انقلاب - الجزء الثالث عشر
|
اف 16 يمكن أن تستخدم كطائرة مقاتلة وطائرة هجومية أرضية |
قصة: غريب المنسى
.......................
بعد استقرار حال الوطن نسبيا أسس الضباط هيئة عسكرية من شأنها أن تقوم بعملية التنسيق بين السياسيين والأكاديميين والمثقفين والمفكرين والقانونيين وكل التيارات الوطنية التى ستشكل التصور العام لما سيكون عليه حال الوطن فى الفترة المقبلة, فالاتجاه العام السائد بين رموز المجتمع المخلصين هو تحويل الوطن الى بوتقه لكل الديانات ولكل التيارات السياسية والفكرية والاجتماعية تحت مظلة القانون , فالوطن ممكن أن يكون خليطا من كل المدارس الاقتصادية والسياسية والاجتماعية عندما يكون هناك قواعد قانونية ثابته منظمة لحركة جميع التيارات , فالرأسمالية جيدة شريطة أن يكون هناك حماية للناس من شراهتها وهذه الحماية لن تأتى الا بالأخذ ببعض من مزايا الاشتراكية , والدولة المدنية أيضا جيدة شريطة أن تكون حرية الأديان مكفولة للشعب بقوة القانون فالأديان ضرورية فى أى نهضة حقيقية لأنها بمثابة البعد الوجدانى المطلوب للايمان بحق الوجود. فالدين عنصر أساسى فى النهضة شريطة عدم استخدامه للتميز والمفاضلة والحكم الغيبى على طبائع الأشياء والأمور والأفراد.
يملك الوطن مخزون حضارى عظيم بالاضافة الى مخزون طليعى من الخبراء فى كل المجالات , هؤلاء الخبراء لهم مساهمات عالمية فى مجالاتهم ومعظمهم ان لم يكن كلهم حصلوا على تعليمهم المتقدم من جامعات الغرب ومعظمهم مارس حياته العملية فى الغرب وبعضهم حاصل على شهادات تكريم دولية وهذا معناه أن الوطن قادر على ملاحقة التطورات فى العالم الخارجى والانصهار فى منظومة الوطن العالمى بكل سهولة ويسر .. ولكن المشكلة كانت دائما تكمن فى رأس الحكم , فعندما يريد الحاكم أن يبقى الى مالانهاية فى سدة الحكم فهذا المخزون الطليعى من الخبرات المتراكمة يصير عدوه الطبيعى , ولابد له من التخلص منه بالاهمال المتعمد فلاقيمة لهذا المخزون فى نظره, هذه العقليات الجبارة مؤمنة بدولة القانون ومؤمنة بتداول المواقع والسلطة ومؤمنة بالنزاهة الفكرية وحرية التعبير والنقاش ولاتجد خجلا فى مواجهة المشاكل بكل موضوعية ومحاولة حلها بالأسلوب العلمى والمنطقى والذى يتناسب مع طبيعة المجتمع, هؤلاء الناس يدركون تمام الادارك أن وطنهم مصنف اقتصاديا وسياسيا بأنه عالم ثالث, ويعرفون معنى البيروقراطية السياسية والاقتصادية وقصور التعليم والخبرة العملية فى العالم الثالث, ومع ذلك لديهم الثقة والأمل والحب للمشاركة فى تحويل الوطن الى وطن عالم ثالث مريح قابل للانتقال الى العالم الثانى فى الوقت المنظور, على أن تأتى الأجيال القادمة لتنقيح أفكارهم وتصوارتهم وتبدأ من حيث ماانتهوا هم اليه, ومن الجائز جدا تحويل الوطن الى وطن عالم أول.
العقبة التى تقف دائما أمام أحلام الفلاسفة والمصلحين والمفكرين هى ديكتاتورية الحكم لأنها تقتل الكفاءات وتخنق الحلم وتدمر الأمل وعندما تكون هناك دولة مرنة من رأس الهرم يكون من السهل تحويل الأحلام والأفكار الى واقع شريطة أن تلتف الجماهير وتؤمن بصدق الأحلام وجدوى التفكير فى الخروج من هذه المحن المزمنة , ومن يقرأ التاريخ جيدا يعلم أنه لم تكن هناك دولة مثالية على مر التاريخ ولكن كانت هناك دولة مريحة, ولم يكن هناك نظام اقتصادى خالى من القصور ولم يكن هناك حركة نهضة بمعناها الحقيقى بدون ايمان من القيادة السياسية بضرورتها,وحتى تكون هناك نهضة لابد من الاتفاق بين القيادة ورموز المجتمع بوضوح لايعتريه غموض أو لبس على أن هناك خطوات لابد من اتباعها , وهناك ثمن لابد من دفعه حتى ندخل عصر النهضة .
