البحث عن شواين لاى
عبد الله السناوى
...................
فى ذلك اليوم البعيد من عام (١٩٥٥) بدا أن الاجتماع قد طال بين رئيس الوزراء الصينى «شواين لاى» ورئيس الوزراء البورمى «أونو». الأول أبرز وجوه الثورة الصينية فى العالم وكان مشغولا بالحدث الكبير الذى يوشك أن يبدأ بعد ساعات فى «باندونج»، والثانى بطل قومى فى بلاده قادها إلى الاستقلال وكان معنيا بمستقبل جنوب شرق آسيا محاولا أن يساعد الجار الصينى على فك الحصار عنه ودمجه فى حركات التحرير الصاعدة.
استئذن «أونو» أن يغادر الاجتماع إلى مطار «رانجون» لاستقبال الرئيس المصرى «جمال عبدالناصر»، وطائرته فى طريقها إلى الاجتماع التأسيسى لحركة عدم الانحياز. كانت «بورما» محطة فى رحلة عمل شملت باكستان والهند، والأخيرة شريك رئيسى مع مصر ويوجوسلافيا فى قيادة الحركة الناشئة.
باغت «شواين لاى» مضيفه: «أنا قادم معك». لم تكن توجد علاقات دبلوماسية فى ذلك الوقت بين القاهرة وبكين، والتصرف على هذا النحو فيه خروج على الأعراف والقواعد فى العلاقات الدولية. غير أن «شو» شرح الموقف على النحو التالى: «نحن فى الصين نعتبر أن علاقاتنا مع مصر التى يمثلها هذا الرئيس الشاب أبعد وأهم من وجود سفارات وتبادل سفراء». كان «محمد حسنين هيكل» شاهدا على الواقعة التاريخية الفارقة وأول من لمح عبر نافذة الطائرة «شواين لاى» بجوار «أونو» عند مدرج المطار.
وكان ذلك الرهان الصينى على مصر من أسباب خرق الحصار على بكين قبل كسره تماما وخروج التنين إلى المسارح المفتوحة لاعبا رئيسيا يكرس قدراته لاكتساب صفة «القوة العظمى».
فى التجرية الصينية برز رجلان من طراز استثنائى العلاقة بينهما معقدة للغاية.. أولهما «ماو تسى تونج» وعنده قدرات الإلهام والحشد والتعبئة وصياغة الأفكار بصورة تجمع بين الايديولوجية والبراجماتية.. وثانيهما «شواين لاى» وعنده مهارات بناة الدول، اطلع فى جامعة «السوربون» الفرنسية على العصر الجديد وحقائقه عند بدايات القرن العشرين، انتسب إلى الثورة وشارك فيها ولكن عينه ظلت معلقة على بناء الدولة، أسس مدرسة تنسب إليها المعجزة الاقتصادية الصينية.
القيادات الصينية الحالية تعود بشخوصها وتفكيرها إلى تلك المدرسة التى أسسها «شواين لاى».
أثناء الثورة الثقافية فى منتصف الستينيات تعرض «شو» ورفاقه إلى تجربة عصيبة، جرى اختصار الثورة فى تعاليم ضمها كتاب أحمر، تحول إلى كتاب مقدس جديد. جرت ملاحقة قيادات تاريخية بتهمة التحريف والانحراف، وامتدت موجة الترهيب الفكرى إلى «شواين لاى» نفسه. تعرض أقرب تلاميذه «دينج هسياو بنج» لأوسع عملية تشهير، والمثير أن الأخير هو الأب الروحى للإصلاحات الاقتصادية الصينية التى دفعتها إلى التنافس على صدارة العالم. من مأثوراته فى مطلع التسعينيات من القرن الماضى: «خفضوا الأضواء وزيدوا قوتنا».
الحكمة المتوارثة عند الصينى جعلته مستعدا، بطول نفس وقدرة على الصبر، أن ينتظر جثة عدوه طافية عند حافة النهر.
