«السوبر ماركت» بدلا من الكتاب الأحمر
محمد عيسى الشرقاوى
.........................
طالب شاب من بلاد الشرق التي يعبق تاريخها بالأساطير ويحتفي أهلها بالحكمة القديمة والمضيئة، أثار دهشة أقرانه عندما سافر إلي باريس للدراسة، فقد أحب مذاق كعك "الكرواسان" الفرنسي، وتعلم لعبة الورق المعروفة باسم "البريدج" وبرع فيها.
واستطاع الطالب دنج هسياو بنج عندما أصبح زعيما للصين، بعد نحو عامين من موت زعيمها التاريخي ماوتسي تونج، أن يلفت انتباه الأمريكيين ويخلب لبهم عندما زار بلدهم عام 1979. فقد اعتمر قبعة رعاة البقر وشارك في مباراتهم.
وبدأ هسياوبنج إبان زيارته الأمريكية شخصا ودودا ومرحا ومتفتحا علي العالم، علي عكس ماوتسي تونج، الذي كان منعزلا وصارما.
وكأنه بتلك الزيارة كان يقدم للدنيا بأسرها الصين الجديدة الصاعدة بقوة من الصفحات الممزقة للكتاب الأحمر الذي كتبه ماوتسي تونج وفرضه فرضا علي أهل الصين إلي مباهج السوبر ماركت وحضارة الاستهلاك.
وتلك كانت صورة الصين التي رسخها دينج هسياو بنج في أذهان العالم عندما أصبح زعيما عام 1978 في أعقاب موت ماو عام 1976، واعتقال زوجته وثلاثة آخرين من أنصارها المتشددين. وكان يطلق عليهم "عصابة الأربعة". وقد قاموا بأدوار سيئة السمعة في أثناء الثورة الثقافية التي أشاعت الفوضي في البلاد قبل موت ماو. وكان هسياو بنج من أبرز ضحاياها.
وما أن تولي هسياو بنج السلطة حتي شرع في تنفيذ عملية إصلاح اقتصادية كان لنتائجها الإيجابية تأثيرات عميقة علي تحسين مستويات المعيشة للملايين في بلاده.
والملفت للانتباه أنه لم يكن من خارج الحرس القديم للحزب الشيوعي الحاكم، وإنما كان أحد أقطابه. وظل كذلك حتي هبت عاصفة الثورة الثقافية علي البلاد في الفترة من 1966 وحتي 1967. وكانت تستهدف تطهير الصين ممن أسمتهم القوي الرجعية.
وكانت سنوات الثورة الثقافية عصيبة بالنسبة لهيساو بنج. فقد جري اتهامه بانتهاج الأسلوب الرأسمالي.
وتلك كانت جريمة وخطيئة أيديولوجية كبري وحددوا إقامته في منزله ببكين حتي عام 1969. ثم أمعنوا في عقابه عندما رحلوه للعمل في مصنع بإقليم ناء وبعيد.
وكان "الحرس الأحمر" يرهب أبناءه الأربعة. وقد أصيب أحدهم بإصابة بالغة عندما اضطر إلي القفز من نافذة هربا من أفراد الحرس.
ولم يسمح ماو له بالعودة إلي بكين إلا عام 1973.
وهنا، يشير البروفيسور إزرا فوجل أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفارد في كتابه الذي صدر مؤخرا بعنوان: "فيسير دنج هسياو بنج وتحول الصين" إلي أن سنوات المنفي الإجباري التي عاني منها بنج قد جعلته يعيد التفكير فيما يحدث في الصين. وفطن إلي أن النظام القائم يتورط في أخطاء جسيمة. ولابد من إصلاح اقتصادي ينتشل البلاد من التخلف الذي تعاني منه.
وكان هذا تحديدا ما اضطلع به عندما تولي السلطة وتمكن من تحقيق نجاح مذهل. فقد بلغ معدل النمو الاقتصادي أرقاما غير مسبوقة، وصلت إلي نحو 12% سنويا. واقترن ذلك بتحسين العلاقات السياسية مع أمريكا وأوروبا وآسيا ومعظم دول العالم.
وحتي تتضح أبعاد شخصية هسياو بنج ودوره المحوري في تحول الصين والنهوض بها، يشير البروفيسور فوجل إلي أطياف من حياته وسيرته. ويكشف عن انحداره من أسرة لصغار ملاك الأراضي.
غير أنه انخرط مبكرا في غمار جماعة ماوتسي تونج والحزب الشيوعي. وهو ما أفسح أمامه المجال لدراسة عقائدية لمدة عام في جامعة بالاتحاد السوفيتي عام 1962. وكان آنذاك في نحو الرابعة والعشرين من عمره.
