أصحاب النظرة السطحية أن تلك الشعوب والمجتمعات فقدت رغبتها فى الحياة الكريمة ، ورغبتها فى النهضة والتطور ، وارتضت الذل والعبودية ، والحياةَ الأقربَ إلى الموت منها إلى الحركة والتفاعل والإثارة ، وغيرها من مباهج الدنيا ، والحقيقة غير ذلك تماما .. فسلبية الجماهير ، وتقاعسها ، وسكونها ، مبعثه انكسار الرابطة بينها وبين نخبتها التى تريد دفعها فى طريق لا ترتضى السير فيه ، ودفعها إلى اعتناق معتقدات وأفكار لا تناسبها ، ودفعها إلى ممارسات وأساليب حياتية لا تبتغيها ، وقد تنبه إلى تلك الحقيقة " بيجوفيتش " فى كتابه السالف الإشارة إليه : " إن هذه الفجوة المأساوية بين النخبة وبين الشعوب فى البلاد المسلمة ، هى أسوأ الملامح فى وضعنا العام ... حيث يحاول أدعياء الحداثة تنفيذ برامجهم الدخيلة ، فتراهم يلجأون إلى منافقة الجماهير أحيانا ، وإلى التهديد أحيانا أخرى ... يدافعون ويحثون ، ويقيمون ائتلافات وتنظيمات ، ثم يهجرونها إلى ائتلافات وتنظيمات أخرى ... يغيرون الأسماء والشخصيات ، ولكن يضربون برؤوسهم دائما فى صخرة الرفض العنيد ، واللامبالاة الدفينة من جانب الناس البسطاء الذين يشكلون الغالبية العظمى للأمة ... ما جاء به دعاة الحداثة فى الثقافة والحكم إلى عدد من البلاد الإسلامية يعتبر كقاعدة عامة اتجاها لا دينيا ، يعززونه بشعارات تنادى بفصل الدين عن الحياة السياسية والاجتماعية ، وهذا ما يثير شكوك الجماهير المسلمة فى صدق انتمائهم لأمتهم ، ويدفعها إلى السلبية وعدم المبالاة ، وهنا تكمن مأساة العالم المسلم ... ذلك لأن نجاح أى مشروع أو برنامج للإصلاح والنهضة ، يستلزم بالضرورة شرطا أساسيا وهو العلاقة المزدوجة ، ويُقصد بها التوافق الداخلى بين عناصر الفكر والقيادة فى المجتمع من ناحية ، وبين الجماهير من ناحية أخرى ، حيث تمثل النخبة القائدة الفكر والإدارة ، بينما تمثل جماهير الشعب القلب والدم ، وبتفاعلهما معا يتحقق الشرط الأول لأى إنجاز عظيم ، وبدون هذا التفاعل تظل الأعمال مصطنعة مفتقرة إلى القوة الضاربة ، أو تبقى مجرد حبر على ورق " .. أليست تلك هى الحقيقة بعينها ؟! .. أليس الانفصال الوجدانى بين الفكرة النخبوية ، وبين من يقومون على تنفيذها من جماهير الشعوب ، هو فعلا سبب إخفاق جميع المشاريع النهضوية فى مصر وغيرها من بلاد المسلمين ؟! ، ولكن المشكلة أن نخبتنا تتعامى عن ذلك ، وتلجأ إلى لوم الناس ، واتهامهم بالعجز ، ووصفهم بكل ما ينافى الفطرة التى خلق الله تعالى البشر عليها .. كتب معتز بالله عبد الفتاح مقالا فى صحيفة [ الشروق ] بتاريخ 14 يناير 2011 ، تحت عنوان " القابلية للاستعمار والاستحمار والاستهداف " ، وفيه يقول : " طول عمرى أسمع أن مصر مستهدفة ، ثم كبرت قليلا فاكتشفت أن مسألة الاستهداف هذه هى قيمة عربية كبرى ... بل إن قضية الاستهداف هذه لها جذور ثقافية