الإصلاح والتغيير .. ومُعْضِلَةُ القيادة
|
مستقبل العشوائيين |
بقلم : سعد رجب صادق
......................
هل يمكن لجماعة بشرية أن تنظم أمورها ، وترعى شؤونها ، بدون قيادة ؟ الإجابة البديهية والمنطقية هى : لا ، لا يمكن لجماعة بشرية أن تنظم أمورها ، وترعى شؤونها ، بدون قيادة .. السؤال الآن : وهل مجرد وجود القيادة يعنى تنظيم أمور الجماعة البشرية ، ورعاية شؤونها ؟ الإجابة أيضا : لا .. إذن القيادة لها مواصفات حتى تكون ناجحةً ومؤثرةً فى جماعتها ، ومحققةً لطموحاتهم ، وملبيةً لآمالهم ، وحافظةً لوحدتهم وترابطهم ، ومفجرةً لطاقاتهم وملكاتهم ، وحالّةً لمشاكلهم ، ومُرتبةً لأولياتهم ، وموظفةًلإمكانياتهم ومواردهم ، وغيرها الكثير .. السؤال الآخر : إذا كانت للقيادة مواصفات ضرورية لا يتحقق النجاح بدونها ، فهل يلزم أيضا أن يكون للجماعة البشرية مواصفات ضرورية ولازمة لوجود تلك القيادة ، ولتحقيق الإنجازات المرّجوة ؟ نعم بالتأكيد ، فلا شك أن القيادة الناجحة لا توجد إلا فى جماعة بشرية ناجحة .. إذن هل فَشَلُنا فى كل شئ مرجعه أننا لا نمتلك قيادة ناجحة ؟ وهل ذلك دلالة على أننا جماعة فاشلة ؟ بالقطع ، فنحن مجتمع فاشل ، وقادته فاشلون .. مجتمع فاشل عَقِم أن ينجب قادة ناجحين ، لأنه صاحب ثقافة فاسدة ، زيّنت له استمراء الخنوع ، والرضا من الدنيا بالفتات .. إنه مجتمع أشبه بالسائمة أو العبيد ، وقادة فاشلون عقموا أن يصنعوا لمجتمعهم خيرا ، لأنهم لا يمتلكون رؤية أو فهما أو حكمة أو إرادة .. إنهم أشبه بالفتوات أوالبلطجية . يتناول هذا المقال معضلة القيادة leadership فى مجتمعاتنا ، ومعضلة التبعية followership ، وخصائص القادة leaders ، وخصائص الأتباع followers ، ولماذا يقود البعض ، ولماذا يتبع الآخرون ؟ والعوامل التى حرمتنا من رؤساء ومسؤولين تتحرق قلوبهم من أجل نفعنا والارتقاء بحالنا ، بل وحوّلتهم إلى الأنانية ، والظلم والفساد والاستبداد ، والتجارة فى الشعارات والجعجعات ، والأدهى من ذلك جعلتهم يدينون بالطاعة والولاء لغيرنا فى الشرق والغرب ، وكأنهم غرباء عنا ونحن غرباء عنهم ، وكيف اتّبعناهم ببَلَهٍ واستسلام ، بل وساهمنا فى تمجيدهم ، وتبرير أخطائهم الفادحة ؟
أولا : من هو القائد ؟
خصصت المجلة الأمريكية The Christian Science Monitor ملفها الرئيسى لعددها الصادر فى 28 نوفمبر 2011 لموضوع القيادة ، تحت عنوان : ما الذى يصنع قائدا ؟ ' What Makes a Leader ' ، وذكرت بجانب العنوان على غلافها : أن الناس تحب صورة القائد الفرد المتمرد البطل ، ولكنه فى جميع المجالات ، من السياسة إلى البزنس إلى العمل المجتمعى ، كل القادة الناجحين ليسوا بتلك الصورة التى فى مخيلة كل فرد ، أى صورة الفرد المتمرد البطل ' Everyone loves the image of the lone , heroic maverick . But from politics to business to grass-roots community work, that's not what most successful leaders actually look like
'
إذن من هو القائد ، وما هى مواصفاته ؟
القائد كما تُعرّفه الكتابات المتخصصة فى علم القيادة هو ' الشخص القادر على التأثير فى الآخرين من أجل تحقيق هدف مشترك '.. يذكر Mark van Vugt [1] ، و Anjana Ahuja [2] فى كتابهما Naturally Selected: The Evolutionary Science of Leadership [3] 'علم القيادة التطورى ' والذى يناقشان فيه نظريتهما الجديدة عن تطور القيادة ، نفس التعريف السابق ' a leader is someone able to exert social influence on others in order to accomplish a common goal ' غير أنهما يستطردان : إن بعض من يمتلكون كفاءةً وتأثيرا على الآخرين قد يكونون مفلسين أخلاقيا ' one can be effective , but morally bankrupt' ولذلك فالقائد ليس فقط من يؤثر فى الآخرين ، ولكنه من يمتلك الكفاءة ، ومن يمتلك الوازع الأخلاقى competent and moral' ' لتحقيق النجاحات فى كسب الحروب ، والتغلب على المفاسد ، وتحقيق الانتعاش الاقتصادى المتواصل ، والاستقرار ، والسعادة ' can win wars, defeat evil and create lasting prosperity, stability and happines' أى أن القائد ليس قائدا إلا بإنجازاته النافعة والمفيدة والممتدة فى تأثيراتها 'desirable outcomes' والقائد أيضا ليس قائدا إلا إذا كان حقيقاً بأن يتبعه قومه ، وربما أيضا حقيقاً بأن يقلدوه ، لحكمته وكفاءته وسلوكياته وأخلاقياته 'worthy of following and perhaps emulating' إذن مفهوم القيادة الحقيقى يختلف عن مفهومها الراسخ فى العقلية المصرية والعربية ، وهو مفهوم مغلوط فى كل مكوناته ، فالقائد الفرد والملهم والمخلص والبطل والمتمرد ، ليس فى الحقيقة ، وليس فى الواقع المصرى والعربى ، إلا الزعيم والفرعون والمستبد ومن تجب طاعته ، ومن لا يُناقش أو يُرد قوله ، رغم بعده عن الحكمة ، وشططه وسفهه ، ومجافاته لكل طرق الخير والصلاح ، وهو أيضا الجعجاع الذى يسوّق للناس الشعارات الجوفاء ، والطنطنات الفارغة ، ولا يقدم غيرها من فرقعات ، وهو كذلك المُخَلِّص الذى ينقذهم من شرور أنفسهم ، وشرور الآخرين فى الداخل والخارج ، رغم شروره هو نفسه ، وكوارثه وهزائمه وانتكاساته ، وهو المُلْهِم الذى يقودهم كالعميان لعجزهم وقلة حيلتهم ، وهوانهم على الآخرين وعلى أنفسهم ، رغم عماه هو نفسه ، وهو القِبْلة التى يتوجهون إليها لتحقيق احتياجاتهم وأحلامهم ورغباتهم ، من رغيف الخبز وحتى قضايا الأمن القومى ، رغم فشله وإخفاقاته فى كل شئ ، وهو الأحمق الذى لا يعى عواقب كلامه وتصرفاته وقراراته ووعوده ، ورغم ذلك يضحك عليهم فى كل مرة ، كما أنه المتفرد والجامع لكل السلطات والمتمسك بها ، والذى لا يضيره أن يقمع كل النابهين والمعارضين من أجل الحفاظ عليها ، ورغم ذلك ينتخبونه المرة بعد المرة ، ويتمسكون به وكأنه قدرهم المحتوم .. القائد فى بلادنا لا تنطبق عليه المعايير العقلية والمنطقية والعلمية والتاريخية ، فهو فوقها جميعها .. إنه طراز فريد من الخواء الفكرى ، والافتقار الكامل للوطنية ، والغياب الكامل للولاء لشعبه وأمته ، والعمى البصرى والبصيرى لواقع الحال ، واستشراف المستقبل ، والولاء التام للكرسى وما يأتى معه من أبهة ومنفعة ، وامتلاك للبلاد والعباد .
[1] Mark van Vugt هو أستاذ علم النفس بـ VU University Amsterdam ، وشخصية دولية مرموقة فى علم القيادة .
[2] Anjana Ahuja حاصلة على الدكتوراة فى فيزياء الفضاء ، ومارست الكتابة العلمية لـ London Times.
[3] Vugt, Mark van and Anjana Ahuja. 2011 . Naturally Selected : The Evolutionary Science of Leadership. pp.13-23. Harper Collins Publishers. NY
.
ثانيا : هل عندنا قادة ؟
الإجابة القطعية هى : لا ، ليس عندنا قادة ، وليس عندنا أيضا إداريون .. حقيقة يدركها الكثيرون منا ، ويحس بها الكثيرون منا ، وبنظرة سريعة على كل مستويات القيادة فى بلادنا ، يستطيع المرء بسهولة أن يدرك تلك الحقيقة ، فرب الأسرة وهو الحد الأدنى للقيادة ، لا يفهم فى تربية أطفاله ، ولا معاملة زوجته ، حتى أن قدرا من التشوه النفسى ، والخلل الفكرى ، والانحراف السلوكى للأطفال ، ومن ثم الكبار ، يعود إلى طريقة الأب والأم الخاطئة فى تنشئتهم ، وقدرا كبيرا من المشاكل الأسرية يعود إلى سوء فهم الرجل لمعنى القوامة على المرأة ، وسوء فهم المرأة لحقوقها وواجباتها ، فإذا ما تركنا الأسرة إلى القرية مثلا ، وجدنا العمدة ، وجهازه من شيخ البلد وشيخ الخفر والخفراء .. وجدناهم جميعا أمثلةً قبيحة للجهل ، وعدم الفهم السليم ، والإدراك الصحيح لأدوارهم فى القيام على شأن القرية وأهلها ، وهكذا الحال أيضا مع رئيس مجلس المدينة ، والمحافظ ، ورئيس الدولة ، وما ينطبق على هؤلاء ينطبق على كل من يتولى رئاسة أو إدارة شركة أو مؤسسة أو منظمة أو حزب ، أو فصل أو مدرسة أو كلية أو جامعة ، أو حتى رياسة الأنفار فى حقل أو عمل ما ، بل الأغرب من كل هذا أن الرئيس أو القائد أو المسؤول الناجح ، لأى من تلك المراتب القيادية ، سيجد الكثيرين يناصبونه العداء ، ويعرقلون خطواته ، ويترصدون به ، ويدبرون له الحيل والمكائد ، من أجل إفشاله ، وتبديد جهوده ، وكأن العداء للنجاح أصبح خلقا وسلوكا أصيلا فى كل مؤسسات الدولة وأجهزتها ، وسيجد أيضا الكثيرين من المنافقين والأفّاكين والمتملقين والانتهازيين والنفعيين يلتفون حوله ، ليمارسوا أدوارهم المشينة فى تشويه الآخرين ، والإيقاع بالمخالفين ، ونقل المعلومات والأخبار والشائعات والثرثرات .. بيئة القيادة والإدارة عندنا بيئة فاسدة تماما ، وليس فيها غير الشللية والمصلحة الشخصية ، والجهل والتعالى والديكتاتورية ، ومخالفة السابقين وإهالة التراب عليهم وعلى إنجازاتهم إن وُجدت ، والعشوائية وغياب الدراسة والتخطيط ، وليس فيها أيضا غير الأقارب والمعارف والمحاسيب ، أى أنها بيئة أندرُ ما فيها الكفاءة والأكفّاء ، وأبرز ما فيها الفشل والانتهازية ، والفاشلون والانتهازيون
.
