الإصلاح والتغيير .. والعشوائية
|
مستقبل العشوائيين |
بقلم : سعد رجب صادق
...........................
هل يمكن لمجتمع ما أن يُحقق نهضة ، أو يصنع حضارة ، أو يُحدث إنجازا ، بدون تخطيط ؟ الإجابة البديهية هى : لا ، لا يمكن لمجتمع أن ينهض أو يتحضر أو يُنجز شيئا بدون تخطيط .. والسؤال الآن : هل يمكن أن يكون هناك تخطيط بدون دراسات علمية وافية ومستفيضة ؟ وهل يمكن أن تكون هناك دراسات علمية وافية ومستفيضة بدون علم وخبرة وأمانة وإخلاص ؟ وهل يمكن تنفيذ الخطط والمشاريع بدون إرادة سياسية ومجتمعية ؟ الإجابة البديهية أيضا هى : لا .. إذن التعليم ضرورة حتمية للدراسات العلمية ، والدراسات العلمية ضرورة حتمية للتخطيط ، والتخطيط والإرادة السياسية والمجتمعية ضرورتان حتميتان للنهضة .. السؤال الأكثر إلحاحا الآن : لماذا فشلنا فى كل شئ : فشلت الدولة المصرية فى اللحاق بركب الحضارة ، وفشل المجتمع المصرى فى الارتقاء بنفسه ، والتخلص من عيوبه ؟ .. سؤال شديد الأهمية ، وتبدو إجابته شديدة التعقيد ، ولكنها فى الحقيقة بسيطة وسهلة وميسورة ، وهى أننا مجتمع العشوائية التى تنتشر وتسود وتتحكم فى كل شئ ، على المستوى الفردى ، وعلى المستوى الجماعى ، وعلى المستوى المؤسساتى .. مجتمع يغيب فيه القانون ، ويغيب فيه النظام ، وتغيب فيه الثقافة التى تحترم الضوابط والقواعد المنظمة لحركة الحياة .. العشوائية هى آفة المجتمع المصرى الكبرى ، وهى سر الفوضى التى تنتشر فى كل جنبات المجتمع ، وهى سبب الإخفاقات التى تلاحقنا فى كل شئ ، إنها ببساطة وفى كلمات قلائل نقيض النهضة والحضارة .
المجتمع العشوائى هو مجتمع السبهللة ، والهرجلة ، والفهلوة ، والأونطة ، والحداقة ، والفكاكة ، والهجص ، والهرتلة ، والخطرفة ، والتواكل ، والتبارى فى اختلاق العلل والأسباب ، وتبديد الوقت والجهد والطاقة ، واللجوء إلى الخرافات والخزعبلات ، وكراهية العلم والثقافة والقراءة ، والاستهبال والاستعباط ، ومجافاة العمل الجاد ، وعدم الإتقان فى أى شئ ، وعدم احترام آداب المرور ، وحب الضجة والجلبة والصياح والضوضاء ، وإدمان الردح والشتم والشرشحة ، والعدوان على الممتلكات العامة ، والميل إلى القبح والدمامة ، ونبذ الجمال والرقة والجاذبية .. فى المجتمع العشوائى تصبح العشوائية ثقافة وسلوكا وطريقة للتفكير وأسلوبا للحياة ، وتتحول مؤسسات المجتمع إلى الفوضى والإهمال واللامبالاة ، وتنقلب المدن والقرى والشوارع إلى عشوائيات كبيرة ، حيث الزحام والقذارة والبذاءة ، وكل ما يبعث على النفور والتقزز والاشمئزاز .
يتناول هذا المقال ظاهرة العشوائية كثقافة وسلوك ، وظاهرة انتشار العشوائيات فى المدن المصرية ، وما يتصل بذلك من مشاكل وأزمات ، أوصلتنا إلى حالة بائسة من التخلف والفوضى ، وأضعفت الأمل أو لاشته فى مستقبلنا القريب والبعيد .
أولا : دلالات لغوية واجتماعية
تشيع فى المجتمع المصرى مصطلحات وتعبيرات وكلمات تعكس بوضوح دلالات اجتماعية وسلوكية ، ورغم عاميتها إلا أن بعضها يأتى من أصول عربية فصيحة ، طرأ عليها مع الزمن تغيير فى نطقها ، وتبديل فى ترتيب حروفها ، لتحمل معانى جديدة ، متقاربة أو متباعدة مع معانيها الأصلية ، وبعضها يأتى من أصول غير عربية ، كالتركية والفارسية واليونانية ، وغيرها من الأجناس التى اختلطت بالمصريين على مدار التاريخ ، ومن أكثرها شيوعا على الألسن :
- السبهللة
السبهللة هى أكثر الكلمات دلالة على الفوضى والعشوائية وانعدام النظام والتخطيط ، حتى لتعطى الانطباع بأن كل واحد فى مصر يفعل ما يروق له بدون ضوابط أو التزامات ، ويعيش الحياة بدون هدف يتجاوز احتياجات البطن والفرج ، وهذا صحيح إلى حد كبير ، فالسبهللة ظاهرة عامة فى الشوارع حيث يقود كلٌ سيارته بالسرعة التى يراها ، وفى الاتجاه الذى يراه ، حتى لأصبح من المألوف أن تسير السيارات فى عكس الاتجاه ، وتقف فى أى موضع يرغبه قائدها ، وأصبح من المألوف أيضا ألا يحترم أحد إشارات المرور ، ومع هذه الفوضى العارمة يعبر المشاة الطريق من أى نقطة يشاؤون ، ويزداد المشهد عبثية فى التقاطعات والميادين ، ويُضاف إلى كل ذلك أصوات الزمارات العالية التى تخترق الآذان لتزيد من التوتر والإزعاج ، والمطبات والحفر التى لم يسلم منها مكان ، والمحلات والباعة الذين احتلوا معظم الشوارع ، وأكوام القمامة التى تشغل ما تبقى منها ، ومشهد السبهللة المصرية لا يقتصر بتلك الصورة الفاضحة على الشوارع ، وإنما يمتد إلى كل مؤسسات المجتمع وأجهزته ، والتى تدوّخ المواطن من أجل استخراج شهادة أو وثيقة ، وهى نفسها دائخة من غياب التناسق والتناغم والتخطيط بين أقسامها ، وبينها وبعضها البعض ، حتى أن كل مشاريع المجتمع والتى يُنفق على بعضها مليارات الجنهيات ، تتم بدون تخطيط ، أو دراسات جادة ، أو اعتبار لآثارها وعواقبها المستقبلية ، وهو ما يقود إلى تبديد طاقات المجتمع وموارده ، وتبلغ السبهللة أوجها بتصريحات المسؤولين المتضاربة والمتناقضة ، وتصريحات الرموز السياسية التى لا تعرف عن أى شئ تتكلم ، ووعودهم التى لا أساس لها بتحسين الأحوال ، ورفع المعاناة ، وغيرها من الأمانى والآمال.
إذا كانت تلك مظاهر للسبهللة كسلوك وأسلوب للحياة ، فإن الدلالة اللغوية للكلمة لا تختلف كثيرا ، ففي معجم( لسان العرب) : جاء سَبَهْلَلاً : أى ضالا لا يدرى أين يتوجه ، أو لا شئ معه .. قال الأصمعى وأبو عمر : إذا جاء وذهب في غير شئ ، ويُقال : جاء سَبَهْلَلاً وسَبَغْلَلاً أى فارغا .. يُقال للفارغ النَّشط الفَرِح ، وأيضا لمن يختال في مشيته .. يُقال مَشَى فلان السّبَهْلى : أى التبختر والانبساط في المشى ، وفى ( قاموس اللغة العربية المعاصر ) : سَبَهْلَل : أمر أو شئ لا ثمرة فيه ، وذهبت جهوده سَبَهْلَلاً أى هباء ، وفى (المعجم الوسيط ) : السَّبَهْلَل : الفارغ يجيئ ويذهب في غير شئ ، أو شئ لا ثمرة فيه .
وفى الحديث الشريف " لا يَجيئَنَّ أحدكم يوم القيامة سَبَهْلَلاً " أى فارغا ليس معه من عمل الآخرة شئ ، ورُوى عن عمر بن الخطاب (رض) قوله : " إنى لأكره أن أرى أَحَدكم سَبَهْلَلاً، لا في عمل دنيا ، ولا في عمل آخرة " ، قال ابن الأثير : " والمعنى لا في عمل من أعمال الدنيا ، ولا في عمل من أعمال الآخرة " .
السَّبَهْلَل أيضا من أسماء الباطل .
- الهرجلة
الهرجلة لا تختلف عن السبهللة ، فكلتاهما متشابهتان فى دلالاتهما الاجتماعية والسلوكية واللغوية ، ويذكر ( لسان العرب ) : أن الهَرْجَلة هى الاختلاط في المشى .. يُقال : هَرْجَل ، ويُقال : هَرْجَلت الناقة ، وفى ( معجم اللغة العربية المعاصر ) : هَرْجَل فى أعماله : أى أداها بشكل غير منظَّم ، أو لم يسلك فيها مسلك النظِّام ، وفى ( المعجم الوسيط ) : هَرْجَلَ يُهَرْجل هَرْجَلَة وهِرْجالاً فهو مُهَرْجَل ، وهَرْجَل فى مشيته من شدَّة التَّعب .
- الدربكة
الدربكة كلمة أخرى لا تختلف عن سابقتيها فى الدلالة الاجتماعية والسلوكية واللغوية ، وحسب ( معجم اللغة العربية المعاصر ) : دربكَ يُدرك دَرْبكةً فهو مُدَربِك أى جعل المكان مختلطا ومزدحما ، وفى ( المعجم الوسيط ) : الدَّرْبَكَةُ : الاختلاط والازدحام ، ومما يجدر ذكره أن الدَّرْبَكَة تختلف عن الدَرَبُكَّة ، وهى كلمة أخرى شائعة فى المجتمع المصرى ، وتعنى حسب ( معجم اللغة العربية المعاصر ) : آلة إيقاع ونقر ، وهى فخارية مجوفة ضيقة الفم ، ويُشد على أسفلها قطعة من جلد ، ويُضرب عليها بالكفين والإصبع ، وتشبه الطَّبلة .