غير سياسية ... لا تُفهم إلا بأن توضع بجوار عبارتين توضحان لنا الفكرة : الأولى هى القابلية للاستعمار ، والأخرى القابلية للاستحمار ، أما الأولى فقد جاءت فى واحد من كتابات مالك بن نبى المفكر الجزائرى ... وقد ساق صورا وشواهد كثيرة تؤكد صدق تحليله ، ثم استخدم على شريعاتى المفكر الإيرانى فكرة القابلية للاستحمار ، باعتبار أن لدى الجهلاء من البشر رغبة دخيلة بأن يُكذب عليهم ... وقد قالها من قبل ويليام شكسبير بأن " عقول العامة فى آذانهم " ، أى من يسيطر على آذان العامة يسيطر على عقولهم ... والضعف فى النظام التعليمى ينعكس مباشرة على زيادة معدلات القابلية للاستحمار ، والقابلية للاستغفال ، والقابلية للاستعمار ، والقابلية للاستهداف ... هل قابليتنا للاستحمار والاستهداف تتزايد أم تتناقص ؟ " .. إن كل ما يخالف الفطرة البشرية ، التى تأبى الذل ، وتكره الظلم ، وترفض العدوان ، وتحب الخير والحق والعدل والحياة الكريمة ، وهى فطرة استوى فيها الناس جميعا ، العرب والعجم ، والمسلمون وغير المسلمين ، بالقطع كل ما يخالف هذه الفطرة كلام فارغ لا أساس له ، وبالتالى فإن الإدعاء على شعوبنا بالقابلية للاستعمار أو الاستحمار أو الاستغفال لا يعدو كونه ثرثرات عقيمة ، وسفسطات سقيمة .
3- العجز وغياب الرؤية والفهم للمشاكل والحلول
يعانى المجتمع المصرى من عجز عام فى كل مجالات الحياة ، ومرجع ذلك غياب العلم والخبرة والمران ، حيث حلت محلها الفهلوة والاستهبال ، والضحالة والسطحية ، والعجيب فى الأمر أن نخبتنا الأكاديمية من أساتذة الجامعات والباحثين ، هم أكثر من ينطبق عليهم تلك الأوصاف الذميمة ، رغم أنهم يشكلون غالبية شاغلى المناصب الهامة فى المجتمع ، من رئاسة الوزارة ، والوزارات المختلفة ، ومعظم المواقع القيادية فى جميع مؤسسات المجتمع ، ويرجع ذلك إلى ما اعترى الجامعات من إفساد وتدمير ، حيث تحولت مهنة التدريس ، ومهنة البحث العلمى ، من تشكيل العقول ، وإيجاد الحلول لمشاكل الأمة ، إلى وظائف لا تختلف عن غيرها فى المعايير والمقاييس .. وظيفة ميرى ، ووجاهة اجتماعية ، وسبيل لمزيد من الفرص المالية والاجتماعية ، ولذلك فلا عجب أن نرى نخبتنا غير قادرة على فهم المجتمع ، وغير قادرة على إدراك مشاكله ، وغير قادرة على وضع الحلول والخطط والتصورات والرؤى الاستراتيجية .. إنهم نخبة لا تحترم التخصص ، ولا تتزود من العلم والخبرة ، ولا تستزيد بالمران والتدريب ، ولا تعتمد على الأرقام والدراسات ، وتفتى فى كل شئ ، ولا تدرك أهمية العمل الجماعى ، وأهمية التنظيم والإدارة ، ولذلك فلا عجب أيضا أن كل ما يقومون به هو الصخب والصياح والضجيج .. لقد صدق الشوبكى كما ذكرت فى الفقرة الماضية ، وهو أحد رموز تلك النخبة فى وصف ما تقوم به بإنه " حالة من الصخب المريح " ، تقدم احتجاجات ، ولا تقدم بدائل للبناء .