المثير للانتباه أن غيرنا أيضا يدرك افتقار مجتماعتنا للقادة .. كتب[1] Aaron D. Miller يُعدّد المشاكل الحقيقية فى منطقة الشرق الأوسط ، فذكر من بينها مشكلة القيادة leadership ، وقال بصراحة مريرة'There really isn't any': أى لا توجد قيادة ولا قادة .. أليست تلك حقيقة يدركها كل من يتأمل فى أحوالنا ؟ أليست حقيقة يدركها حتى عوام الناس ؟ هل ينطبق على أحد من رؤسائنا تعريفات القادة أو حتى جزئية منها ؟ لا وألف لا .. هل حققوا لنا انتصارات فى الحروب ؟ لا ، لم يحققوا إلا الهزائم والانتكاسات .. هل ألّفوا بين أطياف المجتمع ، وحققوا لنا الاستقرار والسلام ؟ لا ، لم يحققوا لنا غير الحروب والقلاقل والفتن الداخلية .. هل حققوا لنا الرخاء الاقتصادى ؟ لا ، لم يحققوا لنا غير الفقر وتبديد الثروات والموارد .. هل حققوا لنا السعادة كما يذكر التعريف ؟ لا ، لم يحققوا لنا غير البؤس والتعاسة والشقاء .. هل يستحقون أن نتبعهم ، وأن نقلدهم ؟ لا ، فهم بئس القادة ، وبئس القدوة .. أليست كل تلك القبائح تنطبق عليهم جميعا من عبد الناصر إلى السادات إلى مبارك ، ومن صدّام إلى آل الأسد ، ومن على عبد الله صالح إلى النميرى إلى البشير ، ومن بن على إلى الملوك والشيوخ والأمراء ؟ نعم ، تنطبق عليهم جميعا وأكثر منها ، وقد يقول البعض : أليست هذه الأحكام عامة وقاسية ؟ والإجابة : لا ، فالقائد بإنجازاته النافعة والمرغوبة ، وباستمرارية نفعها وفائدتها ، وبالرخاء والاستقرار والسعادة ، كما يذكر التعريف desirable outcomes… lasting prosperity, stability and happiness ، فأين تلك الإنجازات النافعة ، وأين الاستقرار والرخاء والسعادة فى بلادنا ؟ قد نستطيع إعذارهم فى بعض الأمور ، وقد نستطيع تحمل المشقة وشظف العيش لبعض الوقت ، ولكن أين السعادة ؟ وأين الأمل فى المستقبل القريب أو حتى البعيد ، وهل هناك قائد بدون إنجازات نافعة تُدخل السعادة على النفوس والقلوب ، وهل هناك شئ بعد تشويه الحاضر ، وقتل الأمل فى المستقبل ؟ .. يتقدم كل العالم ونتأخر ، وتسعد جميع الشعوب ونبتئس ، وتزدهر المجتمعات ونضمحل وننكمش ، وينطلق الجميع إلى الأمام ونتقهقر إلى الخلف ، وتتسابق الأمم نحو أهدافها القريبة والبعيدة ونحن حيارى لا مقصد لنا ولا هدف .. لقد أجرم كل حكامنا جرائم لا غفران لها فى حق كل واحد فينا ، وأجرمنا فى حق أنفسنا يوم تركناهم يستخفون بنا ، ويضحكون علينا ، ويبيعون لنا الأوهام والخرافات ، ونحن نطبل ونهلل ، بالدم والروح نفديك يا زعيم ويا قائد ويا مُلهم ، ويا مؤمن ويا كبير العائلة ، ويا بطل الحرب ويا بطل السلام ، ويا بطل الضربة الجوية ، ويا منقذ ، ويا من وهبتنا العزة والكرامة ، ويا من خلصتنا من هذا وذاك .. مجتمع بلا قيادة لا بد أن يعانى كل أفراده من التيه والضلال ، ولا بد أن تتعثر كل خطواته ، ولا بد أن يخفق فى كل شئ ، وألا ينجز أى شئ ، وهذا هو حالنا الذى لا يخفى على أحد .
[1] Miller, Aaron D. What's really Wrong with the Middle East? Foreign Policy, June 25, 2013
ثالثا : ما هى المشكلة ؟
مشكلة القيادة فى بلادنا يمكن تلخيصها كالآتى : المجتمع الفاشل يصنع قادة فاشلين ، والقادة الفاشلون يعمّقون الفشل فى مجتمعاتهم ، ويأَصلون له ، ويرسّخون دعائمه وجذوره ، ويمنعون ظهور كل من يُتوسم فيه القيادة ، أو يُظَن به رغبة فى تغيير أو إصلاح .. هذا المجتمع الفاشل ينقسم إلى نخبة فاشلة ، وعوامٍ مُغَيّبين أو مُضَلّلَين ، أو ضاقت بهم سبل الحياة ، حتى شغلهم الخوف أو الجهل أو فتات العيش عن قضاياهم الكبرى : الحرية والعدالة والحياة الكريمة .. يصوّر القرآن الكريم هذه التوليفة العفنة بدقة وإيجاز : " وفرعون ذى الأوتاد * الذين طغوا فى البلاد * فأكثروا فيها الفساد * فصبّ عليهم ربك سوط عذاب * إن ربك لبالمرصاد " الفجر : 10-14 .. هنا الحاكم المستبد الظالم (فرعون) ، ومؤسساته الفاسدة المتمكنة من كل مفاصل المجتمع ، حتى وكأنها (الأوتاد) : الجيش والشرطة ، والجهاز الإدارى البيروقراطى ، والمجلس التشريعى ، والقضاء ، والإعلام .. كل هؤلاء لا يكتفون بالمنافع والمزايا التى يتمتعون بها ، بل يمارسون الطغيان ( ... طغوا فى البلاد ) ، والذى هو مجاوزة الحد فى الظلم والجور على الناس ، وهو ما يقود إلى نشر الفساد فى النفوس ، وتغلغله فى كل جنبات المجتمع ، حتى ليصبح الناس أنفسهم فاسدين ، وجزءا من منظومة كاملة فاسدة ، رغم معاناتهم ومكابداتهم ( فأكثروا فيها الفساد ) .. هذا الوضع مناقض للسنن الكونية ، ومجاف لها ولقوانينها ، ولابد أن ينهار ، ولا بد أن يحل به السخط والغضب والعذاب الإلهى ( فصبّ عليهم ربك صوت عذاب ) .. هذه هى الحالة المصرية قيادة وشعبا : قائد فاشل ، صنعته نخبة فاسدة ، وشعب فاسد :
1- النخبة الفاسدة
فى الزمن المصرى القديم ، حوّل كهنة المعابد حكّامَ مصر الفرعونية إلى آلهة .. هذا الإرث الفرعونى البغيض عامل من أهم عوامل فشلِ الحكام فى منطقتنا على مر العصور ، فى أن يفهموا أنهم خدّام للناس ، وقائمون على أمورهم ، وأنهم لا يختلفون عنهم ، وبدون رضاهم فلا مكانة ولا سلطة لهم ، وفشلِ النخبة فى أن تتحرر من نفاق الحكام وتملقهم ، وأن تستغنى عن عطايا الحاكم من أجل دورها الحقيقى فى التنوير وإيقاظ الوعى ، والدفاع عن الحق والعدل ، وفشلِ الشعب فى أن يتحرر من الإذعان والمذلة .. يتناول Bill Manley [1] فى معرض تساؤله عن طبيعة الفرعون [2] أن كهنة المعابد الفرعونية ، وهم نخبة ذلك الزمان ، جزموا بما لا يقبل الشك أو الالتباس أن الحاكم أو الملك أو الفرعون هو إله ، وأن الأعمال الفنية والكتابات أظهرت الفرعون دائما فى صحبة غيره من الآلهة ، مساوياً أو ابناً لها 'The temples of ancient Egypt assert unequivocally that the nation's king was a god. In art and texts pharaoh is shown in the company of other deities, either as their equal or as their unique child
.'
2- الشعب الفاسد
تقبّل الشعب هذا الكلام الفارغ عن ألوهية الفرعون بالرضا والتسليم ، حتى يستمر النِيل فى الفيضان ، وحتى يحظوا بالسعادة فى الدنيا ، والخلود فى الآخرة ، كما أوهمهم كهنة المعابد ، ولذلك يصف الله تعالى قوم فرعون بالفسوق والظلم والإجرام ، ولم يصفهم بالضعفاء أو المساكين أو المغلوبين على أمرهم : " ... إنهم كانوا قوما فاسقين " الزخرف : 154 ، " ... وكل كانوا ظالمين " الأنفال : 54 ، " ... وكانوا قوما مجرمين " الأعراف : 133 ، وهى أوصاف عامة تنطبق على كل الأقوام الخاضعة المستسلمة .
ينقل Manchip White [3] حديث واحد من كبار المسؤولين لأبنائه [4]، فى زمن الفرعون Amenemhat III من الأسرة الثانية عشرة ، وكأنه يغرس فيهم روح العبودية ، وضرورة تقديس الحاكم .. يقول : " هو الإله الذى بنوره نرى ، وبضيائه تشرق جنبات مصر أكثر من قرص الشمس نفسه ، وهو الذى يجعل أرضها أكثر خضرة من فيضان النيل .. إنه من يملأ أرجاءها بالقوة والحياة ، ويدافع عنها .. من أطاعه وجبت له الحماية ، ومن عصاه حقّ عليه العذاب ، ولذلك اعملوا جاهدين على نَيّلِ رضاه "'The esteem in which the ancient Egyptians held their king may be judged from the words in which a high official spoke to his children of his royal master , the great Amenemhat III of the Twelfth Dynasty.' He is the god Ra whose beams enable us to see. He gives more light to the Two Lands than the sun's disc. He makes the earth more green than the Nile in flood. He has filled the Two Lands with strength and life. He is the Ka ( i.e. the guardian spirit) … He is the goddess Bast who defends Egypt. Whoever worships him is under his protection. But he is Sekhmet. The terrible lion goddess, to those who disobey him. Take care not to defy him' ' [5
]
3- القائد الفاشل
إذا كان الشعب بهذه الحالة من الجهل ، والاستسلام والضعف والانكسار ، وكانت النخبة بهذه الحالة من النفاق والتملق والرياء ، فلا بد أن يعتقد القائد أو الحاكم أو الأمير أو الملك .. لا بد أن يعتقد فى نفسه العصمة من الزلل ، والتنزهه عن الخطأ ، والحكمة وبعد النظر فى كل الأفعال والقرارات ، والحاكم الذى يظن فى نفسه ذلك لا بد أن يكون فاشلا ومستبدا وديكتاتورا ، وهذا ما فعله كل قائد فاشل فى الماضى والحاضر .. وهذه بعض صفات فراعنة الأمس كما تذكرها المراجع [6] : " كلمته قانون ، ما يحب هو الحق والعدل ، وما يكره هو الخطأ والباطل ، أقل كلمة يتفوه بها وحىٌ معصوم ، عمله فى إدارة الدولة لا ينفصل عن دوره كإله ، يحفظ العباد بقراراته المقدسة ، وكل بياناته أو تصريحاته تشريع بذاتها ، وهو وحده المتحكم فى أمور الدولة والدين " 'His word was literally law. Justice was defined as ' what pharaoh loves ' , wrongdoings as ' what pharaoh hates '. The king's slightest word was oracular… His role as secular ruler was inseparably combined with his role as god. He kept his people in good order by means of divine utterance. His statements were statutes in themselves. In theory he directed every phase of secular and religious activity'
إ ذا كان الفرعون كذلك ، فالويل كل الويل لمن يجرؤون على معارضته ، وكيف يجوز لهم ذلك وهو الملك الإله المعصوم ؟ .. إن قائمة اتهاماتهم جاهزة ، وعزلهم بالسجن أو النفى أو التهميش أو القتل واجب [7] : " متمردون ، ومفتقدو الكفاءة ، وأصحاب طبيعة مختلة ، ويجب الخلاص منهم " 'Those who opposed him were dismissed as impotent, rebellious or twisted of character' لماذا ؟ لأن الحاكم هو الفرعون الإله الكامل ، صاحب الطبيعة الإلهية والبشرية فى نفس الوقت 'The king also carried the unique title ' perfect god ' ( netjer nefer ) … to indicate that the king existed in a divine state like other gods, but also in a physical state like ourselves ( but unlike other gods ), and so embodied the experiences of both gods and people
'
و لكن ما هو الدور الرئيسى لهذا الفرعون الإله الكامل ؟ .. دوره أن يعبد الآلهة بالنيابة عن شعبه ، وأن يحقق إرادة الآلهة فى هذا العالم ( وبعد ذلك تتحدث نخبتنا المغفّلة عن أن مصر فرعونية وليست إسلامية ، وعن فصل الدين عن الدولة .. فيا لهم من جهلاء ! ) 'His principal duties were to worship the gods on behalf of his people , and to realize the will of the gods in the world'
ولتحقيق تلك المهام الدينية وغيرها من مهام الدولة ، لا بد أن يكون الفرعون صاحب خصائص متفوقة فى الفهم ، ودقة الكلام ، والإدارة ، والقدرة على التحكم ، ولأنها خصائص يشترك فيها مع الناس ، رتّب له الكهنة حيلة وميزة فريدة لا يجاريه فيها أحد من العوام ، وهى أنه ورث تلك الصفات فى الرحم لأنه ابن إله الشمس رع .. ( أستاذية النخبة المصرية فى الفبركة والتدليس والتضليل لا يجاريها حتى شياطين الجن ) 'To fulfill his responsibilities the king was endowed with exceptional qualities such as sia ( understanding), hu ( accurate speaking), wedj (command), and heqa ( power to control) . These are not attributes unique to gods , but they do distance the king from most of humanity. More importantly, the king inherited these attributes ' in the egg ' because he was ' the sun of Re , of his body ' , that is a child born for the very substance of the sun god'
صفات الفرعون تلك فى الثقافة المصرية القديمة ، هى صفات القائد والزعيم والرئيس والخديوى فى الثقافة المصرية المعاصرة ، كما أن صفات النخبة والشعب أيضا متطابقة الآن مع مثيلاتها فى الزمن المصرى القديم ، أى أننا بلا شك توارثنا منظومة الثقافة الفرعونية كاملة ، وما زلنا نطبقها بحذافيرها ، ولهذا لا عجب أننا نعانى من أشد القادة خيبة وفشلا وإخفاقا فى كل شئ .. صورة شديدة الوضوح : مجتمع فاشل ، ونخبة فاشلة ، وقادة فاشلون ، وكل طرف فى هذا الثالوث يؤثر ويتأثر بالآخر ، ولكن هذا التأثير من منطلق أخلاقى ودينى ووطنى تأثير سلبى عديم النفع والفائدة ، وحتى من منطلق براجماتى ، فهو أيضا تأثير سلبى عديم النفع والفائدة ، لأن الجميع خاسر فى النهاية لا محالة ، لأنه عندما يخسر الوطن يخسر الجميع ، غير أن النخبة تحمل العبء الأكبر فى تلك المهزلة العبثية ، ولولا تقاعس رموزها وتضليلهم وتدليسهم ، ما حكمنا قائد فاشل ، ولا كنا فى الأساس مجتمعا فاشلا .