عندما تراجعت الصين عن شطط الثورة الثقاقية، على عهد «ماو» نفسه، فإن مدرسة «شو» تولت ضخ أفكار جديدة لرفع معدلات النمو وجذب الاستثمارات واقتحام الصناعات التكنولوجية واختراق الأسواق البعيدة والوصول إلى منابع البترول فى أفريقيا بسياسة حاولت أن تزاوج بين ضرورات الانفتاح الاقتصادى والتزامات التوجه الاجتماعى عرفت باسم «اقتصاد السوق الاشتراكى».
انتقلت الصين إلى آفاق القوى العظمى دون أن تنتقم من الماضى الثورى، أو تتنكر لمعاركه، أو تنسى فضل «ماو» فى النقلة الكبرى التى وصلت إليها.
هذا عكس ما جرى هنا فى مصر: بعد رحيل «عبدالناصر» جرى الانقلاب على ثورة يوليو، والتشهير بمعاركها الكبرى، بما فيها معركة فك الحصار عن الصين.
الأمم الحية وحدها هى التى تتعلم من تجارب التاريخ، تنظر باحترام إلى تجارب الآخرين، تستلهمها دون ان تنقلها بتفاصيلها إلى دفاترها الخاصة.
هذا اول دروس «المعجزة الصينية». من أقوال «ماوتسى تونج» زعيم الثورة الصينية ومؤسس دولتها الحديثة: «يجب أن ننظر باحترام إلى تجارب الشعوب الأخرى التى دفعت ثمنها عرقا ودما، ولكننا يجب أن ننظر باحترام أكبر إلى تجاربنا نحن التى دفعنا ثمنها من عرقنا ودمنا نحن».
فى مطلع السبعينيات كان الاقتصاد المصرى فى وضع أفضل من الاقتصادين الصينى والكورى الجنوبى وفى وضع مقارب للاقتصادين الماليزى والتايلاندى، بحسب دراسات اقتصادية موثوقة. فى اعتقاد «مهاتير محمد»، الذى جاء إلى القاهرة فى الستينيات يستقصى أسباب النهضة الاقتصادية المصرية، أن الفارق بين التجربتين الماليزية والمصرية أن الأولى لم تكن على حدود إسرائيل!
ما جرى فى مصر يتجاوز فكرة الانفتاح الاقتصادى.. فقد جرى اتباع نهج انفتاحى فى الصين بتوقيت متقارب من السبعينيات. القضية تصفية المشروع الوطنى ذاته، والانخراط فى التبعية الاقتصادية، وإهدار الأموال والموارد والأصول العامة.
تراجع الدور المصرى بصورة فادحة وعادت مصائر المنطقة إلى قوى الهيمنة الغربية. الموقف كله تلخصه عبارة الرئيس المصرى الأسبق «أنور السادات»: «٩٩٪ من أوراق اللعبة فى يد الولايات المتحدة الأمريكية». عند هذه النقطة خرجت مصر من عالمها العربى وقارتها الأفريقية وقطعت أواصر صداقاتها فى آسيا وأمريكا اللاتينية، أخلت مواقعها تماما. عند لحظات التحول فى أوائل السبعينيات كانت الصين تمانع فى بناء علاقات مع إسرائيل وتصد ضغوطا على سورها العظيم، بينما كان «السادات» يفتح قنوات خلفية مع الإسرائيليين. فيما بعد عندما نجحت إسرائيل فى مد خيوطها إلى الشرق حيث أصدقاؤنا التاريخيون فى الصين والهند أخذنا نقول إنهم نسوا مواقفنا فى نصرة قضاياهم دون أن نُذكر أنفسنا أننا أول من خان قضايانا.
الدول العظمى ليست «مولات» تتسوق فيها الرئاسات مع رجال أعمالها، فلتلك الدول اعتبارات ومصالح تحكمها قواعد أمنها القومى.
نظرية الأمن القومى الصينى أربع حلقات متصلة، كأنك تطل من نافذة على الشوارع المحيطة وما يليها، بحسب دراسة مثيرة لمجلة «الفورين آفيرز» الأمريكية فى عددها الجديد: «كيف ترى الصين أمريكا؟».
الحلقة الأولى، حدود الصين التاريخية، وهناك تفاهمات وتعقيدات مع الولايات المتحدة استدعت تعاونا وصراعا فى الوقت نفسه حول «تايوان» ومناطق أخرى.