4- ازدواجية المعايير
النخبة الحقيقية هى ضمير المجتمع ، ومعياره الأخلاقى ، ومن يَرُد الحكام والمحكومين إلى جادة الصواب متى انحرفوا عنها ، غير أن نخبتنا سلكت مسلكا آخر .. إنهم فى حقيقتهم جزء من النظام ، وإن عارضوه فى بعض الأمور ، معارضة مستأنسة لتحسين الصورة الكالحة للاستبداد ، وتجميل الوجه القبيح للظلم والطغيان ، ولذلك فإن تلك النخبة نادرا ما تتعرض للبطش ، ونادرا ما تتعرض للمساءلة ، ونادرا ما تتعرض للتضييق على أنشطتها ، إنهم يؤدون دورهم بإخلاص فى خدمة النظام ، ويدّعون فى نفس الوقت وهم كاذبون ، أنهم فى خدمة قضايا الشعب فى الحق والعدل ، وأنهم مع الناس ضد تغول السلطة بأمنها وأجهزتها ، وهم عندما يفعلون ذلك يفعلونه بازدواجية لا تتوافق مع الضمير ، ولا تتماشى مع معايير الأخلاق .. يسكتون على اعتقال وتعذيب عشرات الألوف من الإسلاميين ، ويلتزمون الصمت على حبس الكنيسة للنصرانيات المتحولات إلى الإسلام ، ويغضون الطرف عن الكتابات المتعدية على دين الأمة ومقدساتها ، ويتناسون المحجبات والمنتقبات اللاتى يتعرضن للعنت والمشقة ، والفصل من أعمالهن ، أو المنع من حضور دراستهن ، أو تأدية امتحاناتهن ، ولكنهم يملؤون الدنيا ضجيجا وصياحا على ما يسمونه حرية الفكر والإبداع ، وحقوق الأقليات ، وحق الردة عن الإسلام ، وحقوق المرأة ، ويرددون مع الأنظمة كل الدعاوى الباطلة عن خطر الإسلاميين ، وعن عدم أهلية الناس للديموقراطية .. يذكر د . حسن نافعة فى مقاله ( يا عزيزى كلنا طائفيون ) ، والذى نشرته [ المصرى اليوم ] بتاريخ 12 يناير 2011 ، كيف تمارس النخبة الطائفية والانتقائية بالتركيز على قضايا وإغفال أخرى ، ويضرب المثل على ذلك باعتقال المواطن السلفى سيد بلال ، وتعذيبه حتى الموت لإجباره على الاعتراف بتفجير كنيسة القديسين بالأسكندرية : " مثير للتساؤل حقا ذلك الصمت المريب إزاء جريمة تعذيب سيد بلال ، والتى لم يهتم بها عدد كبير من جماعات حقوق الإنسان ، ومن القوى السياسية ، خاصة اليسارية منها ، وأيضا معظم من ذرفوا دموع التماسيح على ضحايا الجريمة الإرهابية – يقصد تفجير كنيسة القديسين – ، لا باعتبارهم مواطنين يتعين حمايتهم ، وإنما بإعتبارهم أقباطا ، ولأن الاتهام بالصمت يطالنا جميعا ، فيما عدا قلة قليلة ، يساورنى الشك فى أن الطائفية أصبحت تسرى بطريقة أو بأخرى فى دمائنا جميعا " ، ويكتب نافعة مقالا آخر فى نفس الموضوع تحت عنوان ( المجتمع المدنى وحقوق الإنسان ) ، نشرته [ المصرى اليوم ] بتاريخ 14 يناير 2011 ، وفيه يقول : " بوسع المراقب لسلوك القوى والتيارات السياسية المختلفة فى مصر ، أن يكتشف بسهولة أن أيا منها لا يتحرك عادة للرد بشكل جاد ، على ما يحدث من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان ، إلا حين يكون مستهدفا أو ضحية ، أو حين يتعلق الانتهاك بمسألة تمس المنظومة الفكرية أو السياسية التى ينتمى إليها ... وتعكس هذه الحالة عمق أزمة عدم الثقة القائمة بين مختلف أطراف القوى السياسية ... وتعد أحد أهم أسباب استمرار تشرذم النخبة وانفراط عقدها ... ولو كانت قوى المعارضة السياسية والفكرية فى مصر على اختلاف توجهاتها ، قد سعت فى الماضى لبلورة آليات مشتركة للدفاع عن حقوق الإنسان ضد كل انتهاك ، لكانت قد تمكنت من إرساء تقاليد راسخة تسمح بالتأسيس لتيار حقوقى عابر للخلافات السياسية ... فى غياب هذه التقاليد بدت قضية سيد بلال وكأنها قضية تخص السلفيين وحدهم ... التعذيب هذه المرة ارتكب ضد مسلم سلفى ، وغدا سيرتكب ضد ماركسى أو قومى أو ليبرالى ... فمتى نتعلم أن ندافع معا عن حقوق الإنسان ، وأن نعتبر أى انتهاك لحق أى إنسان ، بصرف النظر عن عقيدته السياسية أو الدينية ، انتهاكا لحقوق البشر جميعا ؟ وإلى أن نتعلم هذه الحقيقة الإنسانية النبيلة سيظل مجتمعنا فى حالة أزمة عميقة " .
