مرة أخرى، أيهما أولا، الديموقراطية أم التنمية؟
...............................................................
|
الديموقراطية أم التنمية؟ |
بقلم : مسعد غنيم
.....................
في مقال بعنوان "ودنك منين يا عم جحا" بتاريخ 7 مارس 2010، وبحس الكاتب المهموم بالشأن المصري، أصاب الأستاذ غريب المنسي رئيس التحرير صلب وجوهر المعركة السياسية التي بدأت في مصر بالفعل بعد ’حجر’ البرادعي المفاجئ الذي حرك ’بركة’ مبارك الراكدة، وهي معركة الاختيار بين الديموقراطية والتنمية. خلاصة رأي الأستاذ غريب كما فهمته هي أن ’مجاهدي’ البرادعي ليسوا إلا "فئة خالف تعرف ولأنهم يعارضون فى سبيل المعارضة بلا أهداف جديدة معلنة تضارع أهداف الثورة (يوليو)."
بلغة العلوم الاجتماعية والسياسية، يفضل الأستاذ غريب الأولوية للاستقرار والتنمية (اللتان من المفترض أن نظام مبارك قد حققهما) على مغامرة الديموقراطية مع البرادعي لأن الشعب المصري ’جاهل جائع’، وغير جاهز بعد للديموقراطية. بغض النظر عن وجهة نظر الأستاذ غريب التي قد نتفق معه فيها أو نختلف كما سنرى بنهاية المقال، فهو قد حقق السبق في طرق موضوع جوهري وساخن، فبالصدفة شاهدت أمس 7 مارس 2010، جزءا قصيرا من حوار تليفزيوني على قناة مصرية خاصة وفي برنامج شهير. كان هناك سؤال للمذيعة من النوع الموحي بالإجابة، شأن معظم البرامج التليفزيونية الموجهة بصرامة وتدعي حرية الرأي، وخلاصته أيضا!: هل يمكن تحقيق التنمية بدون ديموقراطية؟، وأجاب الضيف (الحكومي) المثقف بالإيجاب بالتأكيد، وأعطى لذلك أمثلة بدول مثل كوريا وسنغافورة وتايوان، ولكنه لم يضف الأمثلة العكسية مثل الهند وموزمبيق حيث كانت الديموقراطية أولا، وهي الدول الأقرب لمصر من حيث الظرف التاريخي بل والثقافي من زاوية ما، فغالبا ما تقارن مثلا الزراعة في كل من الهند ومصر، كما أن موزمبيق دولة أفريقية "شقيقة"!.
إن إشكالية الديموقراطية والتنمية ليست جديدة على الدراسات الاجتماعية والسياسية، إلا أنها لم تحسم بعد، فما زالت موضوعا حيا ومثيرا للجدل وعلى قمة أولويات السياسة العالمية، ففي خطاب لأوباما في 11 يوليو 2009 في أكرا عاصمة غانا جاء قوله: " إن التنمية تحتاج للحكم الرشيد، وهو المكون الذي ظل غائبا لمدة طويلة للغاية في أماكن عديدة جدا. وهو التغيير الذي يمكن أن يطلق طاقات أفريقيا، وهي المسئولية التي التي يمكن أن يضطلع بها الأفارقة فقط."
وفي 2009 طلبت الرئاسة السويدية من المركز الأوروبي لإدارة سياسات التنمية (ECDPM)، إعداد ورقة بحثية قصيرة لوضع إطار للجدل حول هذه الإشكالية وتوفير غذاء كاف للعقل حولها. وجاءت الورقة بنتيجة تحليل عميق تدفع بأنه قد حان الوقت لإعادة الاعتبار للعلاقة بين التنمية والديموقراطية، كما جاءت بملخص لأهم الأفكار من كل من نتائج الدراسات النظرية والنتائج العملية من أجل إعادة تقييم العلاقة بينهما، ثم أضافت الورقة استكشافا للطرق التي يمكن بها أن تؤدي الديموقراطية إلى نتائج أفضل للتنمية. كما نشر موقع http://www.allacademic.com/ في 24/5/2009 ورقة بحثية كتبها باحث دكتوراه اسمه تشن ل.إي في 3 /1/2007، بعنوان " التنمية أولا والديموقراطية فيما بعد، أم الديمقراطية أولا والتنمية فيما بعد؟ الجدل حول التنمية والديموقراطية."
