الإصلاح والتغيير .. ومُعْضِلَةُ الشعب
|
مستقبل العشوائيين |
بقلم : سعد رجب صادق
......................
هل يمكن إصلاح دولة بلا شعب ؟ الإجابة البديهية هى : لا ، لا يمكن إصلاح دولة بلا شعب ، ولكن هل هناك دولة بلا شعب ؟ سؤال قد يبدو عبثيا ، وخاصة أن الدولة ليست إلا قطعة من الأرض ، يعيش عليها شعب ينتمى لتلك الدولة ، ويحمل سماتها العرقية والتاريخية والجغرافية والدينية والثقافية ، أى أن انتماء هذا الشعب وولاءه لا بد أن يكون لتلك الدولة ، والانتماء والولاء ليسا كلمتين يرددهما اللسان وكفى ، وليسا وصفا فى شهادة الميلاد ، أو بطاقة الهوية ، أو جواز السفر .. إنهما شعور قوى يتمكن من صاحبه فيغمره بإحساس جارف تجاه دولته ، ويتجاوز ذلك إلى العمل بكل الطاقات والملكات لرفعة شأن تلك الدولة ، وإعلاء قدرها .. إن الدولة هى أسرة المواطن وبيته ، وبدون الأسرة والبيت يصبح ضائعا شريدا ، وبدون الأجداد يفتقد أصوله وجذوره ، وبدون الأحفاد يضيع أمله ومستقبله ، وبدون ما يكتسبه من عِرقه وسلالته ، من خصائص جسمانية وعقلية ونفسية وثقافية ، يفقد تميزه وتفرده بين بنى البشر .. الدولة ليست دولة بحدودها الجغرافية ، ولكنها دولة بشعبها ، والشعب ليس شعبا بحياته داخل حدود دولته الجغرافية ، ولكنه شعب بحياة الدولة داخل قلبه وعقله ووجدانه .. ولكن ما قيمة هذا الكلام فى حالتنا المصرية .. هل نحن فعلاً دولة بلا شعب ؟ وهل نحن فعلاً شعب بلا دولة ؟ وهل الإجابة على تلك التساؤلات تحمل قيمةً أو فائدةً لإصلاح أمورنا المختلة ، وتعديل أحوالنا المائلة ، وتغيير أوضاعنا الفاسدة ؟ الإجابة : نعم بالتأكيد ، فلا يمكن لمن لا يعرف علّته أن يجد الدواء ، ولا يمكن لمن لا يجد الدواء أن يشفى ويتعافى .. يا سادة .. مشكلة مصر أنها دولة بلا شعب يرعاها ويعمل من أجل تحضرها ونهضتها ، ومشكلة المصريين أنهم شعب بلا دولة تقوم على أموره ، وترعى مصالحه .. مشكلة فريدة من نوعها فى التاريخ البشرى ، ولكنها حقيقة واقعة فى الحالة المصرية : دولة بلا شعب ، وشعب بلا دولة .. فى هذا المقال سأتعرض لمعضلة الشعب المصرى ، والتى أكسبته عبر تاريخه الطويل مواصفات وسلوكيات ، أقل ما يقال فيها أنها قبيحة وغير مرغوبة ، وضارة به وبالدولة ، وضارة به وبأبنائه وأحفاده ، ومعيبة ومشينة لكل من يتصف بها ، كما أنها عوامل لا جدال فى دورها المركزى فى الحط من قيمة مصر ، والحيلولة دون تقدمها ونهضتها ، والوقوف حجر عثرة أمام تغيير الطبيعة المصرية المتخمة بالنقائص والعيوب .
أولا : عيوب بشرية ولكنها مصرية أصيلة
يشترك البشر جميعا فى كثير من العيوب والنقائص ، فالإنسان لا يمكن أن يكون كاملا ، ولا يمكن أن يكون صائبا فى كل الظروف والأحوال ، حيث أن الطبيعة البشرية أوجبت اجتماع الأضداد فى النفس الإنسانية ، غير أن المتأمل فى الحالة المصرية طوال القرون ، يجد أن المصريين لهم عيوب مثل باقى البشر ، ولكنهم يختلفون عنهم فى إصرارهم على تلك العيوب ، وتمسكهم بتلك النقائص ، وعدم رغبتهم فى التغيير والإصلاح ، بينما كل شعوب الأرض تتسابق من أجل التغيير والإصلاح ، وتتقافز من أجل غد أكثر أملا وخيرا وإشراقا ، فيا ترى ماذا دهانا ، وماذا حدث لنا ؟ ولماذا تتعثر خطواتنا الإصلاحية ؟ والإجابة : لأننا :
1- شعب لا يحترم القانون
احترام القانون هو الفارق الفاصل بين الشعوب الناهضة المتحضرة وبين الشعوب المتخلفة الهمجية .. فى مصر لا يحترم أحد القانون ، يستوى فى ذلك عوام الناس وصفوتهم ، وجُهّالهم ومثقفوهم ، وأغنياؤهم وفقراؤهم ، بل إن المأساة الكبرى أن أَولَى الناس باحترام القانون من القائمين عليه من رجال الشرطة والقضاء ، وممن يُفترض فيهم القدوة والريادة من النخبة والمسؤولين ، لا يحترمون القانون ، بل هم أكثر الناس خرقا له ، وتعديا على نصوصه وأحكامه ، وعلى روحه ومقاصده .
ذكرت صحيفة ( الأهرام ) فى عددها بتاريخ 30 ديسمبر 2008 ، نقلا عن إحصائية للدكتور محمد نور فرحات ، أستاذ القانون بجامعة الزقازيق أن %96 من الأحكام القضائية فى مصر تصدر بالخطأ ، وأن %90 من أحكام الجنح المستأنفة تُلْغى فى محكمة النقض ، والأمر لا يقتصر على أخطاء الأحكام ، وإنما يتجاوز ذلك إلى الفساد المستشرى فى كل مؤسسات القضاء ، والذى طال حتى مجلس الدولة ، وهو أحد أهم أركان القضاء ، فقد نشرت صحيفة ( اليوم السابع ) بتاريخ 24 مايو 2013 ، مذكرة وجهتها اللجنة التشريعية بمجلس الشورى السابق لرئيس مجلس الدولة ، تطالبه بوقف تعيينات أكثر من ألفين من أقارب المستشارين بالمجلس ، ومن بينهم أطفال حاصلون على الابتدائية فقط والإعدادية فقط ، ومنهم من لم يستخرج بطاقة الرقم القومى ، ومنهم معمرون قاربوا الخمسين من العمر ، وقد عيّن المجلس هؤلاء بالقرار رقم 435 فى الأول من أبريل 2011 ، دون الإعلان عن وجود مسابقة ، ودون الإعلان فى الصحف الرسمية ، طبقا لما ينص عليه قانون العاملين المدنيين فى الدولة ، وجاء فى المذكرة أن مجلس الدولة المنوط به حماية الحقوق هو أول من ينتهك حقوق المصريين ، من خلال تعيين عشرات الأطفال من أبناء المستشارين وأقاربهم ، الذين لم يتموا تعليمهم ، ولم يتجاوزوا الرابعة عشرة من أعمارهم ، ويتقاضون رواتب دون عمل ، وتضمنت المذكرة أسماء مندوبين ظلوا عشرين عاما متعثرين فى الحصول على الدرجات العلمية التى تؤهلهم للترقية ، وأسماء مندوبين مساعدين من أبناء المستشارين تم تعيينهم فى مجلس الدولة بعدما حصلوا على ليسانس الحقوق بدرجة مقبول ، وبعضهم قضى ثماني سنوات فى كلية الحقوق ، بينما يتعسف المجلس فى تعيين الباحثين القانونيين الحاصلين على الماجستير والدكتوراة ، ونقل التقرير عن د. جمال جبريل عضو اللجنة التشريعية قوله : " ما رأيته من مستندات تثبت تعيين أبناء المستشارين ممن حصلوا على الإعدادية بوظائف فى مجلس الدولة ، حتى يضمنوا لهم الوظيفة عنما يتخرجون من الجامعة ، لهو وضع كارثى ... حتى العزبة لا يحدث فيها هذا ، لأن صاحبها هيراعى مصلحتها " .
لا شك أن الأرقام التى ذكرها د. فرحات عن أخطاء الأحكام أرقام كارثية لأنها تقترب من الـ %100 ، كما أن استشراء الفساد فى مؤسسات القضاء أصبح معروفا ومتداولا ، غير أن أمرا آخر يتجاوز تلك الأمور فى خطورتها ، وهو خضوع القضاء لأهواء السياسة ، بل واستعماله للتنكيل بالخصوم والإساءة إليهم ، رغم أن وظيفة القضاء هى إحقاق العدل ، وصيانة حقوق المواطنين من تغول الدولة ومؤسساتها وكبار مسؤوليها ، وهو ما يتناول الأستاذ فهمى هويدى بعضا من نماذجه فى مقاله ( أنقذوا القضاء من القضاة ) ، والذى نشرته صحيفة ( الشروق ) فى 5 أكتوبر 2013 ، وفيه يبدأ بالقول : " صرنا نخاف على القضاء من بعض القضاة ، بعدما توالت الأحكام التى باتت تشكل إساءات بالغة للقضاء ، فهى لا تعصف بقيمة العدل فقط ، ولكنها تهدر بديهيات ونصوص القانون ذاته ، ليس ذلك فحسب ، وإنما أصبح القضاء سبيلا للتنكيل وتصفية الحسابات ، ليس فى مواجهة الخصوم السياسيين فقط ، وإنما فى مواجهة القضاة أنفسهم أيضا ، وفى هذا وذلك فقدْ بدا لنا أن القضاء فى حالات كثيرة يميل مع رياح السياسة ، بأكثر مما يتكئ على القانون ، لإقرار الحق والعدل ، وفى أحيان أخرى صرنا نرى فى الأحكام بصمات تقارير جهاز أمن الدولة ، ونشم فيها رائحة الكيد والانتقام " ، ثم يضرب الأستاذ فهمى أمثلة على ذلك فيقول : " الحكم النهائى الذى قضى بحبس رئيس الوزراء السابق الدكتور هشام قنديل ، لأنه امتنع عن تنفيذ حكم كان يتعين على غيره أن ينفذه ، وتلك سابقة تحدث لاول مرة فى مصر ... قرار ضبط وإحضار المستشار أحمد مكى وزير العدل السابق ، والمستشارة نهى الزينى ، فيما بدا أنه عقاب للشهود الذين تحدثوا عن تزوير انتخابات عام 2005 ، فى حين لم يتطرق القرار إلى القضاة الذين اُتهموا بالتزوير ، وهو ما فُهم منه أن الأمر ليس مكايدة وتصفية حسابات فحسب ، ولكنه أيضا بمثابة إنذار لكل من تسول له نفسه أن يتحدث عن تزوير الانتخابات القادمة ... قرار محكمة استئناف القاهرة بوقف 75 قاضيا بعد اتهامهم بالانحياز إلى فصيل سياسى دون آخر ( وقّعوا على بيات تأييد شرعية الدكتور محمد مرسى ) ، وذلك بعد أن أسقط نادى القضاة عضويتهم لذات السبب ، حدث ذلك فى حين أن رئيس مجلس القضاء الأعلى كان ضمن الذين حضروا الاجتماع الذى أُعلن فيه عزل الرئيس مرسى ، فيما بدا أنه تعبير عن الانحياز إلى طرف سياسى دون آخر ... كذلك مفاجأة الحكم بحل جماعة الإخوان ، الذى أصدره قاضى جزئى غير مختص بشهادة المستشار محمد عطية ، نائب رئيس مجلس الدولة ، الذى هُوجم لأنه قال إن القضية من اختصاص القضاء الإدارى وليس العادى ، فضلا عن أن شروط الاستعجال التى قرّرها القانون غير متوفرة فيها ... القضايا التى بُرئ فيها ضباط الشرطة الذين اُتهموا بقتل الثوار ، وتبرئة المتهمين فى موقعة الجمل ، فى حين انحاز القضاء بشكل سافر فى كل القضايا التى كان الإخوان طرفا فيها ، فضلا عن القضايا التى رُفعت لمحاصرة الدكتور مرسى وشل حركته ، وتشهد بذلك مهزلة الحكم فى قضية الهروب من سجن وادى النطرون ، والذى بدا وكأنه تقرير كتبه ضابط من جهاز أمن الدولة " ، ثم يختم الأستاذ فهمى هويدى مقاله بتقرير حقيقة تاريخية : " حينما تواجه مؤسسة العدالة محنة من ذلك القبيل ( عصف السياسة بشموخ القضاء ، وإطاحتها باستقلاله وحياده ) ، فإن الوطن يصبح فى خطر " .