رابعا : هل نخبتنا حقاً مع الإصلاح والتغيير ؟!
الإجابة القطعية هى : لا ، نخبتنا ليست مع الإصلاح والتغيير ، ولم تكن فى يوم من الأيام مع الإصلاح والتغيير ، وكيف بالله تكون وهم جميعا كهنة الأنظمة المستبدة والفاسدة ، وكهنة أصحاب المال والثروة ، وكهنة الترويج لأفكار الشرق والغرب ، وكهنة العداء لكل ما يميز هذه الأمة من دين وثقافة وتراث ؟! .. إن بضاعتهم لا تروج وتزدهر إلا فى ظل الأنظمة القمعية .. إنهم يرغبون فى كارثة أو مصيبة أو جنازة أو فضيحة ليمارسوا هوايتهم فى الندب والولولة ، والردح والشرشحة ، والتنظير والسفسطة ، وقد أظهرت الأحداث المصرية المتعاقبة طوال العام الأول من الانتفاضة المصرية أنهم جميعا يودون تعويق التغيير ، وإطالة أمد الفترة الانتقالية ، وما يرددونه يوميا من هزل وعبث ، ونحيب وبكاء ، وتهييج وإثارة ، دلائل دامغة على رغبتهم فى أن تعم الفوضى المجتمع .. إنهم مع شرعية وهمية اسمها شرعية الميدان ، ومع المظاهرات والاعتصامات المستمرة ، ومع هدم مؤسسات الدولة بغباء وعشوائية ، ومع الاحتجاجات الفئوية التى لا تنقطع ، ومع كثير من المطالبات التى لا يمكن تحقيقها بالسرعة والكيفية التى يريدونها ، ومع شغل المجتمع بمحاكمات وتصفيات لا تتوخى القانون والصالح العام ، ومع المتاجرة بدماء كل قتيل ، وجراح كل جريح ، والأعجب من كل ذلك أنهم وهم الذين صدعونا بالشعارات عن الديموقراطية ، والانتخابات وغيرها ، ما إن أتت الانتخابات بمن لا يرضون عنهم ، حتى بدأوا هجوما مسعورا على الشعب المصرى ، واتهموه بالجهل والأمية والفقر والغباء ، وأنه لا يعرف مصلحته ، وأنه يبيع صوته ، ولا تتوقف مزايداتهم وألاعيبهم حول الدستور أولا أو لاحقا ، واللجنة التى سيُعهد إليها بإعداده ، والمجلس الرئاسى ، والمبادئ فوق الدستورية ، وحقوق الأقباط والنساء ، وغيرها الكثير ، مما يشى بسوء طويتهم ، ومما يدلل على خواء عقولهم ، ومما يثبت يقينا أنهم لا يملكون مشروعا أو برنامجا أو مخططا للبناء والنهوض ، وأن غالبيتهم يتمنون استمرار الفوضى والتخبط ، أو احلال النظام المباركى بنظام لا يختلف عنه إلا فى الوجوه والمسميات .