جاءت ورقة المركز الأوروبي لإدارة سياسات التنمية بعنوان " الديموقراطية في التنمية: كيف يمكن لكلا العمليتين بالتبادل أن تقوي كل منهما الأخرى؟ "، وجات في ثلاث أقسام:
1. الديموقراطية تحت التدقيق: جاء الوقت لإعادة العلاقة مع التنمية
• ليس بجديد مناقشة العلاقة بين الديموقراطية والتنمية، ففي السياسة والدوائر الأكاديمية، تم خوض معارك شرسة لسنوات عديدة بين "المؤمنين" و "غير المؤمنين" في مدى علاقات السببية بين الديموقراطية والتنمية (في أي من الاتجاهين). المتمسكون بنظرية التحديث التي تقول بأن التنمية شرط مسبق للديموقراطية، يواجهون أولئك الذين يعتقدون بأن التنمية الاقتصادية ليست شرطا ضروريا ولا كافية لظهور الديموقراطية، وتبقى طبيعة العلاقة بين الديموقراطية والتنمية "تنافسية ساخنة وموضوع خلافي."
• بينما تم التأكد أنه من الصعب إثبات علاقة سببية بين الديموقراطية والتنمية، فإن هناك إجماع عالمي عريض على الدور الإيجابي المحتمل الذي يمكن أن تلعبه الديموقراطية أو ’رشاد الديموقراطية’ في عمليات التنمية، خاصة على المدى الطويل. فقد ساهمت كثيرا نهاية الحرب الباردة، وموجة تأكيد الديموقراطية ببداية التسعينيات في إظهار تلك الرؤية على جبهة الأحداث سواء في أوروبا أو العالم النامي.
• لقد دعمت الديموقراطية التنمية السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية للاتحاد الأوروبي، وقد تم اعتبارها "قيمة" و"عملية" أو وسيلة في نفس الوقت، بمعنى أنها تتطور محليا من خلال الناس والمؤسسات في البلد المعني. لقد أصبح دعم الديموقراطية هدفا في حد ذاته، وملمح في كل المواقف التي انتهجها الاتحاد الأوروبي في سياساته الخارجية (الشئون الخارجية والتنمية والأمن). إلا أنه بالنسبة للاتحاد الأوروبي فالعملية الديموقراطية لها قيمة أداتية واضحة من حيث فاعلية محاربة الفقر، وتشجيع النمو، وتأكيد مسائلة الحكومة (شاملا الرقابة المدنية على الأمن) وحماية حقوق الإنسان (من خلال قضاء مستقل وإعلام حر). إن زراعة الديموقراطية في العالم الثالث تفهم على أنها توفر أفضل (رغم عدم الضمان) تصور للإدارة المشتركة للموضوعات العالمية (خاصة فيما يهم المواطن الأوروبي) وفي تشجيع التعددية الفعالة.
• بدرجات متفاوتة، احتنضت معظم الأقاليم النامية تلك الأجندة وتبينت ’الميزة الديموقراطية’ فيما يخص تحقيق التنمية. ففي أفريقيا، تم إصدار تصريحات سياسية تشير إلى العلاقات الإيجابية بين الديموقراطية والتنمية. وقد اتفق مركز NEPAD وآلية المراجعة الإفريقية المقابلة (APRM) على هذا المفهوم. وقد اعتبر الميثاق بين دول أمريكا اللاتينية (تم تبنيه في ليما في 2001) أن "الديموقراطية والتتنمية الاجتماعية والاقتصادية تعتمد على بعضها البعض وتقوي كل منهما الأخرى." كما أكد الميثاق الآسيوي الحاجة إلى تشجيع كل من "مبادئ الديموقراطية" و "النمو الاقتصادي المستدام، والرخاء والتقدم الاجتماعي" ولكن دون أن يربط مباشرة بين تلك الأهداف.
