الرئيس جمال عبد الناصر قائد ثورة يوليو 1952
...............................................................
| |
سامي شرف | |
بقلم : سامى شرف
......................
جمال عبد الناصر حسين سلطان ، من بنى مر ، أسيوط . . ولد فى مدينة الإسكندرية فى الخامس عشر من يناير سنة 1918 . . أول مصرى يحكم مصر منذ 2500 سنة . كان ميلاد جمال عبد الناصر مواكبا لصدور وعد بلفور وعقب نشر اتفاقية "سايكس بيكو " اللذان استهدفا إقامة دولة صهيونية عنصرية على أرض فلسطين العربية والملاصقة لحدود مصر الشرقية فى نفس الوقت . جاء فى كتاب عبد الناصر " فلسفة الثورة " الذى نشر فى بداية عام 1954 : أن وعيه بالقضية العربية قد ارتبط بتطور القضية الفلسطينية وانعكاساتها على الواقع العربى منذ أن كان طالبا فى المدرسة الثانوية وشارك فى التظاهرات بمناسبة ذكرى الثانى من نوفمبر 1917 الذى منحت فيه بريطانيا لليهود وطنا قوميا فى فلسطين اغتصبته قسرا من أصحابه الشرعيين ، وظلت الفكرة تلح على جمال عبد الناصر الثائر إلى أن بعث برسالته المشهورة إلى الرئيس الأمريكى جون كينيدى فى مايو سنة 1962 ، والتى قال له فيها : لقد أعطى من لا يملك حقا لمن لا يستحق ، ثم استطاع الاثنان ، من لا يملك ومن لا يستحق بالقوة والخديعة أن يسلبا صاحب الحق الشرعى حقه فيما يملكه ويستحقه . . وهى نفس العبارة التى تضمنتها وثيقة ميثاق العمل الوطنى فى مايو 1962 .
وبعد ان أصبح جمال عبد الناصر طالبا فى الكلية الحربية فى العام 1937 ترسخ اقتناعه بـأن القتال فى فلسطين ليس قتالا فى أرض غريبة ، وليس انسياقا وراء عاطفة ، وإنما هو واجب يحتمه الدفاع عن النفس باعتبار أن المعركة على أرض فلسطين كانت وسوف تظل من صميم منظومة الأمن القومى لمصر الذى هو جزء من الأمن القومى العربى . . والأمن القومى المصرى كما هو معروف فى حلب .
كان جمال عبد الناصر وهو يقاتل على أرض فلسطين العربية من منظور فكرة المصير المشترك ـ أنه يدافع عن بيته وعن أولاده ، وكان يرى أن ما يحدث فى فلسطين كان يمكن أن يحدث فى ، وما زال احتمال حدوثه قائما ، لأى بلد عربى ما دام مستسلما للعوامل والقوى التى تحكمه . كان يؤمن فى تلك المرحلة بالمصير العربى الواحد الذى عبّر عنه بقوله :" لما عدت إلى القاهرة كانت المنطقة فى تصورى قد أصبحت كلا واحدا . . كان الحدث يقع فى القاهرة فيقع مثيل له فى دمشق غدا ، وفى بيروت وفى عمان وفى بغداد وفى غيرها . . منطقة واحدة ، وفى نفس الظروف ونفس العوامل ، بل نفس القوى المتألبة عليها جميعا .
وأصبحت بل وتأصلت الفكرة العربية عند عبد الناصر بأنها ليست وحدة تاريخ وليست أمن قومى أو وطنى بل هى وحدة مصالح ".
وكانت قمة النضج الفكرى عندما عبّر عن الوضع العربى فقال :" أن هناك دائرة عربية تحيط بنا ، وهذه الدائرة منا ونحن منها . . امتزج تاريخنا بتاريخها وارتبطت مصالحنا بمصالحها حقيقة وفعلا ، وأن مصر تستطيع أن تصنع القدوة من خلال تجميع الطاقات العربية ، وأن ذلك هو قدرها التاريخى تقوم به لمستقبل البشر . . "
* * * * *
الساعة الثانية عشر تمام منتصف ليلة الثالث والعشرين من يوليو1952 زحفت مجموعات من الضباط الأحرار بقيادة البكباشى أ . ح جمال عبد الناصر بكلمة السر " نصر " التى بلورت مبادىء ثورة 23يوليو العظيمة فى النهاية فى " الحرية والاشتراكية والوحدة " ، وغّيرت الحياة على أرض مصر وواجهت الاستعمار على كل شبر من الأرض العربية وامتد تأثيرها مساندة حركات التحرر فى جميع قارات العالم والتى عّبر عن ذلك عبد الناصر بقوله : " ليس هناك علم يرتفع بالاستقلال فى أى بلد عربى إلا وكان للشعب المصرى يد فيه . "
كانت المواجهة القوية والعنيفة الأولى بين ثورة يوليو و قوى الاستعمار عندما استرد الرئيس جمال عبد الناصر قناة السويس للشعب المصرى وأصدر قراره فى 26 يوليو1956 بتأميم شركة قناة السويس ، وواجهت مصر عدوانا ثلاثيا كان نتيجة تآمر تم فى مدينة " سيفر " الفرنسية كان يستهدف إعادة الاستيلاء على قناة السويس ، وحققت مصر انتصارا سياسيا وأصبحت قناتنا مصرية تدر اليوم دخلا يربو على المليارين من الدولارات سنويا وكان كل حصيلة القناة لمصر حتى سنة 1956 لا يزيد عن ال 35 مليون جنيه سنويا ( 100 مليون دولار ) ، وبذلك أصبح جمال عبد الناصر مشاركا مشاركة فعلية وعملية ومتزايدة فى تنمية مصر حتى بعد رحيله عن عالمنا وبعد حرب السويس استرد جمال عبد الناصر بالتمصير للشعب المصرى جميع الممتلكات الأجنبية فتحرر الاقتصاد من السيطرة الأجنبية وأصبح اقتصادا مستقلا وطنيا مصريا خالصا لا يتدخل فيه البنك الدولى ولا أى جهة أجنبية أخرى تحت أى مسمى . وكان ذلك بمثابة القاعدة السليمة لبناء التنمية المصرية صناعيا وزراعيا ، انتاجا وتوزيعا .
وعلى امتداد حكم الرئيس جمال عبد الناصر أقيم فى مصر أكثر من ألف مصنع أغلبها للإنتاج الصناعى وليس للإنتاج الاستهلاكى ، ووضعت خطط للتنمية التى حققت أعلى معدلات نمو فى العالم الثالث بشهادة البنك الدولى فى تقريره رقم A870 بتاريخ 5يناير1976 ـ الجزء الخاص بمصر ـ الذى قرر أن نسبة النمو الاقتصادى فى مصر كان بمعدل 2ر6 % سنويا بالأسعار الثابتة الحقيقية ، وارتفعت فى الفترة من 1960 حتى 1965 إلى معدل 6ر6 % وهذا يعنى أن مصر استطاعت خلال عشر سنوات أن تحقق تنمية تماثل أربعة أضعاف ما استطاعت تحقيقه فى الأربعين سنة السابقة عن عام 1952 . ولابد من التأكيد على أن عائد التنمية كان من شعب مصر إلى المصريين جميعا حيث بدأ تحقيق العدل الاجتماعى بما له من انعكاسات على قضايا الاقتصاد ورفع مستوى المعيشة وتحرير لقمة الخبز مما ينعكس على تحقيق نموذجا ديموقراطيا يسمح للفئات التى طال حرمانها من أن تتنفس وأن تعبّر عن رأيها بحرية وبلا خوف .
أثبت العدوان الثلاثى أن الأمة العربية هى أمة واحدة ، ولقد أشعل فيها عبد الناصر تيارا جارفا من الوطنية وأحيا الروح القومية العربية . إن العالم العربى يملك كل المقومات لكى يكون كيانا واحدا متحدا يواجه أخطار المستقبل ويملك التاريخ والدين والجغرافيا واللغة الواحدة كما أن التحديات التى تواجهه واحدة ، وكان انتصار السويس السياسى قد كشف الغطاء عن هذا المارد الذى بعث فيه جمال عبد الناصر الروح فأحيا القومية العربية وأصبحت واقعا يعيشه الناس حتى اليوم . وكلما حلت بنا أزمة عاد الناس إلى مقولات ورؤية جمال عبد الناصر ـ وإن لم يستطيعوا القول فإنهم يرفعون صورته ـ الذى أقام أول وحدة دستورية فى العصر الحديث بين مصر وسوريا ، والذى انطلق مقاتلا للاستعمار فى كل مكان داعيا للقومية العربية لمواجهة أعداء الأمة وعلى رأسهم الكيان الصهيونى الاستيطانى العنصرى الذى زرع فى قلب الوطن العربى كقاعدة متقدمة للاستعمار الأمريكى فى المنطقة . ولم يقدر لهذه الوحدة أن تستمر وتتدعم لتكون النواة لدولة عربية كبرى إذ واجهتها مؤامرات الاستعمار وأجهزة مخابراته والعملاء ، وأنفقت الملايين لإنجاح مؤامرة القضاء على هذا النموذح الثورى الذى يخلق من الأمة العربية كيانا واحدا خافت منه قوى الاستعمار والعملاء والصهيونية على مصالحهم حتى أن دافيد بن جوريون رئيس وزراء إسرائيل السابق قال عندما أعلنت الوحدة بين سوريا ومصر : " إن إسرائيل قد أصبحت بين فكى كماشة عربية تعصر ما بينهما " . . هذا النموذج الذى كرهته الرجعية والعملاء خوفا على عروشهم عندما تتكشف مخازى حكمهم إذا سقطوا .