كتب الأستاذ فهمى هويدى يصف الحادث فى مصر بعد انتخابات مجلس الشعب : " لا أجد أبلغ من كلمة المناحة وصفا للأجواء المخيمة على مصر ... إذ منذئذ لم يعد المرء يسمع فى فضائها الإعلامى سوى نواح الملتاعين ، وولولة الحزانى والمحسورين ، الذين لم يكفوا عن الجؤار استهوالا للمعلوم ، وارتياعا من المجهول ... سرادق كبير للعزاء ، اجتمع فيه خلق كثير من نخبة المثقفين والسياسيين ، الذين ظلوا طوال الوقت يتبادلون العزاء ، ويلطمون الخدود ، ويشقون الجيوب ، فى حين انتشرت فرق النائحين والنائحات فى أرجاء السرادق الممتد تنعى الثورة التى سُرقت ، ودماء الشهداء التى راحت هدرا ، وحلم الدولة المدنية الذى تبخر أو كاد ... إن الفزع السائد فى الصحف المصرية لا نظير له إلا فى الصحف الإسرائيلية ، فى حين أن وسائل الإعلام فى الدول الديموقراطية المحترمة لم تخل من كتابات رصينة ، أشادت بإقبال المصريين على الانتخابات ، وبأجواء النزاهة والحرية التى سادت فيها ، كما أشادت بتصويت الأغلبية للاعتدال الإسلامى فى كل من تونس والمغرب " [ فهمى هويدى : استعداء واستعلاء ، الشروق ، 6 ديسمبر 2011 ] .
لقد صدق الأستاذ فهمى هويدى فى تحليله ، ويكفى المرء نظرة سريعة لمقالات الصحف ومواضيع البرامج التلفزيونية ، ليجد فعلاً مناحة ، تهيل فيها نخبتنا الفاسدة التراب على أدمغتهم الخاوية ، فى وصلة من البكاء والتشنج الحاد : [ محمد المخزنجى : انتخابات قِلَّة الحيا ، الشروق ، 28 نوفمبر 2011 ] ، [ وائل السمرى : انتخابات بلون الحداد ، اليوم السابع ، 28 نوفمير 2011 ] ، [ خالد منتصر : هتلر اختار صندوق الانتخابات ولم تختره الديموقراطية ، المصرى اليوم 3 ديسمبر 2011 ] .
والسؤال الآن : كيف تكذب نخبتنا إلى هذه الدرجة المبتذلة ؟! وكيف تدلس وتناور بتلك الصورة الفجة الممجوجة ؟! وكيف يجتمعون وهم المتنافرون المتباغضون على كراهية مجتمعهم إلى هذا الحد من الدنو والسفالة ؟! .. أجاب القرآن الكريم على تلك الأسئلة وغيرها :
- إنهم لا يملكون فكرا ، وليس عندهم حقيقةً ما يقدمونه لمجتمعهم ، وإن تظاهروا بأنهم الرواد والأعلام ، والمفكرون والمثقفون ( أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجد شيئا ... ) النور : 39
- ولخواء عقولهم وقلوبهم ، تفضحهم تصرفاتهم ، وتدلل عليهم أقوالهم ( ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم فى لحن القول ... ) محمد : 30
- ولخواء عقولهم وقلوبهم يلجؤون إلى الكذب ( ... والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ) المنافقون : 1 ، ويلجؤون إلى التشكيك فى دور الإيمان ( وإذ يقول المنافقون والذين فى قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا ) الأحزاب : 12 ، ويلجؤون إلى التشكيك فى دور المؤمنين ( إذ يقول المنافقون والذين فى قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ) الأنفال : 49
- ولخواء عقولهم وقلوبهم يظنون أنهم يستطيعون محاربة دين الله وشريعته ( يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ... ) الصف : 8
- ولاشتراكهم فى كل تلك المساوئ فإنهم رغم خلافاتهم متعاونون فى الكذب والتضليل ( المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض ) التوبة : 67
خامسا : ما هو الحل ؟
هل يمكن إصلاح النخبة فى مصر وغيرها من البلاد العربية ؟! .. سؤال ينبغى أن يسأله الناس جميعا ، وذلك لأننا أمام فرصة تاريخية جديدة بعد الانتفاضات الأخيرة ، لكى نضع أقدامنا على بدايات طريق إحياء هذه الأمة مرة أخرى ، وبعث عوامل النهضة والحضارة فى أوصالها ، وأيضا لأننا جربنا هذه النخبة طوال العقود الماضية ، ولم نجن غير التشتيت والتضليل ، ولا نريد أن نقع من جديد فى حبائل كذبهم وتزييفهم .. هل يا ترى يمكن إصلاحهم ؟! .. ذكرت فى مقالى السابق " الإصلاح والتغيير .. والفرعونية " أن الفرعون لا يمكن إصلاحه ، وأن الأنظمة الفرعونية لا يمكن إصلاحها ، وفى مقال اليوم أضيف أن كهنة الفرعون ، وكهنة نظامه ، لا يمكن إصلاحهم ، أى أن نخبتنا لا يمكن إصلاحها ، والظن بغير ذلك وهمٌ وخيال .. إذن ماذا علينا أن نفعل ؟ .. علينا أن نفعل أشياء كثيرة ، وكلها تحتاج وقتا وجهدا ، ولا يمكن حدوثها بين يوم وليلة ، وأهمها :
1- إصلاح التعليم ، لأنه الأداة التى تُشكل عقول شباب المجتمع ، وأجياله القادمة ، ومن يتربى على نظام تعليمى يُحيى من قيمة التفكير ، ويُعلى من شأن الجد والدقة والأمانة ، ويؤكد على أهمية النظرة النقدية لكل ما يتناوله المرء فى حياته .. من يتخذ تلك الأشياء أسلوبا ومنهاج حياة ، فلن يمكن تضليله ، ولن يمكن التلاعب بعقله وعواطفه .