ولكن هل القائد الفاشل فاسد بطبعه وتكوينه ؟ القوة والسلطة والثروة عوامل تغرى أصحابها بالفساد .. هكذا الطبيعة البشرية إذا لم يحصّنها وازع الدين ، ووازع القانون ومؤسسات الدولة الراسخة ، ووازع النخبة والشعب .. النخبة عندنا فاسدة ، والشعب أيضا فاسد ، والقانون يتلاعب به الأقوياء ، ومؤسسات الدولة هزيلة وضعيفة ، والدين والأخلاق لا سلطان لهما الآن ، فقد ضعف وازعهما فى النفوس ، بل تم تهميشهما والتلاعب بهما .. ألم نر شيخ الأزهر وبابا الكنيسة يبرران للعسكر الانقلاب على الشرعية ، ويبرران غيرها من تجاوزات الأنظمة ؟ ألم نر المفتى السابق على جمعة يبرر إقصاء وتهميش الخصوم ، بل وقتلهم ؟.. يخصص Mark van Vugt و Anjana Ahuja الفصل الخامس [8] من كتابهما السابق الإشارة إليه لمناقشة انحراف القادة تحت عنوان " ميلاد الفساد " 'The Birth of Corruption' وفيه أن الدراسات النفسية وجدت أن أصحاب السلطة والقوة يتغيرون مع وضعهم الجديد ، ويميلون لإساءة استعمالها ، وللتشديد على الناس والقسوة عليهم ، ولاتخاذ إجراءات والقيام بتصرفات دون تعقل نتائجها ، كما وجدت الدراسات أيضا أنه يمكن تقسيم الشخصية إلى قسمين : شخصية اجتماعية pro-social personality تميل إلى نفع الآخرين ، وشخصية أنانية pro-self personality تميل إلى الاستحواذ على السلطة وإساءة استعمالها ، تلك الشخصية الأنانية تُظهر ثلاث صفات رئيسية Dark Triad عندما تمتلك السلطة ، وهى : النرجسية narcissism (رغبة المجد والشهرة) ، والميكافيلية Machiavellianism ( استخدام الأساليب اللا أخلاقية لتحقيق المآرب ) ، والخلل العقلى psychopathy ( والذى يتصف بالتحايل ، والقسوة ، وعدم الرحمة ، أو مراعاة الآخرين ، ومعاداة المجتمع ) .. هذه الصفات واضحة وجلية فى قادتنا المعاصرين ، فعبد الناصر مثلا كان نرجسيا راغبا فى المجد والشهرة ، وكذلك السادات وصدام حسين والقذافى ، وكانوا جميعا ميكافيليين استخدموا كل طرق الخداع والحيلة ، وكل ما يجافى العدل والأخلاق مع خصومهم ، وهو ما أبرز خاصيتهم الأخرى فى الإضرار بمجتمعاتهم ، وإلحاق الأذى بشعوبهم ، ولكن السؤال الآن : كيف يكون هؤلاء وغيرهم من حكام العرب والمسلمين نرجسيين ، وهم رضوا بالتبعية الذليلة للشرق والغرب ؟ وكيف يمكن توصيف حسنى مبارك ؟ لا شك عندى أن القبول بالتبعية للحفاظ على الكراسى والعروش ليس من النرجسية ، ولكنه ميكافيلية ضحّت بشئ من النرجسية لتحقيق الصفة الثالثة فى عداء شعوبها ، أى أن تلك الصفات قد تظهر بدرجات متفاوتة ، ولكن نتيجتها النهائية على الشعوب لا يمكن إلا أن تكون الكوارث والنكسات ، أما حسنى مبارك فهو تمثيل لتلك الصفات ، ولكن ليس بصورتها الواضحة المحددة المعالم كما فى حالة عبد الناصر والسادات وصدام ، وإنما بصورتها المشوهة الممسوخة ، وهو ما ينطبق أيضا على الملوك والأمراء ، وعلى كرزاى فى أفغانستان ، وبن على فى تونس ، وعلى عبد الله صالح فى اليمن ، وتقتضى الدقة والأمانة التأكيد على أن تلك الصفات ليست حِجرا على حكام العرب فقط ، ولكنها أيضا تظهر بدرجات متفاوتة فى كثير من رؤساء دول العالم ، ولكن الوعى النخبوى والشعبى ، ومؤسسات المجتمع الراسخة ، تمنع وجودها بالصورة الفاحشة والفاضحة كما فى بلادنا .
السؤال الهام الآن : كيف تسيطر النماذج المختلة من القادة على دولهم وشعوبهم ؟ فى الفصل الخامس من الكِتاب السابق الإشارة إليه ، يعدّدالكاتبان سبعة أساليب لذلك :
- 1- نشر الفساد ، مثل محاباة الأقارب والأصدقاء والمقربين ، والرشوة ، والعشوائية ، والتحلل الأخلاقى nepotism and corruption ، وكلها أمور نعرفها جميعا ، ولم تعد خافية على أحد ، لأنها تُمارس جهارا نهارا ، وفى كل مكان ، حتى أصبحت المعتاد والمألوف ، وحتى تقبلتها النفوس أيضا ، ولم تعد أشياء تثير السخط والامتعاض .. فى تقرير لـ " مركز الأرض لحقوق الإنسان " تناولته صحيفة ( المصريون ) بتاريخ 17 مارس 2010 ، أن هناك 3.5 مليون موظف يتقاضون الرشاوى ، من أصل 6 ملايين موظف ، وأنه تم إهدار 39 مليار جنيه من المال العام بسبب الفساد المالى والإدارى .
-2- الضحك على الناس بتلبية بعض مطالبهم ، أو بتحقيق بعض الإنجازات ، أو بالوعود التى نادرا ما تتحقق to curry favor by providing public goods ، وهى طريقة معروفة وشائعة فى مصر ، دون أن يكون ذلك سياسة ثابتة ، أو خطة استراتيجية تراعى المستقبل القريب أو البعيد ، ولذلك ولستة عقود الآن ، ما زال الإنسان المصرى يشكو من مشكلة الخبز ، وأنابيب البوتاجاز ، وأزمة المواصلات ، وضآلة المرتبات ، وغيرها .
-3- الضحك على الناس بتخييرهم بين الثبات والاستقرار ، حتى مع الاستبداد ، والفساد السياسى ، ووجود الفقر ، وغياب العدالة ، وغيرها من العلل السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، أو الفوضى ، ولذلك يميل هذا النموذج من القادة إلى مراضاة الشرطة والجيش بالمرتبات والهبات والعطايا وغيرها من الامتيازات ، لإحكام القبضة على المجتمع ، وفى نفس الوقت نزع كل وسائل القوة من الناس .
-4- القضاء على المعارضة والخصوم السياسيين ، وبلاد العرب مشهورة بالسجن والتعذيب والقتل والتضييق على المعارضين وأسرهم ، أو إجبارهم على الهجرة ، أو تهميشهم وحرمانهم من حقوقهم .
-5- الحديث المستمر عن العدو المشترك ، وضرورة محاربته والقضاء عليه ، سواء كان ذلك عدوا داخليا مثل بعض أطياف المجتمع كالإخوان ، والجماعات الإسلامية ، أو الإرهاب ، أو عدوا خارجيا مثل إسرائيل ، أو الرجعية العربية ، أو قطر وتركيا الآن .
-6- الاستحواذ على قلوب وعقول الناس manipulating the hearts and minds of followers وذلك بالشعارات والجعجعات ، والأمانى والوعود ، وتوظيف إعلام التضليل والتدليس ، والرموز الدينية التى تبيع آخرتها بدنياها ، وكذلك حجب مصادر المعرفة والمعلومات ، وجعل الحصول على الحقائق صعبا أو مستحيلا ، فينشغل المجتمع بالشائعات والأكاذيب ، والقيل والقال ، وغيرها مما يبدد الوقت والجهد والطاقة ، ويكثر الفرقة والخلاف ، ويشرذم طوائف المجتمع وطبقاته .
-7- اختراع مذهب أو طريقة أو أيديولوجيا creation of an ideology to justify their exalted position كجماهيرية القذافى وكتابه الأخضر ، والناصرية ، وميثاق عبد الناصر ، والأتاتوركية فى تركيا ، والماوية Maoism فى الصين ، وغيرها ، لشغل المجتمع بالجدل والنقاش حولها ، رغم أنها كلام فارغ لا قيمة ولا معنى له .
كل تلك الوسائل فى تدجين المجتمع أوإخصائه والسيطرة عليه معروفة للباحث والمدقق ، وأهم ما فى الأمر أنها هنا عملية مقصودة ومدبرة ومخطط لها ، ولكن المشكلة أن الكثيرين من العوام لا يمتلكون عمق الإدراك للربط بينها وبين القيادة الفاشلة ، ويزيد المشكلة تعقيدا أن المجتمع فَقَدَ مناعته وحصانته وقدرته على المقاومة ، وخارت عزيمة غالبية أفراده ، غير أن تعاون نخبة المجتمع الفاسدة مع القادة الفاشلين ، والأنظمة المستبدة يبقى السبب الرئيسى فى تغييب العقول ، وتمرير كل أساليب السيطرة على المجتمع ، والاستحواذ على كل مقدراته .
[1] Bill Manley هو أستاذ علم الآثار بجامعة Glasgow بـ Scotland
[2] Manley, Bill (Editor). 2003. The Seventy Great Mysteries of Ancient Egypt. Ch.44: Was the King really a God? By Bill Manley. p. 192. Thames & Hudson Ltd., London.
[3] Jon Ewbank Manchip White (1924-2013) كاتب ومؤلف أمريكى تخرج من جامعة Cambridge ، وله عديد من المؤلفات فى التاريخ الفرعونى .