ولم يدم الانفصال طويلا إذ ثار الشعب السورى الذى كشف الخيانة ، وسعت حكومات سورية وعراقية بعد ذلك إلى تحقيق مشروع الوحدة الثلاثية بين مصر والقطرين الشقيقين ، إلا أن الرئيس جمال عبد الناصر ، وقد وعى التجربة والدروس المستفادة منها فقد أجرى مع الوفدين العراقى والسورى أقوى وأجرأ وأعمق مباحثات ، ومارس النقد والنقد الذاتى بصراحة ولم يخفى شيئا ـ تم نشرها بالكامل ـ وذلك حتى نكون جميعا على بينة مما حدث ونأخذ العبرة من التجربة السابقة تحسبا للمستقبل ، كما وضع الأسس التى تكفل قيام الوحدة المستقبلية التى لا تمكن أعداءنا من فصمها مرة أخرى ، وهو الشىء الذى حدث بعد ذلك أيضا مع النظام الثورى فى كل من ليبيا والسودان بعد سنة 1969 .
إن الجماهير التى تطالب بحريتها فى مصر والعالم العربى ، بل وفى كثير من دول العالم تلجأ إلى مقولات عبد الناصر فى أن ما اخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة . . إيمانا منها بأن المقاومة والإرادة على حد تعبيره هى أنبل ظاهرة يتميز بها الإنسان الحر ، وأنه لا ينبغى أن تهدأ أو تخمد حتى تتحقق أهدافها فى الحرية والاستقلال . وما زالت جميع حركات التحرر والشعوب الحرة الحية حتى الآن والتى تقاتل من أجل حريتها واستقلالها وتحرير إرادتها ترفع صورة عبد الناصر الآن .
وإيمانا من الشعب العربى الحر فى اليمن بأن قضية القومية العربية هى حقيقة واقعة ، وأحد ثوابت حياتنا فقد رد على مؤامرة الانفصال مؤامرة الاستعمار والرجعية والصهيونية ، بقيامه بثورته الحرة فى السادس والعشرين من سبتمبر سنة 1962 .
وقضية اليمن تبدأ خلفياتها منذ بداية الستينات حين زار الملك سعود بن عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية واشنطن ، وتمت هناك مبايعته باعتباره زعيما للعرب والمسلمين بديلا عن جمال عبد الناصر ، وبعدها أعلن الملك سعود أنه سينقل المعركة إلى القاهرة ـ وهذا التهديد حاولوا تنفيذه فعلا ولكن أحبطت كل محاولاتهم ، وليس هنا مجال الكلام فى مثل هذه الأمور .
وفى خضم ذلك انفجرت ثورة الأحرار فى اليمن فقلبت كل الموازين وأحدثت ارتباكا شديدا فى صفوف الرجعية العربية ودوائر الاستعمار الذين أشاروا إلى القاهرة ، فى حين أن الحقيقة كانت غير ذلك . فثورة اليمن كانت نتاج أبناء اليمن الأحرار ، وتمت كرد فعل طبيعى لحكم رجعى متخلف يجسد أبشع أنواع وصور العهود المظلمة فى تاريخ البشرية ، ولقد سبقها إرهاصات شعبية وعسكرية ومحاولات عدة منذ سنوات 1946 و 1948 و1950 و1952 أى أن خميرة الثورة كانت موجودة وجربت مرات لكنها كمنت لتنجح أخيرا سنة 1962 .
إن الإرهاصات اليمنية كانت دائما محتكة مع مصر ، فقد وفر المناخ المتقارب بين القاهرة وصنعاء خلال حكم الإمامة من اتفاقيات التبادل الثقافى والعلمى والتبادل الطلابى والبعثات ذات الأنشطة المختلفة والمتنوعة بما فيها التدريب العسكرى سواء فى الكلية الحربية فى القاهرة أو بتواجد بعثات عسكرية مصرية فى صنعاء ، وكانت الكوادر التى نتجت عن هذا التعاون البناء على مدى لم يكن قصير ، هى التى قادت الثورة على الأوضاع المتخلفة والمفروضة على المجتمع اليمنى .
ومنذ اللحظة الأولى اعتبرت المملكة العربية السعودية أن هذه الثورة هى عمل عدوانى موجه ضدها ، وبدأ التعاون والتنسيق السعودى , الأردنى , الأمريكى على جميع الأصعدة من مال إلى تسليح لبعض القبائل إلى استخدام المرتزقة الأجانب بقيادة ضابط المخابرات المركزية الأمريكى " كومر " ، وبتنسيق كامل شاركت فيه أيضا بريطانيا وإسرائيل لتنفيذ مخططات الاستنزاف للمجهود اليمنى الثورى من جهة والدعم المصرى للأحرار للحيلولة دون تحرير هذا المجتمع الذى أراد أن يعيش فى القرن العشرين مثله كمثل باقى شعوب العالم .
والسؤال الملح هو :
هل استنزفت ثورة اليمن الاقتصاد المصرى ؟
والإجابة هى : لا .
فالتكلفة المالية لحرب اليمن من نهاية سنة 1962 تقريبا حتى سنة 1967 لم تتعد ال 500 مليون جنيه . والمساعدات التى حصلت عليها مصر فى قمة الخرطوم كانت اكثر من ذلك ، والمساعدات التى حصلت عليها مصر بعد حرب 1973 تجاوزت الألف مليون جنيه .
وخلال الفترة من سنة 1962 حتى سنة 1967 التى كانت حرب اليمن مشتعلة فيها استطاعت مصر أن تحقق بنجاح غير عادى وغير مسبوق أهم خطة للبناء والتنمية فى العالم الثالث كله . وخلال نفس الفترة كانت معدلات الإنجاز فى بناء السد العالى تسير بخطى أعلى مما كان متوقعا ومقدرا لها ، يضاف إلى ذلك أن الاتحاد السوفيتى تنازل عن ثمن الأسلحة والمعدات التى استخدمتها القوات المسلحة المصرية فى اليمن .
والدم المصرى الذى أريق على أرض اليمن الشقيق لا يقدر بمال ،خاصة بعد ما اختلط بالدم اليمنى فى معركة واحدة كانت نتيجتها تحرير هذا الجزء العزيز من الأرض العربية وتحرير الجنوب العربى كله علاوة على تحرير الإمارات العربية فى الخليج العربى كله وأثر ذلك على عروبة الخليج ، والأهم من ذلك كله تحرير البحر الأحمر من أى سيطرة ليصبح بحيرة عربية خالصة مما كان له أثره البالغ والحيوى فى حرب أكتوبر 1973 .
وبهذه المناسبة فإن حجم الإنفاق الخارجى لثورة 23 يوليو كان :
الجزائر :
المساعدات التى قدمت لثوار الجزائر لم تتجاوز 60 مليون جنيه . وقد ردت الجزائر هذا المبلغ وأكثر منه خلال حرب أكتوبر1973 .
سوريا :
لم ننفق شىء .
وكل ما أخذته سوريا هو الحق فى حصيلة قناة السويس تستخدمه بالنقد الأجنبى ولم تستعمل سوريا هذا الحق إلا مرة واحدة فى حدود ستة ملايين جنيها . والدم السورى الذى بذل فى السنوات 1948 و 1956 و1967 و 1973 لا يقدر بمال أو بمقابل .
حلف بغداد :
لم ننفق شىء . بل تمكنا من الحصول على كم هائل من الوثائق والمخططات التى تدين الاستعمار والصهيونية والرجعية العربية بما لا يقدر بمال .
والخلاصة هى أنه يتحتم علينا أن ندخل فى العالم العربى ، وفى أمتنا العربية ، وليس أن نخرج منها أو ننسحب من عروبتنا ، بل يجب أن تظل مصر طرفا فاعلا فى كل القضايا العربية بما لها من قوة جذب وقوة تأثير . . هذا هو قدر مصر وهذا هو دورها ومسئوليتها .
استمرت المؤامرات ضد ثورة يوليو ، وكانت قمة هذه المؤامرات عدوان 5يونيو 1967 الذى أحكم تدبيره ـ كما تتكشف كل يوم أبعاده وتفاصيله ـ بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل والقوى المعادية للتحرر والاستقلال .
للحقيقة فإن أحدا لم يعترض على أى من الإجراءات أو القرارات التى
سبقت العدوان ، فكل أعضاء اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكى العربى فيما عدا المهندس محمد صدقى سليمان الذى تحفظ على التوقيتات ، والوزراء وقادة القوات المسلحة كلهم بما فيهم القائد العام الذى كان فى نفس الوقت عضوا فى القيادة السياسية ، حتى القادة العرب كلهم لم يعترض أحد منهم أثناء زيارة السيد زكريا محيى الدين للدول العربية ، ولو كان أبدى أى اعتراض من أى ممن شاركوا فى تلك المرحلة سواء من المصريين أو العرب لكان الموقف قد تغير إعادة الدراسة والبحث من جديد . . لكن أحدا لم يبد حتى مجرد ملحوظة وليس اعتراض . . والكل وافق .