وكان قد أمضي قبل ذلك نحو خمس سنوات للدراسة في فرنسا. وما أن عاد إلي الصين حتي تولي قيادة فرقة عسكرية صغيرة كانت مهمتها كبح جماح ملاك الأراضي الذين يسيمون الفلاحين ذلا وهوانا.
غير أن قواته تعرضت للهزيمة. وهرب معظم أفرادها وعندئذ انضم إلي جماعة ماو، وشارك في المسيرة الطويلة التي قادها عام 1934 لتأسيس قاعدة جديدة للشيوعيين في شمال الصين.
وعندما انتصر ماو وجماعته في نهاية المطاف وسيطروا علي بكين عام 1949، أصبح هسياو بنج مسئولا سياسيا عن القوات الصينية المرابطة في التبت.
لكن أبرز المهام التي اضطلع بها هسياو بنج بعد انتصار الشيوعيين، كانت توليه مسئولية تنفيذ برنامج الإصلاح الزراعي في جنوب غرب الصين في الفترة من 1949 حتي 1951. وقد تمكن من تصفية طبقة ملاك الأراضي. وحظي بتقدير ماو.
ولعل هذا ما حدا بماو إلي أن يعهد إليه بالإشراف علي حملة لمناهضة القوي المرجعية عام 1957. ويوضح البروفيسير فوجل إلي أنها كانت حملة شريرة وأدت مجموعة كبيرة من أفضل الشخصيات العلمية والثقافية في البلاد.
وأعقب هذه الحملة المدمرة، تنفيذ ما سماه ماو القفزة الكبري إلي الأمام في الفترة من 1958 وحتي 1961. ولم تكن قفزة إلي الأمام، وإنما كانت قفزة كارثية. فقد أسفرت عن موت الملايين جوعا.
ولم تكد الصين تشيع ضحايا هذه القفزة الحمقاء إلي مثواهم الأخير في مقابر جماعية، حتي هوت البلاد في المصيدة الدامية لفوضي الثورة الثقافية.
وصمد هسياو بنج إبان الثورة الثقافية رغم ما لحق به من اتهامات وعنت ونفي إجباري. وتمكن من تبوؤ قمة السلطة ونهض بالصين نهضة اقتصادية كبري. وطبق دون تردد "سياسة السوق الاشتراكي". وهي السياسة التي تؤهل الصين لإمكان التفوق علي الاقتصاد الأمريكي بحلول عام 2040 إذا لم تعترض طريقها صعوبات عاتية.
وهذه هي المعركة الكونية الكبري المرجح أن يشهدها القرن الحادي والعشرون وتؤثر تأثيرا عميقا في مساره ومصيره. ذلك أن الصين لو استطاعت، طبقا لتقديرات الخبراء، من التفوق علي الاقتصاد الأمريكي، فإن ذلك من شأنه تغيير التوازنات الدولية والمعادلات العالمية.
ويبقي حتي تكتمل ملامح مسيرة هسياو بنج الإشارة إلي الأزمة الخانقة التي واجهها عام 1989 عندما احتشد الطلبة الغاضبون والمطالبون بالديمقراطية في ميدان تيان آن مين (ميدان السلام السماوي). وقد اعتبر هسياو بنج مظاهرات الطلبة تلك تهديدا للنظام القائم. ولذلك أصدر الأوامر لقوات الجيش بالتصدي للمتظاهرين مما أسفر عن مذبحة مروعة.
وكان نفر من زملاء هسياو بنج قد حذروه من أن استخدام القوة ضد المتظاهرين سوف يثير استياء الأجانب. لكنه لم يحفل بتحذيرهم. وقال لهم إن الغربيين سوف ينسون ما حدث، علي حد رواية البروفيسير فوجل.
لكن ما حدث أثار غضبا عارما في الغرب وتقلصت إلي حد كبير الاستثمارات الأمريكية والأوروبية في الصين.
غير أن هسياو بنج استطاع إلي حد ما تجاوز أزمة تقلص الاستثمارات، عن طريق تشجيع الصينيين الذين يعيشون ويعملون في الخارج من استثمار أموالهم في بلدهم.
وقد استقال هسياو بنج من منصبه وتخلي بمحض إرادته عن زعامته في 9 نوفمبر 1989 بسبب اعتلال صحته. ولكنه ظل فاعلا ومؤثرا في الشئون الصينية حتي موته عام 1997.
لقد أنهي دينج هسياو بنج إبان فترة زعامته للصين أيديولوجية الكتاب الأحمر. واستهل زمن مناهج "السوبر ماركت".
البحث عن شواين لاى
شواين لاي..آخر الثوار المحترمين -الأخيرة
«السوبر ماركت» بدلا من الكتاب الأحمر
من اقوال ماوتسي تونغ