2- إصلاح الإعلام ، لأنه الأداة الثانية فى تشكيل العقول ، وهو أخطر أدوات الأنظمة المحلية الحاكمة ، وأخطر أدوات أنظمة الاستكبار العالمية ، فى صياغة الأفكار والأراء ، والتأثير على التصرفات والسلوكيات ، ونظرا للسهولة والانتشار الواسع ، وتعدد الوسائل والآليات ، وتطور التقنيات ، أصبحت رسالة الإعلام ودوره لا تقل عن دور التعليم ، ودور الجيوش ، ولذا وجب علينا كمجتمعات مسلمة أن نضع مواثيق أخلاقية ومهنية لتنظيم العمل الإعلامى ، حتى لا يصبح أداة فى أيدى أصحاب الأموال ، وأداة فى أيدى الجهلاء والسفهاء ، وأداة فى أيدى المستغربين والمتفرنجين .
3- إصلاح مؤسسات الإسلام الرسمية ، وتحريرها من سلطان الدولة ، وإصلاح التعليم الدينى ، حتى تكون المحصلة علماءً يقولون الحق ، ويتصدون للظلم والفساد والانحراف .
4- إصلاح الفنون ، إذ لا يعقل أن تتحول النخبة الفنية إلى أدوات للغواية ، وإشاعة الرذيلة والانحلال ، تحت دعاوى باطلة عن الإبداع وحرية التعبير .
5- وضع الضوابط الصارمة لمنظمات المجتمع المدنى ، ومراقبة تمويلها وأنشطتها ، حتى لا تتحول إلى أدوات يستعملها الخارج فى التضليل والإفساد .
6- وقوف المخلصين والشرفاء بالمرصاد للنخبة ، وفضح تصرفاتهم الخاطئة ، وبيان أفكارهم الفاسدة ، وتوعية الناس حتى لا يقعوا ضحية لجدلهم وسفسطاتهم .
7- إنشاء مراكز ومعاهد متخصصة للبحوث think tanks ، تقوم بجمع المعلومات والأرقام ، وإجراء الإحصاءات ، واستطلاع الأراء والتوجهات ، وإعداد الدراسات والأبحاث الجادة والعميقة ، فى ما يتعلق بقضايا المجتمع ومشاكله ، وهو ما يقطع الطريق على نماذج الفهلوة والسطحية والاستهبال ، الذين يتحدثون فى كل القضايا ، ويفتون فى كل الأمور ، فيضللون الناس ، وينشرون بينهم الحيرة والاضطراب والبلبلة .
8- تنمية قدرات الناس فى مواقعم المختلفة على العمل الجماعى ، والتنسيق ، وتوزيع الأدوار ، والاشتراك فى المسؤوليات ، والتفاهم على القواسم المشتركة ، وغيرها من الضروريات لنجاح منظمات المجتمع وجماعاته .
كل تلك الأشياء وغيرها ضرورات حتمية لإصلاح العقول ، وتحصينها من التأثيرات الهدامة ، وتحريرها من الأفكار المنحرفة ، كما أنها ستقود حتما إلى إنزواء النخبة الفاسدة ، والتى لن تستطيع ترويج بضاعتها المعطوبة ، وظهور نخبة جديدة أمينة ومخلصة وجادة وواعية وصادقة ، لتكون فعلاً ضمير المجتمع ، وميزانه الحضارى والأخلاقى ، وجبهة الصد أمام كل هجمات التغريب والتضليل .