كان المتوقع أن يأتى العدوان من الشرق فجاء من الغرب ، ذلك العدوان الذى غطى جميع القواعد الجوية والمطارات فى وقت واحد تقريبا بما لا يجعل مجالا للشك فى التواطؤ المغطى بعكس ما حدث فى العدوان الثلاثى سنة 1956 ، وهذه التغطية تساوى عسكريا ثلاثة أضعاف القدرة والقوة الإسرائيلية الجوية . وكانت حاملات الطائرات الأمريكية والبريطانية تبحر فى المنطقة ، كما كان هناك استطلاع جوى أمريكى فى نفس الوقت فوق سماء مصر وسوريا .
لم يكن الرئيس جمال عبد الناصر فى الصورة العسكرية الكاملة لأن القيادة العسكرية حينما تتضخم ذاتها تستطيع أن تحجب الكثير من الحقائق ، والقائد السياسى يسأل العسكريين عن الموقف وعلى ضوء إجابتهم يصدر قراره . ولو رجعنا إلى تصريحات القيادة العسكرية فى تلك الفترة لرأينا . . أقوى قوة جوية . . أكبر قوة ضاربة فى المنطقة . . كما أن القيادة العسكرية لم تعترض على تصعيد الموقف وإلا لكان الوضع قد تغير تماما . . صباح 5 يونيو كانت القيادة العسكرية المصرية إما معلقة فى الجو أو على أرض مطار بير تمادة فى سيناء لاستقبال القائد العام للقوات المسلحة والأهم أن الدفاع الجوى كان مقيد تماما . . وتغيرت الشفرة و بالتال فإشارة الفريق عبد المنعم رياض من عمان لم يتم معرفة محتواها . . . البلاغ المبكر من أم بسيس قبل السابعة صباحا لم يحسب له رد فعل أو حتى استنتاج بأنه بدء العمليات ! وغير ذلك كثير .
وفى المقابل وفى نفس الوقت فإنه بحكم كون الرئيس جمال عبد الناصر والقائد الأعلى للقوات المسلحة ورئيس الجمهورية فقد تحمل المسئولية كاملة .
إن الحرب ليست معارك ودبابات ومدافع ، إنما هى صدام إرادات ، ونتيجة الحرب معلقة بالهدف السياسى الذى إذا تحقق بعد توقف القتال لطرف فإنه المنتصر والعكس صحيح .
إذن فحرب السويس انتهت وقناة السويس ، جائزة الحرب ، فى يد مصر وسيطرتها عليها كاملة ، بل إن مصر استعادت سيناء وقطاع غزة وبغير شروط على السيادة .
والكلام عن أن ما حدث فى سنة 1967 يعتبر أزمة ديموقراطية كلام مبنى للمجهول ، بمعنى أنه لو كان هناك حزبين مثلا أحدهما يمينى والآخر يسارى لكانت الهزيمة العسكرية لم تقع !
قد يكون العكس هو الصحيح افتراضا ، لأنه يمكن القول أن عدم وجود تعددية سياسية هو الذى لم يجعل البلد تتفتت . فلو فرضنا مجرد افتراض أنه لو كان هناك حزبين فإن الحزب المعارض كان سيتكالب على المؤسسة العسكرية التى بقوتها كانت ـ بحسب رأيى ـ ستجذب إليها كل المعارضين ، والوحيد الذى كان يستطيع أن يحد من تجاوزات المؤسسة العسكرية هو الرئيس جمال عبد الناصر الذى تعرفه تلك المؤسسة جيدا وتعرف قدراته الحقيقية سواء من ناحية أفكاره أو تأثيره على الجماهير أو عدم التأثير على جذبه .
كان هناك عدم قدرة وعدم كفاءة عسكرية . . كانت هناك عنجهية وشعور عال بالذات . . ولم يكن هناك فكر عسكرى متطور بل مصالح ذاتية وأمنية .
ولمن يقول أن اليمن كانت شماعة لما حدث . . أقول أن القوات المدرعة الرئيسية كانت هنا فى مصر . . والقوات الجوية كلها كانت هنا فى مصر .
لم تستسلم مصر عبد الناصر بعد توقف القتال ولم يسقط النظام بعد ان وقف الشعب المصرى والأم العربية وأحرار العالم مع جمال عبد الناصر عندما أعلن أنه يتحمل مسئولية الهزيمة العسكرية وأنه يتحمل كذلك المسئولية كلها ، ورفضت الجماهير المصرية والأمة العربية والدول الصديقة وأحرار العالم أن يتخلى عبد الناصر عن موقعه أو أ، يترك قيادته للأمة العربية ، ومنحته تفويضا بأن يقودها نحو تحقيق أهدافها فى دحر العدوان واسترداد الأرض التى احتلت خاصة وأن الهزيمة العسكرية قد فصدت الدم الفاسد منم المجتمع وقضت على مراكز القوى التى حكمت وتحكمت وسيطرت على المؤسسة العسكرية .
وخاضت مصر أمجد وأشرف حروبها ضد العدو الصهيونى وهى حرب الاستنزاف التى استمرت على امتداد سنوات ثلاث كانت بمثابة التدريب العملى للقوات المسلحة المصرية الجديدة التى أعيد بناؤها على أسس علمية حديثة ومتطورة ، ونجحت هذه القوات فى معركة العبور العظيم لقناة السويس فى السادس من أكتوبر1973 .
* * * * *
لقد بقيت القضية الفلسطينية فى قلب وعقل الرئيس جمال عبد الناصر منذ سنة 1948 حتى يوم رحيله عن عالمنا . عاش من أجلها وناضل وقاتل فى سبيلها وخاض أشرس المعارك ضد القوى العظمى التى تدعم الكيان الاستيطانى الصهيونى ، وكان رحيله عقب معركة بذل فيها جهده ووقته وصحته ليحافظ على المقاومة الفلسطينية والسلاح الفلسطينى مرفوعا ضد العدو الصهيونى . وفى مؤتمر القمة الذى دعا إليه فى سبتمبر 1970 وضع القدر نهاية لحياة هذا البطل العظيم وسط معركة من اجل تحرير فلسطين والحفاظ على سلاحها مرفوعا وكلمتها عالية و قيادتها تصر على المقاومة ولا تستسلم .
لقد كان موقف الرئيس جمال عبد الناصر ثابتا ومعلنا وواضحا كما جاء فى خطاباته التى أعرض مقتطفات منها :
كان رأى الرئيس جمال عبد الناصر فى الانسحاب من الأراضى العربية المحتلة كما عبّر عنه فى خطابه فى عيد العمال ـ أول مايو سنة 1969 :
. .عندهم " . . ويجب أن تعلم الدنيا كلها أنهم إذا لم ينسحبوا فإننا سوف نقاتلهم إلى آخر رجل و إلى آخر رجل عندنا . .
لن نقبل بهذا الأمر الواقع . . لن نقبل بهذا الأمر الواقع ، ولن نسكت أيها الاخوة ، ولن نلين ، فإما انسحاب إسرائيل من الأراضى المحتلة وإما القتال المستمر . . ليس فى هذا الموضوع سياسة ، ولا يمكن أن نتكلم فى الموضوع كلام سياسى فيه مداورة . . إنه موضوع أرض . . موضوع وطن . . موضوع شرف . . موضوع حياة . . ليست أرضنا وحدها ولكنها الأرض العربية . . وليس وطننا وحده ولكنه الوطن العربى الكبير ، وشرفنا ، وحياتنا جزء لا يتجزأ من حياة أمتنا العربية
. .
أقول من هذا المكان آن أوان للأمة العربية كلها أن تحشد قواها . . الكلام مافيهش فائدة . . الخطب لن تحارب . . نريد أن نحشد الأمة العربية كلها لتكون هناك جبهة شرقية من جميع الدول العربية فى الشرق وجبهة غربية من جميع الدول العربية الموجودة فى الغرب .
. . .
الأمة لم تحشد قواها ، ولا نصف قواها ، ولا ربع قواها حتى الآن
. . .
. . ولقد أرادوا لنا أن نخرج وحدنا من المعركة ، أراد العدو وأراد أصدقاء العدو أن نخرج وحدنا من المعركة ، وقالوا أننا إذا حصرنا المشكلة فى مشكلة بين مصر وإسرائيل ، فإن إسرائيل على استعداد للانسحاب من سيناء وبهذا نخرج من المشكلة وليس لنا دخل بما يحدث فى الأردن أو ما يحدث فى سوريا أيها اخوة لقد عرض علينا هذا الكلام فى العام الماضى ، وتكلمت معنا أمريكا فى هذا الموضوع أن تكون المشكلة مشكلة مصرية إسرائيلية . . مشكلة أردنية إسرائيلية ، ولكننا نفهم أن معنى هذا الكلام أننا إذا خرجنا وحدنا من المعركة ، وإذا وصلنا إلى حل من أجل أرضنا المحتلة فى سيناء فإن معنى هذا أيها الاخوة أننا نضحى بالضفة الغربية . . نضحى بالقدس ، ونحن قد عاهدنا أنفسنا وعاهدنا الله أننا لن نضحى بالضفة الغربية ، ولن نضحى بالقدس ، ولكننا نريد أن ننهى آثار العدوان من كل الأراضى العربية المحتلة سواء كانت فى مصر فى سيناء أو فى الأردن فى الضفة الغربية أو فى القدس أو فى سوريا فى الجولان .