• يؤكد هذا التحليل أن هناك بعض الأصوات المخالفة عندما نأتي إلى التأكيد الرسمي على القيمة المضافة المحتملة للديموقراطية باتجاه التنمية. إلا أن هناك تساؤلات عما إذا كانت تلك التوقعات المتفائلة تقاوم اختبار الواقع؟ وكيف تتم حقا العمليات الديموقراطية في دول العالم الثالث؟ وهل يتم تشجيع الديموقراطية بفاعلية من أجل قيمتها التنموية؟ وهل نفهم العلاقة النفعية التبادلية بين الديموقراطية والتنمية؟ وهل تحقق الديموقراطية نتائج تنمية أفضل للفقراء؟ وهل هناك حقا رؤية مشتركة بين أوروبا وشركائها لقيمة الديموقراطية للتنمية؟
• إن الاختبار العملي للتكافل المحتمل بين الديموقراطية والتنمية يبدو أكثر وضوحا. ولنعترف بداية أن وقع الديموقراطية على التنمية ليس بسيطا ولا مباشرا، ومن المعروف أن "سلسلة طويلة ومعقدة تربط بين قانون التعبير عن الميول من خلال الصوت الانتخابي .. واحتمال إدارة وتقديم المنتجات والخدمات المخصصة للتخلص من الفقر المدقع". إن تلك السلسة سلسلة هشة، وبالذات في الديموقراطيات الفقيرة (الصاعدة)، ولكن يبدو أن التطورات الحديثة قد زادت من ضعف تلك السلسلة:
(عزيزي القارئ، بعد قراءة كل بند من البنود التالية، والواردة بالورقة البحثية الأوروبية، يمكنك إذا أحببت أن تجيب بنفسك عن سؤال بسيط بنهاية كل بند: كم يا ترى ينطبق البند على نظام حكم مبارك؟ ثم احسب بنفسك في نهاية البنود نسبة نجاح هذا النظام على مقياس محايد أصلا)
- الديموقراطية في حالة دفاع: في كثير من الدول النامية، فإن العمليات الديموقراطية متجمدة أو في حالة تراجع، وانعكس رد الفعل من ذلك في العدد المتزايد من الديموقراطيات الزائفة، والتلاعب بالمؤسسات من أجل الاحتفاظ بالسلطة (ممارسة مشهورة ومتزايدة في إفريقيا) وظهور ’نظم الحكم الهجين’ وهي النظم التي تربط بين القبول الوطني بالديموقراطية ومآذقها الرسمية من جهة، و الحريات المحدودة والممارسات السلطوية الاستبدادبة من جهة أخرى. لقد أصبحت الانتخابات هي الشرارة التي تشعل الصراعات، وكل ذلك يؤدي في النهاية إلى تأثير مدمر على توقعات المواطنين للتنمية، وكما يثبت ذلك من التدهور الاقتصادي والاجتماعي الذي تشهدة دول كانت تؤدي أداء حسنا.
- شكوك حول قدرة الديموقراطية على العطاء: هناك تشكك متزايد وتوهم عن قدرة الديموقراطية على العطاء. يعتبر التضامن والتوزيع العادل من المكونات الأساسية للعقد الاجتماعي بين الدولة والمواطنين. إن الديموقراطيات التي تفشل في تحقيق التنمية تخاطر بفقد شرعيتها أو أن تبقى هشة وغير مستقرة. وتعطينا أمريكا اللاتينية مثالا على ذلك، حيث حقق معظم الإقليم تقدما في كل من الديموقراطية وإصلاحات السوق، وبالرغم من ذلك فإن معدلات الفقر تستمر في الارتفاع ويعتبر توزيع الدخل فيها الأسوأ في العالم. وقد هز ذلك ثقة المواطنين في قيمة الديموقراطية والمؤسسات السياسية، وبخاصة الأحزاب. إن الفشل في عطاء الديموقراطية، هو بدوره، يمكن أن يزيد من درجة جاذبية الديموقراطيات الشعبية مثلما يزيد من جاذبية الحكم السلطوي الاستبدادي.
- صعوبة الحوار حول الديموقراطية: تشير التجارب عبر التجمعات الإقليمية المختلفة على أن هناك عجز (متزايد) في الحوار حول الديموقراطية بين أوروبا وشركائها، وهناك عوامل عديدة أدت إلى ذلك، منها: (1) المقاومة من جانب الزعماء غير الأكفاء؛ (2) عدم وجود أجندة ديموقراطية مولدة وطنيا يمكن أن تعمل كأساس للحوار؛ (3) ميل الفاعلين الأوروبيين إلى الاعتماد على مقاربات تقليدية وتكنوقراطية عندما يتم دعم الديموقراطيات في الخارج؛ (4) استخدام "معايير مزدوجة" يحد من مصداقية الخطاب الأوروبي عن الديموقراطية. إن اضطراب أو ’لخبطة’ الموارد العالمية الحالي يمكن أن يقلل من مدى التماسك السياسي بشكل أكبر. إن ظهور لاعبين جدد في المشهد العالمي والذين لا يشاركون بالضرورة نفس أجندة الديموقراطية، يعزز أكثر من التحدي. ويجب أن يكون معروفا أكثر أن الديموقراطية تشكل تحديا لا ينتهي بالنسبة للدول الأوروبية أيضا، وذلك كما أثبتته الدراسات المتزايدة التي تشير إلى نقص ديموقراطي في المجتمعات الأوروبية.
