انقلاب - الجزء الثانى عشر
|
اف 16 يمكن أن تستخدم كطائرة مقاتلة وطائرة هجومية أرضية |
قصة: غريب المنسى
.......................
المكان والزمان عنصرين مهمين في تحديد جغرافيا التاريخ , وعندما يلتقي منحنى الزمان والمكان مع منحنى البخار يكون الهبو هو الوسيلة الوحيدة لقياس الوحدة الحرارية النفسية اللازمة للتوهج والتي تعطى شعورا زائفا بالخوف والسعال , وبها أيضا يقاس عنصر الهلع قياسيا دقيقا يؤدى إلى وصول الباحث إلى طريق مسدود. ومع وصول النجيب الى هذا الطريق المسدود يصبح لزاما عليه وحتى لايضل الطريق أن يستعين بدعاء الوالدين وابتهالات وتفسيرات جوقة شيوخ الفضائيات فى محاولة ايمانية عميقة للوصول الى البعد البؤرى للواقع الذى يحدد سرعة توقف عقارب الساعة, التى توقفت وأصابها الصدأ فى منظومة التهليب والتعليب والتخريب وهى منظومة بالغة التعقيد مصنوعة بعناية فائقة والهدف منها هو نيك الشعب فى الدماغ , والدماغ هى طبعا مصدر الشك والقلق ومصدر التفكير المتوحش فى التغيير الذى هو مصدر كل بلاء للسطو على السلطة التى تقف هى بدورها بكل تجرد شاهرة سلاح الجوع والمرمطة والشحططه فى مواجهة حركة الجوعى وهى حركة تأسست فى بدايات القرن العشرين على مشارف روسيا البلشفية. ولكن هذه الحركة ماتت بفعل حركة الاخصاء التى تخصى كل من له قدرة وشجاعة على الجهر علانية بنواياه العدوانية .
فى هذه الحالة الروحانية الفلسفية العميقة وبكل التناقضات الموجودة فى قاع وقمة المجتمع وبكل مايشمل من : تدين وكفر .. جوع وشبع .. يأس ورجاء ..حشيش وبرشام .. توجد عشش "زرزارة" وهى عشش قائمة فى الوطن, وعلى مايبدو أن الاسم يعود تاريخيا الى أحد مساجين الليمان الذى جاهد طيلة حياته لاسعاد شعب العشش بامدادهم بمخدرات شعبية تتناسب مع دخولهم المتواضعة !! وهنا فى هذا المكان تقل قيمة الانسان لتصل الى أقل مستوى من الهوان والرخص الانسانى ليعيش حياة حيوانية رخيصة يشوبها ايمان عميق مصدره ذلك الحب السرمدى بين مصطفى وأم محمد أشهر زوجين عاملين فى هذا المجتمع الاسكانى الهلامى . وهذه العشوائيات هى عينة عشوائية متشابهة مع كل عشوائيات الوطن حيث يختلط الجميع مع الجميع وينصهر الكل فى واحد , فى أكبر مآساة انسانية تواجه مواطن القرن الواحد والعشرين .
فى عشة طولها ستة أمتار وعرضها خمسة أمتار يتوسطها سرير متواضع يجامع عليه صاحب العشة زوجته تحت جنح الظلام على مسمع من نصف دستة أطفال يتوهم صاحبنا بذكاؤه أنهم نائمون على مرتبة أرضية معفنة, يحدها من الجانب الشرقى فتحة أرضية لقضاء الحاجة على المشاع يلاصقها تماما مساحة ضيقة مكشوفة لاعداد الطعام الذى لأعرف كيف يأكلونه تحت ضغط الحر والذباب والصراصير الزاحفة من كل فج عميق !! فى هذه المساحة التى تصلح أن تكون فقط قبر لكلب !! وفى صدر هذه العشة وفوق بابها الصفيحى تجد ساعة حائط كبيرة أنيقة لاتتناسب مطلقا مع مساحة ولا جغرافية المكان تعلو التلفزيون الضخم الذى يبث قناة الجزيرة , ومع هذا المنظر المأساوى المتضارب لم تنسى صاحبة العشة الديكور على الاطلاق فهناك ستارة مطرزة تغطى شباك هو منفذ العشة البحرى الوحيد لتعطى لك انطبعا بأن هناك سيدة لها مذاق فى هذا المكان .