وقال فى الجلسة الافتتاحية للدورة 13 للمؤتمر القومى للاتحاد الاشتراكى العربى يوم 23يوليو1969
" . . . فيه ناس بيقولوا إن إحنا ليه ما بنصلّحشى علاقتنا مع أمريكا . . ما بنحسنشى علاقتنا . الدبلوماسية مع أمريكا . . ما بنعيدشى علاقاتنا مع أمريكا . . فيه ناس هنا ، وأنا عارف . . مين هما ، وعارف بعض الناس اللى اتكلموا ويمكن ده هو اللى مزعّل الأمريكان ومخلّيهم يعنى واخدين هذا الموقف . .
الحقيقة إحنا عندنا مثل فى هذا . . الملك حسين عنده علاقات سياسية مع أمريكا ، وراح زار أمريكا وقابل رؤساء أمريكا ثلاث مرات ، واتكلم معاهم . . عملوا له إيه ؟ ! عملوا إيه للأردن ؟ والضفة الغربية كلها محتلة ! بالعكس مافيش أى حاجة .
إذن العملية ماهيّاش علاقات سياسية . . العملية ماهياش وجود سفير . . العملية ماهياش زيارة أو استقبال وأحاديث . . أبدا . .
العملية أن هناك سياسة أمريكية مخططة لتأييد إسرائيل وتحقيق مطالب إسرائيل فى التوسع على حساب الأمة العربية . وبأقول ثانى دليل على هذا أن أمريكا بتدّى إسرائيل الأسلحة ، وأنها تعهدت لها بأنها تدّيها طيارات فانتوم رغم أنه عرف أن إحنا فقدنا طياراتنا فى الحرب وان القوات الإسرائيلية الجوية كانت محتفظة بطياراتها .
بعد كدة نتكلم على موقف بريطانيا . . لا نستطيع الحقيقة إن إحنا نقول على موقف بريطانيا غير أنه الموقف المراوغ . . مراوغ سياسيا ودعائيا .
الحقيقة لازم نتكلم بوضوح ، لازم نعرف المواقف بصراحة . . أمريكا بتستخدم بريطانيا فى العمل . أمريكا وبريطانيا يد واحدة من أجل مصلحة إسرائيل .
. . .
الحقيقة نحن ننتهز هذه الفرصة لنوجه الشكر إلى الشعب الفرنسى لتصميمه على أن يسير فى طريق المبادىء .
. . .
وقال فى المدينة الرياضية بالخرطوم يوم 28مايو1970 بمناسبة احتفالات السودان بالعيد الأول لثورة مايو 1969 :
ما هو موقفنا اليوم . . سنحاول بكل وسيلة من الوسائل أن نستخلص حقنا . . نعمل سياسيا ، ولكن حينما نعمل سياسيا نعمل بشرطين أساسيين :
الشرط الأول هو ضرورة انسحاب قوات العدو من كل الأراضى المحتلة بعد يونيو 1967 وليس من سيناء وحدها . . وأنا آخر مرة التقيت معكم هنا فى يناير الماضى فى عيد استقلال السودان قلت إن إحنا نطالب بانسحاب إسرائيل من القدس قبل سيناء ومن المرتفعات السورية ومرتفعات الجولان قبل سيناء ومن غزة قبل سيناء ومن الضفة الغربية للأردن قبل سيناء ومن كل شبر من الأرض العربية استولت عليه قوى المؤامرة الكبرى التى وجهت عواصفها المجنونة ضد أمتنا يوم 5يونيو1967
والشرط الثانى وهذا أيضا يدخل ضمن قرار مجلس الأمن : هو ضرورة حل قضية شعب فلسطين ورد كل الحقوق المشروعة لشعب فلسطين الآن وليس كما كان يطالب باعتباره شعبا من اللاجئين .
. . .
إن النضال يجب أن يكون على جميع الجبهات بغير تحفظ ، هكذا يجب على كل الثوار الحقيقيين الذين يعرفون النضال فى صمود وكفاح من اجل المبدأ والعقيدة .
لا يجب أن تنسوا الحقيقة العظمى وهى أن كل شىء يتحرك بإرادتنا الحرة التى تعتبر من إرادة الله . كل شىء يتقرر بمقدرتنا الذاتية التى هى على مستوى أقوالنا فى ميدان القتال فى معركة تحقيق النصر. "
و فى احتفالات ليبيا بجلاء القوات الأمريكية عن قاعدة عقبة بن نافع ـ طرابلس ـ 22يونيو1970 قال جمال عبد الناصر :
" . . إن الجمهورية العربية المتحدة فى سنة 1967 كانت ميزانيتها للقوات المسلحة 167 مليون جنيه ، وهذا العام ميزانية القوات المسلحة فى الجمهورية العربية المتحدة 550 مليون جنيه , لقد قبل إخوتكم فى الجمهورية العربية المتحدة أن يتقبلوا كل هذا ، وأن يدفعوا كل هذا من أجل المعركة . . معركة الأمة العربية . . لقد قالوا أنهم على استعدادا .
قالت أمريكا أن إسرائيل على استعداد أن تجلو عن سيناء وكل الأرض المصرية على أن نتجاهل كلية القدس والضفة الغربية وهضبة الجولان فقلنا لهم إن الانسحاب من القدس والضفة الغربية وهضبة الجولان يجب أن يكون قبل الانسحاب من سيناء لأن هذه المعركة هى معركة قومية عربية . . . "
وقال فى المدينة الرياضية ببنى غازى ـ ليبيا ـ يوم 25يونيو 1970 :
أنه فيما قبل اليوم عرضت اتفاقيات عن الجلاء من الأراضى العربية المحتلة ما عدا الجولان . . أقول باسم مصر أن الجولان قبل سيناء . . .
إن شعبكم فى مصر لا يرضى أبدا بأى مساومة فى الانسحاب . . إن سوريا قبل مصر . . إن الجولان قبل سيناء . . إننا أعلناها ونقولها مرة أخرى إننا إذا كنا نريد الانسحاب من سيناء كنا اتفقنا مع أمريكا منذ سنتين ، ولكننا رفضنا وقلنا أن الانسحاب من سيناء ليس هو هدفنا ، ولكن القدس والضفة الغربية والجولان قبل سيناء "
وقال فى الجلسة الختامية للمؤتمر القومى للاتحاد الاشتراكى العربى يوم 6يوليو1970
نحن نريد السلام ولكن السلام بعيد . ونحن لا نريد الحرب ولكن الحرب
من حولنا وسوف نخوض المخاطر مهما كانت دفاعا عن الحق والعدل . حق وعدل لا سبيل لتحقيقهما غير طرد قوى العدوان من كل شبر من الأرض العربية المحتلة سنة 1967 . . من القدس . . من القدس . . من الجولان . . من الضفة الغربية . . من غزة . . من سيناء . حق وعدل لا سبيل لتحقيقهما غير استعادة الشعب الفلسطينى لحقوقه الشرعية وخروجه من خيام اللاجئين ليدخل مدنه وقراه ومزارعه وبيوته مرة أخرى إلى قلب الحياة بعد أن أرغمته الظروف أن يبقى أكثر من عشرين سنة على هامش الحياة .
ذلك هو الهدف والطريق انتصار السلام ، وسلام الانتصار . . هذه هى رسالة هذا المؤتمر ، وهذه هى قضية شعبنا ، وقضية أمتنا العربية
. . .
لن نتنازل عن أرض بأى شكل من الأشكال . . أنا لا أستطيع ، وليس من حقى ، ولا يمكن أن أتنازل عن أى قطعة من الأرض العربية سواء فى مصر أو فى الأردن أو فى سوريا " .
- وقد جاء فى محضر اجتماع اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكى العربى يوم 18يوليو1970 ، وقد انصب النقاش فيه على نفس الموضوع :
قال الرئيس جمال عبد الناصر :
السوفيت وافقوا على 95% من طلباتنا من الطائرات والصواريخ من أنواع جديدة والطائرات الهليكوبتر وسيارات النقل الثقيلة على أن نسدد ثمن بعضها مثل سيارات النقل بالعملة الصعبة . . أما باقى الأنواع فسيسدد ثمنها كالمعتاد بالأسلوب المريح بفترة سماح خمس سنين وعلى عشرين سنة بفائدة 2% زى ما انتوا عارفين .
وتمكنت من الحصول على موافقتهم الجزئية على اشتراك الطيارين الروس مع طيارينا المصريين فى الطلعات الجوية . كذلك بالنسبة للصواريخ ارض/جو وافقوا أيضا قبل ما أسافر بيوم واحد فقط ودى حاتتحرك مع مجموعات صواريخنا فى منطقة القناة ولو أنهم كانوا غير مرتاحين فى أول الأمر كثيرا لهذا الموضوع وده كان واضح من الجلسة الأولى للمباحثات ..
ووافقوا أيضا على إرسال معدات وأجهزة إلكترونية حديثة للغاية تخص التشويش على رادارات اليهود الأرضية أو الموجودة فى طائرات الفانتوم . . وسيصل فى خلال أيام قليلة مجموعة من العلماء السوفيت لدراسة الجوانب العلمية الناتجة عن استخدام الأجهزة الجديدة على الطبيعة . . . هذا الكلام يعنى أنهم وافقوا تقريبا على 95% من طلباتنا وأكثرها حايصلنا السنة دى 1970 .