[4] White, J.E.Manchip. 2007. Ancient Egypt: Its Culture and History. p.18. Dover Publications. NY.
[5] معانى الكلمات ذات الدلالة الفرعونية فى الاقتباس :
1- Ra : إله الشمس عند الفراعنة ، ومن أهم آلهة مصر القديمة ، والكلمة تعنى الشمس أو الخالق ، وتُكتب أيضا Re
2- Two Lands : إشارة إلى جنوب مصر Upper Egypt ، وشمالها Lower Egypt ، والذى تم توحيدهما فى 3.000 قبل الميلاد ، على يد الفرعون Menes
3- Ka : مكون من مكونات الروح الخمسة فى الاعتقاد المصرى القديم ، يُنفخ فى الإنسان لحظة مولده ، ويعتقد الفراعنة أنه يمكن حفظ الـ Ka بعد الموت ، وذلك بتزويد الموتى بالطعام والشراب ، وهذا سبب تلك العادة عندهم .
4- Bast : إلهة الحرب فى مصر الفرعونية قبل توحيدها ، وتُكتب أيضا Baast, Baset, Ubasti, Ubastat ويكتبها علماء المصريات المعاصرون Bastet
5- Sekhmet : إلهة النار والحرب والانتقام عند الفراعنة ، وهى أيضا إلهة الشفاء والدواء فى صعيد مصر ، وتمثلها أنثى الأسد ، وتقوم بحماية الفراعين ، وقيادتهم فى الحروب ، وتُكتب أيضا Sakhmet, Sekhet, Sakhet, Sachmis
[6] White, J.E.Manchip.2007. Ancient Egypt: It's Culture and History. P.16. Dover Publications. NY.
[7] Manley, Bill (Editor). 2003. The Seventy Great Mysteries of Ancient Egypt. Ch. 44: Was the King really a God. By Bill Manley. pp. 192-193. Thames & Hudson Ltd., London.
[8] Vugt, Mark van and Anjana Ahuja. 2011. Naturally Selected: The Evolutionary Science of Leadership. pp. 122-147. Harper Collins Publishers. NY.
رابعا : القيادة والإدارة
عند الحديث عن القيادة ، عادة ما تذهب أفهام البعض إلى الرؤساء ، ولكن الحقيقة أن الناس تنظر للقيادة على درجات متفاوتة ، وفى استطلاع يجريه سنويا The Center for Public Leadership فى جامعة Harvard الأمريكية منذ 2005 ، أظهرت نتائج 2010 أن الناس تنظر للقادة فى المجالات التالية ( مُرتبةً من الأعلى مكانة عند الناس إلى الأقل ) على أنهم الأكثر تأثيرا وخَلقاً لحالة من التقدير والثقة والترابط مع الناس : الجيش ، المجال الطبى ، العمل الإغاثى والخيرى ، المحكمة الدستورية العليا ، المحليات ، المجال الدينى ، التعليم ، الأعمال business ، السلطة التنفيذى executive branch ، حكومة الولايات ، الإعلام ، الكونجرس Congress ، البورصة أو سوق المال Wall Street أى أن القيادة ليست مقصورة على الرؤساء ، كما أن هؤلاء الرؤساء لا يستطيعون قيادة مجتمعاتهم بدون قادة فى جميع المجالات ، ينظر إليهم الناس بثقة واحترام .. هذه الدرجات المتباينة من القيادة دفعت الباحثين إلى التفريق بين القيادة leadership وبين الإدارة management حيث صدرت دراسات وكتب عديدة تتناول تلك القضية ، ومن بينها كتاب[1] 'On Becoming a Leader' للأمريكى Warren Bennis [2] والذى يعدّد فيه مجموعة من الفروق بين القائد والإدارى ، ومنها أن وظيفة القائد أن يلهم ويدفع ويحث inspire to ، وأن يبتدع ويبتكرر ويجدد innovate to وأن يركز على الناس focuses on people ويؤلف بين قلوبهم inspire trust to وأن ينظر إلى الأفق البعيد horizon his eye on the ويتحدى الأوضاع الحالية challenge the status quo ويغيرها ، وأن يفعل الشئ الصحيح does the right thing وأن يأتى بالأفكار الجديدة originate to بينما وظيفة الإدارى أن يخطط plan to وينظم organize to وينسق coordinate ويركز على النظام والبنية focuses on system and structure وأن تكون عينه دائما على النتائج his eye always on the bottom line وأن يلتزم بالحالة الموجودة accepts the status quo وأن يؤدى دوره بطريقة صحيحة does things right
يشترك آخرون مع Warren Bennis فى تفريقه بين القيادة والإدارة ، مثل أستاذ علم القيادة Abraham Zaleznik[3] فى كثير من كتاباته [4] ، غير أن هذه الفروق لا تعنى أن القيادة والإدارة مختلفتان تماما ، لأن الحقيقة والواقع أنهما يسيران دوما معا يدا بيد ، وكل منهما ضرورى ولازم ومكمل للآخر ، ومحاولة الفصل الكامل بينهما عبث لا يقدم نفعا ، فالقائد قائد وإدارى فى نفس الوقت ، والإدارى إدارى وقائد فى نفس الوقت ، وكل منهما يحتاج إلى ملكات ومهارات القيادة والإدارة معا بنسب متفاوتة ، حسب موقعهما ودورهما وأهدافهما .. هذه الحقيقة أقر بها كثيرون من المهتمين ببحوث القيادة والإدارة ، ومنهم Alan Murray والذى يقول فى كتابه [5] : " إن القيادة والإدارة بالرغم من إختلاف تعريفيهما ، إلا أنهما بالضرورة مرتبطتان ، ويكمل كل منهما الآخر " 'They are not the same thing . But they are necessarily linked , and complementary
'
الحديث عن الإدارة لا يقل فى أهميته عن الحديث عن القيادة ، فإذا كان رئيس الدولة مُهماً ، فإن كل إدارى أيضا مُهماً ، ولا يمكن للدولة الحديثة أن تقوم على شؤون شعبها ، ولا يمكن للقطاع الخاص أن يقوم على شؤونه ، بدون إداريين ناجحين ، يمتلكون العلم والفهم والإدراك والرؤية ، ويمتلكون الأمانة والصدق والإخلاص وروح التضحية والتفانى فى العمل ، ويمتلكون العاطفة الجيّاشة تجاه فريقهم البشرى وتجاه منظماتهم ، ويمتلكون القدرة على تحريك فريقهم البشرى ومواردهم وإمكانياتهم فى تناسق وتناغم وفقا للضوابط المقررة من أجل الأهداف الموضوعة ، أى أنهم لا بد أن يمتلكوا خليطا من مواصفات القادة والإداريين الناجحين ، ولغياب تلك المفاهيم فى مؤسساتنا الفاسدة يندر أن نرى وزيرا ، أو محافظا ، أو رئيسا لمدينة أو عمدة لقرية ، أو مديرا لشركة ، أو رئيسا لجامعة أو عميدا لكلية ، أو رئيسا لحزب ، أو رئيسا لمنظمة أو جمعية أو هيئة أو مؤسسة ، أو حتى ريسا لأنفار .. يندر أن نرى أحدا فى تلك الدرجات القيادية والإدارية المتفاوتة ، ناجحا ، أو متميزا فى أسلوبه وفلسفته ، أو منجزا لأهداف فريقه أو منظمته .. إن غالبيتهم العظمى نماذج للفشل ، وصورا قبيحة للتخبط والعشوائية ، ولذلك لا عجب أن يتمدد الفشل ليشمل مجتمعنا بدءا من الرئاسة وانتهاء برياسة الأنفار .
[1] Bennis, Warren. On Becoming a Leader. 1994. Pearson Books
[2] Warren Bennis : أستاذ إدارة الأعمال Business Administration بجامعة South California بالولايات المتحدة ، ومن الشخصيات الرائدة فى مجال علم القيادة .
[3] Abraham Zaleznik (1924-2011) : أستاذ علم القيادة بـ Harvard Business School بالولايات المتحدة ، وله مؤلفات عديدة فى هذا المجال .
[4] Zaleznik, Abraham. 1977. Managers and Leaders: Are they Different. Harvard Business Review. May-June, 1977
[5] Murray, Alan. 2010. The Wall Street Journal Essential Guide to Management: Lasting Lessons from the Best Leadership Minds of our Time. Harper Business.
خامسا : القادة والأتباع
فى كتاب Mark van Vugt و Anjana Ahuja السابق الإشارة إليه ، يقدم المؤلفان نظريتهما الجديدة 'Evolutionary Leadership Theory' أو " نظرية القيادة التطورية " ، ومفادها فى كلمات قلائل أن حاجة الإنسان للبقاء survival هى سبب ظهور القيادة والتبعية ، أو القادة والأتباع ، وأن العوامل النفسية والعقلية والسلوكية الخاصة بالقادة والأتباع ترسخت فى الفريقين عبر عملية تطورية ممتدة منذ ظهور الإنسان .. يخصص المؤلفان الفصل الثالث [1]من كتابهما لمناقشة شيّقة لموضوع التبعية followership ولماذا يقود البعض ، ويتبع الآخرون ، والفروق بينهما ، والعوامل المتحكمة فى كليهما ، ولا شك أن موضوع االتبعية شديد الأهمية ، وخاصة أننا مجتمع التبعية ، سواء للقوى الكبرى الخارجية ، أو لرؤسائنا ، أى أننا مجتمع من الأتباع الذين يصفقون ويهللون لقادتهم ، رغم أنهم لا يستحقون شرف القيادة ، ولا يمتلكون مقوماتها ، ولا يحققون لأتباعهم منفعة أو فائدة ، بل مهانة ومعاناة .
التابع follower كما يعرّفه المؤلفان هو من يتنازل عن ذاته من أجل شخص أو شئ ما 'a follower is someone who relinquishes his individual autonomy for someone or something else ' وفى تعريف آخر هو من ينسق أفعاله مع شخص آخر ، أو مع قائده 'a follower is an individual who coordinates his actions with another individual , the leader' والتبعية فى حد ذاتها ليست عيبا ، إذ لا بد أن يكون هناك قادة ، ولا بد أن يكون هناك أتباع ، شريطة تحقيق المنفعة المشتركة ، التى تُحسّن فرصة الجماعة البشرية فى البقاء ، وتحقيق الأهداف ، بدون الجور على حقوق أحد ، وبدون ذلك تتحول الحياة إلى فوضى ، فالتبعية إذن جزء من الطبيعة البشرية تؤدى إلى لُحْمة وترابط الجماعة group cohesion وإلى أمنها وسلامها safety in numbers وقدرتها على مواجهة الأعداء والظروف المعاكسة ، وإلى توزيع الأدوار ، وتنسيق الجهود ، وإلى تعلم مهارات جديدة ، ولهذا ظهرت المجتمعات ، وأثبتت التجارب التاريخية أن المجتمع الذى يمتلك قيادة ذات كفاءة يفوق غيره من المجتمعات التى تفتقد ذلك فى الإنتاج والنهضة ومستوى الحياة ، كما أن القيادة الناجحة تستثير حماس الأفراد وأحلامهم فى أن يكونوا قادة المستقبل ، ولذلك لا تعدم المجتمعات الناهضة قادة قادرين على تسلم أمورها ، ومواصلة مسيرتها الناجحة .
والتبعية لا تعنى بالضرورة وجود قادة ، فقد تكون لفكرة ما ، أو عقيدة دينية ، أو أيديولوجيا سياسية ، أو غيرها .
وتبدأ رغبة التبعية فى النفس البشرية منذ طفولتها المبكرة ، ولذلك وجدت الدراسات أن سلطة الأب والأم فى الأسرة ، وخاصة سلطان الأب ، من الضروريات لضبط سلوك الأطفال ، وأن الأطفال الذين يتربون على يد الأم فقط يميلون للجنوح والتمرد والوقوع فى أخطاء سلوكية عديدة ، وقد يستعيضون عن صورة الأب وسلطانه بالانضمام إلى العصابات والجماعات المتمردة .