إذا كان المصريون عموما لا يحترمون القانون الذى هو حمايةٌ لهم ، وصونٌ لمصالحهم ، ورعايةٌ لحقوقهم ، وإذا كان كثيرون من القضاة موصومون فى ذممهم وضمائرهم ، ومتهمون بالحصول على الرشاوى النقدية والعينية ، والاستيلاء على أراضى الدولة ، وتوريث أبنائهم وأقاربهم ، والتكويش على مكافآت وبدلات ومرتبات هائلة لا يستحقون أغلبها ، والعبث بالقوانين والملفات ، ومجاملة الأغنياء والكبراء ، والعمالة لأمن الدولة ، واستغلال السلطة والوظيفة للتربح والمكاسب الشخصية ، وتزوير الانتخابات الذى هو تزوير وعبث بإرادة الأمة ، وغيرها مما يتردد يوميا من تجاوزات أخلاقية ومهنية ، ويتم تجاهله والتعتيم عليه .. إذا كان هذا هو حال الشعب المصرى ، وحال قضائه ، فما بالنا بالأجهزة الأمنية التى لا يجادل فى فسادها وخروجها عن كل القوانين والأعراف أحد ؟
فى مقال هام للكاتب الأمريكى Mark Perry ، نشرته مجلةForeign Policy الأمريكية بتاريخ 23 أغسطس2013 ، تحت عنوان "Looking for Hashish in Cairo ? Talk to the police " والمعنى إذا كنت تبحث عن حشيش فى القاهرة ، فعليك بالبوليس ، فعندهم ضالتك ، وفى عنوان فرعى للمقال 'Hidden Power of Egypt's Drug-Running Cops' ويعنى القوى الخفية لضباط تجارة المخدرات فى مصر .. يتساءل الكاتب عن حقيقة ما يجرى فى سيناء : هل المشكلة فى البدو ، أم محترفى الإجرام ، أم العناصر المرتبطة بالقاعدة ، أم غيرهم من الجماعات الجهادية ؟ ، ثم يجيب : إنه من المريح تسمية ما يحدث فى سيناء بالإرهاب ، ولكن الحقيقة غير ذلك ، ورغم أن الصحافيين غير قادرين على دخول تلك المناطق ، لكن حفنة من كبار ضباط الجيش الأمريكى الذين يرقبون الأوضاع عن كثب ، لهم رأى آخر فى ما يجرى هناك من أنشطة ، ثم ينقل عن ضابط مخابرات فى البنتاجون قوله : إن اضطرابات سيناء ليست بسبب البدو الغير راضين عن أحوالهم فقط ، ولكن بسبب قادة جهاز الأمن المركزى الذين يرعون تجارة المخدرات ، ويحمون خطوط التهريب ، وهو ما يقومون به منذ حوالى ثلاثين سنة وحتى الآن ، ومنذ وزير الداخلية السابق أحمد رشدى ، الذى حدثت فى أيامه أحداث الأمن المركزى ، والتى راح ضحيتها 4,000-6,000 عسكرى من قوات الأمن المركزى ، والذى أيضا شن حملة للخلاص من تلك الأنشطة ، فأقاله الرئيس مبارك ، وعيّن بدلا منه زكى بدر ، الذى كان معروفا بصداقته للرئيس ، وقسوته المفرطة على المصريين " Sinai troubles are fueled not only by disaffected Bedouin tribes but also by Sinai Central Security Forces ( CSF ) commanders intent on guarding the drug and smuggling routes that they continue to control nearly 30 years after Rushdie's attempted crackdown "
ثم يتحدث الكاتب عن أن الجيش والأمن المركزى فى القلب من الدولة العميقة فى مصر ، وأن الأمن المركزى الذى تأسس فى 1969 ، ويتألف من 350,000 فرد ، من أكثر الناس فقرا وأمية ، يجلبون عشرات الملايين من الدولارات سنويا ، من تجارة المخدرات ، والسلاح ، وأن جزءا منها يتم تقاسمه مع الجيش ، وهى حقيقة ليست صادمة له ، ولا لقطاع كبير من المصريين ، وينقل عن Robert Springborg ، وهو خبير فى الشؤون المصرية ، ويعمل بمدرسة البحرية فى كاليفورنيا ، أن سيناء تعد ملعب الأمن المركزى ، حيث يمارسون أنشطتهم التى يشكل التهريب جزءا كبيرا منها " This is their turf , it's where they operate . Smuggling is a big business for them" وينقل عن تقرير رُفع إلى الاتحاد الأوروبى من شركة مخابرات خاصة لها علاقات بالجيش المصرى ، أن إسرائيل لها يد فيما يحدث بسيناء " The Israelis have to take some responsibility for this … The Sinai is flooded with contraband , with a lot of it hooked into the trade with
Israeli mafia families . And a lot of that comes right out of CSF pipelines "
يشكك الكاتب وكبار مسؤولى الإدارة والجيش الأمريكى فى ادعاءات الفريق السيسى وغيره من المسؤولين المصريين ، أن الرئيس مرسى ، وحركة حماس ، والفصائل الجهادية ، هم المسؤولون عن زعزعة الأوضاع فى سيناء ، وحسب وصف أحد كبار ضباط البنتاجون فإنها ادعاءات لا يقبلها العقل والمنطق " It just doesn't make sense" ، ويضيف أنه لا توجد أنشطة للقاعدة فى سيناء ، أو أى أنشطة مشابهة لها "There's no al Qaeda in Sinai or anything like that " وأن هناك اتفاقا عريضا بين كبار ضباط المخابرات العسكرية الأمريكية أن ما يحدث فى سيناء ليست له علاقة بالإرهاب ، ولكنها شبكات المهربين وتجار المخدرات الذين يحاولون بسط سيطرتهم على المنطقة " … to reassert their control of the region " أى أن الأجهزة الأمنية تمارس الكذب والتضليل كعادتها ، وتلفق التهم والافتراءات كما تعودت خلال العقود الست الماضية .. فى الزمن الناصرى حولوا مصر لدولة التعذيب الأولى فى العالم ، وظلوا على هذا النهج طوال الزمن الساداتى والمباركى وبعد انقلاب الفريق السيسى العسكرى ، ولذلك وقفوا ضد الرئيس مرسى فى محاولته التى يصفها الكاتب بالجادة والحقيقية لإعادة هيكلة وإصلاح المنظومة الأمنية الفاسدة ، وإصلاح الأوضاع فى سيناء ، والاستجابة لشكاوى شيوخ القبائل من فساد الأجهزة الأمنية ، ويعدد الكاتب بعضا من قرارات الرئيس مرسى للتعامل مع تلك المشكلة مثل تغيير وزير الداخلية ، ورئيس الأركان ، وتعيين رئيس جديد للحرس الجمهورى ، وإقالة مدير المخابرات ، ومحافظ شمال سيناء ، والتوافق مع إسرائيل على إدخال مزيد من القوات والمعدات إلى سيناء ، وإلزام حماس بمراقبة الأمن من جانبها ، والتحكم فى خطوط التهريب ، وعصابات الجريمة فى غزة " I think that Morsy really tried to change things , really tried to reform the system , to overhaul it . That included the deeply entrenched CSF " غير أن تلك الخطوات والتى اُتخذت فى أغسطس 2012 ، وأسعدت الإدارة الإسرائيلية حسب ما يذكر Maj.Gen. Amos Gilad ، لم تحظ برضى وقبول وزارة الداخلية المصرية " The Israelis were actually pleased with what Morsy was doing , and the interior Ministry was upset "
ثم يخلص الكاتب إلى نتيجة مفادها أن الجهاز الأمنى المصرى هو أكبر شبكة إجرامية فى الدولة The security service is the largest criminal enterprise in Egypt " " ، وأن محاولات الرئيس مرسى الإصلاحية قد تكون المشكلة التى قلبتهم عليه " May be that was the problem "
إن مشكلة الشرطة المصرية تتجاوز حتى المشاركة فى الإجرام ، وحماية الجريمة والمجرمين ، والتنكيل بالإنسان المصرى ، وتلفيق التهم له ، وتعذيبه وإهدار كرامته ، والعدوان على دمه وماله وعرضه .. تتجاوز كل ذلك إلى بعد آخر شديد الخطورة ، وهو توظيفها للبلطجية للقيام ببعض دورها فى مزيد من التنكيل والامتهان للإنسان .. كتب محمود سلطان فى صحيفة ( المصريون ) ، بتاريخ 8 سبتمبر 2013 ، تحت عنوان ( وتصدت لهم الأهالى .. حلوة ) : " بعد ثورة 2011 اكتشف الرأى العام أن تحت يد ضباط أمن الدولة المنحل جيش من البلطجية والمسجلين خطر ، قوامه يتجاوز 400,000 بلطجى ، كانوا أدوات فى الجهاز لتأديب المعارضين ، أو لتصفيتهم ، أو لعمليات الترويع التى اُستخدمت بشكل منظم لتزوير الانتخابات أيام حكم الرئيس الأسبق حسنى مبارك ، ولقد شهدنا نحن معشر الصحفيين أمام النقابة أثناء المظاهرات المحدودة التى كانت تنظمها حركة كفاية بعد عام 2004 ، حالات تعدى جسدى وجنسى على صحفيات من قبل بلطجية ونساء مسجلات خطر أمام عيون جنرالات حبيب العادلى ، ولم يكن المشهد فى تفاصيله البسيطة يحتاج إلى ما يثبت أنهم حُمّلوا فى باصات لتأدية مهمة أمنية لتأديب المعارضين . عند فض اعتصام رابعة والنهضة بالقوة يوم 14 أغسطس الماضى ، ظهرت الميليشيات المدنية للتصدى للمتظاهرين ، تحت مسميات مختلفة ، بدأت باللجان الشعبية والتى لم تستطع التخفى ، إذ تحولت من التصدى للمتظاهرين أثناء التظاهر ، إلى تثبيت الناس فى الشوارع ليلا وسرقتهم ... الصورة التى نقلها التلفزيون عن الأهالى الذين تصدوا للمظاهرات لم تكن مقنعة ، فلا يمكن بحال أن تكون وجوه الأفندية والأهالى المحترمين ، مترعة بالأخاديد ، وآثار ضرب البشل والمطاوى ، التى ترسم ملامح الإجرام على الوجوه التى كانت ترتدى زيا مدنيا ، ويبدو أنه فى مصر أمور كثيرة تغيرت بما فيها الناس ، إلا عقلية الستينيات الرسمية فما زالت محتفظة بكل تقاليدها التى عفا عليها الزمان ، ولن تفضى إلا لمزيد من الكوارث " .
عندما تنتهك مؤسسة الشرطة القانون ، وعندما تنتهك مؤسسة القضاء القانون ، وعندما ينتهك المسؤولون القانون ، وعندما تنتهك غالبية الناس القانون ، فلا فائدة ولا أمل يرتجى فى مجتمع يسوده العدل ، ويعرف فيه الجميع ما لهم وما عليهم ، ويصبح البديل الوحيد هو الفوضى ، والتى هى أهم سمات المجتمع المصرى بأفراده ومؤسساته ، وبما أن الفوضى نقيض التحضر والمدنية ، وقرين الظلم والفساد والاستبداد ، لذا يسهل على المتأمل إدراك سر تخلفنا وخيبتنا وتدهور أحوالنا .
2- شعب لا يحترم النظام
النظام شكل آخر من أشكال القانون الاختيارى يفرضه المرء على نفسه طواعية واختيارا ، أو تفرضه اللوائح والضوابط التى تضعها كل الهيئات والجماعات والمؤسسات ، لتسهيل العمل ، وتوزيع الواجبات ، وهو ما يؤدى إلى سرعة الإنجاز ، وكفاءة الأداء ، وإشاعة جو الاحترام بين الناس .. المجتمع المصرى يفتقد النظام فى كل شئ : يفتقده فى الطريقة الهمجية التى يستقل بها الناس المواصلات ، حيث يتدافعون ويتسابقون بدون مراعاة للدور ، أو الكبير والمريض والمرأة والطفل ، ويفعلون نفس الشئ عند النزول .. يفتقده فى عدم احترام الطابور .. يفتقده فى مقاطعة المتكلمين لبعضهم البعض ، أو مزاحمة أصحاب الحاجات لبعضهم البعض ، وعدم صبرهم على بعضهم البعض ، حتى ينتهى المتكلم أو صاحب الحاجة .. يفتقده فى غياب لوحات أسماء الشوارع ، وأرقام البيوت والبنايات .. يفتقده فى احتلال أصحاب المحلات والمقاهى للشوارع وأماكن المشاة .. يفتقده فى القرارات المتضاربة ، وفى إهالة التراب على كل مسؤول سابق ، والتحول عن السياسات التى رسمها ، صحيحة كانت أو خاطئة .. يفتقده فى غياب الإشارات والعلامات والتعليمات والتوجيهات فى كل مصالح الدولة .. يفتقده عندما يجد لزاما عليه استخراج شهادة أو بطاقة أو وثيقة ، فيجد نفسه تائها لا يعرف الطابق أو المكتب أو الموظف أو الاستمارات اللازمة أو الرسوم الواجبة ، ويبدد وقته فى التوجه هنا وهناك ، وسؤال هذا وذاك .. رحلة طويلة من المعاناة يتكبدها الإنسان كل يوم ، أو كل مرة يحتاج قضاء مصالحه ، ومع رحلة المعاناة يتبدد الوقت ، وتتبدد الطاقات والجهود ، ويتبدد المال والموارد ، ويحس المرء بالسأم والضجر ، ويفقد مرّة بعد مرّة جزءا من ولائه وانتمائه وحبه لبلده .
3- شعب لا يحترم العمل والدقة والإتقان والإجادة
لا شك أننا اليوم فى زمن لا مكان فيه للكسالى ، ولا مكان فيه لمن لا يعرف قيمة العمل ، وقيمة الجد ، وقيمة الدقة والإتقان فى كل شئ .. إن وجود قرابة سبعة ملايين من موظفى الحكومة ، لا يؤدى غالبيتهم عملاً يُذكر لأكبر دليل على عدم احترام العمل ، وأكبر دليل على تبديد موارد المجتمع ، كما أن افتقاد معظم منتجاتنا للمواصفات القياسية ، ومواصفات الجمال والجاذبية ، ووجود عيوب كثيرة فى مظهرها وكفاءتها وجودتها ، لدلالات صارخة على افتقادنا للدقة والإتقان ، وهو ما يتسبب فى عدم قدرتنا على المنافسة فى الأسواق العالمية ، وعدم قدرتنا على جذب انتباه المستهلك ، وتلبية رغباته ، والحفاظ على ولائه .
4- شعب لا يعرف فضيلة العمل الجماعى
لا يمكن لمجتمع ما أن ينهض بدون مقدرة أفراده على العمل الجماعى ، بنظام واحترام وتوزيع للواجبات ، وإنكار للذات ، وإرجاع الفضل لأصحابه ، وتقدير كل جهد وكل دور ولو كان ثانويا أو صغيرا ، والقدرة على التكامل والتناغم والتناسق والاتساق ، والإحساس بالفخر والولاء للجماعة أو الفريق ، وللهدف والغاية التى من أجلها تكونت الجماعة أو الفريق .. المجتمع المصرى لا يعرف فضيلة العمل الجماعى ، لشيوع عادات رذيلة مثل الأنانية ، وحب الذات ، والتعالى ، وكراهية الانصياع للأعلم والأكفأ ، ورغبة الظهور والزعامة والمنظرة ، وقصر النظر ، وافتقاد الصبر ، وغيرها ، ولهذا تضعف الأحزاب والجماعات السياسية فى مصر أو تنهار من داخلها ، ولهذا أيضا لا يكتب الاستمرار لكثير من الجماعات والمنظمات ، ولا يكون فى مقدرة أنشطتنا الاقتصادية المتشابهة أن تندمج وتتوحد من أجل كيانات أكبر وأقدر على المنافسة ، وأكثر فى مواردها وإمكانياتها .
تناول أستاذ العلوم السياسية ، د. معتز بالله عبد الفتاح هذه الظاهرة فى مقال بعنوان ( أمراضنا ليست سياسية ) ، نشرته صحيفة ( الوطن ) ، بتاريخ 31 أغسطس 2013 ، وفيه يُرجع أسباب ذلك إلى أنه : " عندنا مشكلة حقيقية فى أننا لا نعرف كيف نعمل معا فى المجال السياسى تحديدا ، وفى غيره كذلك ، وبتأمل هذه المسألة تتبين ثلاثة أسباب مجتمعة :
أولا : أسباب نفسية : العمل الجماعى يتطلب درجة من الثقة بالنفس ، والاستعداد للتحمل الشاق ، وتوزيع الموارد بصورة مقبولة ، ويكون مستحيلا بين الأشخاص الذين يعانون فقرا فى الاحساس بالأمان الذاتى ، والرغبة الشديدة فى الزعامة والسيطرة .
ثانيا : أسباب ثقافية : نحن أبناء مخلصون لنظرية ابن خلدون عن العصبية كمصدر للقوة والغلبة والتمكن ... وهو نفس المفهوم الذى تبناه إميل دوركايم حين ناقش نوعين من التماسك بين البشر : التماسك التلقائى أو الفطرى القائم على علاقات غير اختيارية ، مثل تماسك وتضامن أبناء الأسرة أو القبيلة الواحدة ... ، والتماسك العضوى أو المؤسسى المبنى على المصلحة المشتركة ، وتقاسم الأدوار، وهو تماسك يتطور بتطور المجتمعات ، وتعدد مؤسساتها ومختلف مكوناتها ... المشكلة فى مصر ومنطقتنا العربية أن التماسك التلقائى يتراجع ، فى حين أن التماسك العضوى أو المؤسسى لا يحل محله .
ثالثا : أسباب سياسية وأيديولوجية : فغياب الأطر المؤسسية لتحديد من يحصل على ماذا ، ومتى وكيف ولماذا ، فينتهى الأمر بمغالبة ميكافيلية بلا ضوابط سابقة ، وإنما اقتلاع شخص لآخر أو شلة لأخرى ، وهذه واحدة من فضائل دولة القانون ، سواء وجدت فى نظم ديموقراطية أو غير ديموقراطية ، حيث توجد قواعد مؤسسية حاكمة للجميع ، تجعلنا مهما اختلفنا نعمل فى إطار من القانون ، والبحث عن الحلول الوسط ، حتى لا تنفجر التنظيمات مما يعود بالسلب على الجميع ، وبدلا من تقاسم النجاح ، نتنافس فى توزيع الفشل ، وإلقاء اللوم على الآخرين ، وهى مسألة لا يولد الإنسان بها ، وإنما تكتسب كمهارات القراءة والكتابة والحساب " .. يتساءل الكاتب فى نهاية مقاله : " هل يمكن أن نخرج من دائرة الهتيفة والمعارضة والتخوين إلى دائرة المفكرين والدارسين والباحثين عن حلول لمشاكلنا ، التى هى مشاكل كل المجتمعات ، ومن نجح فى مواجهتها ليسوا ملائكة منزلين من السماء ، أو كائنات فضائية خيالية ، وإنما هم بشر نجحوا فى أن يتماسكوا على هدف ، وتحكمهم قواعد مكتوبة ومعلنة ، وأن ينكروا ذواتهم من أجل الصالح العام ؟ " .