- مع ذلك فإن الصورة ليست مشرقة هكذا. تظهر ’الاستطلاعات القياسية’ في كثير من الأقاليم أن المواطنين يتمسكون بالديموقراطية ويعتبرونها الشكل المفضل للحكومة، وفي كثير من مناطق العالم فإن الناس مستمرون في التعبئة نحو الديموقراطية في مواجهة النظم السلطوية الاستبدادية. وفي سعيهم نحو تنمية أفضل، فإن المواطنين عبر الأقاليم يعبرون عن أنفسهم بصورة متزايدة، ويطالبون بالحقوق ويطلبون المسائلة لحكامهم. وفي العالم النامي، فقد تم اختبار أشكال متعددة من التجارب الديموقراطية وترتيبات الحكم الرشيد، وقد ساهم ذلك في تحقيق نتائج تنمية أفضل. إن إمكانيات التواصل الجديدة و الحلول الإعلامية المتطورة بفضل التقدم التكنولوجي تقدمان فرصا عظيمة لتحسين فاعلية التعبية الاجتماعية من أجل الإصلاح.
- يشير كل ذلك إلى أن الخلاف حول الديموقراطية – التنمية يجد نفسه في دائرة مفرغة، والاتجاهات التي تم بيانها سابقا تدعو مختلف أصحاب المصلحة إلى أن يعيدوا النظر في العلاقات البينية فيما يخص الديموقراطية والتنمية. إن المقاربات العادية (المناصرة للديموقراطية) لن تصبح كافية بعد الآن (لأن مصداقية الديموقراطية تعتمد على قدرتها على العطاء). كما أنه ليس شيئا واعدا أن نركز فقط على التنمية أو أهداف التنمية للألفية الثالثة (MDGs) وأن ننسى الأمر بشأن السياسة والديموقراطية. إن الطريق أمامنا هو أن نعتبر ’ماذا يفيد وماذا لايفيد’ وعلى هذا الأساس يتم تحديد استراتيجيات واقعية (طويلة الأجل) تجعل من الممكن أن نعمق الديموقراطية وأن نحسن من نتائج التنمية في نفس الوقت.
(عزيزي القارئ، هل حسبت نسبة نجاح نظام مبارك في تحقيق الديموقراطية على مقياس هذه الورقة البحثية الأوروبية المحايدة؟ أم أنك لاتحتاج لهذا المقياس أصلا مع وجود المادة 76 من الدستور وهي معيبة بما يكفي لإسقاط أي صفة للديموقراطية عن أي نظام حكم كما قال بذلك ثقاة القانون والسياسة مثل المستشار طارق البشري وغيره؟)
ولعل الأستاذ غريب المنسي يضيف هذا الجهد المتواضع في قراءة ما أنجزه الآخرون من دراسة وبحث، إلى ما بادر إليه بمقاله المشار إليه وما توصل إليه هو من نتائج نختلف معه فيها على وجه اليقين والقطع!.
كان هذا هو القسم الأول من نتائج الورقة البحثية لوضع إطار للجدل حول إشكالية الديموقراطية والتنمية، والتي تم تقديمها بناء على طلب من الرئاسة السويدية، وسيتم استكمال تقديم القسمين الباقيين من الورقة في مقال لاحق، وهما يتعرضان، بعد أن دققنا الحوار حول إشكالية الديموقراطية – التنمية، وأثبتت الورقة البحثية أن الوقت قد حان لإعادة العلاقة بينهما، وسيتناول القسمان:
2. أفكار أساسية حول الرابط بين الديموقراطية والتنمية
3. طرق لتحسين طاقة الديموقراطية في العطاء
8 مارس 2008
ودنك منين ياعم جحا.. ؟!