ومع شيوع العشوائية فى أجهزة الدولة ومؤسساتها ، وفى تصرفات الأفراد والجماعات ، طرأت على المجتمع ظواهر سلوكية ضارة وكثيرة ، ترتب عليها جميعها عواقب سلبية على النفسية والعقلية والطبيعة المصرية ، ومن هذه الظواهر :
- الفهلوة
تخلو معاجم اللغة العربية من كلمة الفهلوة ، وأقرب ما أورده ( لسان العرب ) كلمة الفَهْلَل ، وهو من أسماء الباطل ، تماما مثل السَّبَهْلَل ، والتى من معانيها أيضا الباطل ، ولا يخفى أن العشوائية والسبهللة والفهلوة سلوكيات باطلة ، وقد ورد في ( معجم تيمور الكبير فى الالفاظ العامية ) [1] أن فهلوى كلمة تركية أو فارسية محرفة عن بهلوى أو بهلفى من اللغة الفهلوية أو البهلوية ( لغة فارسية قديمة ) ، ويذكر ( معجم اللغة العربية المعاصر ) أن ( فَهْلَوىُّ ) تعنى الشخص المحتال ، القادر على مجاراة المجتمع ، والتكيف السريع مع متغيراته ، وفى تحقيق لمجلة ( المصور ) [2]عن ظاهرة الفهلوة فى مصر ، أن الكلمة أصلها بهلوى الفارسية ، والتى تعنى ادّعاء التشاطر والتذاكى . ويذكر زبير بلال إسماعيل [3] أن فهلوى وبهلوى اسم قديم لبلاد الأكراد ، أو للشعب الكوردى نفسه ، منذ العصور الوسطى ، وأيام الساسانيين ، ثم بعدها أيام العرب المسلمين ، وقد جاءت من كلمة برثوه ، وهو اسم لإقليم خراسان قبل الميلاد ، وتُكتب أيضا ( ثرث ثوه) : ( ثرث ) تعنى المشرق ، و(ثوه) وتعنى الشمس ، أى مشرق الشمس ، وقد انتشر الثارثيون أو الثهلويون في المناطق الكوردية الممتدة من غرب إيران وشمال العراق وشرقه ، وصار لقب البهلوى مرادفا لبلاد كوردستان القديمة أو للشعب الكوردى نفسه ، بينما الفرس لم يكونوا من خراسان ، وإنما من إقليم فارس ، وفارس أو بارس حسب المعاجم الفارسية تعنى العابد أو الزاهد أو التقى المتدين الورع ، وقد استعمل بعض الفرس كلمة بهلوى ليخلعوا على أنفسهم إحساس البطولة ، حيث تعنى الكلمة المحارب البطل ، ويذكر محمد أمين زكى [4] ( مؤرخ كوردى ، 1948-1880 ) أن اللغة البهلوية واحدة من مجموعة اللغات الإيرانية أو الآرية ، وكانت فى العراق القديم لغة العامة فى التحادث والتحاور ، وقد اُكتشفت عدة آثار ووثائق مكتوبة بها ، يرجع تاريخها لعهد الساسانيين ، وكانت اللغة الكوردية القديمة تُسمى لغة البهلوان أو البهلوانيان ، أى لغة المحاربين الأبطال .
يعزو تحقيق مجلة ( المصور ) السابق الإشارة إليه شيوع الفهلوة فى مصر إلى غياب القانون ، وهو استنتاج سليم ، فالفهلوة صورة من صور النصب والاحتيال ، وعندما يغيب القانون فلا حماية للضحايا ، ولا زجر للمجرمين ، ولا ترهيب لكل من يفكر فى التعدى على أموال الناس ومصالحهم ، وفى التحقيق أيضا يُرجع د. جلال أمين ، أستاذ الاقتصاد بالجامعة الأمريكية ، منشأ تلك الظاهرة إلى ارتباط الحراك االاجتماعى الذى شهدته مصر فى الخمسين عاما الأخيرة بالمال ، وغياب القيمة العلمية أو الثقافية فيه ، والانفتاح غير المنضبط فى السبعينات .. كل تلك العوامل أحدثت خلخلة لطبقات المجتمع ، وتآكلا للطبقة الوسطى ، وانقلابا فى منظومة القيم ، وضياعا للخطوط الفاصلة بين الخطأ والصواب ، وهو ما أدى لظهور سلبيات كثيرة ، ومنها الفهلوة ، فمثلا تعبير ( الرزق يحب الخفية ) والذى كان يُستخدم للدلالة على النشاط والمرونة ، واستغلال الفرص ، وخفة الظل ، وفهم الشخص المقابل أو الآخر ، مما يساهم فى إنجاز المهمة ، وتسهيل المأمورية ، أصبح يعنى فى الثقافة الفهلوية خفة اليد ، وغياب الضمير .
تُعتبر دراسة د. حامد عمار : ( بناء البشر ) ، والتى صدرت فى 1964 ، أول تناول لظاهرة الفهلوة فى مصر ، وفيها يحدد بعضا من مواصفات الشخصية الفهلوية ، مثل : التكيف السريع ، والمرونة ، والفطنة ، والمسايرة السطحية ، وأعقب ذلك الهادى عفيفى فى دراسته لـ ( سمات الشخصية المصرية من خلال الأمثال الشعبية ) ، وفيها أن الفهلوية تعنى الانتهازية ، والنفاق ، والأنانية ، والحقد ، واللامبالاة ، والسخرية ، وفى عام 1988 أشار د. سيد عويس فى ( قراءة فى موسوعة المجتمع المصرى ) إلى الفهلويين كانتهازيين ، متلونين ، منافقين .
قد يختلف المحققون حول الأصل اللغوى للكلمة ، وحول أسباب انتشار الفهلوة فى مصر ، ولكن الأكيد أنها ظاهرة سيئة ، لأنها تعنى ببساطة الاستهبال والاستعباط ، وادّعاء ملكات ومواهب وقدرات غير موجودة فى صاحبها ، واتباع مسالك وطرق غير أمينة ونزيهة وصادقة فى التعامل مع الآخرين ، غير أن الأخطر من فهلوة الفقراء والضعفاء والمحتاجين ، وغيرهم ممن تخلّت عنهم الدولة ، وضاقت بهم السبل ، وتكاثرت عليهم مطالب الحياة .. الأخطر من ذلك فهلوة أدعياء العلم والثقافة ، وأقبح أمثلة عليهم فى أيامنا المعاصرة تلك النماذج البائسة التى اتخذت من الإعلام مسكنا وأداة لها ، للتضليل والتدليس والخلط على الناس ، فتراهم وقد أصبحوا خبراء استراتيجيين ، ومحللين سياسيين وعسكريين ، وفقهاء قانونيين ودستوريين ، ومفتين فى أمور الشرع والدين ، وغيرها من كل أمور الحياة .. يفعلون كل ذلك بلا علم أو دراسة أو خبرة ، حتى لأصبح المجتمع المصرى المجتمع البشرى الوحيد الذى يتحدث فيه الكل فى كل القضايا ، من الطب والفضاء وغيرها من ميادين العلوم ، إلى السياسة والحكم ، إلى الأدب والفن ، إلى الدين .. ولذا لا عجب أننا أصبحنا مجتمع الأونطة ، والحداقة ، والفكاكة ، والهجص ، والهيصة ، والهرتلة ، والخطرفة ، والشرشحة ، والخزعبلات .. غير أن الأسوأ من كل ذلك أننا لا نعترف بأخطائنا ، ولا نمتلك الشجاعة الأدبية لنصارح أنفسنا بما نعانيه من عيوب ومزالق ومآزق ، ولا نعرف أهمية الإقرار بالزلات والأخطاء ، والاعتذار والتوبة ، والعزم على تجنب كل ما يعيب ويشين ، ولا نبدى رغبة صادقة فى التعلم والإصلاح .. فقط نطرمخ على كل عيوبنا ومشاكلنا ، ونظن أن ذلك يكفى لمداراتها وإخفائها ، أو تأجيل البحث عن حلول لها ، وكلما فعلنا ذلك استيقظنا على نكسة أو كارثة أو مصيبة أو مأساة ، وساعتها يخرج المنافقون والكاذبون يبعثرون التهم يمنة ويسرة ، على أعداء الداخل والخارج ، أو على البسطاء الذين لا عزاء لهم ، أو يدّعون أن كلَ حاجة تمام ، وكلَ شئ تحت السيطرة .
- أونطة
الأونطة مشتقة من كلمة أفنطة ، وهى يونانية تعنى الحيلة.. يُقال لمن يستخدم الحيلة في تحقيق أغراضه أونطجى .
- الحداقة
يذكر معجم (لسان العرب ): الحِذْق والحَذاقَة : المهارة في كل شئ .. يقال : حَذِق الشئ يَحْذِقُه ، وحَذِقَه حَذْقاً، وحِذْقاً ، وحَذاقاً ، وحِذاقاً ، وحِذاقة، وحَذاقة ، فهو حاذق من قوم حُذَّاق ، أما حَدَقَ فتعنى أحاط به .. يقال : حَدَقَ القوم بالرجل وأحدقوا به : أى أحاطوا به .. ويبدو أن كلا الجذرين : حَذِق ، حَدَقَ ، يحملان معنى الحداقة المصرية ، من ادعاء المهارة ، ومحاوطة الخصم أو الضحية بكل الحيل والادعاءات .
- الفكاكة
الفكاكة مثل الحداقة ، ويذكر ( معجم اللغة العربية المعاصر ) أن فكَّاك صيغة مبالغة من فكَّ ، فيقال : فكَّاك الرموز أى الذى يحلها ويكشف معانيها ، وجذرها ف ك ك ، والفِكَاك ما يُفك به الرهن أو الأسير .
- الهجص
في معجم ( مقاييس اللغة ) : هَجَسَ الشئ في النفس : أى وقع ، وفى ( العباب الزاخر ) : الهاجِس ُ: الخاطر بالبال ، وهو أن يُحَدّث المرء نفسه ، ويجد في صدره مثل الوسواس .. يُقال : هَجَسَ في صدرى شئ يَهْجِسُ هَجْساً ، وفى ( القاموس المحيط ) : وقعوا في مَهْجوس من الأمر : أى ارتباك واختلاط .. فالتهجيص إذن هو الكلام المختلط المرتبك الذى لا أساس له من علم أو خبرة ، ولا منطق ولا عقل فيه ، وإنما يشبه الوساوس والهلاوس .
- الهيصة
في مجتمعنا الكل هايص ولايص ، أى حراك وعنف وفوضى بلا فائدة أو هدف .. جاء في ( لسان العرب ) : الهَيْصُ : العنف بالشئ (ابن الأعرابى ) ، وهاصَ يَهيصُ هَيْصاً : إذا رمى ، ومع هذه الهيصة فالكل لايص ، وأصلها كما فى ( معجم اللغة العربية المعاصر ) : أَيِسَ يَأْيَسُ أيَساً وإياساً أى يئس وقنط وانقطع رجاؤه ، فهو آيِسٌ وأيِسٌ، والمفعول مأيوس منه
- الهرتلة
فى ( لسان العرب ) : هَرَطَ الرجل في عرض أخيه يَهْرِطُه هَرِطاً : أى طعن فيه وتنقَصه ، وتهارط الرجلان : إذا تشاتما ، والإنسان يهرط في كلامه : أى يسفسف ويخلط .. يُقال هَرَتَ عِرْضَه وهَرَطَه وهَرَدَه ، وهَرَدَ الثوب يَهْرِدُه هَرْداً : أى مزّقه وطعن فيه ، والهَرْتُ : أى الطعن والتمزيق .. هَرْطَمَ أيضا مثل هَرَتَ ، هَرَدَ ، هَرَطَ ، والهرتلة قريبة أيضا من الهرطقة فى المعنى ، فالهرطقة تعنى الابتداع بما يخالف النصوص الدينية المقدسة ، ويتسع المعنى ليشمل كل قول أو فعل يخالف ما استقر فى الأعراف ، وأجمع الكل على صحته وتقبله ، غير أن الهرطقة أصلها الاسم heretic
- الخطرفة
خَطْرَفَ كما في ( لسان العرب ) تعنى : أسرع .. يُقال خَطْرَف الجمل وتَخَطْرف : أى جعل خطوتين خطوة من وساعته ، وتَخَطْرَف : أسرع في المشى ، ووسّع الخَطْو، وفى ( معجم اللغة العربية المعاصر ) : خطرفة المريض : الهذيان ، والمتأمل فى أحوالنا يجد أن الجميع يتكلم أى كلام فى أى موضوع ، وهو الهذيان بعينه .