ويذكر د. معتز بالله فى مقال آخر بعنوان ( قبيلة بنى كروت ، وقبيلة بنى فوت ) ، نشرته صحيفة ( الوطن ) بتاريخ 12 يونيو 2013 : " مشكلة العمل الجماعى فى مصر أن الكثيرين باحثون عن النجومية الفردية ... العمل الجماعى الناجح لا يمكن أن يتوافر فى شخص واحد إلا خروجا على مالوف الفطرة من التفاوت فى القدرات والملكات . مكونات أى فريق عمل بهدف تمكين الأفضل هى : مكونات الرؤية ، ثم مكون الدراسة وتمحيص هذه الرؤية ، ثم مكون التخطيط ، ثم مكون التحفيز ، ثم مكون التنفيذ ، ثم مكون المراقبة والتقييم ، ثم مكون خلق التناغم بين شركاء العمل الجماعى ، هناك أشخاص أفضل من غيرهم فى مسألة التخطيط ، وهناك آخرون أفضل فى التحفيز ، وهناك من هو أفضل فى أمور خلق التناغم بين الشركاء ، هذه هى قيم النجاح التى ما نجح الناجحون إلا بها ، وما فشل مجتمع إلا بغيابها . "
5- شعب لا يحترم العلم والتخصص والخبرة
الدرجات العلمية فى المجتمع المصرى ليست دلالة على أى شئ ، فالتعليم الذى مازال يعتمد على التلقين ، والمناهج الجامدة ، والامتحانات التى تختبر الحفظ ، والدروس الخصوصية التى تُلغى قيمة العملية التعليمية من أساسها ، وتُحيل العلاقة بين الطالب والأستاذ إلى علاقة البيع والشراء ، وتهدر قيمة العقل والتفكير والجهد والمواظبة .. تعليم بتلك النوعية الهابطة المتخلفة لا يمكن أن تكون لدرجاته وشهاداته قيمة ، ولا يمكن للحاصلين عليها أن ينفعوا أنفسهم أو وطنهم ، غير أن أسوأ ما فى الأمر أنه يعكس خللا مجتمعيا اختزل العلم فى شهادة ، أيا كانت طريقة الحصول عليها ، وأيا كان مستوى أصحابها ، ولذلك فإن معظم خريجى المدارس والمعاهد والجامعات المصرية الآن ، يفتقرون إلى كل المقومات التى تؤهلهم للعمل ، أو التفكير النقدى أو المنطقى أو الموضوعى ، أو إعداد الخطط والدراسات ، أو القيام بالأبحاث ، علاوة على تدنى مستواهم حتى فى القراءة ، والكتابة السليمة الخالية من الأخطاء الإملائية والنحوية والمعلوماتية ، ولا يخفى أيضا تدهور مستوى كل خريجى المدارس المتوسطة والمعاهد الفنية ، وافتقادهم للخبرة والمران والتدريب ، وهو ما يضع العامل والفنّى والتقنى المصرى فى مرتبة أدنى من غيرهم فى معظم بلاد العالم ، وقد أدى تدهور التعليم ، وتعايش المجتمع مع هذا التدهور ، بالتقبل والرضى ، بل والمشاركة فى ترسيخ أدوات التدهور ، مثل الدروس الخصوصية ، والغش ، وبيع الامتحانات أو تسريبها ، والرأفة فى تقدير الدرجات ، وتوريث الأساتذة لبنيهم وذويهم ، والمجاملات ، وتلفيق وفبركة وسرقة البحوث العلمية .. أدت كل تلك الصور القبيحة إلى إضرار بالغ بمكانة المجتمع ومستقبله ، ومكانة الخريجيين أنفسهم ، ولا يخفى على أحد أنه بدون العلم فلا يمكن لأى مجتمع أن ينهض أو يتقدم ، حتى ولو امتلك كل الموارد والإمكانيات ، وترتب على ذلك أيضا شيوع كثير من المفاسد السلوكية والثقافية والاجتماعية ، والتى ترسخت فى الممارسات الحياتية ، وأصبحت وكأنها الصواب والعرف والعادة ، وأضافت إلى عيوبنا عيوبا أخرى .
6- شعب يهوى الجدل والسفسطة والرغى والحكاوى
الطبيعة البشرية تحب الكلام ، ولكن الكلام له ضوابط وأصول ، فلا يصح أن يتكلم الإنسان فيما لا يعلم ، ولا يصح أن يجادل ويسفسط فى الحقائق الدامغة ، والمبادئ التى استقرت فى عرف الناس جميعا ، ولا يصح أن يطعن فى عرض أحد ، أو يتقول عليه بما ليس فيه ، اعتمادا على الحكاوى والثرثرات ، ولا يصح أن يُلقى التهم جزافا بدون دليل أو بينة ، ولا يصح أن يلوى أعناق القضايا لغرض أو هوى .. صارت تلك العيوب جزءا من مكونات الشخصية المصرية ، وأصبح المثقفون يتبارون مع العوام فى الرغى والسفسطة ، وظهرت إلى جانب المقهى التقليدى نماذج من مقاهى مستحدثة لجلسات العبث والهزل والنميمة على الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعى ، أو على مصاطب التوك شو ، وعلا شأن نجوم جدد من إعلاميين ومحللين وخبراء وضيوف مستديمين على كل القنوات ، يتحدثون فى كل شئ ، ويفتون فى كل شئ ، وهم لا يعلمون أىَّ شئ عن أىُّ شئ .. غياب التعليم الجيد سبب كبير من أسباب تلك الظاهرة ، فمن تلقى تعليما جيدا لن يتكلم إلا فيما يتقن من المواضيع ، ولن يقول كلاما يفتقد إلى المصدر والتوثيق ، أو ينافى العقل والمنطق .
يتناول د. معتز بالله عبد الفتاح هذا العيب فى مقال بعنوان ( مجتمع سفسطائى ولا سقراط له ) ، نشرته صحيفة ( الوطن ) بتاريخ 30 يوليو 2013 ، وفيه يقول : " من يتابع الجدل المصرى الحالى بشأن ما حدث منذ 25 يناير وحتى الآن ، يكتشف أننا مجتمع أصيب بمرض السفسطة ، والتى هى عند Sheldon Wolin ، وهو عملاق من عمالقة دراسة الفكر الغربى : ' مهارة استخدام مفردات اللغة لإثبات صحة الحجة أو عكسها ، من أجل الوصول إلى حقيقة معينة تخدم مصلحة صاحبها ' ، إذن هذه السفسطة تتكون من ثلاثة عناصر كبرى وفقا لـ Sheldon Wolin : مصلحة ذاتية ، حجة مفبركة ، لغة غامضة ... ولهذا حين واجه سقراط السفسطائيين فى عصره ، بدأ معهم بتعريف المصطلحات ، حتى وإن كان هناك أكثر من تعريف لنفس المصطلح ، والاتفاق عليها ابتداء حتى يكون النقاش لاحقا فى الاستنتاجات وفقا للتعريفات المتفق عليها ، ولا يتم التلاعب باللغة ، وإعادة تعريف المصطلحات ، حتى نصل إلى استنتاجات تتفق مع مصالحنا " .
7- شعب يسهل خداعه والاستخفاف بعقله
فى الزمن الفرعونى القديم ، استخف كهنة المعابد بالناس ، وأوهموهم بالطبيعة الإلهية للفرعون ، ووجوب طاعته ، حتى يضمن لهم جريان النيل ، وسعادة الدنيا والآخرة ، ليستغلوهم بعد ذلك فى تشييد المعابد ، وتقديم القرابين ، ونحت التماثيل ، وبناء المقابر .. ثلاثة آلاف سنة من الوهم والسخرة والعبودية والوثنية ، قضى الإنسان المصرى نصفها تقريبا فى قلاقل واضطرابات داخلية ، أو تحت احتلال فارسى ويونانى ورومانى وغيرها ، وفى الزمن المصرى الحديث ، يتكرر الاستخفاف والاستغفال ، وتصنع النخبة الفاسدة فراعين جددا : الزعيم الخالد ، والقائد المُلهم ، ومن أعطانا الحرية والكرامة ، والرئيس المؤمن ، وبطل الحرب والسلام ، وبطل الضربة الجوية ، ومن وهبنا الثبات والاستقرار ، ومن استعاد الوطن ، وخلّصه من الأخونة والإخوان .. كلام فارغ وتضليل وتدليس واستحمار .
كتب د. معتز بالله عبد الفتاح فى صحيفة ( الوطن ) ، بتاريخ 6 سبتمبر 2013 ، تحت عنوان ( تراجع المناعة الأخلاقية والعقلانية للمصريين ) : " نحن نفتقد أهم ما يمكن أن تُبنى به أمة ، وينهض به شعب ، وهو ثقتنا فى بعضنا البعض ، نحن شعب مناعته الأخلاقية والعقلانية ضعفت بشدة ، ويعنى ببساطة ممكن أى حد يلعب بنا الكورة ، ويودينا ويجيبنا ... نحن نصدق بسرعة شديدة ، وننفعل بسرعة شديدة ، ونتصرف بسرعة شديدة ، دون أن نتعقل بما يكفى ... هل هذا يدخل فى إطار الحكمة أم فى إطار الغفلة ؟ هل هذا يدخل فى إطار الرحمة أم فى إطار الغلظة ؟ هل هذا يدخل فى إطار حسن التدبر أم سوء المنقلب ؟ ... أتذكر مثلا كوريا قاله لى أستاذ علوم سياسية من هذه المنطقة من العالم : " لا تجعل عقلك حذاء فى قدم أحد يذهب به حيث يشاء " ، أى تبين وتحقق وتثبت مما يقال لك ، واعقل وتفكر قبل أن تتخذ أى قرارات " .
فى أيامنا المعاصرة ، تتكرر المسرحية مرة أخرى ، بكل ما فيها من هزل وعبث : الإخوان فصيل وطنى منظم ومخلص .. الإخوان شياطين وقتلة وإرهابيون ، يهدفون إلى أخونة مؤسسات الدولة ، وتغيير هوية الشعب .. الإخوان يعملون من أجل الوطن .. الإخوان يهدفون إلى بيع الوطن ، وتحويله لإمارة فى دولة الخلافة ، لقد باعوا حلايب وشلاتين ، وسيهبون أهل غزة %40 من سيناء ، فى صفقة بليونية بين أوباما و خيرت الشاطر ومكتب الإخوان .. الإخوان ينتهجون الإسلام الوسطى .. الإخوان ماسونيون ، لا دين ولا ملة لهم ، ويبغون تأجير قناة السويس والأهرام وأبو الهول ، والتنازل عن حق مصر فى مياه النيل .. الإخوان ينتهجون نهجا سلميا منذ 1952 .. الإخوان يمتلكون فى رابعة أسلحة ثقيلة ، وصواريخ عابرة للمدن .
المجتمع ( اللى كلمة تجيبه وكلمة توديه ) .. المجتمع الذى يتغير من النقيض إلى النقيض ، ويصدّق الشئ وضده ، وينقلب اليوم على صديق الأمس ، ويصادق اليوم عدو الأمس .. مجتمع عقله فى أذنيه .. مجتمع لا مستقبل له ، لأنه مجتمع لا عقل له .
8- شعب يهوى المجاملات الفجة ، والتملق والنفاق ، وخلع الألقاب والنعوت والصفات
من قبائح الشخصية المصرية ، شيوع التملق والنفاق ، والمجاملات الفجة ، وخلع الأوصاف والنعوت والألقاب على من لا يستحقونها ، وهو ما يعطى الانطباع بتشوه المعانى والدلالات فى العقلية المصرية ، وباختلال المعايير فى الحكم على الأشياء ، وبالرغبة الملتوية فى تحصيل الفائدة بطرقها غير الشريفة والنزيهة ، كما يعطى الانطباع أيضا بالخوف ، وعدم الثقة ، والشعور بالدونية ، وكلها عوامل سلبية تنعكس بالضرر على المعاملات بين الناس ، وبين الناس والمسؤولين ، وتخلق حالة عامة من الهرج والابتذال ، وفقدان الأمانة والمصداقية فى كل واحد ، وفى كل شئ .
يتناول د. معتز بالله عبد الفتاح هذه الظاهرة بشئ من التحليل ، والربط مع أحوالنا المعاصرة ، فيقول فى مقاله ( ألقاب مملكة فى غير موضعها ) ، والذى نشرته صحيفة ( الوطن ) بتاريخ 29 أكتوبر 2013 : " فى فترات الانهيار العظيم ترتفع الألقاب فوق السحاب ، وقد سجل هذا شاعر أندلسى اسمه ابن شرف ، عاش فى فترة من أسوأ فترات الضعف والهوان فى تاريخ الأندلس ، حيث قال :
ومما يزهدنى فى أرض أندلس *** قول معتصم فيها ومعتضد
ألقاب مملكة فى غير موضعها *** كالهر يحكى انتفاخا صولة الأسد
... إن هذه الأسماء نفسها وما يرتبط عادة من متاجرة بها ، دليل قاطع على أن المجتمع شهد انهيارا يعوضه بأن يطلق على حلاق الصحة الدكتور ، وعلى الميكانيكى الباش مهندز ، وهنا تفقد الكلمات معناها ودلالاتها ، وتصبح مجاملات لتعويض الشعور بالنقص ، هذا محلل استراتيجى ، وهذا فقيه دستورى ، وهذا ناشط سياسى ، وغيرها من ألقاب دلالاتها غير واضحة إلا على سبيل المجاملة . أريد أن نعود إلى مصطلحات أقل غموضا ، وأكثر تعبيرا عن حقائق وليس أمنيات أو خدع زائفة ، مثلا : فلان الفلانى هو أستاذ فى القانون الدستورى أو الجنائى أو القانون الإدارى فى جامعة كذا ، هذا أفضل كثيرا من مجرد : فقيه دستورى ... " ، ثم يُسقط هذا الخلل السلوكى على واقع الحال الآن فيقول : " ظاهرة المنتفعين بالثورة لها ثلاثة مداخل : أولئك الذين يساوون بين الثورة والفعل الثورى ، وبين الثورة وأنفسهم ... وهناك مدخل توزيع صكوك الثورية والوطنية على أصدقائى ، ومن يتفقون معى ، وتوزيع صكوك الرجعية والفلولية والخيانة الثورية على كل من يرفضون توجهى ، وهناك مدخل شغل حيزا أكبر من الحيز الذى يليق بالإنسان ، بادعاء العلم والمعرفة والخبرة والتخصص فى أى مجال طالما فيه سبوبة ، مثلما يفعل الجزّار المصرى الذى لا يجد عملا فى دولة خليجية ، ولكنه مستعد أن يعمل كهربائيا إن دعت الحاجة ، طالما أنها سبوبة . عيوب المصريين كثيرة ... وبمرور الوقت اكتشفت أن عوارا حقيقيا قد أصابنا ، وأن المقومات الأخلاقية والفكرية للنهضة بعيدة عنا ، المسألة ليست أن نضع فيشة النهضة والحضارة فى الكوبس ، وستسير سيارة الوطن فى الاتجاه الصحيح ، الفيشة بحاجة إلى تصنيع ، والكوبس بحاجة لتطوير ، والسيارة متهالكة وبحاجة لعمرة شاملة " .
9- شعب الفهلوة والاستهبال
الفهلوة ببساطة هى الاستهبال والاستعباط ، واللف والدوران ، والكذب والتضليل ، والغش والخداع والتزييف .. ( راجع مقال : الإصلاح والتغيير .. والعشوائية ) .. أى أن الفهلوى يضحك على الناس ، ويستغل تصديقهم له ، وانخداعهم فيه ، ويتحصل منهم على ما لا يستحق .. إنه شخص يستخدم أدوات النصب والاحتيال ، للحصول على الفوائد والمنافع ، من ضحاياه الذين وقعوا فريسة لإغوائه وإفكه .. إنه شخص لا يمتلك المؤهلات والكفاءات ، فيستعيض عن تلك المؤهلات والكفاءات بالحيل والألاعيب ، ومشكلة الفهلوة فى مصر أنها لم تعد مقصورة على الفقراء والبسطاء ، ومن لا يجدون حيلة أو سبيلا ، ولكنها الآن سلوك عام شاع بين كل طوائف المجتمع ، وهو ما يجعل خطرها أشد فى ضرره ، وأعمق فى تأثيراته ، فالمدرس الذى لا يؤدى عمله فى فصله بأمانة وإخلاص فهلوى ، والطبيب الذى لا يعرف تشخيص المرض ، ومع ذلك يكتب الدواء ، فهلوى ، والمهندس الذى لا خبرة ولا دراية له ، ولا يجد حرجا فى تقديم الاستشارات ، فهلوى ، وأستاذ الجامعة الذى انقطعت صلته بالبحث ومستجدات تخصصه ، فهلوى ، وبهلوانات الإعلام من الخبراء العسكريين ، والمحللين السياسيين ، والفقهاء الدستوريين ، فهلويون ، وكل طالب ينجح بالغش والدروس الخصوصية ومذاكرة ليلة الامتحان فهلوى ، وكل من لا يتقن عمله ، ولا يطور من قدراته فهلوى ، وكل من يتحدث فى كل القضايا ، ويفتى فى كل المواضيع فهلوى .. لقد أصبحت الفهلوة صفة مصرية أصيلة ، والمأساة أننا نراها شطارة ومهارة وتفتيح مخ ، وهى كارثة ومأساة .. ألسنا من دهن الهوا دوكو ، وخرم التعريفة ؟
يدعو الدكتور معتز بالله عبد الفتاح إلى انتفاضة ضد الفهلوة ، فى مقاله ( ثورة ضد الفهلوة ) ، والمنشور بصحيفة ( الوطن ) ، بتاريخ 3 يوليو 2013 .. يقول : " أكبر مشكلة تواجه مصر الجديدة أن المقومات الأخلاقية والفكرية للنهضة ليست موجودة بالقدر الكافى ، بغض النظر عن من يحكمها ، وعلينا أن نصارح أنفسنا بعيوبنا ، على أمل أن نستطيع علاجها ... هل يمكن الزعم بأن بعضا ممن يناقشون شؤوننا العاملة حاملو علم وليسوا بعلماء ؟ ... العالم متخصص ، والعلم الحديث لا يصلح فيه من يكتب ويتحدث فى كل شئ ، وكأنه يعرف كل شئ ... العالم يدور فى علمه مع الدليل ، وليس الأيديولوجيا أو الأفكار المسبقة ... العالم متفاعل مع بيئته ، راغب فى الحوار والنقاش فى المجال العام ... أدعو أن نكوّن آراءنا بعد أن نقرأ للمتخصصين ، وهذا واجبنا ، وليكتب هؤلاء المتخصصون ، وهذا واجبهم ، ولنجعلها ثورة ضد الفهلوة ، لو أمكن . "
10- شعب ينتظر من رئيسه وحكومته كل شئ
من عجائب الشخصية المصرية أننا ننتظر من الرئيس أو من الدولة كل شئ .. ننتظر التعليم المجانى ، وننتظر الوظيفة ، وننتظر نظافة الشوارع ، وانسياب حركة المرور ، وننتظر الشقق السكنية ، والأسعار المنضبطة ، وتوافر الغذاء والدواء ، والبنية التحتية ، وغيرها من كل متطلبات الحياة ، ولم نسأل أنفسنا يوما : كيف للدولة أن تفى لمواطنيها بكل تلك الاحتياجات ، ونحن شعب لا يؤدى عملة بجد ومهارة وإتقان ، ولا يتعلم برغبة صادقة ، ولا يحترم أداب المرور ، ولا يحافظ على النظافة فى كل مكان ، ويعتدى على المرافق العامة ، ويختلس المال العام ، ويتهرب من الضرائب ، ويشتط أصحاب السلع وأصحاب الشقق فى الجشع والمغالاة فى الأسعار ؟ .. لقد تعودنا على تلك العادة الرذيلة منذ زمن الفرعون الإله ، الذى يُجرى النيل ، ويجلب الرزق ، ويمنح السعادة فى الدنيا ، والخلود فى الآخرة ، وأخذناها تكئة لعجزنا وتقصيرنا وتواكلنا وإهمالنا وتقاعسنا ، وفهمت الحكومات الفاسدة عبر العصور تلك الخاصية ، فتلاعبوا بنا ، ومنّونا الأمانى فى الإصلاح والتغيير ، وتحسين الحال ، ورفع المعاناة .. صحيح أن حكوماتنا مقصرة ، وفاسدة ، ولكنها فى نفس الوقت لا تستطيع أن تؤدى عملها على وجهه الأكمل بدون تعاون الناس .. هل نضحك على أنفسنا ؟ أم أن أنظمتنا تضحك علينا ؟ أم أننا جميعا نضحك على بعضنا البعض ؟ .. بالقطع نضحك على أنفسنا عندما نظن أن حكومتنا أو أية حكومة فى العالم قادرة على الوفاء بحاجات الناس ، بدون تعاونهم ، واحترامهم للقانون ، ووفائهم بواجباتهم ، وبالقطع أيضا فإن حكوماتنا تضحك علينا لعجزها وفسادها وعشوائيتها ، وتعِدنا وعودا لن تحترمها ، ولن تستطيع القيام بها .. إن المجتمع الرشيد هو من يقوم على شأنه حكومته وشعبه فى تعاون وتناغم وانسجام .