دراسة وفهم التبعية ذو فائدة كبيرة فى الإلمام بالصورة الكلية للأنشطة والتوجهات فى جماعة بشرية أو مجتمع ما ، وهو ما يفيد فى فهم ظواهر مثل السمع والطاعة فى جماعة الإخوان المسلمين ، وفى فهم مواقف أطياف المجتمع المصرى المختلفة من تطورات الحياة السياسية فى مصر عقب انتفاضة 25 يناير 2011 ، وفى الماضى أيضا ، وقد قسّم [2]Kellerman الأتباع إلى خمس طبقات ، وهى :
1- isolates : وهم الانعزاليون السلبيون اللامبالون ، الذين لا يساهمون فى أية أنشطة ، مثل التعبير عن الرأى ، واتخاذ المواقف ، والتصويت فى الانتخابات ، أو حضور الندوات أو الفعاليات المختلفة كالمظاهرات وغيرها ، وهؤلاء لا يحظون باهتمامات القادة ، أو أجهزة دعايتهم التى تستميل الناس ، لأنهم لا يتغيرون ، ولا يبدون اهتماما بأحد .
2- Bystanders : وهم المتأرجحون المتذبذبون .
3- Participants : وهم المساهمون الذين يظهرون قدرا من الولاء ، ولا يمانعون فى بذل قدر من الجهد من أجل قائدهم أو قضيتهم .
4- Activists : وهم النشطاء الذين يظهرون حماسا وولاء وإنتماء لقائدهم أو لقضيتهم ، ويساهمون بصفة دائمة فى الأنشطة والفعاليات .
5- Diehards : وهم الذين يصلون فى ولائمهم وإخلاصهم حد الاستعداد للتضحية ولو بالنفس .
عند محاولة تطبيق تقسيم Kellerman على أطياف المجتمع المصرى مثلا ، نجد أن أتباع جماعة الإخوان المسلمين وغيرها من الجماعات الإسلامية ينطبق عليهم التوصيف فى 4 ، 5 ، وأن غالبية المصريين ينطبق عليهم التوصيف فى 1 ، 2 ، غير أن نظرة أكثر تدقيقا للحالة المصرية تدفعنى إلى إضافة طبقة جديدة لتقسيم Kellerman وهى طبقة : النفعيين opportunists وهم من لا يملكون قناعة أو ولاء وإخلاصا فكريا ، وإنما كل همهم المصلحة والمنفعة والفائدة ، وهم الغالبية العظمى من أتباع قادتنا ، وأعضاء أحزابهم وتنظيماتهم الخائبة ، بدءا من الاتحاد القومى ، والاتحاد الاشتراكى ، وحزب مصر ، وانتهاء بالحزب الوطنى ، وغيره من الأحزاب العلمانية والجماعات الكرتونية الهزيلة التى لا مبادئ لها ، ولا تواصل مع الناس .. فَهْمُ تلك التقسيمات أيضا يفسر تركيز الرؤساء والأحزاب المتنافسة فى الانتخابات على المنتمين للتقسيم 2 ، 3 من أجل جذبهم إلى التصويت لهم أو لبرامجهم ، أو تحويلهم إلى التقسيم 4 ، 5 ، وهو أمر تضعه أجهزة الدعاية فى اعتبارها ، حيث من المعلوم أنه كلما زادت نسبة المؤيدين لرئيس أو حزب أو برنامج ما ، كلما زادت شرعيته legitimacy
يتحدث Mark van Vugt و Anjana Ahuja عن نوع آخر من تقسيم الأتباع ، حيث من يتبع لكسب الخبرة والمهارة ليكون قائدا فى المستقبل فهو apprentice ، ومن يتبع لغرض أخلاقى أو دينى فهو disciple أو مُريد أو حوارى ، ومن يتبع لغرض ترابط الجماعة فهو loyalist أو مخلص ، ومن يتبع لغرض وظيفى فهو subordinate أو مرؤوس ، ومن يتبع لغرض شخصى فهو supporter أو مؤيد ، غير أننى أرى أن جميع الولاءات والانتماءات ، ومن ثم التبعية ، يمكن وضعها أسبابها تحت ألأغراض الثلاث التالية : فكرى ( حيث تكون الفكرة هى المحرك الأساسى للأتباع ) ، أو نفعى ( حيث تكون المنفعة فقط هى العامل الجاذب للأتباع ) ، أو وظيفى ( حيث يكون الارتباط الوظيفى هو العنصر الوحيد للتبعية ) .
عند مناقشة قضية التبعية ، هناك أمر لا يمكن إغفاله ، وخاصة فى المجتمع المصرى ، وهو ما يمكن تسميته " تابع التابع " ، أى تابعٌ يتبع تابعاً ، ويمكن ملاحظة ذلك فى كثير من نواحى الحياة المصرية ، حيث مثلا لكل وزير أو إدارى أتباع مقربون ، ولهؤلاء الأتباع المقربين أتباع ، وللأتباع أتباع ، وهكذا ، أى أن كل شخصية قيادية فى المجتمع تشبه نقطة مركزية ، تتوزع حولها دوائر التبعية ، وكلما اقتربت الدوائر من المركز ازدادت درجة التبعية ، وتساهم كل الدوائر فى خدمة السيد المتمركز فى المركز ، ويمكن تطبيق ذلك على الدولة المصرية التى يتربع فى مركزها الرئيس ، تحيط به دوائر تبعية متوالية من قادته العسكريين ، وحرسه وشرطته وأمنه ، ووزرائه ، ورجال أعماله ، وجهازه التشريعى ، والقضائى ، والبيروقراطى ، وكلهم لحماية الرئيس وتنفيذ سياساته ، وإحكام قبضته على المجتمع ، بينما تُرك الشعب ليكون الحلقة الأخيرة المفككة المُهملة ، رغم أن الحق والصواب يقتضى أن يكون الشعب مركز الدائرة ، وأن تحيط به جميع الحلقات لرعايته والقيام على أموره .
إذا كانت التبعية كما أسلفت طبيعة بشرية ، ولها منافع عديدة فى حفظ النظام ، وحماية المجتمع ، وتأهيل أتباع اليوم ليكونوا قادة الغد ، فلماذا تبدو التبعية فى مصر عبودية وإمتهانا وتحقيرا للإنسان ؟ والإجابة : لأننا نتبع قادة غير أكفاء ، وغير مؤهلين ، ولأن الإرث الفرعونى البغيض أصّل فى نفوسنا الذل والإنكسار للقائد الفرعون الإله الكامل .. هذه باختصار مشكلة التبعية والقيادة فى المجتمع المصرى .. يناقش Mark van Vugt و Anjana Ahuja قضايا التبعية ، ومنها الجانب الأخلاقى فى الفصل الثالث من كتابهما السابق الإشارة إليه ، ويذكر المؤلفان أن رغبة الجماعة فى الحفاظ على وحدتها وترابطها قد يدفعها أحيانا لاتباع رأى القائد والاغلبية حتى ولو كان خطأ ، كما أن خلل البوصلة الأخلاقية للقادة يضر بالأتباع ، أى أننا هنا أمام قادة قد فقدوا ضوابطهم الأخلاقية ، فانحرفوا بالمجتمع ، وأتباعا يخشون التفكك والتشرذم ، فرضوا باتباعهم للقائد وللأغلبية الخاطئة ، ولا شك أن القيادة الخاطئة والأغلبية الخاطئة تقود مجتمعها دوما إلى الكوارث والخراب .. فى الزمن الفرعونى القديم استخف رمسيس الثانى Ramesses II بالمصريين ، فضحك عليهم وادعى النصر فى معركة قادش Qadesh مع الحيثيين Hittites ، الذين شملت مملكتهم سوريا وتركيا الحاليتين ، وخلّد ذلك على ستة من معابده ، كما قيلت القصائد فى احتفالية النصر المزعوم ، رغم أنه لم ينتصر ، ورغم أن قواده أخطؤوا أخطاء جسيمة فى تقديرهم لجيش عدوهم .. يتساءل Bill Manley أستاذ الآثار والتاريخ القديم السابق الإشارة إليه عن حقيقة منْ كسب معركة قادش [3] ( حدثت فى 1275 قبل الميلاد )Who won the battle of Qadesh? ، ويخلص إلى أن الجيش المصرى بقيادة رمسيس الثانى قد انسحب بعد معارك كاد فيها رمسيس أن يخسر حياته ، ويخسر جيشه ، بسبب أخطاء قواده القاتلة 'his generals had been dangerously inadequate' مما أفقد مصر مدينة قادش 'Qadesh was lost from Egyptian control forever' ، وبفقدها فقدت مصر تحكمها فى طريق التجارة الهام شرق البحر المتوسط ، ويفسر الأستاذ احتفالية رمسيس الصاخبة بالنصر المزعوم أنه ظن أنه يستطيع إعادة كتابة التاريخ بالترديد المتكرر لحكاية النصر الوهمية ، وأن احتفالية الجماهير بالنصر ربما كانت لإحراج الجيش الذى خذل قائده 'Ramesses believed he could rewrite history by proclaiming over and again that the battle had been a personal triumph… the public proclamation was intended to embarrass the military who had so failed the king' وفى الزمن المصرى الحديث تكرر الضحك والاستخفاف بالمصريين ، عندما سحب عبد الناصر جيشه من سيناء فى 1956 ليحتلها الإسرائيليون ، ليتركوها بعد ذلك بسبب التوازنات الدولية التى لم تكن فى صالح العدوان الثلاثى ، وليقيم عبد الناصر ونظامه وجوقته احتفالات النصر ، ويتغنون بأهازيجه ، ويجعلوا له عيدا ، وفى 1967 تتكرر نفس المهزلة ، ويتم تدمير الطيران المصرى ، وينسحب الجيش من سيناء فى فوضى عارمة بعد تدمير جميع أسلحته ، وينطلق إعلام العار يتحدث عن المعارك الطاحنة التى تخوضها قواتنا ، وعن طائرات العدو التى أسقطتها ، والدبابات التى دمرتها ، والخسائر الفادحة التى ألحقتها ، وعندما لم يعد فى الإمكان مداراة الفضيحة والوكسة الكبرى ، ينطلق نفس إعلام العار يتحدث عن نكسة ( بَسْ ) ، وخسارة معركة ( بَسْ ) وليس الحرب ، وعن أننا انتصرنا لأن أعداءنا أرادوا إزاحة الزعيم ، ولكن الزعيم بقى رغم أنوفهم ، فليحيا الزعيم ولنفديه بدمائنا وأرواحنا ، ولنوجه اللوم للمشير وغيره من القادة الذين انشغلوا بمطاردة المغنواتية والمشخصاتية ، واللهو والعبث ، والإفساد فى الأرض ، وكأنهم ليسوا قادة الزعيم ورجالاته ، وكأن الزعيم لم تلهه الجعجعات وإطلاق التهديدات عن إعداد العدة ، والتخطيط لحرب حقيقية ، وليست مسرحية هزلية ، أو حربا كرتونية .. إنه نفس سيناريو رمسيس الثانى يتكرر بعد 3231 سنة من معركة قادش ، والغريب أنه فى قادش كما فى 5 يونيو لم تتكون لجنة مستقلة لبحث أسباب الإخفاق والهزيمة ، وما زلنا لا نعلم عن حقائق المعركتين إلا ما يكتبه الأجانب .
إن القادة الفاشلين يعنيهم دوما أن يبقى أتباعهم أو مجتمعاتهم فاسدة وذليلة ومغيبة الوعى والإدراك ، ومنشغلة بالجعجعات والشعارات والسفسطات والكلام الفارغ ، كما يعنيهم ألا يسمحوا بظهور كفاءات تنازعهم مقاعد القيادة ، أو تسائلهم عن أفعالهم وتجاوزاتهم ، وفى نفس الوقت فإن الأتباع المغيبين بتضليل وتدليس وكذب القادة وإعلامهم ودعايتهم وأجهزتهم لا يمكن أن يفرزوا قادة أكفاء وأمناء ، كما أنهم سرعان ما يجرفهم فساد القيادة وتغولها ، لضعف مناعتهم ومقاومتهم وخاصة إذا غابت النخبة الواعية المخلصة ، أو تخلّت عن دورها فى التنوير والإحياء ، وقيادة حراك الجماهير ، ليتحول القادة والأتباع إلى منظومة متكاملة ومتناغمة من الفساد والعشوائية ، وهو ما انحدرنا إليه فى حالتنا المصرية .