- الشرشحة
في الفصحى : شَرَحَ : أى قَطَعَ ، وشرَّح : أى قَطَّع ، ومنه علم التشريح anatomy ، وشَرَحتُ الكلام : أى وضّحتُه وفسّرتُه ، وهو نفس المعنى ، فالشارح يُفَصّل الكلام أو يُقَطعه فيوضح ما خفى منه ، وفى العامية : شرْشَحَه أو شَرْشَح عرضه أى : مزَّقه ، ونبش عن عيوبه ، وجَرّحه بلسانه ، وتمادى في نقده وتوبيخه ، وامرأة شرشوحة : أى ممزقة للأعراض .
- خزعبلات
في ( معجم الصحاح في اللغة ): خُزَعْبلات مفردها خُزَعْبِل ، وتعنى الأباطيل ، والخُزَعْبيلَةُ : ما أضحكتَ به القوم .. يُقال : هات بعض خُزَعْبيلاتِك ، وفى ( معجم اللغة العربية المعاصر ) : خُزَعْبلات : أحاديث باطلة ، أو مستطرفة تبعث على الضحك .
- الطرمخة
فى ( لسان العرب ) : اطْرَخَمَّ الليل إذا اسْوَدَّ ، ومثلها : اطْرَهَمَّ ، واطْرَخَمَّ الرجل : أى كَلّ بَصَرُه ، والاطْرِخمامُ : الاضطجاع ، والمطْرَخِمُّ : أى المضْطجِعُ أو المنْتَفِخ من التخُّمَة ، وفى ( الصحاح فى اللغة ) : اطْرَخَمَّ أى شمخ بأنفه وتعظَّم ، وكلها معانى تتماشى مع حالة الطرمخة الرسمية والشعبية على كل مشاكلنا ، حيث نلفها بسواد السرية والكتمان ، أو نتعامى عنها ونطنش ، أو نتكاسل عنها كالمتخم المنتفخ من الطعام والشراب ، أو نشمخ ونتعاظم عن الإقرار بخيبتنا ووكستنا .
- الطناش
كلمة الطناش أصلها الطَّنَس ، وفى ( لسان العرب ) : الطَّنَسُ : الظلمة الشديدة .. يقول ابن الأزهرى : قُلبت الميم نونا ، والأصل الطَّمْسُ أو الطَّلَسُ ، والمعنى يتشابه مع الطرمخة ، حيث فى الظلمة تختفى الأشياء ، ويتعامى عنها أهل الطناش .
- بزرميط
أىُ مجتمع تتفشى فيه كل تلك العيوب ، لابد أن يكون مجتمع البزرميط ، والكلمة فى الإنجليزية bizzare ، وتعنى الشاذ أو الغريب أو غير المتسق أو المتناسق ، وقد جاءت من الفرنسية (1650-1640 ) عن الإيطالية bizarro ، وفى أثناء الحملة الفرنسية (1801-1798 ) انتقلت إلى اللسان المصرى لتعطى دلالة صارخة على أحوالنا .. ألا يلحظ القارئ معى أن كل تلك السمات التى ذكرتها فى تلك الفقرة ، نقيض للتخطيط والتنظيم والترتيب والمنهجية ، والجد والإجادة والإتقان والدقة والصرامة ، والإخلاص والأمانة و، واحترام الغير ، والالتزام بالدين والعرف والقانون ، وغيرها من كل مقومات التقدم والنهضة ، وخصائص المجتمعات المتحضرة ؟
[1] أحمد تيمور . معجم تيمور الكبير فى الألفاظ العامية . تحقيق : حسين نصار . الهيئة العامة للتأليف والنشر . 1971
[2] مجلة المصور . 9 ديسمبر 2005
[3] زبير بلال إسماعيل . تاريخ اللغة الكوردية : ص: 28 . مطبعة الحوادث . بغداد . 1977
[4] محمد أمين زكى . خلاصة تاريخ الكورد وكوردستان من أقدم العصور التاريخية حتى الآن . ترجمة : محمد على عونى . الطبعة الثانية . ج 1 . ص : 304 . دار الإسلام . بغداد . 1961
ثانيا : العشوائية كثقافة وسلوك فى المجتمع المصرى
تعانى المجتمعات البشرية قديما وحديثا عديدا من العيوب الاجتماعية والسلوكية ، غير أن الخاصية الفريدة فى مصر ، أن عيوبنا الاجتماعية والسلوكية قد تم تقبلها ، والرضى بها ، والتعايش معها ، وأصبحت جزءا من الثقافة والمفاهيم الراسخة فى العقلية والنفسية الجمعية ، ومع التقبل والرضى والتعايش أصبحت سلوكيات مألوفة ومعتادة ودارجة ، وتصدر من غالبية الناس ، ولا تثير الاشمئزاز والنفور ، بل وأصبح الخروج عليها هو الشذوذ والشرود ، وهو ما يبعث على التفكه والتندر ، وهو ما يثير الاشمئزاز والنفور ، وهنا تأتى طامة المجتمع المصرى الكبرى ، لأن العيب لو قام به الإنسان ، مع الإقرار به كعيب ونقيصة ، وعمل مستهجن ومرفوض دينيا وثقافيا واجتماعيا وسلوكيا ، وأن الوقوع فيه كان لضعف أو هوى أو شهوة أو تقليد أو ـتحت تأثير ظروف أو اعتبارات طارئة ، فإن فرصة إصلاحه تظل دائما قائمة وموجودة ، على عكس القيام به مع القناعة أنه ذكاء وشطارة ، ودلالة على تفتيح المخ .. ألسنا من دهن الهوا دوكو ، وخرم التعريفة ؟ .. من يُقّر بالخطأ ، ويبحث فى أسبابه ، وطرق علاجه ، يملك دوما فرصة التغيير والإصلاح ، ومن يسمى الأشياء بغير أسمائها ، ويلبس الحق ثوب الباطل ، والباطل ثوب الحق ، تنقلب لديه المعايير ، وتختلط عليه الأشياء ، ويهيؤ نفسه وعقله وقلبه وجوارحه ووجدانه لتقبل الخطأ والعيب والباطل ، بأسماءها الجديدة المزيفة .
لقد تعايشنا مع الأنظمة الفرعونية والقمعية والعسكرية الأمنية ، ومع تخلى الدولة عن واجباتها نحو مواطنيها ، ومع بنية تحتية مهترئة فى كل شئ ، ومع غلاء الأسعار ، وجشع التجار ، ومع الدروس الخصوصية ، ومع فوضى الشوارع ، وهرجلة المرور ، وغياب الآدمية فى المواصلات العامة ، ومع الرشوة والواسطة والمحسوبية ، ومع الإعلام الفاسد ، والصحافة الضالة ، والنخبة الكاذبة ، والصخب والضوضاء والضجيج ، ومع الأمراض المتوطنة ، ومع تلوث الطعام والماء والهواء ، وغيرها مما نعرفه جميعا ، حتى أننا لم نترك شيئا تعافه المجتمعات الحيّة إلا وجعلناه روتينا فى حياتنا اليومية .. نماذج العشوائية التى أصبحت ثقافة وسلوكا فى مجتمعنا لا تخطئها العين ، ومن كثرتها وشيوعها لم تترك مجالا من مجالات حياتنا الفردية والمؤسساتية والمجتمعية إلا وطالته ، ووسمته بطبائعها وخصالها ، ومن الأمثلة على ذلك :
1- فوضى المرور وحوادث الطرق
تصنّف منظمة الصحة العالمية World Health Organization أو ( WHO ) مصر فى مقدمة دول العالم فى معدلات حوادث الطرق ، وتقدر الجمعية العربية للطرق إجمالى الحوادث فى عام 2010 بـ 25,000 حادثة ، نتج عنها 8,500 قتيل ، و 35,000 مصاب ، بينما ينخفض العدد فى إحصائيات وزارة الداخلية إلى 7,000 قتيل ، وتصل به وزارة الصحة إلى 7,500 ، ويرتفع إلى 12,000 فى تقارير بعض الجهات المستقلة ، ويذكر مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء أن الخسائر السنوية لحوادث الطرق تصل إلى أربعة مليارات جنيه ، وأن عدد قتلى حوادث الطرق فى مصر ، فى الفترة من 1990 وحتى 2008 ، وصل إلى 110,000 قتيل ، بمعدل 222 حالة لكل 1,000 كيلو متر ، بينما المعدل العالمى لا يتجاوز 20 ( حسب الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء ، تسببت حوادث الطرق فى الفترة من 2006-1990 إلى موت 88,779 ، وإصابة 379,333 ، مما يجعل من مصر الدولة الأولى عالميا فى معدلات حوادث الطرق وأعداد الضحايا ) ، وفى التقرير السنوى لحوادث السيارات والقطارات لعام 2010 ، والصادر عن الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء ، فى 28 يوليو 2011 ، وصلت حوادث السيارات إإلى 24,371 حادثة ، بينما كانت 22,793 فى عام 2009 ، بزيادة %6.9 ، أوقعت 7,040 قتيلا ، مقارنة بـ 6,486 فى 2009 ، بزيادة %7.9 ، فى حين وصل عدد المصابين إلى 36,028 ، بزيادة %7.9 عن عام 2009 ( 35,428 مصابا ) ، وهو ما تسبب فى إتلاف 36,028 سيارة ، فى حين كان العدد 35,428 فى 2009 ، بزيادة % 0.4 ، ويشير التقرير أيضا إلى ارتفاع معدل حوادث السيارات من 62.4 حادثة يوميا فى 2009 إلى 66.8 فى 2010 ، وزبادة معدل الضحايا من 17.8 قتيلا ، 97.1 مصابا ، يوميا فى 2009 إلى 19.3 قتيلا ، 98.7 مصابا ، يوميا فى 2010، ، ويمثل الشباب من الفئة العمرية 30-15 عاما %48.4 من إجمالى القتلى لعام 2010 ، بمعدل 14 شابا لكل 100,000 نسمة ، وفى الجانب الآخر انخفضت حوادث القطارات فى 2010 إلى 1,057 ، وتسببت فى مقتل 30 راكبا ، وكانت 1,577 فى 2009 ، وتسببت فى مقتل 64 راكبا ، بنقص قدره %33 ، بمعدل 4.3 حادثة لكل مليون راكب ، بينما كان المعدل 5.9 فى 2009 ، وحسب مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء ، وقعت 7,394 حادثة بقطاع السكك الحديدية ، فى الفترة بين 2006-2000 ، تسببت فى مقتل 573 ، وإصابة 805
تتفاوت أرقام الضحايا المعلنة حسب الجهة ، فمثلا د. أشرف حاتم وزير الصحة السابق ، يذكر أن قتلى حوادث الطرق فى عام 2009 كان قريبا من 12,300 ، بينما كان عدد المصابين 154,000 ، بينما تذكر صحيفة ( المصريون ) فى عددها بتاريخ 3 أغسطس 2010 أنه حسب بحوث وحدات المرور بوزارة الداخلية ، شهد عام 2009 مقتل 6,487 ، وإصابة 35,000 فى 22,920 حادثة ، وتشير نفس الصحيفة فى 12 أبريل 3009 إلى مقتل 7,55 ، وجرح 93,000 فى حوادث الطرق ، فى عام 2008 ، بينما الخبير الألمانى ( مارتن مونيجبهوف ) ، والمسؤول عن برنامج تحسين الطرق فى مصر بالتنسيق مع الاتحاد الأوروبى ، يصل بعدد القتلى إلى 12,000
هذا التفاوت فى الأرقام بين أجهزة الدولة المختلفة دلالة من دلائل العشوائية ، علاوة على أن حوادث الطرق نفسها نتيجة من نتائج العشوائية وعدم الانضباط فى القيادة ، وفى تصميم الطرق وتنفيذها ، وفى إشارات المرور وضوابطه وآدابه ، وترى الجمعية العربية للطرق أن العامل البشرى يشكل %86 من إجمالى أسباب الحوادث ، والباقى بسبب الطرق ، وأن الطرق السريعة التى تتبع وزارة النقل يصل طولها إلى 24,000 كيلو متر ، من إجمالى 47,000 كيلو متر ، ويقع عليها %15 من الحوادث ، بينما النسبة المتبقية من نصيب المحليات ، ويُرجع تقرير الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء السابق الإشارة إليه %61 من أسباب الحوادث إلى العامل البشرى ، و %23 إلى الحالة الفنية للسيارات .