إحنا كدة فى تعاملنا مع الروس وأنا عارفهم بيحبوا يتحركوا ببطء ويقدمون المطلوب قطعة قطعة حتى يوكلّوها للأمريكان بالتدريج دون أن يشعروا ودون أن يتفجر الموقف . . ده بالنسبة للناحية العسكرية . أما بالنسبة للناحية السياسية فأنا أتحدث معهم بكل صراحة وقلت لهم أنه من الأفضل سياسيا أن نوافق على المبادأة الأمريكية . . مبادرة روجرز الآن لأنها فى الحقيقة لا تتضمن شروطا جديدة ، كما أننا وأنتم معنا نتعرض فى الوقت الحاضر لضغط دولى كبير مبنى على أننا ناس عايزين الحرب فقط وأن اليهود عايزين الحل السلمى . . ولذلك فإننا عندما نوافق على المبادأة فكأننا نرد على كل هذه الحملة المخططة بالإضافة إلى أن نص إيقاف القتال لمدة ثلاثة شهور فقط يعنى إلغاء قرار إيقاف القتال بتاع سنة 1967 الذى ينص على إيقاف القتال إلى ما لا نهاية . . وبالتالى بعد ثلاثة شهور يصبح استئناف القتال عملية مشروعة .
كذلك فترة إيقاف إطلاق النار ستساعدنا على بناء المواقع الجديدة للصواريخ اللى بنحاول من شهر ديسمبر الماضى 1969 أن نبنيها تحت وطأة الغارات الجوية المستمرة دون جدوى مما جعل صواريخنا فى المناطق المتقدمة موجودة تقريبا فى العراء وليست داخل دشم أسمنت لتحميها من الغارات الجوية .
والحقيقة أنا لما عرضت المشروع على الروس فى أول جلسة اعترضوا وقالوا . . . ليه إنتم توافقوا على مشروع أمريكى بينما إحنا سبق أن قدمنا لكم مشروع سلام ولم توافقوا عليه ؟
ثم قالوا أيضا أن هذا معناه إن العالم كله حايقول إن أمريكا هى إللى بتعمل من أجل السلام وبالتالى إحنا بندى أمريكا بهذه الموافقة مكانة دولية كبيرة . .
بعد هذا الكلام دار حوار طويل بينى وبينهم وانتهى بأنى قلت لهم :
إن الأمر الواقع فى الوقت الحاضر هو إما أن نوافق أو لا نوافق . . وليس هناك حل وسط ، كما يجب ألا يغفل عن بالنا أنه إذا رفضنا المبادأة الآن نعطى أمريكا المبرر المناسب ليمدوا إسرائيل بأعداد من الطائرات والأسلحة الحديثة . . كما أنى اعتقد أن موضوع الموافقة أو عدم الموافقة سيستوى فى نهاية الأمر من الناحية العملية وإنما موافقتنا على المبادأة أمام العالم ستضيق الخناق على أمريكا وعلى إسرائيل كمان .
وبعد ساعات طويلة من المناقشات وافق الروس ولكنهم طلبوا منى أن لا أعلن موافقتى على مشروع أمريكى ولكن على مشروع للحل السلمى . .
ولم أوافق على هذا الرأى وشرحت لهم ليه أنا مش موافق لأنى سأقف يوم 23يوليو أمام أعضاء المؤتمر القومى وأمام الناس جميعا لأعلن الأسباب اللى من أجلها نوافق على المبادأة الأمريكية وده يستلزم منى شرحا وافيا للموضوع بالتفصيل حتى يمكن إقناعهم .
وتحدثت مع الروس بعد ذلك عن الحملة الأمريكية الموجهة ضدنا والتى تزداد يوما بعد يوم . . نيكسون وبعده روجرز وبعده كيسينجر وبعده سيسكو وبعده فولبرايت وبعده مانسفيلد . . ثم التصريحات اليومية من إسرائيل بأنهم فى خطر حقيقى من التسليح الروسى فى مصر . . الخ ، كل الحاجات دى تحتاج لتحرك سياسى عاجل من جانبنا لمواجهته .
المسئول عن رعاية المصالح الأمريكية فى القاهرة بيرجيس طلب مقابلتى ليلة سفرى إلى موسكو يوم 28 يونيو لإبلاغى برسالة وردت من واشنطن ولكننى لم أقابله فاجتمع مع محمود رياض وزير الخارجية وأبلغه أن الوقت الآن مناسب جدا للبحث عن حل سلمى حقيقى ، وأن أمريكا هى الدولة الوحيدة اللى يمكنها أن تمارس ضغطا على إسرائيل ويرجو منا أن نترك لهم حرية اختيار الأسلوب المناسب . . كما قال أنه إذا ضاعت الفرصة المرة دى فستكون هناك مضاعفات على علاقاتهم بالمنطقة كلها . . وكذلك على علاقاتهم مع الاتحاد السوفيتى . . ثم أضاف أن خططهم لا تستبعد سوريا إذ يكفى أن تعلن سوريا قبولها لقرار مجلس الأمن وعندئذ يمكن إدخالها فى موضوع التسوية ، أما عن ما تثيره دائما بشأن حقوق الفلسطينيين فليس صعبا الوصول لمشروع ما يدخل الفلسطينيين فى إجراءات الحل بأى شكل .
أما عن موضوع الانسحاب من الأراضى المحتلة فان رأى الولايات المتحدة فى هذا الموضوع يستند أساسا إلى مبدأ عدم اكتساب أراض عن طريق الحرب كما نص بذلك قرار مجلس الأمن ولهذا يبحثون مع إسرائيل عن صيغة مناسبة لتحقيق هذا المبدأ بشكل ما مع عدم استبعاد إسرائيل عن تسوية الأوضاع فى غزة والقدس ، وقد سبق أن اقترحوا بشأن القدس أن تظل غير مقسمة على أن يكون لكل من إسرائيل والأردن نصيب فى إدارتها . . أما بالنسبة للضفة الغربية فإنهم يرون إجراء تعديلات طفيفة على حدودها
وعلى ضوء كل هذه المعلومات أنا شايف أن أقف أمام الناس يوم 23يوليو أحلل لهم وللعرب جميعا الموقف السياسى بالكامل . . موضحا لهم أن قرار مجلس الأمن الذى وافقنا عليه سنة1967 يطلب الأمريكان النهاردة تنفيذه وأن الأمريكان يعلنون عدم موافقتهم على اغتصاب الأراضى عن طريق الحرب والعدوان وأن المبادأة لا تتضمن اقتراحات جديدة عن قرار مجلس الأمن الذى ينص على إقامة سلام عادل ودائم . . ثم أشير فى خطابى إلى أن ميثاقنا ينص أيضا على إقامة سلام عادل ودائم فى الشرق الأوسط .
لهذا اقترح الموافقة على المبادأة مع عدم إغفال حقوق الشعب الفلسطينى بشرط أن يتضمن تطبيق المبادأة ما يلى :
انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضى التى احتلتها فى الصراع الأخير .
إنهاء كل دعاوى وحالات الحرب مع الاعتراف بسيادة كل دولة فى المنطقة ووحدة أراضيها واستقلالها .
وقال الدكتور محمود فوزى :
أنا شايف إن المشروع مقدم فى شكل دعاية وليس بشكل موضوعى . . أما عن إيقاف إطلاق النار فلماذا نخاف من الموافقة عليه طالما أننا سنستغله لصالحنا .
فرد الرئيس قائلا :
موضوع إيقاف إطلاق النار عايز مراقبين وده يستدعى وجود مراقبين ، مافيش مانع ولكن بعد أن تكون صواريخنا تحركت للأمام .
وعاد الدكتور فوزى يقول :
فى هذه الحالة سيادة الرئيس حايكون دفاعنا الجوى وصل إلى شاطىء القناة وبالتالى فى اليوم اللى يتوفر فيه لدينا العدد الكافى من الصواريخ والقدر الكافى من الأفراد المدربين عليها يصبح عبور القناة أمر ممكن .
ومرة أخرى يرد الرئيس جمال عبد الناصر :
إحنا حايصلنا خلال فترة المبادأة وبالذات خلال شهر أغسطس اللى جاى صواريخ " سام 3 " الجديدة بمعداتها الكاملة . . ومعها أيضا الأطقم التى تم تدريبها فى الاتحاد السوفيتى .
وقال الدكتور محمود فوزى :
إذن فمن الناحية العسكرية سنستفيد ونزيد من قدراتنا . . نقطة أخرى سيادة الرئيس أود أن ألفت النظر إليها وهى أنه يجب أن لا يفهم من كلامنا اللى حانعلنه عن المبادأة أننا نوافق ونقول نعم . . وفى الوقت نفسه نقول : لا ! مثل هذا الأسلوب من الكلام يستغله هؤلاء الذين يرغبون فى أننا نرفض المبادأة ولاسيما أن هناك شعورا دوليا وفى أمريكا بوجه خاص أن الرئيس عبد الناصر ضد المبادأة الأمريكية .