فى هذا المجتمع العششى الخلاق يوجد حلاق متواضع يدعى بالعافية أنه كوافير رجالى من خلال يافطة بالخط الكوفى الجميل كتبها على الحائط !! ويوجد نادى اجتماعى للرجال فى صورة " غرزة" لتعاطى الشاى والقهوة والبرشام عندما ترتفع أسعار الحشيش !! وفى هذا النادى الاجتماعى يبدوا لى أن المواطنين الصالحين من سكان هذا المجتمع الاسكانى يناقشون امورهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية بنهم عميق وهم مساطيل , فهذه العشش هى المصدر الرئيسى للعربجية فى المدينة. وعلى مايبدوا أن السوق فى حاجة ماسة الى خدمات هؤلاء الناس . فالعملية عرض وطلب. ويوجد أيضا فيها البقال والسروجى والعطار والملفت للنظر هو عدم تواجد صيدلية تخدم شعب العشوائية .
لايخلو طريق من طرق هذا المجتمع الاسكانى من روث الحمير الذى يتجمع عليه الذباب بالهبل ولا من حظائر البهائم والحمير والانعام التى تحمل اثقالا !! وفى حقيقة الأمر وحتى هذه اللحظة لم يتولد لدى أى انطباع بأن هناك فرقا جوهريا بين البشر والحيوانات فى هذه الدائرة المغلقة المحاطة بالربو والسعال والدوسنتاريا والاسهال .
أما الأطفال اللذين هم أمل المستقبل فى هذا المجتمع الخرافى فوجوههم شاحبة كالحة حفاة عراة لاتجد لهم شبيه حتى فى بلاد الواق واق , ومصابون بأمراض مزمنة لاتخطئها العين المجردة فالهواء الذى يتنفسونه والماء الذى يشربونه غير صالحين للاستخدام البشرى على الاطلاق .
وفى طرقات هذا المجتمع ترى بين حين وآخر صورة ملصقة على الحائط للسيد الرئيس فى شبابه وهى الصورة الوحيدة المسموح بتداولها فى هذه الأوساط , كيف وضعت الصور ولماذا وضعت ؟ هذا سؤال مشابه لنفس السؤال: كيف ولماذا وضعت سيدة العشة ستارة فاخرة مطرزة فى العشة؟ , فالمهمشين على مايبدوا متمسكون بالثوابت وقشور العنطزة والستر , ومن ضمن الثوابت طبعا الستائر وساعات الحائط وبعض من النجف والثلاجات حتى فى أحلك المراحل التاريخية والمكانية .
بين ثراء فاحش وفقر كافر يقف المواطن عند مفترق الطرق صابرا صبر اليأس ومقتنع اقتناع المضغوط عليه .. والمشكلة مشتركة بين الحكومة والشعب , والمواطن منساق فى حلقة المعيشة المفرغة لايوجد لديه الوعى المطلوب ولايوجد الاخلاص المناسب من الحكومة والنتيجة كما نرى .. هبر وثراء وفقر وجنون وخيبة أمل واحباط وسلبية وغلاء متوحش يدفع الناس الى حافة الجنون.