2- فوضى المبانى
ذكرت صحيفة ( المصريون ) فى عددها بتاريخ 31 يوليو 2010 ، أن تقريرا لمحافظة القاهرة أشار إلى وجود 8,800 عقار مهددة بالانهيار حاليا وفى أية لحظة ، منها 2,700 فى وسط البلد ، و 2,500 فى أحياء مصر القديمة والسيدة زينب والخليفة ، و 2,000 فى المناطق الشمالية ( شبرا والساحل وروض الفرج والشرابية والزاوية وحدائق الزيتون ) ، و 1,600 فى الدويقة والسلام والنهضة والمرج ومصر الجديدة ، وفى تقرير لعضو مجلس الشورى السابق أحمد محمود بيومى ، وجهه إلى رئيس الوزراء وقتها د. أحمد نظيف ، ومحافظ القاهرة ، وأشارت إليه نفس الصحيفة بتاريخ 19 يوليو 2010 ، أن %25 من عقارات القاهرة آيلة للسقوط ، وأن %40 من العقارات القديمة انتهى عمرها الافتراضى ، ويجب إزالتها فورا لتشكيلها خطرا على حياة السكان ، كما أنها السبب فى سلسلة الانهيارات اليومية التى يذهب ضحيتها عشرات المواطنين الأبرياء ، وأن %23 من المنازل القديمة بمحافظة القاهرة قد صدرت لها قرارات إزالة فورية واجبة النفاذ ، ولم يتم تنفيذها حتى الآن ، ومعظمها بدون مرافق بعد أن قامت الأحياء بقطع المرافق عنها ، لإجبار سكانها على إخلائها تمهيدا لإزالتها ، ولكن سكانها وصّلوا لها المرافق بطرق عشوائية ، وبالواسطة والرشوة والمحسوبية ، ويضيف التقرير أنه عقب زلزال 1992 والذى ضرب القاهرة ، وتسبب فى سقوط وتصدع أكثر من مليون وحدة سكنية ، صدرت آلاف من قرارات الإزالة لنحو 120,000 وحدة ، معظمها لم يُنفذ لتقاعس المسؤولين ، واعتراض السكان ، وتذكر الصحيفة أن عقار الدرب الأحمر الذى انهار فى يوليو 2010 ، قد صدر له قرار إزالة رقم 1521 فى 1993 ، غير أن مسؤولى المحافظة حرروا شهادة بالمحسوبية لصاحب العقار تفيد بأنه تمت إزالته ، ليظل قائما حتى ينهار على قاطنيه بعدها بسبعة عشر عاما .
3- فوضى الريف المصرى
لا تقتصر الفوضى والعشوائية على المدينة ، ولكن الريف المصرى له منها نصيب كبير ، وقد كشف تقرير ( مركز الأرض لحقوق الإنسان ) ، حسب صحيفة ( المصريون ) بتاريخ 3 أغسطس 2010 ، عن تدهور شامل للحياة فى الريف مقارنة بعام 1980 ، حيث وصلت معدلات البطالة إلى %60 ، ومعدلات الفقر إلى أكثر من %75 ، وارتفعت معدلات الجريمة ، كالسرقة والنصب ، إلى أكثر من %85 ، وتدهورت القيم الاجتماعية ، كما شاع الاستخدام المفرط للمبيدات المحظورة ، وتدهورت أوضاع البيئة ، وازدادت مشاكل الفلاحين بسبب تلوث المياه ونقصها ، وتبوير الأراضى الزراعية ، وانتشار فيروس C والفشل الكلوى ، ويضيف التقرير أنه ورغم مرور العقد الأول من القرن الحادى والعشرين إلا أن 40 مليون فلاح مازالوا يعيشون تحت خط الفقر ، وأن الاستثمارات الأجنبية فى قطاع الزراعة لم تتجاوز 76 مليون دولار ، أى %1 من قيمة الاستثمارات فى قطاع البترول ، وخلال قرنين من الزمان وصلت الأرض الزراعية إلى 6.2 مليون فدان فقط ، وكانت 2 مليون فى 1813 ، زادت إلى 4 مليون فى 1952 ، وبلغ الناتج الزراعى %18.8 من الناتج القومى ، ومع بداية الثمانينيات ، والتطبيق العشوائى لسياسات صندوق النقد الدولى والبنك الدولى واقتصاديات السوق الحر ، حدث تدهور خطير فى كل مكونات الحياة الريفية ، وازدادت الحوادث والمنازعات ، والتى أدت فى النصف الأول من عام 2010 إلى مقتل 145 مزارعا ، وإصابة 585 ، والقبض على 672 ، وأدى قانون العلاقة الإيجارية بين المالك والمستهلك رقم 96 لعام 1992 إلى طرد 900,000 مستأجر .
4- أطفال الشوارع
عارٌ على أى مجتمع من المجتمعات أن يعيش بعضٌ من أطفاله فى الشوارع ، أيا كانت الأسباب ، غير أن المأساة الدامية أن بعض المجتمعات استمرأت ذلك .. تشير أميرة قطب [1] إلى : " دراسة أعدها الائتلاف البريطانى للجمعيات العاملة مع الأطفال بلا مأوى ، بهدف قياس حجم الظاهرة فى 90 دولة ، إلى أن مصر صُنّفت ضمن أكثر 30 دولة يتضاعف فيها حجم الظاهرة بشكل مقلق " ، وتضيف : " ليس بالعنف الجسدى وحده يولد الطفل بلا مأوى ، فالتفكك الأسرى ، والإهمال ، الذى يعانى منه على التوالى %60 ، و %77 من الأطفال بلا مأوى ، يمهد لنا الطريق أمام انتهاكات أخرى مثل زنا المحارم ، والاستغلال الجنسى ، وتزداد بالطبع حدة هذه الظاهر فى المناطق المهمشة ، التى ياتى منها %93 من هؤلاء الأطفال . ويذكر وائل زكى [2] أن العشوائيات هى مصدر أطفال الشوارع : " فأين مكامن المشكلة ؟ عشرات السنوات مرت على مصر تجمع فى مسيرتها صنوفا من أبنائها متنوعى المستويات والدوافع منذ ستينيات القرن الماضى ، مع الاستقطاب الصناعى ، إلى استقبال المهجرين قسرا من مدن القنال ، إلى موجات الزحف من أرجاء مصر إلى القاهرة ، منذ منتصف السبعينيات وبدايات رصد قطاع اقتصادى هامشى لا رسمى ، ثم موجات متتالية مع تحرير العلاقة الإيجارية فى الأطيان الزراعية خلال تسعينيات القرن الماضى ، والتى خلفت عشرات الآلاف من الفلاحين المضارين والمتوجهين إلى المدن الرئيسية طلبا للقمة العيش ، مع استقبال الهجرة والعمالة المرتدة من بعض الدول العربية ، كل ذلك كانت تحتضنه مسطحات عمرانية آخذة فى الامتداد حول المدن ، أو متجمعة حول مناطق عمران قديمة انحصرت داخل المدينة ولم تنحسر فى امتدادها ، لتصبح مناطق إسكان عشوائى ... داخل هذه البيئة العمرانية ، والمستوى السكنى والاقتصادى المتردى ، أسرٌ تعيش فى غرف وأكواخ وعشش وخيام وأحواش المدافن ، يُقدر عددهم بنحو مليون ونصف مليون أسرة (1,411,533 إحصاء 2006 )، فى حين يذكر الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء فى تقديراته لعام 2007 ، أن هناك 870 عشوائية ، يصل عدد سكانها إلى نحو 12.2 مليون نسمة ... فى هذا الخضم من العمران العشوائى تبدو ظاهرة أطفال الشوارع بكل مآسيها ومؤشراتها هى الإفراز الاجتماعى لتلك المجتمعات والبؤر العشوائية داخل المدن ، وهى نتاج ذلك الخلط العشوائى فى العلاقات الاجتماعية ، تلك الغرف والمساكن التى تضيق بساكنيها الذين قد يتجمع منهم الأسرة الممتدة لجيلين داخل غرفة واحدة ، فينطلق منها الطفل برغبة مشتركة مع ذويه دون حاجة لاتفاق إلى رحاب الشارع وانفتاح بيئة التعامل ، ليصبح الشارع أحد مكملات احتياجاته " ، ويقسّم الكاتب أطفال الشوارع إلى قسمين : " المشرّد الذى ليس له مسكن عائلى يعود إليه ، والجوّال الذى يعود إلى مسكنه ليلا ، وغالبا تربط الأخير بأهله علاقات مهترئة ، ما بين تسلط مادى لرب الأسرة ، إلى تعلق الطفل بأحد أفرادها " ، ثم يتناول أمرا هاما آخر يغفله معظم المهتمين بتلك الظاهرة ، وهو أن : " طفل الشارع منذ عشرة أعوام ، أصبح الآن شاب الشارع الذى نشأ على نفسية خاصة نتركه نهبا لها ، وغدا سيكون رجل الشارع ، يمارس منطقه وبداهته فى تناول الأمور ، وبعد ذلك نتساءل عن مصدر البلطجة وطبيعة البلطجى " .
إذا كان أطفال الشوارع عاراً على أى مجتمع ، فإنه من العار أيضا أن تـكون مشكلتهم مجهولة الأبعاد .. تذكر أميرة الفقى [3] أن التقديرات الحكومية لأطفال الشوارع تراوحت بين 17,228 فى عام 1999 ، وثلاثة ملايين فى 2011 ، وأن تضارب الأرقام مبعثه عدم وجود إحصائيات دقيقة ، أو حتى موارد للقيام بها ، علاوة على تحرك هؤلاء الأطفال من مكان لآخر ، وقد يذهبون لمنازلهم لبعض الوقت ، ثم يعودون إلى الشوارع مرة أخرى ، كما أنهم عادة غير مقيدين فى سجلات المواليد ، يضاف إلى ذلك عدم وجود تعرييف دقيق لهم : هل هم الفقراء الذين لا مأوى له ؟ أم الذين يبيعون المناديل وبعض الأشياء البسيطة ؟ أم أصحاب الملابس الرثة ، والوجوه البائسة ؟ أو غير ذلك ؟
وتذكر الـ United Nations International Children’s Emergency Fund أو الـ UNICEF أنه من الصعب إحصاء أطفال الشوارع فى مصر ، ولكنه من الأكيد أن أعدادهم كبيرة ، ويتزايدون بوتيرة متسارعة ، بينما يذكر [4] Andrew Wander ( المدير الإعلامى لإحدى جمعيات إغاثة الأطفال فى بريطانيا : Save the Children UK ) أن أطفال الشوارع فى القاهرة يقدرون بـ 50,000 أى أننا أمام ظاهرة بالغة الخطورة فى الحاضر والمستقبل ، ولا ينبغى أن نتناسى أو نتجاهل أن أطفال الشوارع الذين يمارسون اليوم التسول ، والنشل ، ويستغلهم الآخرون جنسيا ، وفى تجارة الأعضاء ، وتوزيع المخدرات ، وغيرها ، سيصبحون يوما شباب ورجال الشوارع ، أى بلطجية يمارسون أنواعا أخرى من الإجرام ، مثل القتل ، والسرقة ، التحرش والاغتصاب وزنا المحارم ، وتجارة المخدرات ، وسيفاقمون بأنفسهم وبنسلهم وبمن يستقطبون إلى عالمهم ، فوضى العشوائيات ، وفوضى الشوارع ، وما يرتبط بذلك من جريمة ، وتمزيق لنسيج المجتمع وعلاقاته ، وإهدار لقيمه وأخلاقه .