سادسا : عودة إلى سؤال المقدمة
مرة ثانية أعاود السؤال الذى طرحته فى مقدمة المقال : هل فى مصر المعاصرة ، نخبة أمينة وقادرة على طرح مشروع حضارى، وتعهده بالرعاية ليؤتى ثماره فى عقد أو عقدين من الزمان ؟ .. الإجابة القطعية هى : لا ، والسبب فى إعادة السؤال ، وإعادة الإجابة ، أننا يجب أن نتحرر من الوهم ، وما يولده من إحساس زائف بالراحة ، وشعور خيالى بالطمأنينة .. إننا فى وضع بالغ الصعوبة ، ولو استسلمنا للوهم ، ورضينا بالأحلام والخيال ، سنستيقظ بعد حين ، ونحن مازلنا جاثمين فى قيعان التخلف والسقوط .. إن إزاحة حسنى مبارك ليس كافياً ، وإن كان هاماً وكبيراً .. إننا نحتاج إلى صياغة أنفسنا من جديد ، لنتخلص من كل المسخ والتشويه الذى أصاب عقولنا وقلوبنا وسلوكياتنا ، وأثّر على كفاءة كل مؤسساتنا .. إننا الآن أمة بلا نخبة ، أى بلا عقل وفكر ، وأمة بلا قيادة ، أى بلا قرار وسيطرة وإرادة ، وبشعب ولكنه ضائع وتائه ومتشرذم .. يا سادة .. حاكموا نخبتنا أدبياً على ما اقترفوه فى حقنا من تضليل ، وما ارتكبوه فى حق مصر من تقصير .. إنهم سبب فساد الناس ، وسبب فساد الأنظمة ، وعندما يفسد النظام ، ويفسد الناس ، تضيع الأمة كما ضعنا ، وتنحط كما انحططنا ، وتتخبط كما تخبطنا ، وتتوارى خلف كافة الأمم كما توارينا .
- هل نخبتنا السياسية : عمرو الشوبكى وعمرو حمزاوى وحسن نافعة ومعتز بالله عبد الفتاح والبرادعى وعمرو موسى وأيمن نور وحمدين صباحى ورفعت السعيد والغزالى حرب والسيد البدوى وأبو الغار.. نخبة ؟!
-هل نخبتنا الصحافية : محمد حسنين هيكل وسلامة أحمد سلامة وإبراهيم عيسى وبلال فضل ووائل قنديل .. نخبة ؟!
- هل نخبتنا الإعلامية : هالة سرحان ومنى الشاذلى ومحمود سعد وخيرى رمضان وريم ماجد ويسرى فودة .. نخبة ؟!
- هل نخبتنا الفنية : عادل إمام ومحمد هنيدى ومحمد سعد وخالد يوسف وإيناس الدغيدى ويسرا ونادية الجندى وإسعاد يونس .. نخبة ؟!
- هل نخبتنا الأدبية : جابر عصفور وأحمد عبد المعطى حجازى وعلاء الأسوانى ويوسف القعيد وجمال الغيطانى وأحمد فؤاد نجم .. نخبة ؟!
- هل نخبتنا الشبابية : نوارة نجم وإسراء عبد الفتاح وأسماء محفوظ ووائل غنيم وشادى الغزالى حرب وعلاء عبد الفتاح .. نخبة ؟!
- هل نخبتنا الرياضية : أصحاب هزليات الدورى والكأس ، والعاجزون عن الوصول للمسابقات الدولية الهامة .. نخبة ؟!
- هل نخبتنا الأكاديمية : أساتذة الجامعات الذين تولوا كل مناصب القيادة فى المجتمع فأفسدوها ، وأفسدوا أجيالا كاملة من الطلاب .. نخبة ؟!
يا سادة .. ورب الكعبة .. لو كان فى مصر نخبة ، ما كان هذا حالها .. إنهم نخبة سوء ، لا يقولون إلا منكرا من القول وزورا !!
سعد رجب صادق
saad1953@msn.com