11- شعب قصير النفس لا يرى أبعد من قدميه
المتأمل فى الحالة المصرية يجد غيابا كاملا لخطة استراتيجية متكاملة وشاملة لكل أنشطة المجتمع ، يقوم عليها نظام وشعب صبور طويل النفس ، ولذلك نجد مثلا أننا مازلنا وبعد مضى قرنين على مشروع محمد على باشا ( 1769-1849) فى تحديث مصر ، نجتر أمنيات النهضة ، ولكننا لم ننهض فى أى مجال ، بل تعثرت كل مشاريعنا وخططنا ، بينما نهض الآخرون ، وتقدمت وارتقت كثير من المجتمعات التى ماثلتنا فى ظروفها ومشاكلها ، وبعد مضى ستين عاما على ثورة يوليو 1952 ، ما زلنا نعانى من نفس المشاكل : رغيف الخبز والبوتاجاز والغلاء والإسكان وغيرها .. التعليم فى أسوأ أحواله ، بل إنه صار أقل جودة مما كان عليه .. الأرض الزراعية فى بلد زراعى تتقلص عما كانت عليه ، ونفتقد يوميا مساحات شاسعة من أخصب أراضينا للتبوير والبناء وغيرها ، ونستورد أكثر من %60 من غذائنا .. الصناعة ما زالت غير قادرة وغير متطورة وغير مسايرة لتقنيات العصر ومعايير جودته .. آثارنا مبعثرة فى كل مكان ، ويتم تهريبها ، وتداولها فى السوق السوداء ، أو إهمالها فى المخازن ، أو عدم حسن عرضها ، رغم أننا نستحوز على 3/1 آثار العالم .. قناة السويس لم يُحسن استخدامها ، ولم نستغل مركزنا فى وسط العالم ، لتحويل ما حولها إلى مركز عالمى لحركة البضاع ، وما يرتبط بذلك من أنشطة ومشاريع .. كل مشاريعنا وخططنا لا تكتمل ، لقصر نفسنا ، وضبابية رؤيتنا ، وتبديد مواردنا ، وغياب الشفافية ، وتفشى الفساد ، وسيطرة البيروقراطية ، وضعف الدراسات الأمينة الوافية لكل ما نقوم به ، ولتأثيراته المستقبلية ، وإهمال المتابعة والتقييم والتقويم ، وتبدل التوجهات مع كل وزير أو حكومة جديدة .. هل يمكن لمجتمع يعانى شعبا وحكومة من قصر النفس أن يصنع مستقبلا ؟ لا شك أن الإجابة هى : لا ، وألف لا .
12- شعب يعيش أوهام أن مصرأم الدنيا ، وشعبها أجدع ناس ، وجيشها خير الأجناد ، وأن مؤامرات الخارج والداخل على مصر لا تنقطع
الشعوب إما أن تعيش الوهم ، أو تعيش الواقع .. الواقع الردئ يمكن تغييره بالتخطيط والعمل والإخلاص ، ولكن ماذا يصنع شعب يعيش وهماً ، ويعتقد فى نفسه خصوصية ليست له ؟ .. مشكلة الشعب المصرى أنه على قناعة بتميزه وتفرده .. فمصر عنده أُمُ الدنيا ، وأهلها أجدع ناس ، وجيشها خير الأجناد ، وهى كنانة الله فى أرضه ، والحقيقة أن مصر دولة مثل غيرها من الدول ، وشعبها مثل غيره من الشعوب ، وجيشها لا يختلف عن غيره من الجيوش ، ولم يرتب الله تعالى لها مكانة وتميزا وخصوصية على غيرها ، بل يسرى عليها ما يسرى على غيرها من السنن الكونية ..( راجع مقال : الإصلاح والتغيير .. ومعضلة الدولة ) .. ولذلك نهضت كثير من الشعوب بالعلم والعمل والعدل ، وتخلفنا بالجهل والكسل وشيوع المظالم ، وارتقت شعوب بطبائعها وسلوكياتها ومعاملاتها ، وانحدرنا فى طبائعنا وسلوكياتنا ومعاملاتنا ، وانتصرت جيوش فى معاركها بالتدريب والتسليح والإعداد ، وانهزمنا حينما انصرفنا عن التدريب والتسليح والإعداد ، ووليّنا قيادتنا لمن لا يعرفون غير الجعجعات الفارغة ، والسلوكيات المنحرفة .. إن تاريخنا الموغل فى القدم يعنى الأصالة والجذور العميقة ، ولكن تلك الأصالة ، وتلك الجذور العميقة ، لا قيمة لها إلا إذا امتدت منها نبتة طرية ندية عفية ، تعطى ثمارها فى عالم اليوم .
إننا اليوم نشبه العراق واليونان .. كلتيهما امتلكتا حضارة قديمة ، وسبقاً فى كثير من مجالات العلوم والمعارف ، ولكنهما الآن كشجرة يابسة لا أوراق فيها ، ولا ثمار .. كتب د. معتز بالله عبد الفتاح فى مقال بعنوان ( مصر مريضة بمرض أهلها ) ، نشرته صحيفة ( الوطن ) بتاريخ 3 أغسطس 2013 : " من نحو 2500 سنة أبهرت الحضارة اليونانية القديمة العالم لمدة 200 سنة ، بمجموعة من أفضل العقول الفلسفية والرياضية والعلمية والفنية والادبية ، ثم انتهت ، ولم تقدم اليونان لبيئتها الإقليمية أو العالمية أى إنجاز كبير يذكر لها منذ ذلك التاريخ ، وكأنها كانت دفقة حضارية أخرجت فيها كل ما عندها وانتهت ، هل مصر هى يونان هذه المنطقة من العالم ؟ ماض عظيم ، ومستقبل مشكوك فيه . "
أيضا من الأوهام التى تعشش فى العقلية المصرية ، أننا أكثر شعوب الأرض تدينا ، وأننا بلد الأزهر ، وأن القاهرة مدينة المآذن ، والحقيقة أننا شعب لا يعرف من فضائل الإسلام شيئا ، وكل همنا القشور والمظاهر السطحية ، ولو كنا نعرف إسلامنا حقا لكنا أشد الشعوب عملاً وجداً واجتهاداً وإتقاناً وعدلاً وتآلفاً وتماسكاً ، وكلها فضائل غائبة عن الشخصية المصرية ، كما أن الأزهر الذى نتباهى به لم يقدم للإسلام والمسلمين نفعا أو فائدة منذ أن أصبح مؤسسة من مؤسسات الدولة الرسمية ، يأتمر وينتهى بأوامر ونواهى أنظمتها الفاسدة ، أما مدينة الألف مئذنة فلا ننسى أن الدعارة كانت تمارس رسميا فى جنباتها ، وحتى بعد إبطال ذلك ، ما زالت الخمارات وصالات القمار والرقص منتشرة فى أرجائها ، وما زال المصريون يتشاتمون ويتباغضون ، ويسب بعضهم الدين ، ويبدد آخرون وقتهم فى زيارات الأضرحة والقبور ، أو زيارات أصحاب السحر والدجل والشعوذة والأعمال السفلية .
نشرت مجلة Foreign Policy الأمريكية مقالا شديد الصراحة عن أحوال بلدان منطقة الشرق الأوسط ، عنوانه ' What's Really Wrong with the Middle East ? ' ( ما هى مشكلة الشرق الأوسط الحقيقية ؟ ) ، كتبه Aaron David Miller بتاريخ 25 يونيو 2013 ، وفيه يعدد ما يراه المشاكل الحقيقية فى المنطقة ، ويعنينى فى هذا السياق مشكلتان :
أولهما : إحساس التميز على باقى العالم ، وهو ما أسميته فى عنوان هذه الفقرة أوهامَ أننا أصل العالم ، وأجدع من فيه ، وما يسميه الكاتب Narcissism أى النرجسية وإحساس الخيلاء والزهو ، وهو أيضا ما يتندر منه لأننا لم نعد مركز العالم ، بعد أن انتقلت الريادة والانتاج والاختراع والتطوير وتنمية الإنسان إلى آسيا وأوروبا وأمريكا وحتى أفريقيا ، وبقينا نحن فى المؤخرة "I know it comes as a shocker , but the Middle East isn't the center of the world any more . Today ,Asia , Europe , America , and even Africa are where free market economies , pluralism , and human enterprise are innovating , inventing , producing and creating stuff- leaving the Middle East in the rear-view mirror " ثم يتعجب من العرب والإسرائيليين الذين يظنون أن العالم يجلس متحفزا ، أربعا وعشرين ساعة فى اليوم ، وسبعة أيام فى الأسبوع منتظرا ماذا سيحدث فى الشرق الأوسط ، وأن اللبنانيين يظنون أن ما يحدث فى بيروت ، يشغل بال الساسة الأمريكيين صباحا ومساء "Many Arabs and too many Israelis still believe that the world sits on the edge of its collective seat 24/7 wondering what's going to happen next in their region … Meanwhile , talk to any Lebanese and you 'd think what happen in Beirut is on the minds of the U.S. policymakers from morning till night " ثم يذكّر أهل تلك المنطقة أن زمن الفروسية قد انتهى ، وأن أحدا لا يعبأ بهم ، ويوم أن يدركوا تلك الحقيقة سيفعلون بأنفسهم لأنفسهم ، غير أنه يشك فى ذلك "Here's a news flash : the cavalry isn't coming . Maybe if this sinks in , the locals will do more for themselves . But I doubt it "
ثانيتهما : الاعتقاد فى أن العالم قد تفرغ للتآمر عليهم ، وهو ما يجده الكاتب سخيفا ، رغم التأثير السلبى للخارج على مجتمعاتهم ، والذى لا يمكن إنكاره ، غير أن الحجج والمعاذير التى يسوّقونها لسوء أحوالهم ، ينبغى أن توجه أيضا لهم ، وما قرصنة انتفاضاتهم الأخيرة من قوى داخل مجتمعاتهم ، مثل من يسميهم الكاتب الأصوليين الإسلاميين ، والقوى العلمانية والليبرالية الفاشلة ، وبقايا النظام القديم ، إلا دليل على ذلك "Too many people in the Middle East refuse to look in the mirror . They'd rather come up with excuses and justifications as to why others , particularly forces outside their neighborhood , are responsible for their misfortunes … outsiders still influence the Middle East in very negative ways . But that's no excuse for believing its people can't shape their own destiny "
الغريب أن أكاديميا ومفكرا مثل د. جلال أمين ، على الجانب الآخر ، يردد حكاية المؤامرة ، فيقول فى مقاله ( من الذى يقتل المصريين ؟ ، والمنشور فى صحيفة ( الشروق ) بتاريخ 24 أغسطس 2013 : " مهما كانت أخطاؤنا نحن ، وهى جسيمة ، فإن الأسباب الحقيقية للمحنة المصرية الحالية ، كما كان الحال مع محن سابقة كثيرة ، ليست أسبابا داخلية "
13- شعب شديد القسوة على بعضه البعض
الشعوب التى تجرب ظلم الأنظمة الفاسدة ، وتعانى سوء الحال ، وقسوة المعيشة ، وقلة الحيلة ، وصعوبة الوفاء بمتطلبات الحياة الأساسية ، ينبغى أن تكون أشدها حساسية للظلم والبغى والعدوان ، وأشدها كراهية للظالمين والباغين والمعتدين ، ولكن العجيب أن الشعب المصرى أطلق فى نفسه رغبة الانتقام من ظالميه ، بالتظالم بين بعضه البعض ، والقسوة على بعضه البعض ، والجور والبغى والعدوان على بعضه البعض ، وأصبح كل مصرى الآن يرى فى غيره فريسه يجب التهامها ، فى صورة رشاوى ، أو دروس خصوصية ، أو سرقة وغصب ، أو غيرها من صور التحايل والاستغلال ، ولم يتوقف الأمر عند ذلك ، وإنما تجاوزه إلى معاداة الناجحين والكيد لهم ، والوقوف حجر عثرة فى طريقهم ، ثم أتت انتفاضة يناير 2011 لتكشف جانبا قبيحا من عنف الشخصية المصرية ، ليصل الأمر إلى مدى غير مسبوق فى التاريخ المصرى قديمه وحديثه ، بالمجازر التى ارتكبها انقلاب الثالث من يوليو 2013 .. قسوة ودموية ، ورغبة مرضية فى استئصال الخصوم ، تجاوزت قادة الانقلاب إلى قطاعات أخرى عديدة من الشعب ، وخاصة النخبة والإعلام والصحافة ، ومن تأثر بأكاذيبهم وتضليلهم من عموم المصريين .
يتحدث الأستاذ فهمى هويدى فى مقاله بعنوان ( الوحش الذى استيقظ فينا ) ، والذى نشرته صحيفة ( الشروق ) بتاريخ 27 أغسطس 2013 ، عن ذلك الهوس الدموى الذى أصابنا : " الوحش الذى استيقظ فينا كان أداؤه دمويا خلال شهر يوليو ، وتمثل فى سلسلة من المجازر ، التى كانت حصيلتها ثلاثة آلاف قتيل ، وعشرة آلاف مصاب ، منهم سبعة آلاف إصاباتهم خطيرة ، وبعضها على وشك الموت ، وهذه هى الأرقام التى سجلتها نقابة الأطباء ، واعتبرتها حدودا دنيا مرشحة للزيادة ، لأن هناك قتلى ومصابين لم يتم التعرف على هوياتهم ، ولم تسجل بطاقاتهم ، وحسبما فهمت فهناك ضغوط أمنية على وزارة الصحة والمستشفيات لحجب المعلومات الخاصة بالقتلى والمصابين . هذا الملف الدموى يخضع الآن لعملية توثيق ، قيل لى إنه حافل بالمعلومات الخطيرة ، والمفاجآت الصادمة ، التى تحتاج بدورها إلى تحقيق نزيه ، يعرّف الرأى العام بالمدى الّى وصل إليه الجنون ، وعبّر عنه الوحش فى تلك الفترة " ، وفى مقال آخر للأستاذ فهمى هويدى بعنوان ( بذور العنف وحصاده ) ، نشرته صحيفة ( الشروق ) فى 7 سبتمبر 2013 ، يقول : " هذه الحلقات المفزعة من العنف ، التى خلّفت خمسة آلاف شهيد ، وعشرين ألف مصاب ، حسب بيانات تحالف الدفاع عن الشرعية ، نصف ذلك العدد يظل مخيفا ومهولا " . ومما يجدر ذكره هنا أنه وطبقا لطريقة التكتم ، وإخفاء الحقائق ، ووانعدام الشفافية فى كل شئ ، وهى أساليب قبيحة مارستها أنظمة الحكم الفاسدة المستبدة عبر العقود الماضية ، ما زال الإنسان المصرى لا يعرف أرقام الضحايا بدقة وتحديد ، وما زال المسؤولون عن تلك الأحداث غير محددين ، وما زالت فضيلة المصارحة والمكاشفة غائبة ، وما زال تشكيل لجان مستقلة لتقصى الحقائق فى مثل تلك الأحداث الجسام حلما يراودنا فى مستقبل الأيام .