[1] أميرة قطب . ظاهرة الأطفال بلا مأوى : كيف عالجها الآخرون ؟ .
صحيفة الشروق : 18 سبتمبر 2012
[2] وائل زكى . أطفال الشوارع .. محل الميلاد : منطقة عشوائية . صحيفة الشروق : 18 سبتمبر 2012
[3] Al Feky , Amira . Street Children . What They are not ? Daily News Egypt . April , 14 , 2013
[4] Wander , Andrew . Egypt’s Forgotten Children . aljazeera.net . Feb., 19 , 2011
ثالثا : العشوائيات فى مصر
فى تقرير عضو مجلس الشورى أحمد محمود بيومى السابق الإشارة إليه ، تشير الأرقام إلى أن نسبة المبانى العشوائية بلغت فى القاهرة حدا قياسيا ، لتصل إلى %41 من أحياء المحافظة ، منها %14 متداخلة مع المقابر ، وقد بلغ تداخل العشوائيات أعلى معدلاته فى حى الخليفة ( 40% ) ، حى الجمالية ( %29 ) ، الدرب الأحمر ومقابر باب الوزير ( %19 ) ، الزاوية الحمراء ( %15 ) .. هذا التداخل زاد مساحة المناطق العشوائية إلى أكثر من 20,000 فدان ، كما أن أغلب تلك المساكن تمت بدون تراخيص ، وبدون مرافق ، ويذكر مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء أنه توجد 1,221 منطقة عشوائية على مستوى الجمهورية ، إجمالى مساحتها 344 كيلو مترا مربعا ، ويسكنها 19 مليون ، وتصل كثافة السكان فى بعض تلك العشوائيات إلى 90,000 نسمة فى الكيلو متر المربع ، ويعيش فى الغرفة الواحدة والتى لا تتعدى ثمانية أمتار مربعة سبعة أو ثمانية أفراد ، وفى بعض تلك المناطق يشترك فى دورة المياه الواحدة أكثر من عشر أسر ، ويذكر المهندس أبو زيد راجح ، رئيس مركز بحوث الإسكان الأسبق أن %45 من الأسر المصرية لا تمتلك حيازة لوحدة سكنية ، أو حتى للإيجار ، مما زاد من العشوائيات ، وأن %50 من المساكن التى أقيمت فى مصر فى الحقبة الأخيرة مساكن عشوائية ، ويعيش سكانها فى بيئة متردية .
عند الحديث عن العشوائيات فى مصر لا يمكن إغفال سكنى المقابر ، ويذكر أحمد سليمان [1] ( أستاذ العمارة بجامعة الأسكندرية ، وجامعة بيروت العربية ) أن 1.5 مليون نسمة يعيشون فى مقابر القاهرة وحدها ، فيما يطلق عليه مدينة الأموات ، وفى الأسكندرية 200,000 ، ومما يجدر الإشارة إليه فى هذا السياق أن مصر والفيليبين هما الدولتات الوحيدتان فى العالم حيث يتخذ الفقراء من القبور مأوى لهم .
[1] Soliman , Ahmed . A possible Way Out : Formalizing Housing Informality in Egyptian Cities. University Press of America , 2003
رابعا : العشوائيات ظاهرة عالمية
فى عام 2006 صدر كتاب Planet of Slums أو ( كوكب العشوائيات ) [1] ، الذى ألفه الكاتب [2] الأمريكى Mike Davis .. وفيه يتحدث عن ظاهرة العشوائيات ، وما تعانيه من الفقر والبؤس والمرض والحاجة والتلوث وغيرها ، وُيرجع تمددها وانتشارها فى العالم إلى أسباب عديدة ، تدور كلها حول الرأسمالية بجشعها ، والليبرالية الحديثة بممارساتها ، وأهم تلك الأسباب ، والتى تنطبق أيضا على الحالة المصرية :
1- الديون التى أنهكت حكومات بلدان العالم الثالث ، مما أجبرتها على إعادة الهيكلة structural adjustment programmes , SAPs تحت ضغط وشروط البنك الدولى WB ، وصندوق النقد الدولى IMF ، وهو ما أثّر سلبيا على برامج المساعدات ، وتحديث الزراعة ، وعلى مشاريع البنية التحتية فى الأرياف ، بالإضافة إلى إطلاق حرية السوق deregulation ، وكلها عوامل أفقدت صغار ومتوسطى الفلاحين القدرة على المنافسة ، وأوقعتهم فريسة للديون ، وأسعار الفائدة المرتفعة ، والتضخم ، مع تدنى أسعار المنتجات الزراعية ، مما اضطرهم للهجرة إلى المدن ، والتى تعانى بدورها ، ولا تستطيع توفير العمل أو الإسكان لهم ، مما ترتب عليه نشوء العشوائيات وتمددها .
2- أزمة الإسكان ، وتدنى المتاح من المنازل الجديدة ، وحسب منظمة العمل الدولية International Labor Organization , ILO فإن السوق الرسمى للمنازل فى العالم الثالث يلبى فقط %20 من المطلوب ، وهو ما أدى تحت ضغط الاضطرار والحاجة إلى أن يبنى الناس بأنفسهم أماكن للإيواء ، لا تتوفر فيها الشروط الصحية ، كما أن السوق غير الرسمية وغير القانونية للأراضى ساهمت فى أغلبية مدن العالم الثالث خلال الثلاثين أو الأربعين سنة الأخيرة فى توفير الأراضى لمثل تلك البنايات so out of necessity , people turn to self-built shanties , informal rentals , pirate subdivisions , or the sidewalks . Illegal or informal land markets , says the UN have provided the land sites for most additions to the housing stock in most cities of the South over the last 30 or 40 years
3
- الحروب والقلاقل الداخلية الناتجة عن غرق المجتمعات فى الديون ، ووقوعها فى براثن جشع رأس المال الغربى ، وبرامج إعادة الهيكلة ، أدت إلى القضاء على قرى بأكملها ، وتحول أهلها إلى المدن التى تعانى بدورها من الكساد ، والنمو الاقتصادى السلبى ، وضعف الإنفاق على مشاريع البنية التحتية ، والتعليم ، والرعاية الصحية rapacious warlords and chronic civil wars spurred by economic dislocations of debt-imposed structural adjustment or foreign economic predators , as in Congo and Angola , were uprooting whole countryside . Cities - in spite of their stagnant or negative economic growth , educational facilities or public-health systems – have simply harvested world agrarian crisis
4- التفرقة العنصرية والسياسات الاستعمارية فى الماضى ، ساهمت فى إيجاد العشوائيات ، مثل إلزام العمال والملونين على العيش فى أطراف المدن ، والقوانين التى منعت بيع الأراضى للفلاحين ، وحرمتهم من حق التملك أو الإقامة فى المدن ، ولذلك تُوصف بريطانيا بأنها أكبر صانعة للعشوائيات على مدار التاريخ the British were the greatest slum builders of all times ، ولا يقتصر الأمر على الاستعمار القديم ، وإنما أيضا يمتد ليشمل الثورات والسياسات الحمقاء التى اتبعتها ، كما حدث فى كوبا التى وعدت الناس بالمساكن ، ولم تستطع الوفاء بوعودها ، وكذلك عبد الناصر فى مصر ، ونهرو فى الهند ، وسوكارنو فى إندونسيا ، وهو ما يصفه Mike Davis بالوعود المكسورة والأحلام المسروقة broken promises and stolen dreams ، وهو أيضا ما يفرد له الفصل الثانى فى كتابه ، ويعتبره خيانة عظمى من الدولة لأبنائهاThe treason of the state لا يخفى أن الديون ، وإعادة هيكلة الاقتصاد المصرى ، وإطلاق حرية السوق deregulation ، وأزمة الإسكان ، وضعف مقدرة الدولة على الاستثمار فى مجالات الإنتاج والبنية التحتية والخدمات ، كلها عوامل واضحة وجلية فى هجرة أهل الأرياف وتمدد العشوائيات فى المدن المصرية ، بينما العامل الثالث المرتبط بالحروب والصراعات الداخلية لم يظهر إلا فى أعقاب حرب 1967 ، واضطرار ساكنى مدن القناة إلى النزوح للقاهرة وغيرها .
أدى هذا المدد المستمر من الفلاحين وساكنى القرى ، إلى تعاظم العشوائيات فى مدن بلاد العالم الثالث ومنها مصر ، وهو ما يسميه Mike Davis إعادة إنتاج الفقر overurbanization in other words is driven by the reproduction of poverty , not by the supply of jobs ، ومن أمثلة التمدد العشوائى للمدن ، مدينة Mexico City ( المكسيك ) ، والتى تساهم العشوائيات بـ %60 من نموها ، وتلعب النساء الدور الرئيسى فى ذلك ، حيث يبنين بيوتا على الأطراف ، فى مناطق لا تصلها الخدمات ، وفى حوض الأمازون Amazon بأمريكا الجنوبية ، تسهم العشوائيات بـ %80 من نمو المدن ، وفىSao Paulo ( البرازيل ) كان سكان المدينة %1.2 من عدد سكان الدولة فى 1973 ، ارتفع إلى %19.8 فى 1993 ، وتنمو بمعدل %16.4 سنويا ، وفى جنوب آسيا ، %90 من نمو المدن يعود إلى العشوائيات ، وتستقبل مدينة مثل Delhi ( الهند ) نصف مليون مهاجر ريفى سنويا ، ينتهى الأمر بـ 400,000 منهم فى العشوائيات ، وتتوقع التقديرات أن يصل عدد سكان عشوائيات دلهى إلى 10 مليون فى عام 2015 ، وهو ما دعا Gautam Chatterjee أحد خبراء التخطيط من التحذير أنه إذا استمرر تمدد العشوائيات ، فسنصل إلى مرحلة تختفى فيها المدن ، وتسود العشوائيات we will have only slums and no cities ، أما فى أفريقيا فتنمو العشوائيات بمعدل ضعف نمو مدن القارة ، ومن أمثلة ذلك كينيا والتى شكّل نمو عشوائياتها %85 من نمو سكانها ، فى الفترة من 1999-1989 ، ويتوقع تقرير للبنك الدولى وصندوق النقد الدولى ، صدر عن مؤتمر مشترك لهما فى 2004 ، أن يرتفع عدد قاطنى العشوائيات فى القارة بحلول 2015 إلى 332 مليون .