ويرد الرئيس قائلا :
فى الحقيقة أنا شايف إن المشروع رموه أصلا فى المنطقة لكسب دعائى . . ولكننا سنفاجئهم ونوافق عليه . . وحا أوضح للناس وللعرب ليه إحنا وافقنا عليه . . خاصة أن هناك دول عربية حاتقول عنه : حلول تصفوية وحلول استسلامية . . وأنا فى رأيى إن كل هذا الكلام لن يوصلنا لأى نتيجة وإنما اللى حيرغمهم على حل إيجابى هو موضوع آخر وهو مدى اشتراك الروس مع قواتنا العسكرية فى مصر . . أى أن احتمال الوصول إلى حل سلمى عادل يتناسب دائما مع قدراتنا على إقحام الروس بالجبهة المصرية على مدى
Their Commitments
والآن أصبح الروس موجودين معانا وأصبحت صواريخهم مع صواريخنا وطيارينهم مع طيا ريننا . . وطبعا الروس مش حايقبلوا عسكريا أن يهزموا . . لهذا أنا بأشوف إن نجاحنا فى إشراك الجنود السوفيت معانا يعتبر أكبر من أى عملية ردع عسكرية لأن الأمريكان يخافون جدا من الوجود الروسى فى المنطقة بهذا الشكل ولهذا السبب فقط سيضطرون أن يفكروا جديا فى إيجاد حل سلمى صحيح دون أن يقدموا لإسرائيل تنازلات أو مكاسب رئيسية.
وقال السيد عبد المحسن أبو النور:
فيه فعلا مزايا دولية كثيرة عند الموافقة على المبادأة ولكننى أعتقد انه بتواجهنا صعوبات كثيرة على المستوى العربى وعلى المستوى الداخلى .
ورد الرئيس جمال عبد الناصر :
يجب أن لا ننسى أن فترة الثلاثة شهور اللى حايقف خلالها القتال ستساعدنا كثيرا على السيطرة العسكرية على منطقة القناة . . وذلك بفضل الأعداد الكبيرة من كتائب الصواريخ الجديدة مع استمرار بقاء وحدات الدفاع الجوى الروسية فى عمق البلاد ورغم أنه كان مقررا أن تعود الوحدات الروسية إلى بلادها فى آخر هذا الشهر بمجرد وصول الأطقم المصرية التى تم تدريبها هناك إلا أنى طلبت منهم إبقاء الوحدات الروسية فى مواقعها على أن تستلم الأطقم المصرية صواريخ أخرى إضافية لتتحرك بها سرا إلى ضفة القناة . . وقد وافق الروس على طلبى . .. وحا يكون عندنا ضعف عدد الكتائب الصاروخية الموجودة وحاتفضل الوحدات الروسية معانا لمدة ستة شهور أخرى . . وحيث أنه ليس من المتوقع الوصول إلى حل خلال هذه السنة فسيمكننا أيضا تبديل موتورات الطيارات الميج بموتورات جديدة أقوى .
وفى الوقت نفسه سنوضح للعالم أننا نريد السلام . . وأن إسرائيل تريد التوسع . . وسنقدم الدليل العملى على موقفنا بأن نقبل مبادأة السلام كما سبق أن قبلنا قرار مجلس الأمن .
وسأل السيد سعد زايد :
أنا بأسأل الموقف حا يكون إيه لو إسرائيل ترفض المبادرة الأمريكية يا سيادة الريس ؟
ورد الرئيس جمال عبد الناصر :
فى هذه الحالة حا يكون من السهل الضغط على أمريكا سياسيا . . وأعتقد حينئذ أنه يمكن تحريك الدول العربية المنتجة للبترول لممارسة هذا الضغط . . وأذكر جيدا تصريح أخير لموسى ديان عندما قال
" أنا مستعد أن أقوم بأى عمل عسكرى ضد الدول العربية إلا فى حالتين فقط . . الأولى وجود قوات روسية فى مصر . . والثانية فى حال ضغط أمريكى حقيقى علينا
وقال السيد على صبرى :
أخشى يا سيادة الرئيس أن يتسلل للناس فى مصر بعد الموافقة على المبادأة شعور داخلى بالتقاعس عن المعركة . . وهنا يبرز دور الإعلام وعليه فلابد من مراجعة دقيقة لأسلوب النشر الداخلى وخاصة عن المبادأة .
وقال الرئيس جمال عبد الناصر :
أولا سأوضح للناس أنه ليس هناك حل جديد . . وليس هناك مبادرة سلام وإنما المقدم إلينا هو مشروع إجراءات . . كما سأوضح لهم أنه إذا رفضناه سنواجه بمساعدات عسكرية ضخمة لإسرائيل . . عامة موافقتنا على المبادأة ستكون مفاجأة إعلامية كبرى . . وسيظهر فى جريدة الأهرام تحليل تفصيلى عن تحركنا السياسى موضحا أن المشروع المقدم ليس فيه جديد .
ومن رأيى أيضا بشأن النشر فى الصحف أنه ليس من المناسب نشر تفاصيل ما حصلنا عليه من الاتحاد السوفيتى ، ويكفى أن نوضح بشكل عام أن كل ما طلبناه قد حصلنا عليه . . علما بأن هناك حداشر سفينة سوفيتية ستصلنا الشهر المقبل محملة بالجنود المصريين المدربين على الصواريخ الجديدة ومعهم كافة الصواريخ ومعداتها وقد طلب الروس إنزالهم من السفن أثناء الليل ولكنى أعتقد أنه من الأنسب لنا أن يتم إنزالهم أثناء النهار بحيث يراهم الناس.
وسأل الدكتور لبيب شقير :
ماذا سيكون الموقف بالنسبة للفلسطينيين يا سيادة الريس ؟
ورد الرئيس جمال عبد الناصر :
قبولنا لهذا المشروع لا يعنى إطلاقا أية تنازلات عن الأرض المحتلة أو أى مساس بحقوق شعب فلسطين بحيث لا يكون هناك أى تراجع عن موقفنا ومبادئنا السابقة . . وكل ما هناك أنه طالما توجد محاولة للسلام فنحن مسالمون .
وهذه المقتطفات الهامة من محضر اجتماع اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكى العربى يوم 18 يوليو 1970 ، تغنى عن أى تعليق .
* * * * *
ديموقراطية ثورة يوليو
السؤال : هل الديموقراطية هى حرية المستغلين فى الاستغلال فقط ؟
إن أبسط تعريف للديكتاتور هو الحاكم الذى يقهر الأغلبية من شعبه لمصلحة القلية المستفيدة من حكمه ونظامه .
فهل كان جمال عبد الناصر يقهر الأغلبية ؟ !
لقد عاش الرجل ورحل وهو يحارب من اجل أن تسترد الأغلبية من شعب مصر وأمته العربية ـ ويمكن أن نقول بلا مبالغة ودول العالم الثالث أيضا ـ حريتها وإنسانيتها وحقوقها فى أن تصوغ حياتها بنفسها ، ولقد تمتع جمال عبد الناصر بما لم يتمتع به زعيم أو قائد من نفوذ وحب شعبى جارف ، وكانت جماهير الأمة العربية من البحر إلى البحر هى الدرع الواقى لجمال عبد الناصر ، وهذه الجماهير لم تكن بالقطع عمياء ولا عرجاء ، فالقول بأن جمال عبد الناصر كان ديكتاتورا فيه إهانة للشعب واستخفاف بوعيه .
لقد كان جمال عبد الناصر ديكتاتورا بل كان طاغية بالنسبة للإقطاع والاستعمار والاستغلال ، لكنه كان بطلا وزعيما ومحررا عظيما بالنسبة للغالبية الساحقة من الشعب بعماله وفلاحيه ومنتجيه وفقرائه . . الجماهير كانت مصدر إلهامه وقوته وعلاقته بها كانت مباشرة وعابرة لكل الوسائط .
هل ننظر إلى الديموقراطية من المنظور الليبرالى الغربى ؟
هل هى فقط مجرد حرية التعبير ـ وكانت موجودة ـ دون النظر إلى المفهوم الاجتماعى للحرية ، إن ما ينقص جماهير الأمة العربية كلها ليست حرية التعبير بل ينقصها حقوق أكبر من ذلك وأخطر .
المجتمع المصرى فى بداية الثورة كان فيه حرية سياسية بمفهوم ضيق ، حيث أن نصف المجتمع ـ المرأة ـ لم يكن له حق التصويت ، كما كان الترشيح حكرا على من كان يملك نصابا معينا من الثروة ، وبالنسبة لسن الترشيح فقد كان واحد وعشرين عاما فخفضت إلى سن الثامنة عشر ، وبالتالى فقد كان ـ من الناحية العملية ـ حوالى 80 % من الشعب خارج نطاق الحريات الليبرالية التى يتشدقون بها ، هذا بالإضافة إلى الأمية والجهل واحتكار نصف فى المائة تقريبا لثروات البلاد .
أليست هذه هى المصادرة العملية ؟ !
لقد قالها جمال عبد الناصر عالية :
" إن تحرير لقمة الخبز هو أول وأهم شرط لتحرير إرادة الناخب . "
وبدأ الرجل بعد ذلك فى إعطاء المواطن المصرى نصيبا معينا من ثروة بلاده وقضى على الاستغلال أو كاد فأسقط أعتى موانع الحرية . . الفقر .
وبذل جهودا جبارة من أجل التنمية وتحديث المجتمع ، ثم وسع قاعدة الحقوق والخدمات فى البلاد وعلى رأسها حق التعليم المجانى فى الجامعات والعلاج المجانى ، وقفزت إلى السطح طبقات وقوى ما كان لها فى ظل الوضاع القديمة إلا أن تظل مقهورة على هامش الحياة فى المجتمع .
كان الرجل يبنى الديموقراطية والحرية الحقيقية للمواطن ، وبدأ العد التنازلى لبناء القاعدة السليمة الصحيحة وهى تغيير الظروف الاجتماعية التى كان يستند إليها القهر السياسى .
وكان الطريق طويلا . . .