[1] Vugt, Mark van and Anjana Ahuja. 2011. Naturally Selected; The Evolutionary Science of Leadership. pp. 65-93. Harper Collins Publishers. NY.
[2] Kellerman, B. 2008. Followership: How followers are Creating Changes and Changing Leaders. Harvard Business Press.
[3] Manley, Bill(Editor). 2003. The Seventy Great Mysteries of Ancient Egypt. Ch. 57: Who Won the Battle of Qadesh. By Bill Manley. pp. 243-246. Thames & Hudson Ltd., London.
سادسا : ما هو الحل ؟
معضلة القيادة فى مصر وغيرها من بلاد العرب والمسلمين معضلة معقدة لتداخل عواملها وأسبابها ، ولفداحة عواقبها على المجتمع ، ولتأثيراتها المستقبلية التى تُضائل الأمل فى الإصلاح والتغيير ، غير أنها كأى مشكلة مهما عظمت فإن لها حلولاً ، ولكنها حلول تحتاج زمناً للإحساس بنتائجها ، وتحتاج عملا جادا ، وأمانة وإخلاصا ، ومن أهم تلك الحلول :
1- تغيير الثقافة الفرعونية الفاسدة التى تعظم الحاكم ، وتؤلهه ، وتجعل كلامه وتصريحاته وحياً معصوماً ، وقانوناً ، وتشريعاتٍ واجبةَ النفاذ ، وأن ما يحب ويهوى هو الحق والعدل ، وما يكرهه ويمتعض منه هو الباطل الذى يجب النفور منه وعدم اتباعه .. إنه الزعيم والقائد والخالد والمخلّص والمُلهم والبطل والمّؤمن والكبير ، وغيرها من مصطلحات النصب والاستهبال فى الماضى والحاضر .
2- تغيير الثقافة الفرعونية الفاسدة التى تجعل من الأتباع أو الشعب عبيدا أذلة صاغرين ، يجب عليهم الخنوع والخضوع والإنكسار ، والتبعية العمياء للحاكم ، فهو الشمس التى تنير حياتهم ، وهو مُجرى النيل ، وواهب السعادة فى الدنيا ، والخلود فى الآخرة ، وهو صاحب الفضل فى رغيف الخبز الذى يأكلونه ، والوظيفة التى يرتزقون منها ، وهو من علّمهم العزة والكرامة ، وكل شئ فى الحياة هبة من فضله ، ومنة من كرمه ، وهو أيضا من يحمى أمنهم وبلادهم من أعداء الداخل والخارج .. لقد تغير مفهوم القيادة والتبعية فى عالمنا المعاصر ، وكما يذكر ' مركز القيادة الإبداعية ' The Center for Creative' Leadership' بنيويورك : لم يعد هناك قادة فقط وأتباع فقط ، لأن الأتباع الآن يلعبون دورا فى عملية القيادة ، حيث أن الطرفين متفاعلان 'there really are not pure leaders and pure followers anymore… followers take their turns at the process of leading'
3- تغيير الثقافة الفرعونية الفاسدة التى تجعل من يعارض الحاكم ، أو من لا يرضى عن سياساته ، أو من يقوم بمساءلته أو نقده أو الخروج عليه ، تجعله مارقا ، وخائنا وعميلا ، ورجعيا ، ومعوقاً للإنجازات الثورية ، ومتعاوناً مع أعداء الخارج والداخل ، ومختلاً ، وصاحب طبيعة فاسدة ، ويتبع شرذمة منحرفة ، حتى ولو كانت غالبية الشعب ، ويجب إقصاؤه وتهميشه ، أو عزله ونفيه ، أو سجنه وتعذيبه ، أوامتهان كرامته وكرامة أهله ، أو حتى قتله .
4- تغيير الثقافة والسلوكيات الفرعونية الفاسدة ليس أمرا سهلا ولا سريعا ، ويحتاج إلى ثورة ثقافية وحراك مجتمعى شامل ، يبدأ بإعادة المودة والرحمة إلى الأسرة المصرية ، حتى نتخلص من أُولى صور القيادة الممسوخة فى ثقافتنا ، وهى الزوج المستبد الذى يمتهن زوجته ، ويقسو على أطفاله ، أو الزوجة السليطة التى لا تحسن عشرة زوجها ، أو تربية أولادها ، ويأتى مع ذلك تغيير النظام التعليمى لتخريج أجيال من النابهين ، منفتحى العقول والقلوب ، ذوى المهارات الأكاديمية والتقنية والاجتماعية ، وذوى الشجاعة والمروءة والأمانة والإخلاص ، ويوازى تلك التغييرات الأسرية والتعليمية تغييرات إعلامية تُعلى من قيمة الحق والعدل والكرامة والتوازن وغيرها من أساسات الحياة السعيدة ، والمجتمعات الناهضة ، أى أننا هنا فى حاجة إلى أسرة جديدة ، وتعليم جديد ، وإعلام جديد ، وأزهر ومؤسسات إسلامية جديدة .. عملية شاملة تحتاج جيلا من التغيير والإصلاح ، ورغم مشقتها ، وطول مدتها إلا أنها ضرورية ولازمة ولا نجاح بدونها .
5- القائد الناجح ليس القائد الفرد البطل المتمرد .. هذا النموذج الوهمى فى خيالات البعض ، لا يصنع قائدا ، ولا تتحق على يديه إنجازات ، لأنه مشغول بصورته ، وما حولها من تهليل وتطبيل ، وهتّيفة ومنافقين وأفّاكين ، وشعارات وجعجعات ، عن معنى القيادة الحقيقى ، كعمل جماعى ، متفاعل مع كل درجات القيادة وكل المسؤولين ، ومع كل الأتباع من أفراد الشعب ، وعن دوره كخادم وأجير عند الناس ، تجوز محاسبته إذا خان الأمانة ، أو أهمل فى واجباته ، أو أوقع بشعبه المصائب والكوارث والإخفاقات .. المشكلة فى صورة القائد الفرد أنها تتغاضى عن الحقيقة والواقع ، وتُسوّق لمفاهيم مغلوطة ، ولذلك تذكر المجلة الأمريكية The Christian Science Monitor فى ملفها عن القيادة السابق الإشارة إليه أن خطأ هذا المفهوم يأتى من تركيزه على فرد واحد فقط ، وتغافله عن التعقيد الكبير فى ديناميكية القيادة ، وتحقيق الإنجازات ، وهو ما يؤدى إلى صورة الفرد القائد القدّيس 'to see just one person rather than the complexity that makes action happen. That's the biggest driver of the hagiography of the individual leaders' وتضيف المجلة أن صورة القائد البطل أصبحت تجلب الضرر أكثر من المنفعة 'These days, the myth of a hero-leader may be doing more harm than good' كما أصبحت أيضا أقل جاذبية ، وتركز اتجاهات القيادة الحديثة الآن على العمل الجماعى ، أو ما تسميه القيادة المترابطة ، والتى تطلق ملكات ومهارات الفريق ، لتصنع فريقا من القادة 'new school of leadership that places less emphasis on a heroic individual and instead favors something more group-based and relationship- driven. It's called 'connected leadership', and it's about letting even people without positions of authority assert themselves as leaders when their skills or networks are called for' وقد عبّر عن هذا المفهوم Joseph Rost الاستاذ بجامعة San Diago الأمريكية ، فى مقال جميل [1] نشرته الدورية العلمية لدراسات القيادة ، بعنوان ' تطور القيادة فى الألفية الجديدة' ، يقول فيه : " تشير كلمة يقود وقائد غالبا إلى الشخصيات صاحبة السلطة , غير أن التعريفات المعاصرة ترفض الآن فكرة أن القيادة تدور حول قدرة القائد وسلوكه ونمطه فى القيادة وجاذبيته وسحره ، ويركز الباحثون المعاصرون الآن على طبيعة القيادة وأساسياتها من منطلق التفاعل بين الأشخاص المشتركين فى العملية ، أى القادة والأتباع ، والجهد المشترك بينهما ، أى أن جوهر القيادة الآن ليس القائد ، وإنما التفاعل بينه وبين أتباعه " 'The words lead and leader usually referred to authority figures… contemporary definitions most often reject the idea that leadership revolves around the leader's ability , behavior, style or charisma. Today, scholars discuss the basic nature of leadership in terms of the interaction among people involved in the process: both leaders and followers. This leadership is not the work of a single person, rather it can be explained as a collaborative endeavor among group members. Therefore, the essence of leadership is not the leader, but the relationship' إذا كانت صورة القائد الفرد البطل أصبحت شيئا أقل جاذبية ، وأبعد عن الواقع ، فإن صورة القائد المتمرد maverick أيضا أصبحت كذلك ، ويصفها ملف القيادة السابق الإشارة إليه بالأسطورة أو الوهم 'That is a myth. That is a fantasy' وهى فعلا كذلك ، فالقائد الحقيقى هو الحكيم الذى يعلم جيدا توابع كلامه وأفعاله وقراراته وتصرفاته ، ويمتلك دوما نظرة استراتيجية لكل أمور مجتمعه .. لقد انتهى زمن القادة المتمردين ، لأنهم فى الحقيقة القادة السفهاء والحمقى ، الذين يوردون بلادهم موارد المهالك والكوارث ، كما فعل عبد الناصر فى حروبه الخاسرة فى اليمن ، و 1956 ، و 1967 ، وكما فعل السادات فى زيارته للقدس ، واتفاقاته مع إسرائيل ، وكما فعل صدام حسين فى حربه مع إيران ، وغزوه الكويت ، وكما فعل معمر القذافى فى كل شئ ، وكما فعل جورج بوش فى احتلاله لأفغانستان والعراق .. القائد الحكيم هو من لا يتخلى عن ثوابته ، ولا مصالح بلده ، ولكن بدون خسائر ، أو بأقل الخسائر الممكنة ، فإن فُرضت عليه الحرب ، أعد العدة ، واختار موعدها وظروفها المناسبة .
6- القائد الناجح هو من يقود نفسه أولا ، ثم الآخرين ، والإدارى الناجح هو من يقود أيضا نفسه أولا ، ثم الآخرين .. فى دليل القيادة الذى أصدره 'مركز القيادة الإبداعية' Center for Creative Leadership فى نيويورك بالولايات المتحدة ، أن قيادة النفس تتطلب من القائد أن يكون واعيا بملكاته وقدراته الشخصية ، وقادرا على التوفيق والتوازن بين المطالب المتضادة ، وراغبا فى أن يتعلم باستمرار ، ومالكا لأخلاقيات القيادة ومبادئها ، بينما قيادة الآخرين تتطلب المقدرة على بناء علاقات جيدة مع فريقه ومع أتباعه ، والحفاظ عليها ، وتكوين فرق عمل فعّالة ومؤثرة ، وامتلاك قدرات التواصل ، والمقدرة على تطوير وتحسين الآخرين ، أما الإدارى الناجح فبجانب قيادته لنفسه بمواهب متماثلة مع مواهب القيادة ، فيلزمه لقيادة الآخرين فى فريقه أو شركته أو منظمته ، أن يمتلك مقدرة التفكير والتخطيط الشامل أو الاستراتيجى ، وأن يكون مبدعا وخلّاقا وقادرا على التجديد والتطوير ، وأن يكون قادرا على التواصل والتفاعل والتحكم فى جميع أنشطة العمل .. هذه الخصائص مفقودة تماما فى جميع قادتنا وغالبية إداريينا ، وليس منهم واحد إلا ويتملكه إحساس الزهو والنرجسية والتعالى على الجميع ، وفقد التواصل معهم ، علاوة على غياب المقدرة على التفكير والتعلم ، وغياب النظرة الشاملة والإدراك للإمكانيات البشرية والمادية وغيرها ، والتخطيط المستقبلى ، ولا شك أن غياب كل تلك الخصائص يسهم بالقسط الأكبر فى فشل قادتنا ، وتدهور أحوال معظم مؤسسات المجتمع وأجهزته .