[1]Davis , Mike . Planet of Slums . Verso , London , 2006
[2] Mike Davis ناشط سياسى political activist ، ومؤرخ historian ، ومهتم بقضايا المدن والعمران urban theorist ، وُلد فى عام 1946 ، وهو ماركسى الهوى ، ويلوم عليه البعض أحيانا اللجوء إلى المبالغة للتأكيد على قضيته ، ورغم ذلك فكتابه ( كوكب العشوائيات ) صرخة مدوية ، وتأكيد على خطر داهم يواجه المجتمع البشرى ، ينظر إليه الكثيرون من الناحية الحضارية للمجتمع ، أو الجمالية للمدن ، ويتجاهلون أبعاده الاقتصادية والاجتماعية وغيرها، وله مؤلفات أخرى فى نفس المجال منها : City of Quartz ,1990 – Ecology of Fear ,1998 - Magical Urbanism , 2000
خامسا : ولكن ما هو تعريف العشوائيات ؟
لا تحتاج العشوائيات فى حقيقة الأمر تعريفا ، وكل الناس سيتعرف على واحدة إذا رآها ، غير أن الإشارة إلى بعض تلك التعريفات سيسلط مزيدا من الضوء على المفاهيم والمصطلحات ، لأن الأمر يتجاوز التعريف الجامد ، ويمتد إلى دلالات اقتصادية واجتماعية وثقافية وغيرها ، وإلى تغيرات عالمية تعصف بمستقبل الجنس البشرى ، وتماسك وتآلف مجتمعاته ، وتقوده أو تدفعه دفعاً إلى مجهول يصعب التنبؤ بعواقبه ومآلاته .
فى الكتاب السابق الإشارة إليه ، يستعرض المؤلف بعض التعريفات القديمة ، ومنها تعريف [1] Livingstone الذى يرى العشوائيات كأماكن لبيوت قذرة ، ينتشر فيها الزحام والمرض والفقر والتدهور الأخلاقى all slums are characterized by an amalgam of dilapidated housing , overcrowding , disease , poverty , and vice ، ويعرف ليبراليو القرن التاسع عشر العشوائيات كأماكن تعيش فيها الطبقات الاجتماعية الدنيا ، والتى لا يمكن إصلاحها ، حيث دوامة العنف ، والتحلل الأخلاقى the slums was first and above all envisioned as a place where an incorrigible and feral social residuum rots in immoral and often riotous splendor ، بينما تعريف وزارة العمل الأمريكية Department of Labor ينظر للعشوائيات كأماكن تتسم بقذارة شوارعها ، وإجرام سكانها an area of dirty streets , especially inhabited by squalid and criminal population .. هذه التعريفات رغم حقيقتها إلا أنها تنطوى على نظرة عنصرية متعالية ، ولهذا فإن تعريف الأمم المتحدة الوارد فى تقرير المنظمة The Challenge of Slums ( تحدى العشوائيات ) [2] يبدو أكثر واقعية ، وفيه أن العشوائية تتصف بمنازلها الفقيرة المزدحمة ، والمفتقدة للمواصفات الرسمية والقانونية ، ويفتقد سكانها الأمان ، والمياه النظيفة ، والصرف الصحى a slum is characterized by overcrowding , poor or informal housing , inadequate access to safe water and sanitation , and insecurity of tenure .. هذا التعريف تبنته الأمم المتحدة فى مؤتمر عقد فى مدينة نيروبى Nairobi فى كينيا فى أكتوبر 2002 ، وهو أيضا يركز على الجانب الفيزيائى والقانونى لخصائص العشوائية restricted to the physical and legal characteristics of the settlement ويتجاهل التهميش الاقتصادى والاجتماعى لها economic and social marginality
[1] David Livingstone رجل دين اسكتلندى، ولد عام 1873 ، ومات عام 1813 ، وكان مهتما بالاستكشافات الجغرافية فى أفريقيا ، وخاصة منابع نهر النيل .
سادسا : ما هو الحل ؟
لا شك أن قضية العشوائية كثقافة وسلوك فى المجتمع المصرى ، قضية متعددة الأبعاد ، فهى قضية سياسية واقتصادية واجتماعية ، كما أنها أيضا قضية دينية وأخلاقية وقانونية ، وهى كذلك قضية ثقافية وسلوكية .. إصلاح الثقافة والسلوك والجوانب الدينية والأخلاقية يحتاج عملا شاقا ، وجهدا متواصلا ، ويعطى ثماره على مدى سنوات طوال ، ويتطلب تضافرا فى الجهود ، ومشاركة من الدولة والمجتمع ، وتعاونا بين التعليم والإعلام ومؤسسات الإسلام والأسرة ، كما أن إصلاح الجوانب السياسية والاقتصادية والقانونية يلزمه قيادة رشيدة ، ونظام حكيم ، وإرادة قوية من النظام ومن الناس ، أما العشوائيات كتجمعات سكنية تعانى التهميش والإهمال ، وتنحدر فيها قيمة الإنسان وآدميته إلى قاع سحيق ، فقضية أيضا متعددة الأبعاد ، ويزيد من تعقيدها تداخل الاقتصاد العالمى ، وفساد الأنظمة السياسية فى معظم البلاد النامية ، والتغيرات الكثيرة التى طرأت على الزراعة وحياة القرى ، غير أن هناك أمورا لا بد من توافرها لإحداث الإصلاح والتغيير ، ومنها :
1- التعليم والتخطيط والمعلومات
من الأمور البديهية أنه لا يمكن إصلاح العشوائية والعشوائيات بالعشوائية ، أى أنه يلزمنا قاعدة بيانات عن كل أمور المجتمع ، لنبنى عليها قراراتنا وخططنا ، والبيانات والمعلومات والأرقام والخطط لا يقوم عليها إلا أصحاب العلم والخبرة ، وهو ما يقودنا إلى ضرورة إصلاح النظام التعليمى ، ويلزم فى هذا المقام التركيز على الجزيئة الأكثر قرباً للقضية التى يتناولها المقال ، وهى وجوب توافر المعلومات والأرقام والإحصائيات .. فى مقال [1] جيد للكاتب البريطانى Brian Whitaker عن السياسة وتأثيراتها على الإحصائيات فى مصر ، يبدأ الكاتب بالتساؤل : هل يمكن تخيُّل حكم دولة تفتقد الإحصائيات المناسبة عن الأنشطة الاقتصادية ، والرعاية الصحية ، والجريمة ، والتعليم ، وتطور المدن ، وتلوث البيئة ؟ Imagine trying to govern a country that lacks adequate statistics about economic activity , healthcare , crime , education , urban development and environmental pollution ، ثم يمضى الكاتب فى تساؤلاته : هل يمكن تخيُّل بلد تعتمد بصفة أساسية على السياحة ، ولا تملك دراسات عن أسباب زيارة السياح ، وانطباعاتهم عن زياراتهم ؟ هل يمكن تخيُّل بلد تعتمد بدرجة كبيرة على الزراعة ، ولا تمتلك البيانات عن الأرض القابلة للزراعة منذ السبعينيات ؟ Imagine a country that relies heavily on tourism but has no figures showing why people visit or what they think of their stay . Imagine a country that relies heavily on agriculture , and yet has produced no data on the quality of cultivable land since the 1970s ، ثم يجيب على تساؤلاته : هذه حالة مصر The country I am talking about here is Egypt ، ورغم اشتراكها فى ذلك مع كثير من الدول النامية ، إلا أن تقريرا صدر عن مجلس الوزراء فى الأسبوع الماضى ، يتحدث عن حالة مزمنة من غياب المهارة والخبرة والمران تتفشى بين الباحثين والخبراء ، إلى حد يثير التعجب والانزعاج The report spoke of an epidemic of ineptitude among researchers and experts , and the scale of the deficiencies was horrifying , if not altogether surprising
ورغم أن غياب المعلومات يشكل عائقا للتطور الاقتصادى والاجتماعى ، إلا أن التغلب على تلك المشكلة ليس أمرا سهلا فى مصر ، ويرصد الكاتب أسبابا عديدة لذلك ، منها : البيروقراطية bureaucracy ، والفساد corruption الذى يجعل كثيرا من المسؤولين يحجمون عن توفير المعلومات الدقيقة ، وغياب الشفافية transparency الذى تتميز به الأنظمة القمعية authoritarian regimes ، وذلك لأن الشفافية تقود إلى المعلومات ، وإلى المناقشات العامة public debates ، وتعطى الجماهير الأدوات لمساءلة الحكومة عن قراراتها ، كما أن غياب المعلومات وسيلة تستغلها الحكومة المصرية لتجنب النقاش حول القضايا التى لا تروق لها ، ومن أمثلة ذلك القضايا الطائفية ، فليس هناك إحصاء رسمى لأعداد الأقباط فى مصر ، ولا عن بؤر التوتر الطائفى ، وليت الأمر يتوقف على غياب الأرقام والمعلومات ، وإنما يمتد ليشمل عدم الوثوق فيها unreliable statistics ، حيث تتلاعب بها الحكومات .
ومن المشاكل أيضا احتكار الحكومة لجمع المعلومات ، وعدم تمكين الباحثين المستقلين ، أو الجهات غير الحكومية ، أو حتى طلاب الجامعات ، من جمع المعلومات وتحليلها ، ويلزم لمن يرغب فى ذلك أن يحصل على تصريح بالموافقة من القسم الأمنى الخاص بالجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء ، وهذا التصريح غالبا ما يتأخر إلى الأبد ، أو يُرفض إعطاؤه بدون إبداء أسباب ، كما أنه حتى فى حالة استبيانات الرأى ، عادة ما يتم حذف بعض الأسئلة ، أو تغيير صياغتها .
يتنبه الكاتب إلى ملحوظة ذكية خاصة بالجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء ، فجانب اسمه الملفت للانتباه The quaintly named Central Agency for Public Mobilization and Statistics or CAPMAS، فإنه ولمدة 30 عاما على الأقل ، تولى أمره جنرالات سابقون من الجيش .. المشكلة عند الأنظمة القمعية ليست فقط فى الخوف من الأرقام ، ولكنها فى الخوف أيضا من فقدان السيطرة It’s not just the numbers that they fear but the loss of control
إذن المعلومات والأرقام والإحصائيات ضرورات حتمية لإعداد الدراسات ، والخطط ، ووضع الحلول ، وبدونها تكون العشوائية هى البديل الوحيد .