من ضمن الخطوات الضرورية والحتمية للنهضة هى حرية تداول الأفكار وحرية تداول النقاش وحرية تداول السلطة والثمن لذلك هو ايمان الناس بضرورة التضحية من أجل الانتقال التدريجى من وضع سىء الى وضع أحسن , هذه التضحية مهمة جدا للنهضة لأن الناس عادة فى وطننا ومن كثرة الاحباط يفضلون الأوضاع السائدة لسببين : الأول لأنهم فقدوا الثقة على مر التاريخ الحديث فى فكرة الاصلاح لأنهم من التجربة العملية اكتشفوا أنها غطاء مرحلى يستخدمه الحاكم لالهائهم والضحك عليهم لتثبيت مقعده الأبدى على قمة الهرم , والسبب الثانى أن الطبيعة البشرية عموما تكون ضد التغيير فالبشر يميلون الى الاستقرار على ماهم عليه بدلا من المغامرة على شىء قد يكون أسوأ من وضعهم الحالى. وحتى يكون الناس على استعداد للتضحية لابد أن تكون هناك ثقة فى القيادات الفكرية والسياسية وتكون هناك نتائج ايجابية ملموسة تحثهم على الاستمرار فى التضحية لتغيير أوضاعهم , وكل هذا لن يتأتى الا بحرية الناس فى اختيار قيادتهم السياسية وتداول السلطة بشكل حضارى حتى تستمر عملية الاصلاح بتوافد دماء جديدة متغيرة وعقليات نشيطة مختلفة على القيادة .
*************
انتقل اللواء هشام نصر الدين من شقته المتوسطة الحال الى قصر من قصور الدولة, فالرجل يعتبر من الناحية القانونية والدستورية هو رمزا للشعب وممثلا للدولة ولابد أن يقيم هو وأسرته فى مكان يليق بهم, ومع هذه النقلة جاء التمتع بمزايا رئيس الدولة كاملة , فهو يقابل وفود وضيوف من دول صديقة فلابد أن يكون فى مستوى اجتماعى يناسب طبيعة وضعه الجديد, وخصصت له طائرة رئاسية من طراز ايرباص الحديثة ليستخدمها فى رحلاته الخارجية ومايلزمها من سيارات حديثة مصفحة لتنقلاته وطائرات هليكوبتر حتى يستطيع من اتمام الزيارات الداخلية بدون الاصطدام بعقبة المرور فى العاصمة ومايلزم ذلك من فريق حراسة رئاسى على مدار الساعة له ولأسرته , وبدأ الرجل يحس بالفرق بين حياة الانسان الطبيعى وحياة رجل الدولة, ورويدا رويدا بدأ فى اختيار مساعديه ورجاله من أصدقاء السلاح القدامى , ورويدا رويدا بدأ المحيطون به ينفخون فى قدراته ويوهمونه بأنه هو رجل المرحلة ولاداعى لسماع كلام هؤلاء النظريون من المفكرين والعلماء ورجال القانون اللذين يضيعون جل عمرهم فى الأبحاث والكلام النظرى, فالوطن ليس بحاجة الى نظريون , الوطن لايحتاج الى الكلام بل يحتاج الى قائد ملهم مثله هو القادر على تسيير الأمور بعقليته العسكرية المنتظمة.
ورويدا رويدا رويدا بدأت مدام نصر الدين فى الاستمتاع بالقصور والطائرات والحراسة والولائم والخدم والملابس والمجوهرات والديكورات والأثاث بنهم يعوض حرمانها الطبقى , وبدأت فى كتابة تاريخ جديد لها ولأسرتها يختلف تماما عن تاريخها الواقعى كزوجة لرجل كان موظف عام يعيش على مرتب ثابث شهرا كاملا , وبعدما كانت هى ربة البيت المدبرة التى توازن ميزانيتها بشىء من الحكمة بدت وكأنها قد قضت طفولتها وشبابها فى كنف عائلة ملكية, فالتكلفة لم تعد تهم فى مشترواتها الطموحة من دم الشعب , كل مايهمها هو الجودة .. فالجودة هى شعار مرحلتها الجديدة فالحرمان يولد الانفجار, وهذا ضعف انسانى مفهوم ومعروف.
وانتظر الناس ورموز المجتمع من نصر الدين أن يبر بوعده ويبدأ فى تسليم الحكم الى رئيس مدنى وحكومة مدنية منتخبة من الشعب .. وطال الانتظار قليلا , فالرجل على مايبدوا كان متحمس لهذه الفكرة عندما كان خارج لعبة السلطة والنفوذ ولكنه بعدما تذوق طعم السلطة وحلاوتها وبريقها وبعدما تخلص من الكبت والحرمان وطاعة الأوامر من رؤساوه أراد أن ينفرد بالسلطة وأن يترك الوضع الدستورى على ماهو عليه وليذهب الجميع الى الجحيم, وبدأ رموز المجتمع فى ارسال رسائل مباشرة وغير مباشرة له يرجونه بالالتزام بالعهد الذى قطعه على نفسه فى بداية تسلمه السلطة بدون رد حاسم وقاطع من جانبه .. وبدأ الفأر يلعب فى عب الشعب ورموزه!!