تناولت الصحافة العالمية الحالة الدموية المصرية الجديدة بأوصافها الحقيقية بدون تجمل أومجاملة ، وبدون تبرير للعنف اوشرعنته كما فعل إعلامنا الفاشل ، وصحافتنا الضالة .. يصف الصحافى البريطانى والخبير بأحوالنا المصرية والعربية Robert Fisk [1] ما حدث بأنه أكبر عار فى التاريخ المصرى .. البوليس يطلق نيرانه على الحشود .. قوات الإسعاف تتحدث عن استخدام الطلقات التى تنفجر داخل الجسد : "It was a disgrace , most shameful chapter in Egyptian history .The police shot down into the crowds… The paramedics talked of exploding bullets" الشرطة تقوم بالمهمة ، والجيش يراقب .. الشرطة حصلت على كل التصريحات التى تريد ، وتمتلك الأسلحة التى تريد .. الأمر : اقتل ، وهو ما فعلوه ، رغم أن وظيفتهم حماية أرواح الناس .. طرأت بخاطرى كلمة العار أو العيب ، ونحن نشاهد تلك المناظر المروعة .. وبينما تنفذ الشرطة مجازرها ، يقوم البلطجية المقنّعون من المدمنين ورجال الشرطة السابقين بحماية قوات الأمن .. هذا هو حال مصر بعد عامين ونصف من انتفاضتها : حمامات دم يومية " The cops had all the permission they need…And all the ammunition… they had been told to kill , and kill they did…The word shame –aib in Arabic – came to mind as we watched these awful scenes….the police officers whose duty is to safeguard the lives of all Egyptians shot into thousands of their own citizens with the simple aim of killing them. And as they did so , the Beltagi, also in hoods , the drug-addicts and ex-cops who now form the praetorian guard of the security forces , turned up with rifles beside the police station… And this is Egypt , two and a half years after the revolution … bloodbaths are now a daily occurrence"
يتناول Robert Fisk [ 2] جانبا آخر من الصورة الهزلية فى مصر ، والتى حوّلت مواطنين مصريين عاديين إلى إرهابيين ، ويصف ما حدث بأنه شئ يثير التقزز والعار والغضب .. عندما يُقتل أكثر من ألف من مؤيدى الإخوان فى مجزرة ، ويكون رد الحكومة أن مصر تتعرض لهجمة إرهابية شرسة ، فإن اللغة وحدها كافية للدلالة على الحقيقة .. نفس كلمات جورج بوش وتونى بلير .. عندما تسمع ذلك لا بد أن تعتقد أن معظم القتلى خلال الأسابيع الست الماضية من قوات الجيش والشرطة ، ولكن الأمر عكس ذلك ، فمعظمهم متظاهرين غير مسلحين "Disgust, shame , outrage . All these words apply to the disgrace of Egypt these past six weeks … well over 1,000 Muslim Brotherhood sympathizers slaughtered by the security police – and what were we told by the authorities yesterday ? That Egypt was subject to " a malicious terrorist plot " . The language speaks for itself… the government acquired this use of the terrorist word from Bush and Blair … You would think , on hearing this, that most of the dead these past six weeks were soldiers and police men, whereas in fact most were unarmed demonstrators " ثم يتساؤل ساخرا : من يستحق اللوم ؟ ثم يجيب ساخرا : أوباما ، وبالطبع الإعلام الغربى ، وأيضا القنوات الكافرة بما فيها الجزيرة ، ثم يقرر أن وجود حفنة من المسلحين الإخوان لا يبرر تسمية عشرات الألوف من الناس بالإرهابيين ، وأن البابا تواضروس وشيخ الأزهر والسلفيين اللذين أيدوا الانقلاب ربما يشعرون الآن بالخجل ، ( ويبدو أن الكاتب كان شديد التأدب فى تلك النقطة ، فمسؤولونا ، ومشايخ السلطان وقساوسته لا يشعرون فى مصر بالخجل أو الندم أبدا )
"And who is to blame ? Obama, of course ,the foreign media , the infidel channels including Al-Jazeera… A handful of gunmen in the Muslim Brotherhood crowds does not justify the Egyptian press calling tens of thousands of people terrorists … Towadros might perhaps now regret having his photo taken alongside the coup supporters . But the sheikh of al- Azhar was in the same picture- and so were the Salafists "
تصف الـ The Economist فى افتتاحيتها بتاريخ 17 أغسطس 2013 ، ما حدث فى مصر بعد الانقلاب بأنه شئ مدهش فى وحشيته .. ومثير للعجب فى قسوته " surprisingly savage … stunningly brutal" ، وأنه تطور سئ ، ومؤشر لما هو أسوأ فى مستقبل الأيام "A bloody confrontation on the streets of Cairo is a damaging development , and could be a precursor of worse to come "
وتصف الـ The Guardian فى افتتاحيتها بتاريخ 17 أغسطس ، ما حدث بأنه مجازر مرعبة ، أعقبها قانون الطوارئ المصرى سئ السمعة ، حيث لا حقوق لأحد "horrific massacres followed by the re-imposition of Egypt's notorious emergency law allowing military detention and removing due judicial process"
، ثم تنصح المصريين بضرورة إبعاد العسكر عن السياسة ، وانسحابهم من المسرح السياسى ، وإلا ستزداد مشاكلهم عمقا وتعقيدا "Indeed , the message that needs to be delivered urgently is that , without a rapid demilitarization of Egypt's politics and withdrawal of the army from the political stage , Egypt's crisis is only likely to deepen "
وفى مقال آخر [3 ] لنفس الصحيفة ، يقول الكاتب : إن حركة الإخوان ليست الحزب النازى ، وكونها تمثل اليمين الدينى ذى السمعة السيئة ، إلا أنها لم تلغ الديموقراطية فى مصر ، ولم تجبر معارضيها على العمل تحت الأرض ، ولذلك فالاعتماد على العسكر للإطاحة بها عبط فى أقصى درجاته ، فالعسكر الذين قمعوا معارضيهم منذ 1952 ، أضافوا لجرائمهم فى القتل جريمة السرقة ، حيث أسسوا لأنفسهم كيانا اقتصاديا تسبب فى إفقار المصريين بالاستحواذ والاحتكار للمشاريع الاقتصادية مما قضى على المنافسة فى مجالات الاستثمار المختلفة " the Brotherhood is still not the Nazi party . It may be a foul religious right movement , but it did not abolish democracy or drive the opposition underground . And to rely on the military to remove it is naïve in the extreme. The Egyptian army has suppressed dissent since 1952 . To add robbery to murder , it has built a military-industrial complex that keeps Egyptian's poor by preventing new businesses competing with the elite monopolies it controls"
قسوة الشرطة المصرية المفرطة ، وتجاوزها كل الحرمات والأعراف والقوانين ، وفسادها وإفسادها وحمايتها للفساد ، أمور معروفة فى تاريخنا المعاصر ، كما أن انحراف المؤسسة العسكرية ، وإفسادها للسياسة ، وتجاوزاتها الخطيرة ، وتحولها للاقتصاد حيث تمتلك ما يصل إلى %40 من الاقتصاد المصرى ( طبقا لصحيفة Washington Post ) أمور أيضا معروفة ، والجديد على كل ذلك هو انضمام الشعب المصرى لمنظومة الفساد والإفساد والقسوة والغلظة والتجاوزات التى طالت أيضا كل الحرمات والأعراف والقوانين .. كتب د. معتز بالله عبد الفتاح فى مقاله ( مصر مريضة بمرض أهلها ) السابق الإشارة إليه : " الغريب أن يجتهد أبناء الدولة نفسها فى أن يكونوا جزءا من مؤامرة الآخرين ضد بلدهم .. الغريب أننا نفعل كل ما يضعفنا ، وكأننا نتآمر على أنفسنا ، أنعم الله علينا بحريتنا ، وها نحن نحيلها فوضى ، أنعم الله علينا بقوتنا ، وها نحن نحيلها ضعفا ، أنعم الله علينا بحقنا فى تقرير مصيرنا ، وها نحن يخون بعضنا بعضا ، ويقامر الجميع بمستقبل الوطن ، أودع الله بلدنا أمانة فى أعناقنا ، وها نحن نتعاون فى خيانتها ، بدلاً أن تكون أولوياتنا النهضة والتقدم والازدهار ، أنفقنا الغالى والنفيس كى نسارع فى الصراع ، ونتباطأ فى الإنجاز ، بدلاً من أن نجتهد فى بناء وطننا ، يجتهد بعضنا فى تدمير ما بقى من قدرتنا على بنائه ، عدونا كان ينبغى أن يكون الجهل والمرض والفقر والانقسام ، لكننا جعلنا بعضنا عدوا لبعض ... إننا ماهرون فى أن نفعل ما يضر بأنفسنا ... هل تعلمون من يتآمر على مصر ؟ ربما لا نحتاج لأن ننظر شرقا أو غربا أو شمالا أو جنوبا داخل منطقة الشرق الأوسط أو خارجها ، ربما نحتاج فقط لأن ينظر بعضنا فى المرآة لنعرف من يحرص على أن تصبح وتظل مصر رجل الشرق المريض .. نحن أعداء أنفسنا "
[1] Fisk, Robert. The Police Keep Firing , the Bodies Pile up . In Cairo , Bloodbaths are now a Daily Occurrence . The Independent , Aug.,16,2013
[2] Fisk , Robert . How some ordinary Egyptians became malicious terrorists . The Independent , Aug.,18,2013
[3] Cohen, Nick. Egypt : We may Despite the Muslim Brotherhood , but a Coup is a Coup . The Guardian , Aug., 17,2013
14- شعب لا يحب النظافة والرقة والذوق والجمال
النظافة ضرورة دينية واجتماعية وصحية ، والجمال والتناغم والتناسق والجاذبية فى كل شئ علامات حضارية تبعث على الراحة النفسية ، وترقى بأحاسيس الإنسان ومشاعره .. المتأمل فى أحوال مجتمعنا يجد القذارة فى كل شئ ، وفى كل مكان ، ويلحظ غياب الجمال والتناغم والتناسق والجاذبية فى كل شئ ، ويفجع فى شيوع البذاءة والسوقية والابتذال ، ويفزع من الضجة والجلبة والضوضاء والصياح .. أين الشوارع الواسعة النظيفة ؟ وأين الحدائق والمساحات الخضراء؟ وأين تخطيط المدن الذى لا يتغافل عن كل صور الجمال والتناغم والتناسق والجاذبية ؟ وأين المناطق السكنية التى تتباعد المسافات بين بيوتها ، او عماراتها السكنية ، وتنتشر بينها المتنزهات بأزهارها وأشجارها ، وملاعب الأطفال بأدواتها التى تدخل السعادة على نفوسهم ، وتفيض عليهم وعلى أسرهم بمشاعر الراحة والاطمئنان ؟
ألا نحس بالخجل والتقزز من القمامة الملقاة فى كل مكان ؟ ألا يجد مخططو المدن ، والمحليات ، والناسُ أنفسُهم ، شعورَ الاستياء من التنافر والعشوائية فى كل مكان ، والضيق والتبرم من الحارات والشوارع وعلى جانبيها بيوت متلاصقة قبيحة فى أشكالها وطرزها ومعمارها ، وتكاد شرفات جانب أن تلمس شرفات الجانب الآخر ، مما يذهب الخصوصية ، وينتهك أستار البيوت وحرماتها ؟ وحتى غالبية المدن والأحياء الجديدة ، ما زالت البيوت متلاصقة ، والشوارع ضيقة ، والمساحات الخضراء غائبة .. لقد حولنا مدننا إلى عشوائيات كبيرة ، وضيّقنا على أنفسنا ، وحرمناها من متعة الجمال والسعة ، فأفسدنا أذواقنا ، وأرهقنا مشاعرنا بمزيد من الضيق والزحام والضجيج ، فمتى ندرك أهمية الجمال ، وضرورة النظافة ، وفائدة الهدوء ، وحتمية الرقة والذوق والكياسة والاحترام ، وانعكاسات كل ذلك الإيجابية على صحتنا ، ومشاعرنا وأذواقنا ، وعملنا وإنتاجنا ، وراحتنا وراحة أسرنا ، والتنشئة الصحية لأولادنا ؟
15- شعب تعايش مع الفساد حتى أصبح جزءا من منظومته
كل تلك السلبيات التى ذكرتها عن الشخصية المصرية ، يمكن تغييرها ، والتخلص منها ، وبناء إنسان جديد فى عاداته وسلوكياته ، ولكن المشكلة الكبرى أن الشعب أصبح جزءا من منظومة فساد كبيرة طالت كل شئ فى المجتمع ، أى أننا لم نرفض الفساد والعوج والانحراف والبعد عن كل فكر وسلوك سوى ، حتى مع إقرارنا بوجودها وسيطرتها على معايشنا وحياتنا وأفكارنا وتصرفاتنا وقناعاتنا ، بل تقبلنا كل تلك المعايب والنقائص ، حتى صارت هى المقبولة والمتعارف عليها ، وعلى الجانب اللآخر صارت الفضائل البشرية غريبة وشاذة ومرفوضة ، أو على الأقل غير مرحب بها ، ويمثل أصحابها الإفراط والتطرف والشرود عن القاعدة .. عندما يصل مجتمع ما لتلك المرحلة ، يكون قد انحدر إلى قاع سحيق ، ويكون مستقبله مشكوكا فيه ، ويكون إصلاحه أيضا عملا شاقا ، ويحتاج إلى جهد وصبر ومثابرة ، وإلى مرحلة زمنية قد تطول إلى سنوات أو عقود .. إن تغيير الثقافة والمفاهيم هو المهمة الكبرى التى تنتظر المصريين إن أرادوا النهضة والحضارة والتقدم .. فهل نريد النهضة والحضارة والتقدم ؟ هل نريد المستقبل أم أننا تنازلنا عنه كما تنازلنا عن كل ثوابتنا وأصولنا والمقومات السوية فى شخصيتنا ؟
ثانيا : ماذا حدث لنا ؟
ما ذكرته فى الجزء الأول من هذا المقال عبارة عن ملاحظات ، وتعديد للعيوب الكبرى فى الشخصية المصرية ، وقد قام البعض من المهتمين بمثل ذلك بدرجات متفاوتة ، ونظر كل واحد منهم لجانب أو زاوية أو مدخل ، محاولين رصد ما حدث لنا ، وما طرأ على شعبنا ، وما استجد على مجتمعنا ، غير أن تعديد العيوب وإن كان مرحلة هامة وأولية فى تحديد المشكلة ، إلا أنه ليس كافيا بذاته ، ويلزمه تحليل وتتبع للأسباب والتحولات التى شوّهت الشخصية المصرية ، وحرفتها عن صفاتها الفطرية ، وطبائعها السوية .. فماذا حقاً حدث لنا ؟
1- المواطن الممأطف .. أو الجهل
استشهدت باقتباسات عديدة من كتابات أستاذ السياسة د. معتز بالله عبد الفتاح ، وذلك لكونه أكاديميا انفتح على الثقافة الغربية ، وخبر المجتمع الغربى ، ولكنه بقى مهموما بالشأن المصرى ، وهو واحد من قليلين جدا فى أيامنا الحالية ممن يتناولون قضايا الشخصية المصرية .. كتب مقالاً بعنوان ( المواطن الممأطف ) ، نشرته صحيفة ( الوطن ) بتاريخ 15 يونيو 2013 ، وفيه يتناول أمراض الشخصية المصرية ، يقول : " أمراضنا عديدة ومتنوعة ، واجتماعها فى عدد كبير منا يجعل المشكلة معضلة ، وقيمة المشكلات فى أن نعرفها وأن نعالجها ، نحن نعانى من أمراض ذهنية معقدة : المرض الأول : هو أن بعضنا يفترض فى نفسه أنه " المواطن الملاك " الذى لا يخطئ ، وبالتالى ( مينفعش ) يغير رأيه فى أى حاجة ، (هو فيه ملاك ممكن يطلع غلط أو يغير رأيه ؟ ) ... الحقيقة أننا فرادى وجماعات لسنا ملائكة ، قل لى عن مصرى واحد تعرفه لم يغير رأيه فى قضايا متنوعة 20 مرة على الأقل ... رحم الله الإمام الشافعى الذى قال : " قولى صواب يحتمل الخطأ ، وقول غيرى خطأ يحتمل الصواب . "
كلام الكاتب هذا يثير فى ذهن القارئ الأسئلة التالية : لماذا يعتقد البعض أنهم ملائكة لا يخطؤون ؟ ولماذا نغير رأينا فى كل شئ ؟ وما هو العيب أصلاً فى تغيير الرأى ؟ والإجابة على الأسئلة الثلاثة إجابة واحدة ، وهى أننا لا نحسن التفكير ، أو بتوصيف أدق لا نمتلك القدرة على التفكير المنطقى والموضوعى ، فمن يظن الملائكية فى نفسه جاهل لا يفكر ، ومن يغير رأيه مع كل موقف أيضا جاهل لا يفكر فى أى موقف ، ومن يرى عيبا فى تغيير الرأى جاهل لا يفكر أيضا .. هذه المشكلة تعرض لها د. معتز بالله فى مقال آخر فى صحيفة ( الوطن ) بتاريخ 4 مايو 2013 ، بعنوان ( الشعب لدع ) : " أعتقد أن الشعب المصرى الشقيق " لدع " أو أبلاتينه " لدع " ... الشعب فقد القدرة على التفكير المنضبط الذى يقول عنه أهل المنطق " التفكير الموضوعى " ، بعبارة أخرى القدرة على التمييز بين المعلومات والأمنيات والمخاوف والآراء الشخصية ... فى حالة مصر الآن ، أنصاف مواقف ، من أنصاف سياسيين ومثقفين ، " أبلاتينهم لدع " ، إما يبحثون عن مصالحهم الشخصية ، أو وقعوا أسرى للمكايدة السياسية ، يضعون العصا فى العجلة لبعضهم البعض ، ومش مهم البلد تخرب ، ويتبنون استراتيجية " فيها أو أخفيها " ... نفسى تقرأون قليلا عن عن بعض ألد أعدائنا ، وتعرفون معنى أن تتجاوز النخبة خلافاتها الشخصية والحزبية والأيديولوجية من اجل الهدف الاسمى : مصر ... كتب بيريز رئيس إسرائيل الحالى عن بن جوريون أول رئيس وزراء لإسرائيل : حين يدخل عليك بن جوريون الحجرة ، فكن متأكدا من ثلاثة أشياء : أولا : لن يطلب شيئا شخصيا ، ثانيا : لن ينتقدك أو يشوه صورتك ، ثالثا : لديه فكرة جديدة لخدمة دولة إسرائيل . " ، ثم تعرض مرة أخرى لنفس المشكلة فى 27 أغسطس 2013 ، فى مقال نشرته ( الوطن ) ، بعنوان ( مجتمع منفعل بلا معرفة ) : " هذا حال أغلب المصريين ، يحكون لك عن مشاعرهم حبا أو كراهية ، عن شئ أو شخص أو حدث ، قبل أن يصفوا لك بموضوعية أصل الحكاية ، فالرأى عندهم سابق على المعلومة ... إننا مجتمع منفعل أكثر مما ينبغى ، أى مجتمع يهتم بسؤالك ما رأيك فى كذا ، قبل أن نعرف تحديدا ما هو هذا الـ " كذا " الذى نحن بصدد نقاشه . "
ويمضى د. معتز بالله فى الحديث عن أمراض الشخصية المصرية : " المرض الثانى : هو المرض الذى يجسده " المواطن المقص " الذى ينظر للمشكلة على أنها كبيرة ، ويقوم بقصقصتها حتى تصبح على مقاس قدراته ... المواطن المقص يحب المواقف البسيطة حتى ولو كانت غلط ، لأن المواقف المركبة صعبة عليه حتى ولو كانت هى الصح ، كثيرون منا يسمع كلمة أو ربع جملة ، ويبنى عليها مواقف ، ويفضل يدافع عنها ، مع أن القضية أعقد من هذا كثيرا، هذا يجعل قوى التطرف والتشدد والاستقطاب والخوف المرضى والشك غير المنطقى تخلينا نولع فى البلد ، قال أرسطو :" الفضيلة وسط بين رذيلتين ، ولكن العقول السطحية لا ترى إلا الرذيلتين ، ولا ترى ما بينهما " .