[1] Whitaker , Brian . The Politics of Egypt’s Feeble Statistics . The Guardian : 26 October 2010
2- الثقافة والقانون
لكى يتمكن المجتمع من معالجة فوضى المرور ، وحوادث الطرق ، وفوضى المبانى ، وفوضى الريف ، وكل أنواع الفوضى عموما ، لا بد أن يتطرق العلاج إلى إحداث تغيير فى ثقافة المجتمع ، وسلوكيات أفراده ومسؤوليه ومؤسساته ، فالثقافة التى تُعلى من قيمة القانون والنظام ، واحترام الغير ، واتباع الضوابط والمعايير التى تحكم حركة الحياة ، ستقود حتما إلى احترام آداب المرور ، واحترام اللوائح والتنظيمات فى مجال الأرض والبناء ، إذ لا يعقل مثلا أن يتم استخراج رخصة القيادة لمن لا يتقن القيادة ، ولا يعقل أن يعتدى الناس على الأراضى الزراعية ، ولا يعقل أن يتم البناء بالمخالفة للشروط والمقاييس فى مواصفات البناء ومواصفات مواد البناء .. لا يعقل أن تتم كل تلك الأمور وغيرها بالرشوة والواسطة والمحسوبية والمجاملة ، لينتهى الأمر بشوارعنا وقد انطلق فيها من لا يحسن القيادة ، مما يعرض أرواح الناس وممتلكاتهم للخطر ، ولينتهى الأمر بمدننا وقد ارتفعت فى كل أرجائها المبانى المتهالكة المتنافرة فى طرزها وأشكالها ، مما يحوّل مدننا إلى عشوائيات قبيحة ، ويجعل سكانها عرضة للمخاطر والأضرار .. لا بد أن يتزامن مع التغيرات فى ثقافة المجتمع وسلوكياته ، سن القوانين الصارمة للتعامل مع من يخالف ، ومن يستهتر ، ومن لا يقيم وزنا للنظام ، ومن لا يحترم مجتمعه وشعبه ، وأن يتم تطبيقها على الجميع بدون محاباة أو مجاملة .. إن الفارق الجوهرى بين مجتمع فوضوى عشوائى ، وبين مجتمع متحضر ومتقدم ، هو احترام القانون ، وشيوع الثقافة التى تحترم القانون والنظام .
3- الزراعة والقرية
التغيرات الاقتصادية التى طرأت على مصر وغيرها من البلاد النامية فى العقود العديدة الماضية ، وما نتج عنها من إهمال جسيم للاستثمار فى المجال الزراعى ، وإهمال فاحش للاستثمار فى الريف وأبنائه ، هو ما أدى إلى الهجرة غير المسبوقة إلى المدن ، وما تبعها من ظهور العشوائيات وتمددها .. يذكر Mike Davis فى كتابه (كوكب العشوائيات ) السابق الإشارة إليه أن حركة الهجرة من الريف إلى المدن أدت إلى تساوى سكان الريف الآن rural population مع سكان المدن urban population .. حوالى 3.2 بليون فى كل جانب ، ومع استمرار الهجرة سينخفض سكان الريف عن سكان المدن مع حلول عام 2020 ، وسيصل سكان العالم إلى 10 بليون مع عام 2050 ، غير أن هذا التدفق المتواصل إلى المدن لم يتزامن مع التصنيع والتطوير الضرورى لاستيعاب تلك الأعداد ، والتى يسميها الكاتب الفائض البشرى surplus humanity ، وتوفير الحياة الكريمة لهم ، وبنظرة إلى بعض الأرقام يستطيع المتأمل تخيل ما ينتظر البشرية من بؤس وفوضى .. فى عام 1950 كانت هناك 86 مدينة فى العالم ، يتجاوز سكان كل واحدة منها مليون نسمة ، ارتفع العدد الآن إلى 400 ، وسيصل إلى 550 فى عام 2015 ، ومن أمثلة تلك المدن : القاهرة التى زاد عدد سكانها من 2.4 مليون فى 1950 إلى 15.1 فى 2004 ، وإستنبول Istanbul (تركيا) التى زاد سكانها من 1.1 مليون فى 1950 إلى 11.1 فى 2004 ، بينما Mexico City (المكسيك ) زاد سكانها من 2.9 مليون فى 1950 إلى 22.1 فى 2004 ، وهناك مدن مثل Lagos ( نيجيريا ) ، و Kinshasa ( الكونغو ) ، و Dhaka ( بنجلاديش ) تضاعف عدد سكانها الآن إلى أكثر من 40 مرة ، عما كانت عليه فى 1950 ، بل إن عدد سكان مدن الصين وحدها زاد فى 1980s فقط عما حدث فى كل أوروبا بما فيها روسيا فى القرن الـ 19 بأكمله ، وطبقا للأم المتحدة [1] فإن عدد ساكنى العشوائيات وصل إلى 921 مليونا فى عام 2001 ، وتجاوز البليون فى 2005 ، وأعلى نسبة لساكنى العشوائيات مقارنة بالعدد الكلى لسكان الدولة كالآتى : إثيوبيا %99.4 ، تشاد %99.4 ، أفغانستان % 98.5 ، نيبال %92 ( أى أن دولا بأكملها تحولت تقريبا إلى عشوائيات كبيرة ) ، ويذكر نفس التقرير أن الصين تحتل المركز الأول فى العالم فى عدد من يعيشون فى العشوائيات ، ويصل إلى 193.8 مليون نسمة ، تليها الهند (158.4 ) ، فالبرازيل ( 51.7 ) ، فنيجريا ( 41.6 ) ، فباكستان ( 35.6 ) ، وتأتى مصر فى المركز الـ 15 ( 11.8 ) ، بينما نسبة ساكنى العشوائيات إلى العدد الكلى لسكان المدن كالتالى : الصين %37.8 ، الهند %55.5 ، البرازيل %51.7 ، نيجيريا %41.6 ، باكستان %35.6 ، مصر %39.9
إن ما يحدث فى العالم الآن يبدو كأنه تخطيط غبى للقضاء على الفلاحين ، وهو ما دعا البعض [2] إلى وصف سياسات إعادة الهيكلة والتحرر الاقتتصادى بأنهاتحالف بين القوى العالمية ، والسياسات القومية ، يدفع فى اتجاه الخلاص من الفلاحة والفلاح structural adjusted programmes ,SAPs and economic libralization policies represented the convergence of the worldwide forces of de-agrarianization and national policies promoting de-peasantization إذن لا بد لمصر وغيرها من البلاد التى ترغب حقيقة فى معالجة مشكلة العشوائيات أن تهتم بالزراعة ، وأن تهتم بالفلاحين ، وأن تهتم بالقرية .. لقد أصبحت الزراعة مهنة شاقة وغير مجدية لمعظم سكان الريف ، وارتفعت أسعار التقاوى والسماد والمبيدات إلى أرقام فوق مقدرة معظم الفلاحين ، وتعذر شراء أو تأجير المعدات الزراعة ، وخاصة فى وجود ملكية زراعية صغيرة ومفتتة ، علاوة على فشل التعاونيات وغيرها من البرامج ، بسبب الفساد وسوء الإدارة ، وارتفت الفوائد على القروض ، وانخفضت فى المقابل أسعار المنتجات الزراعية ، ووجد الفلاح نفسه غير قادر على مواصلة تلك الدورة العبثية ، وغير آمن على صحته ومستقبله ( فى الفترة ما بين 1992-1987 فقدت الصين مليون هكتار hectare ( الهكتار = 10,000 متر مربع ) من أرضها الزراعة لصالح المدن ، وفقدت مصر 0.4 مليون هكتار ، وهى أعلى نسبة فى العالم ) ، يضاف إلى ذلك الإهمال الكبير فى تطوير القرية ، ومشروعات البنية التحتية فيها ، وانتشار الأمراض القاتلة ، وخاصة فيروس C ، والفشل الكلوى ، وغيرها من عواقب تلوث الماء والطعام ، والاستعمال العشوائى للمبيدات ، وتدنى مستوى الرعاية الصحية ( فى كمبوديا مثلا ، %60 ممن باعوا أرضهم فعلوا ذلك بسبب المرض وارتفاع أسعار العلاج ).
[1]UN-Habitat , 2003 : The Challenge of Slums , Earthscan Publications Ltd , London , available at ; www.unhabitat.org.jo/pdf/GRHS.2003.pdf
[2] Bryceson , Deborah , Cristobal Kay and Jos Mooig ( Editors ) . Disappearing Peasantries ? Rural Labour in Latin America , Asia and Africa . pp 305-304 . Practical Action Publishing , 2000
4- العشوائيات والبدائل
لا شك أن إخفاء العشوائيات بإقامة الجدر أو الحواجز ، أو إلزام ساكينها بعدم التواجد فى أماكن معينة ، كما فعلت الصين أثناء انعقاد الدورة الأوليمية فى بكين فى 2008 ، وكما تفعل غيرها من منطلق المظهر الحضارى للمجتمع ، ليس حلا ، ولا شك أيضا أن المظهر الحضارى لا يتحقق بإخفاء القبح والقذارة ، وإنما بإزالتها واستبدالها بالجمال والنظافة .. المظهر الحضارى لا يتحقق بالمبانى الشاهقة المشيدة بالحديد والزجاج ، وخلفها أو على بعدٍ قليل منها مدنٌ مشيدة من الحجارة والقش والبلاستيك والورق المقوى والصفيح والخشب ، وتتناثر فى كل جنباتها الفضلات الآدمية والقمامة والحيوانات النافقة والضالة ، والتلوث والعفن والتحلل ، والجريمة .. المظهر الحضارى لا يتحقق وهناك جهلاء ومرضى وفقراء وبؤساء .
إن عدد العشوائيات فى العالم الآن يقدر بـ 220,000 ، ويترواح سكان كل عشوائية بين عدة مئات إلى أكثر من مليون ( عشوائية gargantuan فى مدينة المكسيك يسكنها 4 مليون ) ، ودخل الفرد فيها أقل من الحد الأدنى للمعيشة ، ويصل إلى 75 سنتا يوميا ، وتصل نسبة وفيات الأطفال دون سن الخامسة إلى 320 لكل 1,000 نسمة ، والعشوائيات إما أن تكون فى قلب المدينة Inner City ، أو فى أطرافها ، وهو ما يطلق عليه Pirate Urbanization ، حيث يتم الحصول على الأرض بدون عقد Title أو بوضع اليد ، وهو الشائع منذ 1970 .( فى مدينة Karachi (باكستان ) 34 عشوائية فى قلب المدينة ، 66 على أطرافها ) .
يناقش Mike Davis فى كتابه Plant of Slums بنبرة متشائمة بعضا من الحلول لمشكلة العشوائيات ، ومنها استخدام الجهود الذاتية ، والمنظمات غير الحكومية NGOs ، والذى يفرد له الفصل الرابع ، ولكنه يراه نوعا من السراب Illusion of Self-Help ، وقد يكون الكاتب محقا ، نظرا لتفاقم المشكلة ، وصعوبة حلها بجهود ذاتية لا تمتلك إلا القليل من الموارد والإمكانيات ، ولا تستطيع توفير الاستثمارات الهائلة التى يتطلبها قطاع الإسكان ومشاريع البنية التحتية ، إلا أنه مع ذلك لا يمكن إغفالها ، فالمنظمات غير الحكومية تلعب دورا لا يمكن تجاهله رغم صغره ، فى مكافحة الفقر والعشوائيات ، كما أن القروض الصغيرة التى يقدمها Gramin Bank مثلا فى بنجلاديش تساهم فى تغيير نوعى فى حياة كثير من الفقراء هناك .