**********
صدرت الأوامر من الحاكم العسكرى للوطن وتكونت هيئة من حكماء الوطن المشهود لهم بالكفاءة والخبرة والاخلاص والتواضع والواقعية , ليضعوا تصورا شاملا لما ينبغى أن يكون عليه مستقبل الوطن فى المرحلة القادمة. واتفق الحكماء فيما بينهم على ضرورة تعريف الانسان المصرى تعريفا دقيقا قبل البدء فى تحديد التحديات التى تواجهه وحتى يتسنى لهم تحديد طبيعة العلاج, فالانسان المصرى أصبح انسانا غامضا وغير مفهوم بالمرة حتى لنفسه, لذلك فهو انسان مترنح متعلق بأهداب خزعبلات ترسبت فى عقله الباطن نتيجة عملية حقن مباشر وغير مباشر بمواد تعليمية ودينية وسياسية تتضارب كلها مع بعضها البعض. ومع كل هذه التناقضات الواضحة لكل ذى عينين تجد الانسان المصرى مقتنع داخليا بأنه انسان سامى , يتميز على كل البشر .. هكذا أقنع الانسان المصرى نفسه وهو يتصرف على هذا الأساس , والسبب الأساسى لذلك الشعور بالسامية المفرطة الغير مرتبطة بالواقع هو أن الانسان المصرى هرب من واقعه بتقمص الشخصية المصرية التاريخية التى كانت موجودة بالفعل فى عصر الفراعنة وهرب معها فى غياهب التوهان, فالطفل يحقن فى المدرسة بقصص تاريخية جميلة وينشأ وكله ايمان بأنه حفيد الفراعنة بناة الأهرامات , ولكن الواقع الحالى الذى يعيشه الآن بكل تعاسة أنه من بناة العشش والمقابر ومن شاربى مياه المجارى وأنه مضطهد اقتصاديا من أؤلئك المحظوظين المقربين اللذين يتعطفون عليه بما تجود به أخلاقهم فى موائد رمضان, لذلك فهو يفضل أن يعيش فى الماضى لأن هذا الماضى يحميه من مواجهة الواقع ويضفى عليه شىء من القدسية والتميز.
اذن لماذا يحس المصرى بالذات دونا عن كل البشر بأنه انسان سامى ؟ البعض يرى أن المصرى أنسان طيب متسامح , ولكن هناك شعوبا أخرى أكثر طيبة وتسامحا من الانسان المصرى, والبعض يرى أن المصرى أنسانا مبتكرا للتعايش مع ظروفه , ولكن هناك شعوبا أخرى أكثر ابتكارا وتعايشا مع الواقع!! وهناك من يرى أن الانسان المصرى يعتز بذاته لأنه مرتبط بنهر النيل منذ الأزل هذا الارتباط الوجدانى جعله يحس بالتميز .. ولكن هناك أيضا شعوبا أخرى كثيرة لديها أنهارا ولم نلمس فيها احساسها بالسامية !! اذا ماهى مشكلة الانسان المصرى بالضبط؟ المشكلة كما يراها مجلس الحكماء هى أن الانسان المصرى أصيب بمرض نفسى وانفصم عن واقعه وعاش فى خيال وهمى صنعه لنفسه كحصن ضد الواقع , ففى وطن المصرى الخيالى أمن وأمان وقناعة ويسر وتسامح وعطاء وشجاعة وشهامة وهذا العالم الافتراضى هو الذى يحصنه من الواقع ويدفعه للتعامل مع قهر السلطة والنتائج المترتبة على هذا القهر من فقر وتعاسة وصعوبة فى الحياة, هذا الخيال الوهمى هو الذى يجعل المصرى صبورا جدا على تحمل الصعاب ومواجهتها بالسخرية المعروفة عنه , وعندما تحس السلطة على مر التاريخ بأن صبره قد نفذ وهو على وشك الانفجار تسلط عليه الدين الذى يذكره بأن الحياة زائلة وأن الجنة هى الدائمة, فلاداعى للتبرم لأن هناك شيئا جميلا ينتظرك فى الحياة الأخرى.
والدين هى الوسيلة الوحيدة القادرة على تخدير الانسان المصرى لأنه هو أصلا يعيش فى عالم آخر أفترضه لنفسه لايختلف كثيرا عن العالم الآخر المثالى . ولكن يظل الاحساس بالسامية هو العنصرالخفى فى الشخصية المصرية وهو عنصرايجابى شريطة أن تتوفر له الابجديات على أرض الواقع . الانسان المصرى المقهور داخليا والمعتدى عليه انسانيا هو فى الواقع انسان ايجابى لو توفرت له معطيات الحياة, فالمصرى الذى يعيش فى دول العالم الأول هو انسان ملتزم بالقوانين وملتزم باحترام المجتمع وهو المرتبط بأسرته فى أى وضع وجد نفسه فيه وهو الباحث عن العلم والباذل للمجهود والمنافس على الجدارة لأنه بكل بساطة يعيش فى هذه المجتمعات على طبيعته وسجيته الراسخة فى اعماق وجدانه وتخلص بطريقة ما من عقدة الخوف والكبت والحرمان والنقد والتصغير والتحقير.