***********
أرسل السفير الأمريكى فى الوطن رسالة دبلوماسية سرية يشرح الوضع القائم الى الخارجية الأمريكية , منبها ومحذرا من استمرار الرئيس الجديد فى الانفراد بالسلطة واحتمال أن يكون هناك غضب شعبى عارم لأن الناس كانت تتوقع أن يكون هناك تغيير جذرى فى طريقة ادارة الدولة الى الأحسن , وكيف يكون ذلك ونحن وعدناهم بالديموقراطية والتعدد الحزبى والانتخابات النزيهة ؟ ان الرجل بذلك لن يختلف كثيرا عن سابقه عبود.
**********
ردت الخارجية الأمريكية على سفيرها برسالة سرية : نحن نعلم جيدا أن "مرعى" - الاسم الحركى للحاكم الجديد - لن يختلف كثيرا عن "عبود" , ونحن نعرف جيدا أن جينات هؤلاء الناس تميل الى الاستبداد بالسلطة والعجرفة ونحن لانملك من الوسائل المادية والمعنوية من تغيير النظام هناك كل خريف, كل مايهمنا أنه ملتزم بتنفيذ مصالحنا فى المنطقة وملتزم باتفاقية السلام مع اسرائيل, أما فيما عدا ذلك فنحن لن نتدخل على الاطلاق وعلى الشعب هناك أن يتحمل "مرعى " فهو منهم ونشأ بينهم ويعرف طقوسهم وعاداتهم , أنهم يريدون أن يكونوا نسخة مكررة من الولايات المتحدة ولكن ليس لديهم الامكانيات الاقتصادية لتحقيق حلمهم الأبدى بالاستقلال وتداول السلطة , لنترك "مرعى " فى السلطة هناك الى أن نضيق به ثم نخلعه , أما فيما يخص الشعب هناك فهذه هى مشكلته التى ينبغى عليه أن يتعامل معها.
ان الشعوب والحكومات مثل العائلات , هناك عائلات نشأت أروستقراطية وهناك عائلات ولدت فقيرة , والصراع الأبدى كان وسيظل دائما بيننا وبين الشعوب الفقيرة أساسه هو أن الفقير يريد أن يتحول الى اروستقراطى على حسابنا, ونحن لانملك هذه الرفاهية , أن الفقير عليه أن يكسر حواجز كثيرة حتى يتحرر من فقره , هذه النقلة الطبقية تلعب فيها الصدفة والقدر والتصميم دورا كبيرا , ونحن لانملك من هذه المقادير الا مايمكننا من السيطرة على هذا العالم لفترة منظورة , فهناك قوى دولية صاعدة ومن المحتمل أن تأخذ مكاننا أو تنافسنا على السيطرة والقوة ,ونحن مشغولين بتأمين أوضاعنا الاقتصادية والسياسية ولسنا مشغولين بدولة "مرعى" لأنها بكل بساطة دولة فقيرة متخلفة ستستنزف طاقاتنا.
*******
رويدا رويدا ذهب الوهم وبقيت الحقيقة ساطعة لهذا الشعب المهزوم ونخبته المتوهمة, وتحول مرعى الى القائد الوحيد القوى والملهم وتبنى نظرية الانفراد , تماما مثلما تبنى سلفه عبود نظرية الاستقرار .. واقتنع الناس والنخبة فى دولة مرعى بأنه لن يكون هناك عصرا للنهضة الا اذا لعبت الظروف والمقادير لعبتها وخرج من رحم هذه الأمة رجلا مؤمنا بالنهضة غير مرتبط بالقوى العظمى الكاذبة المضللة, معتمدا على طاقاته وقدراته ومصمما على كسر كل الحواجز التى تعيق هذه الأمة عن النهوض.
وحتى يأتى هذا الرجل أستودعكم الله.
تمت
انقلاب - الجزء الأول
انقلاب – الجزء الثانى
انقلاب - الجزء الثالث
انقلاب - الجزء الرابع
انقلاب - الجزء الخامس
انقلاب - الجزء السادس
انقلاب - الجزء السابع
انقلاب- الجزء الثامن
انقلاب - الجزء التاسع
انقلاب - الجزء العاشر
انقلاب - الجزء الحادى عشر
انقلاب - الجزء الثانى عشر
انقلاب - الجزء الثالث عشر
.......................................
غريب مرسى اسماعيل المنسى
مينيسوتا – الولايات المتحدة
ديسمبر 2010