7- يقول الرئيس الأمريكى السابق John F. Kennedy : 'القيادة والتعلم أمران لا غنى عنهما لبعضهما البعض' 'Leadership and learning are indispensable to each other' إذن العلم والمعرفة وكل ما يرقى بالعقل والفهم والفكر ضروريات للقائد الناجح ، إذ يصعب تخيل قائد جاهل أو متجمد فى عالمنا المعاصر ، لأن الجهل يحرم صاحبه من إدراك كثير من متغيرات الحياة ، وأساليبها وتقنياتها وطرقها الحديثة اللازمة لنجاح القائد ، ونجاح الإدارى ، ونجاح المجتمع بأسره ، كما أن التجمد وعدم التجديد يُحدث أيضا نفس الـنتائج السلبية على الجميع .. القيادة فى حد ذاتها وفى جزء كبير منها عملية تعلمية ، ومهارات يكتسبها الإنسان بالتعليم والخبرة والممارسة والتقليد وغيرها ، فالقائد لا يولد قائدا ، و الإدارى لا يولد إداريا ، ولذلك يلزم مجتمعنا المصرى ، والمجتمعات العربية والإسلامية أن تهتم بعلم القيادة ، وأن تُدرّسه فى المدارس والجامعات ، وأن تهتم بأبحاث القيادة والإدارة .. فى الولايات المتحدة وحدها توجد أكثر من 300 جامعة تقدم مقررات دراسية فى القيادة ، وتوجد عديد من المراكز المتخصصة فى القيادة ، كما تصدر دورية علمية لبحوث القيادة The Journal of Leadership Studies كما أن وجود نظام سياسى راسخ فى تقاليده الديموقراطية ، ذى مؤسسات فاعلة ، ومعارضة قوية ، من الأمور اللازمة لتنشئة وتدريب وصقل وتمحيص قيادات جديدة وتهيأتها لتولى المسؤولية ، وكل تلك الأمور مفقودة فى مجتمعاتنا الآن ، حيث يحكمنا عسكر ورؤساء وملوك وأمراء لا علم ولا فكر لديهم ، علاوة على استبدادهم وديكتاتوريتهم ، وخنقهم لكل النماذج الواعدة التى قد تنافسهم أو تزاحمهم فى السلطة والمسؤولية ، واختيارهم دوما لمن هم أسوأ منهم ليكونوا نوابا أو مستشارين ، وتلاعبهم بالدساتير لتمديد فترات رئاستهم ، وإطالة أمد جثومهم على كراسيهم وعروشهم ، وتزوير الانتخابات والاستفتاءات لنفس الغرض ، أو إعدادهم أبناءهم أو أقاربهم لوراثة الحكم .
8- " القيادة فن " [2] 'Leadership is an Art' عنوان كتاب شديد الإمتاع عن القيادة ، كتبه الأمريكى Max De Pree [3] ، وفيه يطرق البعد الإنسانى والأخلاقى والفلسفى للقيادة ، برشاقة وعذوبة متناهية ، تتطلب من كل قائد أو إدارى أن يقرأ هذا الكتاب ، وأن يستفيد بما فيه من قواعد وإرشادات ونصائح ، ومن أهمها : أن يكون واقعيا 'The first responsibility of a leader is to define reality' وأن يعتبر نفسه خادما لأتباعه ، ومدينا لهم بمكانته ونجاحه 'the leader must become a servant and a debtor' وأن يتوسم مواهب القيادة فى أتباعه ، وأن يطور تلك المواهب ويغذيها ، لإعدادهم ليكونوا قادة المستقبل 'Leaders are responsible for future leadership. They need to identify, develop, and nurture future leaders' وأن يشجع كل الآراء المخالفة له كأهم مصادر الحيوية والنشاط 'Effective leaders encourage contrary opinions, an important source of vitality' وأن يركز على الناس ، فهم القلب والروح فى كل شئ 'What are artful leaders responsible for? Surely we need to include people. People are the heart and spirit of all that counts. Without people, there is no need for leaders' وأن يمنح أتباعه الحرية للنمو والنضوج والتعبير عن أنفسهم وتباينهم ، وهو ما سيعطيهم قدرة التأثير فى بعضهم البعض ، والأخذ والعطاء من بعضهم البعض ، فى جو من الانفتاح والكياسة والرحمة والاحترام 'Leaders owe people space, space in the sense of freedom. Freedom in the sense of our gifts to be exercised. We need to give each other the space to grow, to be ourselves, to exercise our diversity. We need to give each other the space so that we may both give and receive such beautiful things such as ideas, openness, dignity, joy, healing, and inclusion. And in giving each other the gift of space, we need also to offer the gifts of grace and beauty to which each of us is entitled' هل يفعل أحد من قادتنا وإداريينا ذلك ؟ هل يعيشون الواقع ؟ هل يعتبرون أنفسهم خُدّاما ومدينين لأتباعهم ؟ هل يلاحظون النبوغ بين أتباعهم ، ويساعدون تلك النماذج على الظهور والصقل كمستقبل قادة ؟ هل يفتحون صدورهم وعقولهم لكل الآراء المخالفة ؟ هل يعتبرون الناس قلب وروح كل شئ ؟ هل يخلقون أجواء الحرية والكرامة حيث تزدهر النفس البشرية فى انفتاح واحترام ؟ بالقطع لا يفعلون شيئا من ذلك ، لأنهم لا يفهمون ، ولا يتحلون بتلك المعانى والمفاهيم ، ولا يريدون غير البؤس والشقاء لأتباعهم ، لأنه فى تلك الأجواء الكئيبة سينصرف الناس لمحاولة مجرد البقاء ، وسينصرف القادة والسادة والكبراء للسرقة والنهب والإفساد فى الأرض ، وسيضمنون أن يكونوا دائما القادة والسادة والكبراء .
9- القيادة تمدن وتحضر ورفعة فى الذوق والتصرف والسلوك ، والتزام بالدين والقيم والمبادئ وكل الضوابط الأخلاقية ، وهى أمور جميعها لازمة وضرورية لتقدم المجتمع ونهضته وسعادته ، وينبغى أن يركز عليها القادة على جميع المستويات ، وبدونها سيستمر الانهيار الأخلاقى والسلوكى الذى نعانى منه ، وسيستمر كل قائد أو إدارى فى إهالة التراب على من سبقوه ، وتشويههم ، ووصفهم بكل صفات الشر والسوء ، بدل أن يحمى إنجازاتهم ، ويصحح أخطاءهم ، ويضيف بدوره إنجازات جديدة .. فى الزمن الفرعونى القديم كان تشويه الفرعون السابق ، وطمس آثاره ، وإزالة منجزاته ، دائما من أُولى اهتمامات الفرعون الجديد .. عندما جاء أخناتون Akhenatenللحكم ( 1351 أو 1353- 1334 أو 1336 قبل الميلاد ) فى زمن الأسرة الـ 18 ، أنشأ عاصمة جديدة لمملكته ( Amarna ) ، وأحدث تغيرات فى النظام الدينى وقتها للتخلص من تغول طبقة الكهنة ، وللعودة لتقاليد المملكة القديمة ، وبعد موته قام ابنه ووريثه فى الحكم توت عنخ آمون Tutankhamun بمحاولة [4] إزالة كل الآثار الدالة حتى على أنه كان موجودا 'Tutankhamun, his son, tried to eliminate all evidence that he had ever existed' وبعد موت توت عنخ آمون ، وانتقال السلطة إلى حور محب Horemheb أكمل ما بدأه سلفه [5] ودمر مدينة الـ Amarna ومعابد آتون التى أقامها أخناتون فى الكرنك ، واستخدم أحجارهما فى بناء معبده الجديد 'Horemheb… to write the Amarna period out of history. Demolition work began at Amarna, while the Aten temples at Karnak were taken down and immediately employed in the foundations and filling of Horemheb's own monuments' وفى الزمن المصرى الحديث أهال عبد الناصر التراب على العهد الملكى ، وتبارى نظامه وإعلامه فى تشويه أسرة محمد على ، ولم يسلم من ذلك حتى النساء ، ليرث السادات عبد الناصر ويقوم بنفس الدور فى تشويه الزمن الناصرى ، وقبل وبعد انقلاب الفريق السيسى العسكرى على الرئيس محمد مرسى ، يتسابق الحكام الانقلابيون الجدد ، وجوقة إعلام العار الموالى لهم ، فى موجة عارمة من الردح والشرشحة للنظام السابق .. انحطاط وسفه وسوقية وبذاءة وابتذال يفوق الخيال .. كتب د. حسن حنفى فى صحيفة ( المصرى اليوم ) بتاريخ 25 أبريل 2013مقالا بعنوان " هيبة الرئيس " ، يقول فيه : " لم يحدث فى تاريخ الثقافة السياسية والشعبية أن تمت السخرية والاستهزاء بالرئيس كما حدث هذه الأيام ... على نحو بذئ من أجل الإضحاك... هناك فرق بين التقديس والتجريح ، ووسط بينهما وهو النقد البناء وليس الإضحاك والتسلية " ، وكتب وائل قنديل فى صحيفة ( الشروق ) بتاريخ 3 مايو 2013 تحت عنوان " قل خرفان والعن حماس وصفق لإسرائيل تكن وطنيا " : " نعيش الآن زمن المسخ ، حيث تنشط ماكينة جبارة فى الحفر عميقا داخل ذاكرة المصريين ووجدانهم لتثبيت معايير جديدة لوطنية جديدة فاسدة ، تقوم على جهل بالتاريخ ، وتحلل من القيم ، واستغراق فى البذاءة والابتزاز، ومن معايير الوطنية الجديدة الفاسدة أن تكون عنصرا نشطا فى مشتمة مفتوحة على مدى 24 ساعة يوميا ، فالوطنى النموذجى وفقا لمعايير هذه الأيام التعيسة من يلعن القضية الفلسطينية ، ويعادى مقاومتها حماس ، ويتمنى لو أن إسرائيل صبت جام إرهابها ووحشيتها على الفلسطينيين فى غزة، أما الثورى النموذجى بالمعايير ذاتها ، فهو من يشتم رئيس الجمهورية قبل الأكل وبعده بفاحش العبارات ، ويتهم من يؤيد الحوار بالكلمات وليس اللكمات بالتأخون والأخونة ، ويعتبر كل المعترضين على المحرقة السياسية والأخلاقية المنصوبة قطيعا من الخرفان ... ومن عجب أن هذا النزق الثورى الجديد لم يعد مقتصرا على مجموعات شبابية غاضبة تشبعت بمنتجات آلة الدعاية السوداء حتى النخاع ، بل دخل حلبة الابتزاز شخصيات عامة من أكاديميين وقانونيين ومثقفين وإعلاميين ، كنا نظنهم كبارا ، ولكنهم نافسوا بقوة فى هذا المضمار ، حتى تناهوا فى الصغر ، وهبطوا إلى قاع الإسفاف فى الممارسة السياسية والخطاب الإعلامى " .. طبعا كل هذا الهرج والوقاحة ما كانت لتحدث لولا أن طبيعة القادة والأنظمة المصرية تقوم على تشويه القادة والأنظمة السابقة ، ولا تفهم أنها عندما تتجرد من الوفاء ، وتفعل ذلك ، فإنها تجهز نفسها للتشوية من الأنظمة اللاحقة .. فى كتابه السابق الإشارة إليه " القيادة فن " كتب Max De Pree يؤكد على أهمية التحضر ، وضرورة اهتمام القادة بالقيم والأخلاق والخصال الحميدة ، مثل الاحترام وتقدير الآخرين واحترامهم 'Leaders must take a role in developing, expressing, and defending civility and values… good manners, respect for persons, and understanding of ' good goods ', and appreciation of the way in which we serve each other' وخصصت المجلة الأمريكية The Christian Science Monitor مقالها الرئيسى فى عددها الصادر بتاريخ 3 مايو 2012 لموضوع التحضر فى الأقوال والأفعال ، حيث ذكرت أن الخصال الحميدة هى ما يحفظ السلام ، ويعبر عن الذكاء الاجتماعى 'good manners are keepers of peace, signs of social intelligence' وأن التحضر فى السلوك واحترام الآخرين هو صميم الحياة الأخلاقية 'Civility forms the core of an ethical life, one lived first with respect for others'
10- " عندما يكون الرحيل قيادة " 'When Leaving is Leading' عنوان جميل لأحد موضوعات ملف القيادة فى المجلة الأمريكية السابق الإشارة إليه .. طبعا قادتنا وإداريونا لا يرحلون ، ولا يتركون مناصبهم طواعية ، ويودون أن يستمروا فيها ما داموا على قيد الحياة ، ولا يعلمون أن القائد والإدارى الناجح هو من يعلم قدر نفسه ، وحدود قدراته ، فينسحب فى هدوء عندما يجد نفسه غير قادر على العطاء ، وغير قادر على حل المشاكل ، وغير قادر على البذل والإضافة ، ويفسح المجال لمن هو أقدر منه ، وأكفأ منه ، ومن هو قادر على تقديم الحلول ، وإحداث التطوير والتغيير والإنجاز .