المرض الثالث : هو " المواطن الأوفر " وهذا هو مقام من إذا خاصم فجر ، وهؤلاء لا يفرقون بين الاختلاف والكراهية ، والاتفاق والحب ، وهذه هى المراهقة السياسية . فى عالم السياسة ، وكذلك فى عالم البيزنس والمصالح ، العاقل لا يحب ولا يكره ، العاقل يتفق ويختلف ، يعنى مثلا ممكن نتفق مع شخص فى 5 قضايا ونختلف معه فى 3 قضايا .
المرض الرابع : هو الذى يجسده " المواطن الطاحونة " أى الذى يناضل من غير قضية ... هدوء الأوضاع ليس فى مصلحته .
المرض الخامس : هو نمط " المواطن الفهامة الفتاى " ، أى بطل الجمهورية فى كل حاجة ، المصرى سواء بحسن نية أو بسوء نية ، يحب أن يفتى ، لو سألنا نفسنا عن أى حاجة غالبا هنلاقى نفسنا بنتكلم بجرأة شديدة ، وكأن كل واحد فينا تخرج من كل الكليات ، يعنى الإنسان المصرى بيتولد مهندس ودكتور وعالم فلك وطبيب أطفال وميكانيكى ومحلل رياضى ومحلل سياسى قديم ، ومدير فرع بنك أرارى ، وناشط سياسى ، وخبير استراتيجى ، طلع بالفطرة كده لمجرد كونه مصريا ، على رأى أفلاطون : " الحكماء يتكلمون لأن لديهمم شيئا يقولونه ، أما الحمقى فيتكلمون لشعورهم أن عليهم أن يقولوا شيئا . " ... ضع الحرف الأول من كل مرض ، تجدنا فى النهاية نتحدث عن " المواطن الممأطف " " .
لو تأملنا فى تشخيص د. معتز بالله ، نجد ما أسمّيه " المجتمع الذى جَهِل حتى تجاهل " ، أى أن جهله جعله يتجاهل الضوابط المنظمة لحركة الحياة والمجتمع ، فأنتج ثقافة فاسدة ، أفسدت عليه كل شئ ، أى أن الجهل هو العامل المشترك فى أمراض الشخصية المصرية ، فالمواطن الملاك دفعه جهله إلى الاعتقاد بكماله ، والمواطن المقص الذى يختزل الأمور ، لو كان عالما وفاهما ، لعرف أن لكل قضية أبعادها وتعقيداتها ، والمواطن الذى إذا خاصم فجر ، لو أدرك أن الاختلاف سنة بشرية وضرورية فى نفس الوقت ، لما خاصم أصلا ، ولما فجر ، والمواطن الطاحونة الذى يناضل بلا قضية ، ما كان له أن يفعل ذلك لو علم أنه يضحك على نفسه ، ويضحك عليه الآخرون ، والمواطن الفهامة الفتاى لو فهم أن العلم يستوجب الدقة والأمانة لما تحدث فيما لا يتقن ، ولما أفتى فيما يجهل .. إذن نستطيع القول : إن جهل الأميين ، وقلة العلم والمعرفة والثقافة بين عوام الناس ، وجهل المثقفين بالواقع والحياة ، وانشغالهم بالسفسطة والتنظير .. كل تلك الصور من الجهل أسهمت فى تشويه الشخصية المصرية فى فكرها وسلوكياتها ، وبالقطع فالدولة هى المسؤولة عن الأمية ، وهى المسؤولة عن الضحالة والسطحية وتدنى مستوى التعليم ، وعقم مناهجه ، وعدم واقعية أهدافه .. يشترك فى المسؤولية الإعلام ومؤسسات الإسلام الرسمية ، والدولة أيضا مسؤولة عن فسادهما عندما حولتهما لتملق الحاكم ومراضاته ، ولتضليل الشعب والتدليس عليه والتلاعب بعقله ومشاعره .. هل نستطيع أن نقول إذن أنه وإن كان الجهل سببا مباشرا فى مرض الشخصية المصرية ، فإن الدولة هى السبب وراء السبب ، لتضمن سيطرتها على الشعب ، وإرهاقه بالمشاكل والمصاعب ، حتى لا تترك له طاقة أو وقتا ليبحث عن حقوقه الضائعة ، أو يسائل حكومته عن تقصيرها وفسادها .
2- دلالات من الأدب الشعبى .. أو الفهلوة والاستهبال والسلبية أسباب ونتائج
فى مقال بعنوان ( الآفات الثلاث فى الشخصية المصرية ) ، كتبه د. مصطفى رجب ، ونشرته صحيفة ( المصريون ) بتاريخ 7 أكتوبر 2011 ، يذكر الكاتب أن : " ثلاث آفات تطل برأسها فى تحليل الشخصية المصرية ، ويعكسها أدبنا الشعبى بوضوح ، وهى : 1- طلب البقشيش من غير مقابل من عمل ، وبأسماء مختلفة : دخان ، شاى ، حلاوة ، وغيرها. 2- كلمة ( معلهش ). 3- كلمة ( وأنا مالى ) .
هذه الآفات التى يتكلم عنها الكاتب مظاهر لخلل أكبر : الفهلوة التى تجعل صاحبها يتحايل من أجل الرزق والمكسب ( البقشيش ) ، والسلبية التى تجعله يتحاشى تحمل المسؤولية ( معلهش ، وأنا مالى ) ، والفهلوة بدورها انعكاس لغياب القانون الذى ينظم علاقة الناس ، ويجرّم النصب والاحتيال على الغير ، ولها أيضا بعدٌ ثقافى ، لأن من يُعلى قيمة العمل والعلم والاجتهاد سيدرك أن الاستهبال والتحايل سلوكيات مشينة تسئ إلى صاحبها ، وتلحق الضرر بالآخرين ، بينما السلبية أيضا انعكاس لبعد ثقافى ، فمن تربى على أن الإنسان مسؤول عن أقواله وأفعاله ، ومسؤول عن نفسه وغيره ، ومسؤول عن المال والمرافق العامة ، أى مسؤول عن مجتمعه .. من تربى على ذلك لن يقبل بالسلبية ، ولن يقبل بضرر نفسه أو غيره أو مجتمعه .
3- رؤية الأستاذ فهمى هويدى .. أو الانفراط والتفكك
الأستاذ فهمى هويدى كاتب ومفكر معروف بالأمانة والصدق والرصانة ، كما أنه مهموم بقضايا المصريين والعرب والمسلمين طوال حياته .. كتب فى صحيفة ( الشروق ) بتاريخ 9 نوفمبر 2009 ، تحت عنوان ( لا عيش مشتركا بغير حلم مشترك ) : " عندى ستة أسباب أزعم أنها تكمن وراء حالة الانفراط والتفكك التى تسود المجتمع المصرى الآن ، وأزعم أنها تفسر الكثير من الأعراض التى ظهرت على سطح المجتمع ، هذه الأسباب هى :
1- غياب الديمموقراطية : الذى كان بمثابة ضربة قاصمة لفكرة العيش المشترك ، من ثم وبدلا من أن يشعر المواطنون بأنهم شركاء فى صناعة الحاضر وبناء المستقبل ، وبدلا من أن يشتركوا فى نسج الحلم معا ، فإنهم اكتشفوا أنهم مجرد رعايا لنظام احتكر السلطة ، واختار أن يحتكر أيضا صناعة الحاضر والمستقبل ، وهو ما حكم على المواطنين بالاغتراب فى الوطن .
2- غياب الرؤية الاستراتيجية : الذى أشاع قدرا لا يُستهان به من الحيرة فى المجتمع ، بحيث لم يعد الناس يعرفون بالضبط هم مع ماذا أو ضد ماذا ، ومن هم الأصدقاء ومن هم الأعداء ، وحين غابت تلك الرؤية تمزق الوعى المشترك ، وتحول المجتمع إلى جزر منفصلة .
3- تشويه الدين وتخويف الناس منه : وتصويره باعتباره عنصر إقصاء ، وسببا فى التخلف ، وليس رافعة للتقدم ، وبابا للتراحم والتعاون على البر والخير .
4- الدور التاريخى الذى قام به العلمانيون : فى الإلحاح على إضعاف الدين وتهميشه ، والإلحاح على اعتبار حضوره فى المجال العام مصدرا لمختلف الشرور التى تهدد المجتمع .
5- الضائقة الاقتصادية : التى ضغطت بشدة على مختلف الشرائح ، وسحقت الطبقة الوسطى ، التى كانت تقليديا أحد أهم عناصر القوة والإبداع فى المجتمع ، ولأن الجوع كافر كما يقال ، فلك أن تتصور تأثيره على منظومة القيم السائدة ، وعلى علاقة الطبقات والفئات بعضها ببعض .
6- الاختراقات الخارجية : التى استثمرت أجواء ضعف مناعة المجتمع ، لكى تمارس حضورها وأنشطتها فى ساحات عديدة ، مستفيدة من حالة الوهن التى تعانى منها منظمات المجتمع المدنى .
إن الإنفراط الحاصل فى المجتمع المصرى الآن ، والتفكيك المشهود لوشائجه وروابطه ، نتيجة طبيعية لتلك العوامل مجتمعة ، ومن الخطأ المنهجى والتاريخى أن يحمّل عنصر واحد بالمسؤولية عن التراجع والتدهور الحاصلين فى بنية المجتمع المصرى وقيمه ، علما بأن الابتسار والاختزال فى هذه الحالة يُخرج الملف من نطاق البحث الموضوعى ، ويدخله فى مسار آخر تتراوح مراتبه بين سوء التقدير وسوء النية " .
رؤية الأستاذ فهمى هويدى تعكس ما أُسمّيه " المجتمع الذى انفرط عقده ، وتفككت روابطه " ، فغياب الديموقراطية فكّك ارتباط الشعب بأنظمته وحكوماته ، وارتباط الأنظمة والحكومات بالشعب ، وهو ما أنتج ما أُسمّيه : " شعب بلا دولة ، ودولة بلا شعب " ، وغياب الاستراتيجية والهدف والحلم المشترك ، فصل الشعب عن حاضره ومستقبله ، ودوره الاقليمى والعالمى ، وتشويه الدين فصل بين الناس والإسلام كأكبر قوة دافعة ومهيمنة ومنظمة لحركة الحياة ، وتخريب العلمانية المصرية للمفاهيم ، أخرج الإنسان المصرى عن عقله وفطرته ، وأنتج كيانا بشريا مشوها ، يعيش فى سفسطات عقيمة ، وتنظيرات فارغة ، وانفصال كامل عن البيئة والواقع ، بينما تسببت الضوائق الاقتصادية والناتجة عن فساد الأنظمة ، إلى تفكيك علاقة الناس بقيم العمل والجد والاجتهاد ، ليحل محلها قيم جديدة فاسدة ، مثل الفهلوة والاستهبال والنصب والاحتيال والرشوة والدروس الخصوصية ، وكل صور الارتزاق التى تجافى الحق والعدل والحلال ، وقاد كل ذلك التفكك ، وكل تلك الفوضى ، القوى الخارجية لتمارس مزيدا من التفكيك والتشويه لكيان مهترئ ضعيف ، مع وجوب ألا ننسى دور تلك القوى بداية فى إحداث وتغذية كل تلك العلل والأمراض .
4- د. جلال أمين ، والحراك الاجتماعى
فى عام 1998 أصدر د. جلال أمين (أستاذ الاقتصاد بالجامعة الأمريكية ) كتابه ( ماذا حدث للمصريين ؟ ) ، وفيه يُرجع أغلب التحولات التى طرأت على الشخصية المصرية المعاصرة إلى ما يسميه ' الحراك الاجتماعى ' وارتباط ذلك الوثيق بالانفتاح الاقتصادى ، وأجواء الفوضى العارمة التى طرأت على المجتمع مع بدايات تلك التحولات ، وغياب البعد الفكرى والثقافى فى تلك التحولات ، أى أننا أمام هوس بالمال والماديات ، أيا كانت طرق الحصول عليها ، وغياب للفكر والثقافة ، وقيم العدالة والتوازن ، ترتب عليه تهميش وإضعاف وتآكل للطبقة المتوسطة ، وتمدد للفقر والفقراء ، وثراء فاحش لطبقة جديدة من رجال الأعمال الفهلويين اللصوص، الذين وجدوا فى حضن الدولة حماية لهم ، وتسهيلا لاستثماراتهم ، ووجدت الدولة فيهم الثروة التى تستفيد منها فى السياسة وفى الإعلام وفى المصالح الشخصية ، وهو التزواج اللاشرعى بين المال الحرام والسياسة الفاسدة ، والذى لا يمكن أن ينجب غير مزيد من الفساد ، ومزيد من إفقار الفقراء ، ومزيد من تآكل الطبقة المتوسطة ، والتى هى عماد كل مجتمع حى ، ومزيد من الفوضى الاجتماعية والاقتصادية ، ليساهم كل ذلك فى خلق وتوطيد دعائم الحالة المصرية المسخ : شعب بلا دولة ، ودولة بلا شعب .