الانسان المصرى ليس مميزا على غيره من البشر ولكنه كالنبات يحتاج الى الرعاية ويحتاج الى الأكسوجين حتى يتنفس طبيعيا ويحتاج السماد حتى تشتد جذوره , وكل هذه المكونات موجوده محليا ولكن عدم وجود سياسة رشيدة تهتم بهذا الزرع ولدت اجيالا من المشوهين ذهنيا واللذين لجأوا الى الخيال للهروب من الواقع والحل يكمن فى سياسة تعليمية ممنهجة يكون هدفها المباشر التركيز على تربية وتعليم ثلاثة أجيال من المصريين على الأقل حتى نبدأ فى التطور للبدء فى مسيرة التقدم. لن يكون هناك أى تغيير فى وضع المصريين بدون تعليم جيد وحتى يكون التعليم مقبولا على المستوى العالمى المتعارف عليه لابد من الانفاق عليه بكل مليم فى خزينة الدولة حتى لو اضطرنا الأمر للاستدانة فالمعادلة واضحة وليست هناك اختصارات : التعليم يساوى المستقبل. لأننا عندما حاولنا الاختصار , وعندما سمحنا لغيرنا أن يفكر لنا فقدنا القدرة على الاختيار , فالذى يراه الآخرون مناسبا لنا ليس بالضرورة كذلك وبالتالى ضاعت سنوات من أعمار أجيال فى تجربة البحث عن الأصلح بما يلزمها من فشل وتصحيح ,وكل الأمم العظيمة عملت جاهدة على خلق المعادلة التى تناسب ظروفها الخاصة بها .
واقترح مجلس الحكماء أن الوطن بحاجة إلى ثلاثة مجالس: مجلس الشعب الذي ينتخبه عموم المصريين، ويجب أن تنحصر مهمته في قيام الأعضاء بتقديم طلبات الشعب فقط إلى المجلس الثاني وهو مجلس الخبراء، وهذا يكون المسؤول عن وضع القوانين والتشريعات بناء على طلبات الشعب التي قدمها أعضاء مجلسه المنتخبون، ثم مجلس ثالث وهو مجلس الوزراء ينفذ ما وضعه الخبراء تحت رقابتهم بناء على طلبات الشعب.
واتفق الحكماء فيما بينهم على أن المواطن لايهمه من بعيد أو قريب من يجلس على قمة الهرم الادارى للدولة , فالجالس على هرم السلطة هو فى الواقع موظف عام يؤدى وظيفة هامة ولكنها ليست دائمة ولسبب ما فى فترة تاريخية سيئة تحول الجالس على قمة الهرم من موظف عام الى رب العالمين!! وبالتالى لن يكون هناك وظيفة دائمة للحاكم فى عصر النهضة , لابد من انتخابه من عامة الشعب ولابد أن يكون هناك حد أقصى لفترة خدمته ولاينبغى أن تزيد عن دورتين كل دورة تكون مدتها خمس سنوات , حتى تتغير الدماء وتتغير العزيمة ولايصاب الوطن بالعجز والشيخوخة والبلادة والاحباط .
وبقى التنفيذ ....
تتبع
انقلاب - الجزء الأول
انقلاب – الجزء الثانى
انقلاب - الجزء الثالث
انقلاب - الجزء الرابع
انقلاب - الجزء الخامس
انقلاب - الجزء السادس
انقلاب - الجزء السابع
انقلاب- الجزء الثامن
انقلاب - الجزء التاسع
انقلاب - الجزء العاشر
انقلاب - الجزء الحادى عشر
انقلاب - الجزء الثانى عشر
انقلاب - الجزء الثالث عشر