وقد يسأل سائل :
إن الثورة توقفت عند بناء القاعدة دون أن تكمل فوقه البناء للديموقراطية السياسية ؟
وأقول أن السياق الذى جرت فيه الأحداث مهم جدا لأنه هو الوحيد الذى يفسرها بواقعية فعشية الثورة كان على المسرح السياسى أحزاب الأقلية التابعة للسراى والإنجليز ، ثم حزب الوفد ، والإخوان المسلمين والشيوعيين .
الوفد أعلن موقفا معاديا لتوجهات الثورة فى التغيير الاجتماعى مبكرا ورفض قانون الإصلاح الزراعى الأول ، وشاركه فى هذا باقى الأحزاب المرتبطة بالسراى وبالإنجليز وهى قوى تلاشت قدراتها على التأثير تحت ضغط التأييد الشعبى الجارف للثورة وبرنامجها للتغيير الشامل ن وانسحبت قاعدة حزب الوفد الجماهيرية من تحت قياداته وأيدت الثورة .
أما الشيوعيون فلم يستطيعوا أن يفهموا ما حدث الفهم الصحيح ، وكانت نظرتهم قاصرة ووقعوا فى أخطاء تقييمهم للثورة وسجنوا أنفسهم فى داخل نماذج نظرية جامدة وبعيدة عن واقع المجتمع ورأى الأغلبية ، وكان رأى أكثرهم فى الثورة أنها مجرد انقلاب عسكرى فاشى باعتبار هذا الوصف والكليشيه الجاهز لديهم ولم يستطيعوا إلا متأخرا أن يضعوا أيديهم على الجوهر التحررى المتقدم لبرنامج ومنجزات الثورة .
إن اليسار الحقيقى فى مصر هو الشعب . . جماهير الناس الذين عاشوا وحملوا المسئولية ، مسئولية القضية الوطنية والاجتماعية ، والذين أصبحت مصر لهم . هؤلاء هم اليسار الحقيقى الذين لا يمكن أن يتجهوا يمينا أو أن يسمحوا لليمين أن يحكمهم أو أن يرتد بهم ولا أن يعيد الملاك والرأسماليين . إن اليسار ليس طائفة أو فرقة أو حزب ولكن مجموع الفقراء والمحرومين ومن يتطلعون إلى عالم أفضل وإلى مجتمع إنسانى ، هؤلاء هم اليسار .
أما الإخوان المسلمين فقد كانوا منذ البداية يبذلون المحاولات لفرض الوصاية على الثورة ومحاولة احتوائها ، وحاولوا تنصيب أنفسهم كالأب الروحى للثورة ، لتلتزم بالتالى بتوجيهاتهم السياسية وحينما شعروا بفشلهم فى احتواء الثورة وفرض وصايتهم عليها ـ خصوصا بعد فشل محاولاتهم بالاشتراك مع الوفد والشيوعيين فى التآمر على الثورة والقضاء عليها فيما سمى بأزمة مارس 1954 التى كان من مخططاتها أيضا احتواء اللواء محمد نجيب ، تلك المحاولة التى تصدى لها لشعب و عمال مصر بحق وأفشلوها بانحيازهم إلى مصالحهم بالوقوف إلى جانب استمرار الثورة ـ تحولوا إلى ممارسة نوع خطير من الضغط تمثل فى العنف والإرهاب المسلح التى بلغت ذروته فى أكتوبر سنة 1954 فى حادث المنشية بالإسكندرية حين حاولوا قتل جمال عبد الناصر ، هذا الحادث الذى كان له ردود فعل واسعة وجعلت منه نقطة تحول مهمة فى سلوك النظام الثورى وذلك بتدعيم وتقوية الأجهزة الأمنية كإجراء وقائى وهو حق مشروع وواجب وطنى فى مثل هذا السياق إذن فهناك أسباب موضوعية وليست تبريرات لما حدث من صدام مع القوى السياسية والقول بغياب الديموقراطية السياسية فيه كثير من التجنى .
فلا يمكن إغفال إعطاء المرأة حق الانتخاب والترشيح وقد سبقت بذلك الولايات المتحدة الأمريكية وسويسرا وبعض بلدان أوربا وتخفيض سن حق الانتخاب إلى 18 سنة ، كما ولا يمكن تجاهل حق العمال الذى كفلته لهم الثورة فى اختيار ممثليهم فى مجلس إدارات شركاتهم ومصانعهم ، مع توسيع قاعدة المشاركة فى الحكم . ولم يقل أحد أن هذه الأمور قد تمت لاسيما أنه كانت هناك تحديات خارجية وداخلية تجابه الثورة طوال الثمانية عشر عاما دون ما انقطاع .
ولا ننسى فى هذا المجال ممارسة عبد الناصر للنقد الذاتى ، و هذا ظاهر فى أغلب محاضر اجتماعات مجلس الوزراء ومجلس الرئاسة واللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكى والمؤتمر القومى العام وأمام مجلس الأمة والقيادة العامة للقوات المسلحة واللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكى ، وبصفة خاصة تلك الجلسات التى عقدت بعد الانفصال بين سوريا ومصر وفى أعقاب عدوان يونيو1967 حتى رحيله عام 1970 .
و كل محاضر هذه الاجتماعات مسجلة ومحفوظة فى أرشيف سكرتارية الرئيس للمعلومات بمنشية البكرى وما أريد أن أؤكد عليه هو أن الرئيس جمال عبد الناصر كان قد وصل إلى قناعة تامة فى أعقاب عدوان 1967 أن تجربة الاتحاد الاشتراكى هى ليست نهاية المطاف وحدد رؤية مستقبلية تتمثل فى ضرورة التعددية الحزبية .
لقد كانت معوقات الديموقراطية فى تجربة عبد الناصر تتلخص فى العناصر التالية :
المؤسسة العسكرية التى أصبحت شبه طبقة تستميت فى سبيل المحافظة على امتيازاتها ، وتقف حجرة عثرة أمام أى نظام سياسى شعبى يضعها فى مكانها الصحيح . وهذه المؤسسة لم تسقط إلا بعد عدوان يونيو1967 .
التنظيم السياسى كان يتم تكوينه من فوق ، من مواقع السلطة ، مما يترتب عليه تسرب البيروقراطية والانتهازية التى سعت إلى تجميد حيوية التنظيم السياسى وتفاعلاته .
كان الرئيس جمال عبد الناصر هو القيادة السياسية الوحيدة ، والزعامة التى يمكنها أن تستجيب لها الجماهير لينظمها ـ سواء فى مصر أو فى العالم العربى ـ ولكن انشغاله حال دون ذلك نتيجة أوضاع فرضت عليه فرضا ولم تكن أبدا بمبادرة منه كما أنه لم يكن له يد فى الابتعاد عن مجابهة هذه الأخطار الخارجية والداخلية بشخصه فى أغلب الأحيان لقد فرضت تحديات الأعداء سواء من الداخل أو من الخارج إلى الاستعانة بدور نشيط للأجهزة الأمنية الاستراتيجية المعادية كانت أيضا سببا ، فمصر مفتاح المنطقة ولابد أن يظل هذا المفتاح محفوظا فى مكان معزول وناء ، ولابد أن تجرد مصر من قوتها وثروتها ، وأهم من ذلك من شخصيتها ، وأن تصنع لها شخصية أخرى تابعة .
بعد كل هذا فإنه من الغريب أن يطالب البعض بحمد الله على مساحة الحرية الممنوحة لنا ، وأن نتقبل قيد الحريات مذكرين إيانا بأيام المعتقلات وكبت الحريات ! أقول لهؤلاء لمن كانت ستمنح الديموقراطية فى بداية الثورة ؟ هل كانت ستمنح للباشوات ومجتمع المستغلين والإقطاعيين الذى كان يشكل النصف فى المائة ؟ أم تمنح للمواطن الحر ؟ للعامل وللفلاح وللمنتج وللمرأة وللفقير المحروم .
إن الديموقراطية هى الحق الذى لا يمكن منحه .
والديموقراطية فى تجربة عبد الناصر قد طبقت بمفهوم حق المواطن فى التعليم والعمل وإتاحة الفرص المتكافئة أمام الجميع ، حق العامل فى المشاركة فى الإدارة ، وحق الفلاح فى امتلاك الأرض ، وحق المشاركة والترشيح فى المجالس الشعبية والنيابية والنقابية لكل فئات الشعب .
لقد سلمنا جمال عبد الناصر الأمانة لكى نكمل المسيرة ، فهل نحن قادرون على أخذ حقوقنا ؟ وهل نحن قادرون على الدفاع عنها وحمايتها ؟
إن الديموقراطية والحريات طريق لا نهاية له ، وفى كلا الحالين سيظل جمال عبد الناصر رمزا حيّا للكبرياء الإنسانى .
* * * * *
فى مناسبات عديدة يتردد سؤال حول ثورة يوليو 1952 التى قادها جمال عبد الناصر وماذا بقى منها بعد هذه المسيرة الطويلة على مدى ثمانية عشر عاما ؟
عن الثورة فى حياة الشعوب حدث لا يمكن إلغاء تأثيره أو تدارك تداعياته أو التحفظ عليه بين قوسين أو افتراض نهاية له كما كانت له بداية .
إننا نعيش فى نظام ثورة يوليو 52 باستمرار .
ثورة يوليو عاصرت ظروف عالمية وأحداث جسام تفاعلت معها . . أصابت نجاحا وتعرضت لنكسات . .
ثورة يوليو كانت بيضاء . .
قضت على النظام الملكى الفاسد . .