5- جمال حمدان وجناية الموقع
يرى جمال حمدان فى دراسته للشخصية المصرية ما يسمّيه " جناية الموقع " ، أى أن موقع مصر الجغرافى قد جنى عليها ، وأطمع الغزاة فيها ، وأغراهم بغزوها واحتلالها واستغلال مواردها ، حتى أن قرابة 40 أمة سيطرت على مصر عبر تاريخها الطويل .. جناية الموقع هذه لم تكن بسبب الموقع الجغرافى بين الشرق والغرب فقط ، بل يرى جمال حمدان أيضا أن هذا الموقع جعلها مفتاح المنطقة العربية ، تسقط المنطقة حينما تسقط مصر ، ولذا اُحتلت بلاد العرب عندما اُحتلت مصر فى 1882 ، وتحررت عندما تحررت مصر ، ثم أضفى ظهور النفط فى تلك المنطقة فى الثلاثينيات ، وزرع إسرائيل فى جسدها فى الأربعينيات ، بعدا آخر لموقعها الجغرافى ، وأهميتها الاستراتيجية .
هذا الموقع لم يجن على مصر فقط بسبب أهميته الاستراتيجية ، بل جنى علي الشخصية المصرية أيضا بسبب ارتباط الزراعة بالنيل وفيضانه ، مما خلق شعبا مستكينا ، مفتقدا إلى المغامرة ، قابلا بفكرة الفرعون الإله ، الذى يُجرى النيل ، ويُسبب الفيضان .
6- دولة بلا شعب ، وشعب بلا دولة ، وفيروس النخبة
الجهل ، وتدنى الثقافة ، وفساد التعليم والإعلام ، وشيوع الفهلوة والاستهبال ، وانفراط عقد المجتمع وتفككه ، وتزاوج السلطة والمال ، وجناية الموقع ، والزراعة النيلية والفيضان ، وغيرها مما ذكرته فى تلك الفقرة ، وفى سياقات مختلفة فى الفقرة الأولى .. كل تلك الأشياء أسباب وظواهر فى نفس الوقت للحالة المصرية التى أُطلق عليها : " دولة بلا شعب ، وشعب بلا دولة " ، ورغم إمكانية إرجاع مرض الشخصية المصرية لجميع تلك الأسباب بدرجات متفاوتة ، إلا أن هناك شيئا مميزا وفريدا فى الحالة المصرية ، جعلها مختلفة وعصية على الحل أو على استيعاب الحلول ، وهى كثيرة ومتوافرة وجربتها أمم أخرى .. هذا الشئ الفريد هو تزاوج آخر ، فكما نتحدث عن تزاوج السلطة الفاسدة بالثروة الحرام ، فقد تزاوج مع هذا الثنائى طرف آخر ، أشد إجراما من السلطة الفاسدة المستبدة ، وأخطر من الثروة الحرام ، وهو النخبة الفاسدة حتى النخاع ( راجع مقال : الإصلاح والتغيير .. والنخبة ) .. إن فيروس النخبة المصرية هو سبب كل مشاكلنا ، وكل عللنا وأمراضنا ، وكل تشوهات الشخصية المصرية ، وانحرافاتها السلوكية ، وقد يقول قائل : إن مشاكلنا أكبر وأعمق وأشد تعقيدا من عزوها لفريق أو فصيل أو طائفة ، وقد يقول قائل آخر : إن النخبة المصرية شرذمة قليلون ، , كما أنهم مختلفون متناحرون ، لا يتفقون على شئ أبدا ، وقد يقول ثالث : إنهم يعيشون فى عوالمهم الخاصة ، يسفسطون وينظرون ، ولا يعرفون عن الناس والواقع والحياة شيئا ، وقد يقول رابع : إن تأثيرهم على الناس قليل ، فهم منعزلون فى صالوناتهم الخاصة ، ويوم أن يطلوا علينا من على مصاطب ( التوك شوز ) ، لا يلقى الكثيرون لهم بالاً .. وهذا كله صحيح بصورة أو بأخرى ، إلا أننا لو نظرنا لتجارب البشرية ، وتجارب كل الأمم على مدار التاريخ ، نجد أن عيوب المجتمعات أيا كانت فى فحشها وتجذرها وشيوعها ، يمكن علاجها لو وُجدت نخبة صادقة وأمينة ومخصلة ، تقوم بدورها فى إيقاظ وعى الإنسان ، وتهذيب سلوكه ، وتغيير ثقافته الفاسدة ، وجمعه على رؤية وهدف ، وتبصيره بالحقائق ، على الجانب الآخر فالنخبة الفاسدة تقتل شعبها بتغييب عقله ووعيه ، وتضليله والتدليس عليه ، وخلط الأمور عليه ، وتلبيس الحق بالباطل ، والباطل بالحق ، وهذا ما فعلته النخبة المصرية على مر العصور .. فى الزمن الفرعونى القديم ، ضحك كهنة المعابد وهم نخبة ذلك الزمان ، على المصريين وأوهموهم بألوهية الفرعون ، مُجرى النيل ، ومسبب الفيضان ، وواهب السعادة فى الدنيا ، والخلود فى الأخرى ، ليقضى المصريون بعدها ثلاثة آلاف عام فى خضوع وخنوع واستكانة ، ونحت لتماثيل ملوكهم الآلهة ، وتشييد لمعابدهم ، وبناء لمقابرهم ، وفى الزمن المصرى الحديث تمددت النخبة لتشمل مشايخ السلاطين ، وغالبية الإعلاميين والصحافيين ، والسياسيين ورجال الأعمال ، وأهل الفن من المغنواتية والمشخصاتية ، وكثير من أهل الفكر والأكاديميين ، وغيرهم .. هؤلاء جميعا استبدلوا الفرعون الإله بالسلطان والخديوى ، والزعيم الخالد ، والقائد الملهم ، والرئيس المؤمن ، وبطل الحرب والسلام ، وبطل الضربة الجوية ، وغيرها من الصور القبيحة لحكام لا يقلون عن الفراعين الآلهة فى الطغيان والفساد ، ولم يكتفوا بذلك ، بل سوّقوا وروّجوا لمذاهب الشرق والغرب العلمانية ، وكل ما يناقض فكرنا وثقافتنا وديننا ، ووصلت الخسة والوضاعة ببعضهم إلى الترويج للاستعمار ، والاحتفال بالحملة الفرنسية ، وهلّلوا وطبّلوا للتطبيع والصلح المهين مع إسرائيل ، والتبعية المذلة البلهاء للغرب والأمريكان ، ورقصوا فى زفة الاشتراكية ، ليحيوا بعدها زفة الانفتاح والخصخة وبيع أصول البلد واقتصادها ، ومع كل هذه المتناقضات والأضداد ، ومع كل تلك الحملة الشعواء على الإسلام ، والعمل الدؤوب على عزله وإبعاده عن الحياة ، اختلت بوصلة المجتمع ، وانحرف الحكام وطغوا ، وانحرف الناس وتشوهت عقولهم ونفوسهم وضمائرهم .. دوما وأبدا يميل الحكام للطغيان ، وتميل الشعوب للاستسلام ، ولكن النخبة دائما توقظ وعى الشعوب ، وتقف بالمرصاد للحكام ، فتعيد للمجتمعات التوازن والانضباط ، وهذا ما حدث فى معظم الشعوب ، وما زال يحدث فى معظم الشعوب ، إلا شعب مصر المبتلى بنخبة خائنة وفاسدة حتى النخاع .. إن تغيير ثقافة المجتمع هو الطريق للتعافى من عيوبنا وأمراضنا ، ولكن الثقافة لا تتغير بدون نخبة صادقة ودؤوبة .
ثالثا : ما هو الحل ؟
كما أسلفت لا توجد مشكلة تستعصى على الحل ، أيا كان حجمها ودرجة تعقيدها ، وكل ما نحتاجه أن نحدد مشكلتنا أو مشاكلنا ، ومشكلتنا هنا أننا دولة بلا شعب ، وشعب بلا دولة .. شعب فقد ولاءه وانتماءه لبلده ، وفقد الشعور بأهميته فى تلك البلد ، ولا يجد فى نفسه غير شعور الغربة فيها ، فقرر أن يعيش لنفسه ، فأصبحنا شعبا بلا دولة ، وعلى الجانب الآخر نجد دولة غريبة بين شعبها ، ومنعزلة عن آلامهم وآمالهم وأحلامهم ، بل هى عائق أمام حريتهم وكرامتهم ونهضتهم ، فأصبحت دولة بلا شعب .. شعب مريض ودولة مريضة ، وسبب مرضهما فيروس النخبة الفاسدة حتى النخاع .. تخلت النخبة عن دورها فى تكوين وعى الناس ، وتبصيرهم بحقوقهم ، وشحذ هممهم ، وقيادة كفاحهم من أجل مصالحهم ، وتخلت عن دورها فى وضع أساسيات دولة العلم والعمل والعدل ( دولة العيون الثلاثة : علم ، عمل ، عدل ) ، فاختل المجتمع شعبا ودولة ، وتوطنت كل العلل فى الشخصية المصرية ، لتظهر على الجسد المصرى كل السلوكيات الفاسدة التى تناولتها فى الفقرة الأولى .. كيف يمكن إصلاح ذلك ؟ .. الإصلاح ليس سهلا وليس سريعا ، ولا بد أن يشمل الخطوات التالية :
1- لا بد من تغيير ثقافة الشعب ، وتغيير ثقافة الدولة ، لأنها ثقافدة فاسدة ، وهو أمر يحتاج إلى تغيير التعليم والإعلام والأزهر والأحزاب والنخبة ، ويحتاج عقدين من الزمان ، يتكون فيهما جيل تربى تربية سليمة ، وتعلم تعليما سليما ، ويمتلك عقلا ناضجا قادرا على التفكير والبحث والتخطيط ، وحل المشكلات ، ويتكون فيهما مؤسسات الدولة على أسس راسخة وسليمة ، وبذلك نستعيد الشعب ، ونستعيد الدولة .
2- فى مرحلة التغيير تلك نحتاج إلى قانون صارم ، يُطبق على الناس جميعا ، فدولة بلا قانون ليست دولة ، وشعب بلا قانون مجموعة من الهمج والرعاع .
3- تحتاج دولة العدل والقانون إلى إصلاح منظومة التقاضى ، وضبط تجاوزات القضاء ، وإصلاح كليات الحقوق ، وإصلاح شامل وجذرى لجهاز الشرطة ، يشمل بالضرورة وزيرا مدنيا للداخلية .
4- إصلاح الجيش ، وإخضاع ميزانيته لرقابة المجلس التشريعى ، والحجر الصريح والواضح والقطعى على ممارسته أية أنشطة سياسية أو اقتصادية ، ويشمل بالضرورة وزيرا مدنيا للدفاع .
5- كفانا كذبا ونفاقا وتجملا ، وكلاما عقيما عن مصر أم الدنيا ، وكنانة الله فى أرضه ، وأجدع شعب ، وخير أجناد الأرض ، وغيرها من الأوهام والجعجعات والشعارات ، فالمجتمعات لا تُبنى على الأمانى والخيالات ، ولا على اجترار الماضى .
رابعا : ماذا يحمل لنا المستقبل ؟
هل هناك من أمل فى إصلاح أحوالنا ، والخلاص من عيوبنا ، أم أننا سنظل على تلك الطبائع الفاسدة ؟ لا شك أن هناك أملاً، ولكنه مرتبط بشرطين : المصارحة والمكاشفة والإقرار والاعتراف بما نحن فيه ، والعمل الجاد القائم على دراسات شاملة ورصينة ، وتخطيط دقيق ، ورغبة صادقة .
1- المستقبل .. نظرة متشائمة
تناول د. أحمد شوقى العقباوى ، أستاذ الطب النفسى بجامعة الأزهر ، فى حوار مع محمد طلعت هوارى محرر صحيفة ( المصرى اليوم ) ، رؤيته للحالة المصرية ، وفى الحوار المنشور بتاريخ الثامن من يونيو 2009 ، يُرجع العقباوى مشكلة مصر إلى تدجين أبنائها : " المصرى تمت برمجته مبكرا من المدرسة وهو طفل ، فى إطار التدجين أو الترويض ... ومن السياسة خرجت آليات الضحك على الناس ، وبيع الوهم لهم ... الناس كان عندها أمل لفترة شهور قليلة فى بداية عهد الرئيس مبارك ، ثم تحول الأمر إلى خيبة أمل ، ثم لا جدوى ، ثم وصلوا إلى قناعة بأنه لا أمل فى التغيير ، والكل حاليا فى حالة " تولة " ، بلا أهداف أو إحساس .. المصرى لا يهمه أى شئ ، سوى الجرى وراء لقمة العيش ، والاستهلاك ، والانشغال بقضايا فردية وأسرية ، ولم يعد أحد يهتم بالشأن العام ، أو القضايا الوطنية أو القومية ، كما أن الشباب " مخوخ " من الداخل وعجوز ... أستطيع القول إنه تم تدجين الشعب المصرى بسياسة شديدة الحكمة لتحقيق الاستقرار ، والاستقرار مرادف للموت ، ويظهر فى حالة الركود المجتمعى ، والذى تتضح آثاره فى التعليم والثقافة والإعلام والاقتصاد ... ويشبه وضع المصريين التجارب التى يجريها علماء النفس ، بإغراق فأر فى إناء مملوء بالماء ، وقبل أن يموت يخرجونه ، وبعد أن يلتقط أنفاسه ، يغمرونه بالماء مجددا ، وهكذا حتى تقل مقاومته ، ويصبح طوال الوقت " منتظر كرمك ، وإنك تحن عليه علشان يتنفس " ، إذن الأمر واضح ، المصرى يُمنح الأمل ، ثم يقتل هذا الأمل ، ثم يمنح الأمل مجددا ، وهكذا حتى يتم تدجينه ، ويتعلم ويتربى أن يصبح تابعا للحاكم ، ومنتظرا لمنح الحكومة " .. ورغم أن الحوار تم قبل انتفاضة 25 يناير 2011 ، إلا أنه يظل منطبقا على الحالة المصرية بحذافيرها ، فالوضع الآن لا يختلف عما كان من قبل ، وطبيعة الشعب وممارساته ، وطبيعة حكامه من العسكر وممارساتهم ، أو من يأتمرون بأمرهم ، واستدعاء قطاع من الشعب للعسكر للانقلاب على الشرعية ، كلها دلالات على مزيد من تدهور الحال ، وتدهور الشخصية المصرية ، ولذا يخلص د. العقباوى إلى نتيجة مفادها : " قراءة الواقع والماضى واستشراف المستقبل ، تجعلنى غير متفائل " .
2- المستقبل .. نظرة متوازنة
فى رؤية أخرى للحاضر والمستقبل ، يقول د. قاسم عبده قاسم ، أستاذ تاريخ العصور الوسطى ، فى حوار مع محرر صحيفة ( المصرى اليوم ) محمد السيد صالح ، تم نشره فى 8 يونيو 2009 : " الحديث عن أن المواطن المصرى لديه خصائص معينة تفوق شعوبا أخرى ، كلام غير دقيق ، ومن الممكن أن يكون عنصريا ، ومحددات السلوك لأى مواطن فى وقت ما تخضع فى الأساس لظروفه الاجتماعية والتاريخية والسياسية ، والمواطن المصرى أبدع عندما كان يحصل على حقه .. المصريون فى كل العصور كانوا لا يثورون إلا لشيئين هما : العقيدة ولقمة العيش ... أول شعب نجح فى اختيار وفرض حاكمه هو الشعب المصرى ، حدث ذلك مع اختياره لمحمد على فى 1805 ... تراجعنا بالفعل حضاريا وسياسيا منذ قرن واحد ، بسبب الحكومات المستبدة ، والاحتلال ، والمواجهات مع إسرائيل ، وهزيمة 1967، والهجرة إلى الخليج ، وغزو أموال البترول للعقل المصرى ، ونجاح المشروع الصهيونى الأمريكى فى اقتحام المنطقة لتفكيكها ، والتعليم السئ الخالى من الإبداع ، ومن قراءة واستيعاب تاريخ الاجداد " .