الحلقة الثانية، دول الجوار وتبلغ (١٤) دولة، وهذه مسألة مرهقة لأمنها القومى.
الحلقة الثالثة، الأقاليم الجغرافية المجاورة، أى الدول التى تجاورها منتسبة إلى عوالمها وثقافاتها ومصالحها.
الحلقة الرابعة، ما تصل إليها قدراتها على المنافسة الاقتصادية فى مناطق العالم المختلفة.
تدخل مصر من زاوية الأمن القومى الصينى ــ فى الحلقة الأخيرة.
الصين موجودة فى إثيوبيا عند منابع نهر النيل تنشئ السدود فوقه، أقدامها فى السودان باحثة عن البترول وزرع الأراضى، حاضرة فى المشرق العربى تنازع السياسات الأمريكية فى لعبة شطرنج بين القوتين الكبيرتين تختبر القدرات والنوايا، وحركة البضائع تبحث عن أسواق جديدة.
لم تكن زيارة الرئيس «مرسى» فتحا مبينا، أو ذات أفق سياسى مختلف عما كان يتبناه النظام السابق، ومع ذلك فإن صورته مع الرئيس الصينى «هو جنتاو» تصدرت الصفحة الأولى فى صحيفة «الهيرالد تربيون» الأمريكية على خمسة أعمدة، وكان ذلك اهتماما بالصين وما يجرى فيها ومتابعة للرئاسة المصرية وما قد تقدم عليه.
منحت الصين مصر قرضا بـ(٢٠٠) مليون دولار، ومنحة لا ترد بـ(٧٠) مليون أخرى. الدول العظمى ليست بيوتا للصدقات والإحسان ولا تعرف غير المصالح المتبادلة. الصين أخذت طريقها للمعجزة ومصر تحتاج إلى معجزة من نوع مختلف للحيلولة دون انهيارات أكبر. هناك تصورات داخل جماعة الإخوان المسلمين لإعادة استنساخ «مهاتير محمد» بتجربته الماليزية، و«رجب طيب أردوجان» بتجربته التركية، أرسلت وفود تستقصى التجربتين وتجارب أخرى جمعت موادها فيما أطلق عليه «مشروع النهضة». التجارب تستلهم ولا تنقل، وهذه من نصوص الحكمة الصينية. المؤسسة أقوى من الرئاسة والمشروع القومى متصل جيل بعد آخر.
مشروعات النهضة لا تُدعى ولكن تتبدى وتتواصل فى بنية المجتمعات، ومشروع النهضة المصرى تتصل حلقاته منذ تأسيس الدولة الحديثة عام (١٨٠٥)، فيه صعود وانكسار، تقدم وتراجع، والعدالة الاجتماعية قضيته الملحة الآن، وينسب لرجل الجماعة القوى «خيرت الشاطر» أنه قال لاقتصاديين إن «الدولة الراعية انتهت»، وهو كلام يستحق إيضاحا إذا ما كان ينصرف إلى خصخصة ما تبقى من قطاع عام وإلغاء الدعم على السلع الرئيسية. ما هو المقصود بالضبط؟.
السؤال يترافق مع الزيارة الصينية. الرئاسة ذهبت إلى بكين بصحبة رجال أعمال توقع اتفاقيات بلا أفق سياسى يصحبها، أو تصور اقتصادى قادر على حل المعضلة الاجتماعية. أهم الاتفاقيات التى وقعها الرئيس «مرسى» إعادة إحياء مشروع تنمية شمال غرب السويس عند العين السخنة، الذى توقف لأسباب تتعلق بالفساد الممنهج فى النظام السابق ومحاولة إخضاع الصينيين لشروط لم تشملها العقود. النوايا اختلفت والسياسات واحدة.
ما جرى فيه استنساخ للنظام السابق لا استلهام تجربة الخمسينيات التى دعت رجل الصين القوى أن يخرق القواعد الدبلوماسية واقفا عند مدرج طائرة فى بلد غريب.
البحث عن شواين لاى
شواين لاي..آخر الثوار المحترمين -الأخيرة
«السوبر ماركت» بدلا من الكتاب الأحمر
من اقوال ماوتسي تونغ