كانت المبادىء الستة هى أول وثيقة وضعتها الثورة أمام الناس .
أول المبادىء كان القضاء على الاستعمار وأعوانه لتأكيد وطنية قادة الثورة .
ثم جاء مبدأ الإقطاع ليثبت البعد الاجتماعى .
وجاء بعده مبدأ القضاء على الاحتكار وسيطرة رأس المال على الحكم .
جاءت هذه المبادىء الثلاثة لتاكيد تحرير البلاد من مآزقها السياسية والاقتصادية .
ثم جاءت المبادىء الثلاثة التالية تؤكد بناء وطن جديد بإقامة عدالة اجتماعية ، وإقامة جيش وطنى قوى ، وإقامة حياة ديموقراطية سليمة .
وفى سنة 1955 انضمت مصر الثورة لمعسكر الحياد الإيجابى وعدم الانحياز .
وفى 26يوليو1956صدر قرار تأميم قناة السويس وكان قد سبقه رحيل جنود الاحتلال فى 18يونيو1956 . . تأميم القناة يعنى للشعب إرادة مستقلة . . أمل فى المستقبل . . أداة لبناء السد العالى أى التنمية الزراعية وحماية أمن مصر القومى بضمان تنظيم التحكم فى المياه التى هى شريان حياتنا اليوم وغدا إلى يوم الدين . . أى تحد جرىء للاستعمار ورؤية مستقبلية بعيدة المدى . العدوان الثلاثى سنة 1956 كان له أثره البالغ على حركات التحررالوطنى وإحياء القومية العربية .
حققت ثورة يوليو 1952 مجانية التعليم العالى وأضافت عشر جامعات . . المعاهد العليا . . مضاعفة ميزانية التعليم . . إنشاء أكاديمية الفنون والاهتمام بالمسرح الجاد كان هناك مسرح واحد أضيف له ستة مسارح أخرى وأنشأ مؤسسة المسرح . . ومعهدا الباليه والسينما وفرقا للفنون الشعبية . . المتاحف والآثار . . قصور الثقافة ( حوالى المائة ) . .
أقيمت مسابقات علمية ، جوائز . . المجالس القومية المتخصصة . .
أنشأ التليفزيون . . مسرح التليفزيون . .
اهتم بمراكز البحث العلمى ، وأوفد البعثات للتنوير . .
أضاء قرى مصر كلها بالكهرباء وأمدها بالمياه . .
التنمية وتوسع قاعدة الانتاج . . التصنيع وصناعة الصناعة ( التصنيع الثقيل ) . .
كل ذلك مصحوبا بالعدل الاجتماعى وضمان حقوق الطبقات المتوسطة و الفقيرة ومشاركة العمال والفلاحين فى الإدارة والربح وفى التمثيل النيابى والنقابى والحكم المحلى
لقد كانت العدالة الاجتماعية أبرز السمات فى تجربة عبد الناصر التى عملت منذ البداية على تحقيق العدالة الاجتماعية وتذويب الفوارق بين الطبقات وتكافؤ الفرص فى التعليم وفى التوظف وفى الترقى . .
لقد انتقل الفكر المصرى من مرحلة إلى أخرى ، ومع كل انتقال يكتسب تجربة وخبرة واختبر الطرق المفتوحة أمامه والطرق المسدودة ، وقام بتصحيح مساره باتباع منهج التجربة والخطأ . . عرف المصريون ماذا يحدث فى الخارج والعالم من حولهم .
لقد نشر عن جمال عبد الناصر حتى الآن حوالى الأربعة آلاف كتاب ومئات من رسائل الماجستير والدكتوراه . . ذاب الجسد وبقيت الأفكار . . حمل هموم أمته على كتفيه وعبر بها بحور التاريخ فى وقت ارتفعت فيه ضده الجواسيس وتجار العبيد والقراصنة والعملاء كل يحاول الضرب فى كافة الاتجاهات . . ثورته ، تجربته ، سمعته ، ذمته أحلامه ، معاركه ، وطنيته . . الحملة شرسة ومستمرة وسوف تستمر ، لكن الجماهير بفطرتها تستطيع أن تفرز الكلمة الطيبة من الكلمة الخبيثة ، فعندما قارنوا بين عصره وعصور غيره كانت المقارنة لصالحه . .
إن فى تجربة عبد الناصر ما يستحق النقد ويستوجب التصحيح شأنها فى ذلك شأن أى تجربة إنسانية . وتجربة الرجل ملك الجماهير العريضة الواسعة ، وهى بالقطع غير فاقدة للوعى ولا صماء ، بل كانت باستمرار فى حوار معه ولم تكن العلاقة بينهما علاقة الأمر والطاعة بل العقل والقلب ، وهذه الجماهير عاتبته أحيانا ، وغضبت منه فى أحيان أخرى وغفرت له ورضيت عنه وما زالت .
إن التجربة ما زالت حية ولم تمت كما مات آخرون أو ماتت تجارب أخرى وتاهت فى مقابر التاريخ . ما هو باق صورة جمال عبد الناصر ، وما أصبحت ترمز إليه من الإحساس بالكرامة .
إن ثوابت تجربة جمال عبد الناصر فى الحرية والاشتراكية والوحدة هى أهداف ومهمات تاريخية لن تسقط إلا بتحقيقها ، وعلينا أن نجتهد فى التفاصيل وفق ما يستجد من ظروف ومتغيرات . وبقى ألا نحكم عليها خارج عصرها الذى تحركت فيه وفعلت فيه .
لقد وجدت الأمة نفسها فى جمال عبد الناصر وهذا هو الذى يبقى وغيره تكنسه الأيام . لقد عاش الرجل من أجل أمته ، وعندما كان يخلو إلى نفسه كانت أمامه هموم الوطن ، وكان يشغله قضايا أمته يضعها على الورق بخط يده دائما حتى يعمل على تنفيذها أو بحثها ودراستها أو أن يصدر التوجيهات بها إلى المختصين .
إن جماهير عبد الناصر فى كل الوطن العربى باقية تنبض بالحياة ، تعيش بإنجازاتها ومثلها العليا وآمالها وقيمها ، وستظل هذه الجماهير وما تمثله حية لأنها وجدت بصورة طبيعية ولم تكن مصطنعة ، و بالتالى فإنه نفذ إلى قلوبها ووجدانها حتى فى أقطار لم يكن لعبد الناصر سلطان عليها .
الباقى هو عبد الناصر الإنسان ، الرجل الذى قال ما لم يقله أحد من قبله ولا بعده ـ حتى الآن على الأقل ـ الرجل الذى قال :
لا للاستعمار ، لا للرجعية ، لا للإقطاع ، لا للرأسمالية ، لا للشيوعية ، لا للاستسلام لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف بالعدو الصهيونى ، لا تفريط فى القضية الفلسطينية ، لا تردد ، لا مساومة على حق لا للفقر ولا للاستغلال .
عبد الناصر لم يمت برصاصة من الداخل لأن حب الشعب له كان جارفا ، وكان أقوى سياج ، حتى الذين عاداهم عبد الناصر لمواقفهم المناوئة للثورة كانوا يعانون من صراع الحب والكراهية فى آن واحد ، كانوا يخفون فى أنفسهم مشاعر الرهبة الممزوجة بالإعجاب لأنهم كانوا على يقين من إخلاصه وشدته فى الحق .
عبد الناصر هو الغد العربى الموحد القوى .
فى يوم 28 سبتمبر 1970 ومع توقف دقات قلب جمال عبد الناصر دقت أجراس فى أنحاء كثيرة من العالم تحية لرحيل زعيم عظيم ، وربما فى هذه الليلة بالذات نام الإسرائيليون لأول مرة بعمق شديد .إن فلسفة عبد الناصر فى نضاله ضد إسرائيل ما تزال تفرض نفسها على الشارع الفلسطينى مفاهيم وروحا وشجاعة ، ولا يستطيع أى إنسان فى العالم إلا أن ينحنى أمام هذه الشجاعة الأسطورية لطفل يمسك بحجر أمام جندى مدجج بالسلاح لتحقيق استراتيجية عبد الناصر فى أن الانتصار على إسرائيل أو حتى تحجيمها لا يتحدد من خلال معركة ، إنما بتصدير شىء واحد لها وهو أنه إذا لم تعطهم حقوقهم فإن المقاومة مستمرة إلى النهاية .
فى كتابه " التقدم نحو القوة " كتب يوجين جوستين أحد كبار رحال المخابرات المركزية الأمريكية التى قادت الحرب الشرسة ضد جمال عبد الناصر ، هذه العبارة :
" إن المشكلة الحقيقية مع ناصر أنه بلا رذيلة مما يجعله من الناحية العملية غير قابل للتجريح ، فهو لا يمكن شراؤه ، أو رشوته ، أة حتى تهويشه ، نحن نكرهه ككل ، ولكننا لا نستطيع أن نفعل شىء تجاهه . إنه لعنة على مصالحنا . "
..............
الفريق سامى شرف
وزير شئون رئاسة الجمهورية الأسبق
وسكرتير الرئيس جمال عبد الناصر للمعلومات
لنفس الكاتب:
عبدالناصر الرجل والإنسان.. رؤية من قريب
قصة بناء السد العالي
سامي شرف: ((الاخوان المسلمين)) ورقة دائمة في يد الاستخبارات الاميركية
الرئيس جمال عبد الناصر قائد ثورة يوليو 1952