3- المستقبل .. ولعنة المكان
لا يمكن الحديث عن الشخصية المصرية بدون الرجوع لكتابات جمال حمدان ، وخاصة موسوعته ( شخصية مصر .. دراسة فى عبقرية المكان ) ، والتى نشرت لأول مرة فى 1967 ، وفيها يتناول بجانب الجغرافيا قراءة فى ماضى مصر ومستقبلها ، وكيف تحولت من " أول أمة فى التاريخ ، إلى أول دولة ، إلى أول امبراطورية ... إلى أطول مستعمرة فى التاريخ " ، وهو ما يسميه " جناية الموقع " ، وقد أشرت إلي ذلك فى موضع آخر من هذا المقال ، والحقيقة أننى لا أعتقد فى صحة حكاية جناية الموقع تلك ، وذلك لسبب بسيط ، وهو أن الإنسان فى كل العصور لم يقنع بوجوده فى مكان واحد ، وانطلق يغزو ويستكشف ، ويبحث عن الموارد ومصادر القوة فى كل أرجاء الأرض ، أى أن موقع مصر حتى وإن توسط العالم يشبه موقع غيرها ، وفى زمننا الحالى لم يمنع شئ الإنسان من الوصول إلى الأمريكتين , وأستراليا ، والمناطق القطبية وغيرها ، بل ومحاولة استكشاف كواكب أخرى ، كما أن الربط بين النيل والفيضان والزراعة وحياة الخنوع المصرية ، ربط غير دقيق أيضا ، لأن أمما أخرى ارتبطت بالأنهار والزراعة ، ولم يبد عليها خصائص الشخصية المصرية ، علاوة على أن نصف سكان مصر الآن يعيشون فى المدن ، وهم عادة المسؤولون عن الحراك المجتمعى .
فى أبريل 2010 نشرت (عالم الكتب ) ، ما جمعه عبد الحميد صالح حمدان ، من أوراق خاصة بشقيقه جمال حمدان فى كتاب بعنوان ( العلامة الدكتور جمال حمدان ولمحات من مذكراته الخاصة ) ، وفيها آراء وأفكار كتبها متفاعلا مع الأحداث ، وكان ينوى نشرها فى دراسة عن العالم الإسلامى والاستراتيجية العالمية ، لولا أن وافته المنية فى ظروف غامضة فى أبريل 1993 ، وفى تلك الأوراق آراء جديرة بالإشارة إليها ، ومنها : أنه بتراجع مساحة الزراعة والتى تعنى الحياة للبلاد ستتحول مصر إلى " مقبرة بحجم الدولة " ، وأن مصر تتحول " لأول مرة من تعبير جغرافى إلى تعبير تاريخى " ، وأن " مستقبل مصر أسود " ، بعد أن ضاقت أمامها الخيارات " ليس بين السئ والأسوأ ، وإنما بين الأسوأ والأكثر سوءا " ، وأن بقاءها واستمرارها " نوع من القصور الذاتى " ، وأنها " تهرب من المستقبل الأسود ، بل من الحاضر البشع إلى الماضى التليد " ، وأنه " ولأول مرة فى التاريخ تتغير مكانة مصر فى العالم إلى الأسفل " ، وأن مصر منذ اتفاقية كامب ديفيد " لم تعد مستقلة ذات سيادة ، وإنما محمية أمريكية تحت الوصاية الإسرائيلية ، أو محمية إسرائيلية تحت الوصاية الأمريكية " .
من الواضح أن آراء جمال حمدان حسب تلك المذكرات شديدة التشاؤم ، ومن الصعب قبولها بتلك الصيغة ، فمثلا تناقص مساحة الرقعة الزراعية لن يحول مصر إلى " مقبرة بحجم دولة " ، ولكنه سيضعفها ، وسيقلل من خياراتها ، وسيجعلها أكثر عرضة للضغوط والابتزاز ، كما أن كامب ديفيد وإن كانت ضربة قاصمة لحرية مصر وكرامتها ، وقيدا هائل على حركتها ، ومحاولة خبيثة لتصفية القضية الفلسطينية ، ولكن كل ذلك يمكن تغييره بالإرادة السياسية والشعبية ، كما أن" المستقبل الأسود " الذى ينتظر مصر ليس بالضرورة حتمية تاريخية ، والواقع يقول : إن حاضرنا أسود ، وإننا فعلا نختار بين الأسوأ والأكثر سوءا ، ولكنه مع ذلك حاضر يمكن تغييره .. صحيح أنه لا توجد علامات توحى بإمكانية ذلك فى المدى القريب ، ولكننا أيضا فى عالم متغير ، ومستجدات لا يمكن تحاشيها ، وحراك محلى وعالمى لا يمكن تجاهله .. إننا أمة فاشلة الآن ، غير أن الفشل ليس فرضا على الشعوب .. إنه خيار قد يتغير ، وهو حتما سيتغير لأن ذلك سنة كونية ، والسنن الكونية سنن إلهية تحدث لا محالة .. إن جميع الكتابات التى تتحدث عن الإنسان المصرى ، تنطلق من فرضية خاطئة ، وهى أن هناك خللا أصاب الإنسان المصرى دون غيره من سائر البشر ، وهى فرضية خاطئة ، لأن الإنسان المصرى لا يختلف عن الإنسان فى كل زمان ومكان ، ومشكلته هى تجمع عدد كبير من العوامل السلبية التى تفسد حركة حياته ، ولو امتلك القيادة الحكيمة ، والإدارة العليمة الخبيرة ، والقدوة والتوجيه والإرشاد والحافز ، لفعل مثل غيره من البشر .
4- المستقبل .. والوراثة
كتبت بسمة عبد العزيز مقالا يستحق وقفة للتأمل ، تحت عنوان ( جينات الحرية ومُستقبلات القمع ) ، نشرته ( صحيفة الشروق ) فى 15 أكتوبر 2011 ، وفيه تتساءل : " هل يمكن أن يكتشف العلماء عما قريب أن القمع لفترات طويلة يؤثر فى أجسادنا تأثيرا بيولوجيا يمكن رصده وقياسه ، وأن الحرية تحدث تأثيرا مقابلا تظهر علاماته الملموسة علينا ؟ " ، ثم تقول : " هناك مجتمعات وشعوب كاملة لها سمات سلوكية ونفسية تشتهر بها ، يُعرف اليابانيون على سبيل المثال بالالتزام الشديد بالعمل وتقديسه والتفانى فيه ، ويُعرف الألمان بالصرامة والجدية ، والانجليز بالهدوء وقلة الانفعالات ، وهناك أيضا من العلماء والمفكرين من يسبغ على المصريين سمات الكسل والخضوع والاستسلام الطويل ، ويرجعها بشكل عام إلى طبيعة الموقع والجغرافيا ، وإلى البيئة النهرية الزراعية التى أكسبتهم صبرا وميلا إلى السلبية ، والرضوخ إلى الأمر الواقع ، والرضا بالنصيب ، وعلى المستوى الجغرافى الأضيق نجد لدينا محافظات كاملة يشتهر سكانها بالكرم ، وأخرى يوصم أبناؤها بالبخل ، وثالثة بالخبث والدهاء والقدرة على المراوغة ، وفى الأغلب لم تأت تلك الصفات من فراغ ، ومن المنطقى أن تكون لها جذور ما ، حتى وإن كانت شديدة التعميم " ، ثم تتساءل سؤالا آخر : " هل من الممكن أن تصبح تلك السمات جزءا من الشفرة الوراثية لأصحابها ؟ وهل صارت تنتقل جينيا من جيل إلى جيل ، دون الحاجة إلى التعرض إلى الظروف المحيطة ، أم أنها لا تزال تعتمد عليها فى التبلور والظهور ؟
الموضوع الذى تطرحه الكاتبة موضوع شيق ومثير للبحث العلمى ، ولكننا نعلم من دورات التاريخ أن الغربيين وهم أنشط الناس فى عالمنا اليوم فى العلوم والمعارف والتقنيات واحترام القانون والنظام ، كانوا أشد الناس جهلا وتخلفا وهمجية وعنفا ، وأنهم رغم تحضرهم إلا أنهم مازالوا حتى الآن يعاملون غيرهم من الشعوب بالتحقير والامتهان ، وأنهم لا يتورعون عن سرقتهم واستغلالهم ونهب ثرواتهم ، كما أننا نعلم أيضا كيف أحدث الإسلام مثلا انقلابا فى حياة عرب الجزيرة ، وغيرهم من الشعوب التى دخلت فى الدين الجديد ، ونعلم كذلك دور العرب الحضارى بعد الإسلام ، كما أننا نعلم كيف تحولت الصين من أمة دمر الأفيون أدمغة أهلها ، إلى أمة تخطو بسرعة على طريق التحضر والنهضة ، ونعلم عنف ودموية المهاجرين الغربيين إلى ما يعرف الآن بالولايات المتحدة ، وكيف غيّروا من عنفهم ودمويتهم ، وأصبحوا أشد الناس التزاما بالضوابط والقوانين ، ونعلم أيضا أن نهضة الولايات المتحدة صنعتها عقولٌ وسواعدٌ من مختلف الملل والنحل والأجناس ، ولذلك فالزعم بأن المصريين أقل من غيرهم لظروف المكان أو الجغرافيا ، أو أن عوامل وراثية تتحكم فى طبائعهم الفاسدة ، زعم لا بد أن يكون خاطئا ، ولا يمكن قبوله عقلا ومنطقا .
من الثابت علميا أن الصفات الجسدية تنتقل بالوراثة ، وأن الصفات النفسية والسلوكية تتأثر بالبيئة والتربية والخبرات الحياتية .. تذكر بسمة عبد العزيز فى مقالها السابق الإشارة إليه أن الباحثة الأمريكية شيلى تايلور وجدت فى دراسة لها أن " سمات الإبداع والقيادة والقدرة على التأثير فى الآخرين ، هى سمات تورث من الأهل إلى الطفل ، وأنها ترتبط بأحد الهرمونات المعروفة التى تفرزها أجسامنا ، وهو هرمون أوكسيتوسين ، هذا الهرمون له مُستقبِلات خاصة فى الجسم لا يعمل بدونها ، والمسؤول عن تلك المستقبلات هو جين يقع على خارطتنا الوراثية مثله مثل الجينات التى تتحكم فى صفاتنا الجسدية ، إذا زاد الهرمون واتحد مع مستقبلاته ازداد الإبداع واحترام الذات ، وتألقت القدرة على جذب الآخرين وقيادتهم ، أما إذا حدث خلل فى الجين المسؤول ، وبالتالى فى مستقبلات الهرمون ، فإن الهرمون يظل موجودا ، لكنه يكف عن العمل ، ويفقد الشخص السمات السابقة " ، ثم تقول : " ربما يكتشف العلماء أن هناك شخصا لديه استعداد وراثى بيولوجى لقبول أن يدير آخر حياته ، أو أن ثمة جينات للاستسلام تجعل شخصا أكثر خضوعا من آخر ، وتجعل شعوبا أكثر تقبلا للاستبداد ، وأكثر ميلا لتقديس حكامها ، وربما يكتشف العلماء أيضا أن مستقبلات الحرية مثلا قد تتعطل فى أجسادنا بتأثير فترات الكبت والاستبداد ، فتجعلنا نستمرئ القمع ونعجز عن التخلى عنه ... ربما يؤدى تذوق طعم الحرية إلى تنشيط جيناتها ومستقبلاتها لدينا فنطلب المزيد ، أو يفلح القمع المتصاعد فى إفسادها والقضاء عليها ، فنبقى أسرى الدائرة المغلقة " .
كما ذكرت من قبل فإن مشكلة الكاتِبين والمتحدثِين عن الحالة المصرية ، أنهم يبدأون من فرضية خاطئة ، وهى أن المصرى يختلف عن غيره ، ولذلك يجهدون أنفسهم فى تفسيرات واستدلالات ، كلها لا تصيب الحقيقة بدرجة أو بأخرى ، ويتناسون أحداث التاريخ وسننه وتجاربه التى لا تخطئها عين ، ولا يغفل عنها باحث أمين .. ينبغى التنبيه هنا أيضا إلى محاولات بعض الباحثين إرجاع سلوكيات معينة لعوامل وراثية ، مثلا العنف ، أوالشذوذ الجنسى ، أو الخيانة الزوجية ، أو غيرها ، وهو ما أراه يندرج تحت ما يُسمى junk science .. وهو ما يبدأ بنتيجة معينة ، ثم محاولة إيجاد الدلائل عليها بطريقة فيها تعسف وجور على الأصول العلمية والبحثية .
خامسا : الخلاصة
المتأمل فى انتفاضة 25 يناير 2011 ، وما تلاها من أحداث ، يستطيع بسهولة أن يدرك أن الشخصية المصرية حقاً مريضة ، وأن الدولة المصرية فعلاً فاشلة ، وأن الشعب المصرى قطعاً يفتقر إلى النضج ، وقطعاً يحتاج إلى مراحل طويلة من الإصلاح والتغيير ، قبل أن يصل إلى البلوغ الثقافى والفكرى والسلوكى ، وأن فرقة العوالم الإعلامية والنخبوية التى ترقص وتهلل لما يسمونه ثورتين فى أقل من ثلاثة أعوام ، كاذبون منافقون مضلِلون ، بل إن حدوث (ثورتين ) فى هذا الزمن الوجيز أكبر دلالات الفشل ، وقصر النظر ، وفقدان الصبر والجد والإصرار على التطور وبلوغ الهدف ، داخل مؤسسات الدولة الشرعية ، وطبقا لآليات الديموقراطية المتعارف عليها .. ما حدث فى 30 يونيو 2013 من استدعاء العسكر للانقلاب على الشرعية عارٌ سيظل يلاصقنا لفترات طويلة ، وأمارة على أننا لا نفهم شيئا فى أى شئ ، وأننا فعلاً شعب ( كلمه توديه ، وكلمة تجيبه ) .
صوّر محمد الدهشان فى مقال نشرته المجلة الأمريكية Foreign Policy ، فى أول يوليو 2013 ، بعنوان Celebrating a Disaster in Egypt " " ( الاحتفال بكارثة فى مصر ) .. صوّر أكبر مظهر للخيبة والفشل .. شعب يحتفل بانقلاب عسكرى .. ليس مثلا كأس العالم .. كيف نضحك على أنفسنا لهذا الحد ؟
You'd think we'd won the World Cup "
cars honking , loud celebratory music , people carrying flags . There are also flags hanging from military helicopters flying at low altitude above Egypt's main cities. The joke's on us, though. This isn't a cup. It's a coup. It's a coup against a failed president, but a coup nonetheless. There is no time for celebration " ثم يتعجب : كيف نختار دائما أسوأ الخيارات عندما نكون على مفترق طرق ؟ " How did we get here ? And how is it that Egypt seems to systematically choose the worst possible option whenever it finds itself at a crossroads? " لقد كان المتظاهرون شديدى العبط والسذاجة .. لقد فشلنا فى الاختيار .. وعلينا أن نتذكر أن المجلس العسكرى وإن كان عدوا للإخوان ، فإن عدو عدوى ليس بالضرورة صديقى ، وستكون النتيجة النهائية لتدخل الجيش فى السياسة غير جديرة بالاحتفال "The sad truth is that there was much naïveté on the part of protesters … we have failed to develop the better alternative … we have to remind ourselves that the enemy of my enemy is not my friend … it's unlikely that the final outcome will be worth celebrating "
دعوة قطاع من الشعب لانقلاب عسكرى ، ودعم النخبة المصرية لذلك ، وإن كان كارثة كبرى ، فما حدث بعده هو كارثة الكوارث : دموية وعنف وهمجية تفوق الوصف ، وتتجاوز الخيال .. كيف تستبيح الدولة الدماء بتلك الصورة البربرية ، غير المسبوقة فى التاريخ المصرى ، وكيف يجرفون الجثث ويحرقونها ؟ وكيف يدنسون المساجد ويحرقونها ؟ وكيف يُظهر كثيرون هذا التشفى المرضى ، وتلك النشوة المجنونة ؟ وكيف يكذب الجميع على أنفسهم وغيرهم بادعاء أن الدولة تواجه الإرهاب ؟ .. يا سادة .. لقد سقطت الدولة بكل مؤسساتها ، عندما اتخذت من شعبها عدوا ، وسقط عسكر كامب ديفيد عندما تفرغوا للسياسة والاقتصاد ، ومازالت الداخلية ساقطة ووالغة فى دماء الناس ، وجائرة على كرامتهم وحقوقهم ، وسقط الشعب وتشرذم وتصالح مع كل أنواع الفساد وأشكاله .. لقد تحولنا إلى دولة بلا شعب ، وشعب بلا دولة .. يا سادة .. ورب الكعبة .. لو كنا نحب مصر حقا ، ما كان هذا حالها ، ولو كانت مصر تحبنا حقا ، ما كان هذا حالنا .. ولا حول ولا قوة إلا بالله .
سعد رجب صادق
Saad1953@msn.com
الإصلاح والتغيير .. والعشوائية
الاصلاح والتغيير .. والمسألة القبطية .. 1
الإصلاح والتغيير .. والمسألة القبطية .. 2
الإصلاح والتغيير .. والمسألة القبطية.. 3
الإصلاح والتغيير .. ومُعْضِلَةُ الشعب
الإصلاح والتغيير .. ومعضلة الدولة
الإصلاح والتغيير .. ومُعْضِلَةُ القيادة
الإصلاح والتغيير .. والنخبة
الإصلاح والتغيير .. والفرعونية
الاصلاح والتغيير..الرئيس القادم
الاصلاح والتغيير .. والكوتة
الاصلاح والتغيير .. والتوريث