إذا كان إهمال الزراعة والقرية هو السبب الرئيسى الذى أجبر الفلاحين على هجرة الريف إلى المدن ، ومن ثم السبب الرئيسى لظهور العشوائيات ، فإن الأرخص والأسهل لمصر أن تهتم بالزراعة ، وأن تهتم بتنمية القرية ، وتحسين مرافقها ، وأن تهتم برفع مستوى الفلاح صحيا وثقافيا ، ومساعدته على تلبية متطلبات الأرض بأسعار رخيصة ، وبيع منتجاته بأسعار معقولة ، تكفل له حياة كريمة ، وحسب صحيفة ( المصريون ) بتاريخ 22 يوليو 2010 ، فإن مصر أنفقت خلال الثمانية عشر عاما الماضية 4 مليارات جنيه تحت بند تطوير العشوائيات ، ولا أحد يعرف أين ذهبت تلك الأموال ، والعشوائيات ما زالت على حالها .. إن المشكلة الرئيسية فى قضية العشوائيات ، وقضايا التنمية الاقتصادية والبشرية فى المجتمعات النامية عموما ، هى غياب الإرادة السياسية ، فكل الأنظمة فى تلك الدول أنظمة فاسدة ومستبدة ، ولا تبغى خيرا لمجتمعاتها ، وتجد من الأسهل عليها دوما أن تقترض من صندوق النقد والبنك الدولى ، ومن أجل هذه القروض والتى يتم تبديد نسبة كبيرة منها بسبب الفساد وغياب الشفافية والبيروقراطية ، تتخلى عن السيادة الوطنية ، وتقع فريسة للفوائد العالية ، وتتخلى عن كل برامج التنمية ، والمشاريع الإنتاجية الصناعية والزراعية ، والخدمات الأساسية الواجبة فى مجتمعاتها الفقيرة ، وتحول بلادها إلى مجتمعات استهلاكية تعتمد على البضائع المنهمرة عليها من الخارج من كل صوب وحدب ، والتى يقوم باستيرادها رموز النظام والمقربين منه من رجال الأعمال الفاسدين ، وتقصر اقتصادها على الأمور الخدمية ، ويجد الناس نتيجة ذلك أنفسهم فى معاناة مستمرة مع الغلاء ، وإحساس باليأس من المستقبل ، مما يفقدهم دافع العمل والصبر على البرامج الحقيقية التى سترقى ببلادهم .
يذكر تقرير الأمم المتحدة السابق الإشارة إليه أن مشكلة العشوائيات يجب أن ينظر إليها كنتيجة لفشل قومى ومحلى لسياسات الإسكان، والقوانين ، والتوزيع ، وأن أكبر عامل يحد من إمكانية توفير الإسكان والظروف المعيشية الملائمة لمحدودى الدخل ، هو غياب الرغبة والإرادة السياسية الصادقة لمواجهة القضية ، وإيجاد الحلول الملائمة لها ، بطريقة مستمرة ، وعلى نطاق شامل Slums must be seen as the result of a failure of housing policies , laws and delivery systems , as well as of national and urban policies . The most important factor that limits progress in improving housing and living conditions of low-income groups in informal settlements and slums is the lack of genuine political will to address the issue in a fundamentally structured , sustainable and large-scale manner
5- الالتزام الأخلاقى والإنسانى وأطفال الشوارع
إذا كانت العشوائيات هى المصدر الرئيسى لأطفال الشوارع ، وإذا كانت العشوائيات هى مآل المهاجرين من قراهم إلى المدينة ، فإن الجهود الصادقة للتغلب على العشوائيات وأطفال الشارع ، لا بد أن تبدأ فى القرية ، ومع الفلاح ، وفى المجال الزراعى ، ورغم صعوبة تحقيق ذلك لأسباب عديدة تمت مناقشتها فى مواضع مختلفة من المقال ، إلا أن قضية أطفال الشوارع تبقى مرتبطة ببعد أخلاقى وإنسانى ، وذلك لأن الضحايا أطفال ، من حقهم على مجتمعهم أن يرعاهم ، وأن يوفر لهم الحياة الكريمة ، وأن يصون أجسادهم وعقولهم .. يقول ( وائل زكى ) فى مقاله السابق الإشارة إليه : " جمع هؤلاء الأطفال ومحاولات تسكينهم وإيوائهم ، بقدر ما يحل جزءا من المشكلة ، إلا أنه يوارى المظهر دون لمس جوهر المشكلة والسبب وراء الظاهرة ، فتقديم المساعدات لأطفال الشوارع ، ولو كانت منتظمة دون علاج أسبابها فى مكامنها ، هو بمثابة حل لمشكلتنا نحن مع هذا المظهر غير الحضارى الذى يبدو عليه الشارع المصرى " .
وتقترح ( أميرة قطب ) فى مقالها السابق الإشارة إليه سبلا مختلفة لمواجهة أعراض المشكلة ، ومنها : " تطبيق نظام مسؤول الحالات فى الجمعيات العاملة مع الأطفال ، والذى بموجبه يكون كل إخصائى مسؤولا عن 6 أطفال ، يوجه لهم عناية شخصية مركزة بدلا من العناية الجماعية ، وإشراك أفراد المجتمع والمتطوعين بعد تدريبهم على التعامل مع الأطفال ، فى متابعة الحالات ، مع وضع محفزات وإعفاءات ضريبية لهم ، ونقل مسؤولية كل طفل إلى قسم خاص بمحكمة الأسرة ، يتولى متابعة ملفه بشكل دورى ، وجعل إعادة التأهيل النفسى مكونا أساسيا فى التعامل مع كل حالات الأطفال " ، كما تقترح أيضا الإبلاغ عن حالات الانتهاكات الجسدية للأطفال ، وجعل ذلك واجبا على كل من له علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالأطفال ، كالأطباء والمدرسين وغيرهم ، على أن تتكفل سلطات حماية الطفل بالتحقيق فى البلاغات ، وعمل اللازم لحماية هؤلاء الأطفال .
إن مكافحة ظاهرة أطفال الشوارع أمر شديد الأهمية للعواقب الوخيمة على المجتمع إذا تم تجاهل تلك المشكلة .. يذكر Mike Davis ظاهرة التطرف الفكرى والدينى المنتشرة فى آسيا وشمال أفريقيا ، والعلاقة الموثقة بين العشوائيات وبينها ، ويصف أطفال العشوائيات بأنهم أسلحة الشوارع التى تشكل القوى المعادية للدولة slum children are the street weapons of anti-state forces . They may be both threats and possibilities for states in the future
سابعا : ماذا عن المستقبل ؟
فى عام 2002 صدر كتاب [1] ( عدو الطبيعة : إما نهاية الرأسمالية أو نهاية العالم ) ، لمؤلفه [2] الأمريكى Joel Kovel ، وفيه يرسم صورة قاتمة لمستقبل العالم .. يقول : " المشكلة ليست فى الشركات العملاقة ، ولا التصنيع ، ولا التقنيات الحديثة ، ولا سوء الحظ ، إنها فى رأس المال بجشعه ، ودعايته المضللة " ، ثم يمضى راسماً صورة لعالمنا مع بداية الألفية الثالثة : " زاد عدد السكان من 3.7 بليون إلى 6 ( %62) ، وارتفع الاستهلاك اليومى للبترول من 46 مليون برميل إلى 73 ، واستهلاك الغاز الطبيعى من 34 تريليون قدم مكعب إلى 95 ، واستهلاك الفحم من 2.2 بليون طن مترى meteric tonnes ( الطن أو الطن المترى كما يُسمى فى الولايات المتحدة = 1,000 كيلو جرام ) إلى 3.8 ، وزاد عدد السيارات من 240 مليون إلى 730 ( ثلاثة أضعاف ) ، وتضاعفت حركة الملاحة الجوية ست مرات ، وتضاعف استهلاك الأشجار إلى 200 مليون طن مترى سنويا ، وزاد انبعاث الكربون من 3.9 مليون طن مترى إلى 6.4 ، وارتفعت الحرارة درجة فهرنهايتية ، وزاد معدل انقراض الكائنات بصورة غير مسبوقة فى الـ 65 مليون سنة الأخيرة ، وتضاعف استهلاك الأسماك عن مستواه فى 1970 ، وتم تدمير %40 من الأراضى الزراعية ، ونصف غابات العالم ، وتجفيف نصف أراضى المستنقعات wetlands ، ووصل خرق الأوزون إلى أكبر حجم له فى عام 2000 ، وأصبح نصف المياه الساحلية فى الولايات المتحدة غير صالحة للاستحمام أو الصيد ، وساهمت الولايات المتحدة وحدها بـ 7.3 بليون طن من الملوثات فى 1999 ، وتشهد الصين الآن انهيارا بيئا ، وتجر العالم معها ، وتضاعفت ديون العالم الثالث بين 1970 إلى 2000 بثماني أضعاف ، وازدادت الفجوة بين الأغنياء والفقراء طبقا للأمم المتحدة من 3:1 فى عام 1820 ، إلى 35:1 فى عام 1950 ، إلى 44:1 فى عام 1973 ، إلى 72:1 فى عام 2000 ، وتدخل 1.2 مليون إمرأة دون سن الـ 18 سوق الجنس العالمى سنويا ، وهناك 100 مليون طفل مشرد ينامون فى الشوارع "
إن الجشع الرأسمالى يدمر كوكب الأرض ، ويحيل حياة أغلب ساكنيه إلى بؤس ومعاناة ، من أجل أن تتكدس الأموال فى بنوك الأغنياء .. العشوائيات التى تنتشر الآن فى كل المدن ، وأطفال الشوارع الذين يهيمون على وجوههم فى كل مكان ، مظهران من مظاهر ذلك الجشع ، وتلك القسوة ، غير أن المثير للدهشة أن رأس المال يجمع بين الذكاء والغباء ، وبين التخطيط وغياب النظرة المستقبلية .. ألا يعلم هؤلاء أن الأمناء والصادقين من الخبراء ينظرون إلى العشوائيات كبركان ينتظر لحظة الانفجار volcanoes waiting to erupt ، وأن أطفال الشوارع سيكونون مدداً مستمرا للتطرف لكل أعداء الدولة والنظام ، وساعة أن ينفجر البركان ، وتنطلق جحافل الكارهين لدولهم ومجتمعاتهم وأنظمتهم ، فسيدفع الجميع ثمنا باهظا للجشع والغباء والقسوة وعمى البصيرة ؟
لقد صغر العالم فى زماننا هذا ، وأصبح الحديث عن قضايانا المحلية مرتبطا بقضايانا العالمية ، غير أن المشكلة المصرية تبقى فريدة فى مواصفاتها .. مجتمع بِلا قيادة ، وبِلا حكومة ، وبِلا نخبة ، وبِلا شعب .. مجتمع ( ملهوش صحاب ) .. مجتمع السبهللة والفهلوة .. اللى دهن الهوا دوكو ، وخرم التعريفة .. مجتمع بزرميط .
[1]The Enemy of Nature ; The End of Capitalism or the End of the World . Fernwood Publishing ,Canada . 2002
[2] Joel Kovel ناشط سياسى وبيئى أمريكى من أصول أوكرانية ، ولد فى نيويورك فى 1936 ، وتخرج من جامعة Yale فى 1957 .. انضم إلى Green Party ، وترشح لمجلس الشيوخ فى 1998 ، وحاول الحصول على ترشيح حزبه لرئاسة الولايات المتحدة فى 2000
سعد رجب صادق
Saad1953@msn.com
الإصلاح والتغيير .. والعشوائية
الاصلاح والتغيير .. والمسألة القبطية .. 1
الإصلاح والتغيير .. والمسألة القبطية .. 2
الإصلاح والتغيير .. والمسألة القبطية.. 3
الإصلاح والتغيير .. ومُعْضِلَةُ الشعب
الإصلاح والتغيير .. ومعضلة الدولة
الإصلاح والتغيير .. ومُعْضِلَةُ القيادة
الإصلاح والتغيير .. والنخبة
الإصلاح والتغيير .. والفرعونية
الاصلاح والتغيير..الرئيس القادم
الاصلاح والتغيير .. والكوتة
الاصلاح والتغيير .. والتوريث