[1] Rost, Joseph. Leadership Development in the New Millennium. The Journal of Leadership Studies. pp. 91-110. Nov., 1993.
[2] De Pree, Max. 2004. Leadership is an Art. Crown business.
[3] Max De Pree رجل أعمال وكاتب أمريكى ، تخرج فى 1948من Hope College
[4] Manley, Bill (Editor). 2003. The Seventy Great Mysteries of Ancient Egypt. Ch. 27. The Enigma of Akhenaten. By Dominic Montserrat. p. 123. Thames & Hudson Ltd., London.
[5] Dodson, Aidan and Dyan Hilton. 2010. The Complete Royal Families of Ancient Egypt. pp. 142-144. Thames & Hudson Ltd., London.
سابعا : صناعة القادة
كل تلك الأشياء السابقة حلول لمعضلة القيادة فى مجتمعاتنا ، ويلزم توظيفها جميعها وعلى المدى الطويل من أجل إعداد قادة جدد ، يرثون المسؤولية من سابقيهم ، ويكونون أكثر كفاءة وعطاء ، وإحساسا بالناس وتفاعلا معهم ، فالقيادة الناجحة محصلة علم وخبرة ومران وممارسة واقتداء .. لقد لعبت الأنظمة العسكرية التى حكمت مصر وغيرها من بلاد العرب عقب التحرر من الاستعمار الغربى ، دورا شريرا فى إحداث إنتكاسة كبرى لمستقبل مجتمعاتها ، لأنها قضت على المعارضة ، فحرمت مجتمعاتها من روح المنافسة التى تُعد قادة جددا وتصقلهم وتدفع بهم إلى الصفوف الأمامية ، كما قضت على مؤسسات الدولة ، وحرفتها عن وظيفتها ، وحولتها إلى تأييد القائد ، فعقمت أن تفرز نماذج جديدة وواعية وقادرة على تحمل المسؤولية ، وقضت على روح المنافسة فى المجال الاقتصادى ، وقزّمت القطاع الخاص ، فحرمت المجتمع من إداريين وقادة يعرفون معنى الجد والإعداد والتخطيط وتنسيق الجهود ، وقضت أيضا على التعليم الذى أصبحت مهمته تخريج موظفين لبيروقراطية النظام العفنة ، وقضت على الإعلام ليتحول إلى بوق لتمجيد الزعيم ، ولتشويه الخصوم ، والحط من أقدارهم ، وقضت على مؤسسات الإسلام الرسمية ، وحولتها إلى مسخ مشوه لغرس معانى التبعية والولاء والخضوع فى نفس الناس للحاكم ، والصبر على مظالمه ، وعدم شرعنة مقاومة طغيانه ، أو الخروج عليه .. كل تلك الأعراض المرضية هيأت العقول لتقبل مفاهيم فاسدة ، مثل المستبد العادل ، رغم استحالة أن يجتمع الاستبداد والعدل معا ، فالمستبد لا يمكن أن يكون عادلا ، والعادل لا يمكن أن يكون مستبدا ، فالعدل والاستبداد نقيضان ، ولكن السؤال يبقى : كيف نصنع قادتنا ؟ وأين نجدهم ؟ وكيف نفهمهم ؟
هناك حوالى عشر نظريات لتحليل مفهود القيادة ، وتفسير نشأة القائد أو صناعته ، بعضها يهتم بمواصفات القائد ، وبعضها بسلوكه ، وبعضها بعلاقته مع أتباعه ، وبعضها بالمواقف التى يجد نفسه فيها ، وكيف يتفاعل معها ، وقد أشار إليها Mark van Vugt و Anjana Ahuja فى كتابهما السابق الإشارة إليه [1] ومن أهم تلك النظريات :
1- نظرية الرجل الاستثنائى أو العظيم The great man theory والتى كانت سائدة حتى القرن الماضى ، ومفادها أن القادة العظام قد وُلدوا هكذا ، ولم يتم صناعتهم .
2- نظرية الخصائص والسمات Trait theory والتى ترى أن نظرية الرجل الاستثنائى وإن كانت صحيحة إلى حد ما ، لأن الناس تختلف فى قدراتها على التأثير الاجتماعى ، ومن ثم فى عظمتها ، إلا أنها لم تقدم أكثر من ذلك ، ولهذا فالتركيز على الخصائص والسمات أقدر على تفسير القيادة ، وفهم القادة ، ومن أهم تلك الصفات الذكاء ، والطموح ، وإنكار الذات ، والابتكار والإبداع ، والدبلوماسية ، والمثابرة ، والبلاغة والقدرة على التواصل .
3- نظرية القائد الخادم Servant leadership وفيها يتميز القائد بالتواضع ، والتراحم ، والإحساس بالأتباع ، واحترام القيم والمبادئ والأخلاق .
4- نظرية القيادة الكاريزماتية Charismatic leadership theory وتركز على الخصائص الاستثنائية أو الغير عادية للقائد ، مثل سحره وجاذبيته ومواصفاته الشخصية ، ويعتبر بعض الباحثين أن الكاريزما ليست صفة أو خاصية شخصية ، ولكنها إحساس ومفهوم للعلاقة بين القائد وأتباعه ، بينما يربط آخرون بين الكاريزما والميكافيلية ، وتظهر القيادة الكاريزماتية عادة فى الأحزاب السياسية والجماعات الدينية .
5- نظرية القيادة الجماعية Distributed ( or dispersed/emergent) leadership وهى نظرية حديثة ، وترى أن القيادة تكون أشد نفعا وأكثر تأثيرا عندما تكون موزعة على أكثر من فرد من أصحاب الموهبة والكفاءة .. هذا النموذج عندى هو أفضل نماذج القيادة حيث تتسع دائرة التشاور واتخاذ القرار ، وتتسع دوائر المسؤلية ، وهو ما يحقق السعادة للجميع ، ويفجر ملكات وطاقات كل المشاركين ، ويصقل مواهب وقدرات الأفراد الأقل سلطة ، ويهيؤهم للتقدم فى سلم القيادة .
[1] Vugt, Mark van and Anjana Ahuja. 2011. Naturally Selected: The Evolutionary Science of Leadership.pp.25-41. Harper Collins Publishers. NY.
ثامنا : ماذا يحمل لنا المستقبل ؟
المستقبل لا يحمل لنا خيرا ، وذلك لدلالة بسيطة ، وهى أنه فى الوقت الذى تهجر فيه الأمم والشعوب أسلوب الانقلابات العسكرية ، والقادة العسكريين ، والدولة العسكرية ، وفى الوقت الذى تختفى فيه هذه المصطلحات من الكتابات والأخبار ، وفى الوقت الذى أثبتت فيه تجارب التاريخ أن الانقلابات العسكرية تعوّق مسيرة الشعوب نحو إرساء مبادئ الديموقراطية ، وترسيخ مؤسسات الحكم ، وتعويد الناس على الآليات والممارسات الديموقراطية .. فى هذا الوقت تفاجئ مصر العالم بانقلاب عسكرى على الشرعية المنتخبة ، تحت دعاوى مكذوبة ومضلِلة ، وفى نفس الوقت لا يكتفى الانقلابيون بالسير عكس حركة التاريخ ، وحركة المجتمعات المعاصرة ، بل يأخذون كل شئ معهم فى نفس الاتجاه العكسى .. تكميم الأفواه ، وتقييد الحريات ، وتصفيد الصحافة والإعلام ، وإطلاق يد الأمن والشرطة ، لمطاردة واعتقال الخصوم ، والتنكيل بهم ، وتلفيق التهم لهم ، وسجنهم ، وقتل واستحلال دم الأبرياء ، وتحويل القضاء من حماية الشعب ضد تغول السلطة ، إلى تغول السلطة والقضاء معا على الشعب ، فى محاكمات هزلية ، وأحكام هزلية ، واتهامات هزلية .. العالم تجاوز الدولة العسكرية الأمنية البوليسية القمعية ، ونحن نتشبث بها بأيدينا وأسناننا .. العالم يُطْلق حرية التعبير ، وتبادل المعلومات ، وكشف الحقائق ، ونحن نقيد الحريات ، ونحجب المعلومات والحقائق .. العالم يؤكد على حقوق الإنسان فى الحياة والكرامة والتظاهر وإبداء الرأى ، ونحن ننتهك حقوق الإنسان ، ونستحل دمه ، ونجور على كرامته ، ونحجر على حقه فى التظاهر وإبداء الرأى .
إن العسكر لا يصلحون لقيادة المجتمعات ، أو للتدخل فى العملية السياسية أو الاقتصادية ، أو لفرض وصايتهم على النظام والحكومة والمجتمع ، أو لترتيب أوضاع خاصة لهم فى الدستور ، أو للتمترس والتمركز بآلياتهم وبنادقهم فى الشوارع والميادين .. لقد تغيرت الحرب ، وتغيرت السياسة ، وانتهى زمن البطل المحارب المقدام الذى يحمى قبيلته من الأعداء .. نحن الآن فى زمن السياسة ، وزمن الديموقراطية بآلياتها وممارساتها ، وزمن مؤسسات الحكم الراسخة المستقرة ، ولا يصح أن يتدخل العسكر فى السياسة ، أو يعطلوا العملية الديموقراطية ، أو يعوّقوا مؤسسات الحكم ، أو يعطلوا الدستور ، أو يشرذموا المجتمع إلى فئات وأطياف ، أو يدخلوا صراعا وهميا ضد فصيل من الشعب ، أو حربا عبثية ضد خيال يسمونه الإرهاب .. إن الديكتاتورية العسكرية تختلق دوما المعارك والصراعات ، حتى تبقى قلوب الناس معلقة بشخصية القائد المحارب البطل ، وحتى تبقى العقول حبيسة الخوف من الخطر الوهمى ، وحتى ينصرف الناس عن التفكير والإحساس بقصور وعجز هذا القائد المحارب البطل ، وحتى لا ينتبهوا إلى الكارثة والخيبة الكبرى التى وقعوا فيها .
يا سادة .. لقد تعبنا من الرئيس العسكرى ، والرئيس الفتوة ، والرئيس البلطجى ، والرئيس الطاغية ، والرئيس المستبد ، والرئيس الفرعون ، والرئيس الديكتاتور ، والرئيس الفاسد ، والرئيس الطرطور ، والرئيس العميل ، والرئيس الخائن ، والرئيس الغبى ، والرئيس النايم ، والرئيس الملك والشيخ والأمير ، والرئيس المخبول ، والرئيس الدموى .. تعبنا من كل تلك التشكيلة القبيحة من البغاة الظالمين ، فهل تبعث لنا الأقدار رئيسا عادلا وأمينا وحكيما ؟ أم أن الأقدار لا تستجيب للكسالى والمتخاذلين ، ولا بد أن نصنعه على أعيننا ، وأن نراقبه بكل جوارحنا ، وأن نحاسبه إن جار على حقوقنا ، أم أننا أصبحنا عاجزين أن نصنع أحدا ، أو نراقب أحدا ، أو نحاسب أحدا ، ولم يبق أمامنا إلا أن نقضى أيامنا نندب حظنا المائل ، ونولول على خيبتنا بين الأمم .
سعد رجب صادق
Saad1953@msn.com
06/11/2014