أحمد عز علي مسرح إسماعيل ياسين!
...............................................................
| |
عز | |
عادل حمودة
................
عندما كان المهندس أحمد عز شابا احترف عزف الموسيقي الغربية.. لكن.. عائلته علي ما يبدو نهرته عن العمل في الملاهي الليلية.. وأجبرته علي مساعدتها في تجارة أدوات السباكة المستوردة التي تبيعها في دكان تمتلكه بحي السبتية.. ليصبح فيما بعد محتكر الحديد والمتحكم الأول فيه.. وساعده علي ذلك عقليته المنظمة التي أوصلته إلي منصب أمين تنظيم الحزب الحاكم بجانب نجمه الصاعد جمال مبارك.. ليحظي بنعيم الثروة ونفوذ السلطة.. وليصبح ملكا من ملوك العصر ومركزا من مراكز قوته.
علي أن كبت موهبته الفنية لسنوات طوال ــ قضاها مشغولا بالخردة ــ جعلته يتحين الفرصة للتعبير عنها ولو بطريقة غير مباشرة كما حدث وهو يلقي كلمته علي مسرح مؤتمر الحزب الوطني وسط جمهور يعرفه ويضمنه ويطمئن إلي أنه لن يخذله ولن يحرمه من التصفيق له.. جمهور مضمون.. أدي بروفات عديدة للعرض أمامه.. لن يلقي عليه البيض الفاسد والطماطم المروية بمياه المجاري التي يأكلها المصريون ويصابون بسببها بالتيفود.. ولن يلقي عليه بالقمامة التي عجز حزبه عن إزالتها من الشوارع.. ولن يلقي عليه بالحجارة المخبأة في أيدي ملايين العاطلين في المناطق العشوائية .
لقد تقمص أحمد عز شخصية الزعيم السياسي القوي "الكاريزما" الذي لن يرحم المعارضة ولن يسكت عن سفالتها بعد أن طال انتظاره.. ونفد صبره.. تصور نفسه هتلر وموسوليني وكاسترو وشافيز وجمال عبد الناصر معا.. لكنه.. بدلا من إثارة الخوف في أوصال خصومه أثار السخرية.. بدلا من أن يفزعهم أضحكهم.. وهو خطأ شهير يقع فيه كل من لا يعرف حقيقة موهبته الفنية.
إن عادل إمام مثلا تصور نفسه في البداية ممثلا دراميا.. لكنه في كل مرة حاول فيها سحب دموع الجمهور كان لا يجد سوي ضحكاته.. في كل مرة كان يتصور فيها نفسه زكي رستم كان الجمهور يعامله علي أنه نجيب الريحاني فلم يقاوم كثيرا وفضل أن يكون نجما كوميديا علي مسارح الضحك علي أن يكون كومبارسا علي مسارح البكاء.. وهو درس لم يستوعبه أمين التنظيم الذي لا تزال الفرصة سانحة أمامه لتغيير اسمه من أحمد عز إلي أحمد آدم.
كنت أتصور أن عرض أحمد عز عرض سياسي مؤثر علي المسرح "القومي" فإذا به عرض وهمي لا مكان له سوي مسرح "إسماعيل ياسين".. فكل تهديدات الباشمهندس "فشنك".. ومسدس الكلمات النارية الذي اطلق منه رصاصاته علي المعارضة ثبت من الوهلة الأولي أنه مسدس ميه.. وشيكولاتة.. وعصير برتقال.. وثياب المقاتل التي لبسها وهو يؤدي "نمرته" لم يكن من الصعب اكتشاف أنها ملابس بلياتشو .
وأغلب الظن أن أحمد عز تناول نوعا من الحبوب جعلته يحلق في الخيال ويتحدث عن مجتمع لا وجود له ويتغزل في حزب لم يلمس تأثيره أحد.. فالشارع الذي يصر علي أنه يسيطر عليه هو ورجاله لا توجد فيه سوي النفايات المتراكمة.. وفوضي المرور.. ومطاوي الخارجين عن القانون.. وأكمنة الشرطة الخائفة من غضب التجمعات الصغيرة.. وتسول الناس المحترمين الذين كانوا يوما عماد الطبقة الوسطي.. حسب قوائم المحاضر والبلاغات التي لم تعد تخرج في تقارير الأمن العام السنوية حتي لا يقارن أحد بين عصر وآخر .
ولا نختلف معه في أن الإخوان المسلمين يعتبرون الديمقراطية وسيلة مواصلات يحرقونها فور أن توصلهم إلي الحكم.. لكن.. هل يختلف الحزب الوطني عنهم ولو قليلا ؟.. هل يقبل الحزب الوطني بتداول السلطة؟.. لقد أمسك حزبه بالسلطة ووضعها بين أسنانه وأنيابه وانفرد بلحمها وشحمها وعظامها.. في حالة لا مثيل لها من حالات الحزب الواحد وسط ديكور باهت من التعددية الوهمية لم يعد يصدقه أحد رغم ضعفه وقلة حيلته .
إن نظام الحزب الواحد لم يختف في مصر.. فلا يزال قائما ومسيطرا بقوة الأمن والإعلام والبيزنس والتزوير وتحالف السلطة والثروة التي يجسدها أحمد عز في نموذج لو وجد في نظام ليبرالي حقيقي لكان مكانه الوحيد في حجرة ضيقة في الظلام بكل ما تعني الكلمة من تداعيات وإيحاءات .
ونظام الحزب الواحد علي طريقة الحزب الوطني الحاكم منذ أن اخترعه انور السادات نظام ليس فيه مفاجآت.. ولا احتمالات.. وليس فيه فرصة واحدة للنبوءات.. فكل شيء معروف مسبقا.. وصندوق الاقتراع موجود في غرفة نومه.. وأصوات الشعب تتساقط في فم الصندوق أثناء الشخير.. " كم هي مضحكة الديكتاتورية عندما تدعو لانتخابات حرة نزيهة وهي تلبس «مايوه» من قطعتين.. اسمه الديمقراطية " .
إن نظام الحزب الواحد المعروف باسم الحزب الوطني تتحكم فيه عقدة نفسية مزمنة.. فهو لا يستطيع أن يري في المرآة غير وجهه.. وألا يسمع في الراديو إلا صوته.. وألا يطرب لغناء أحد إلا منشديه.. كل المغنين في نظره سيئون.. مزعجون.. وخارجون علي السلم الموسيقي.. أو السلم السياسي.. كلهم متآمرون.. عابثون.. مهيجون.. بما في ذلك كل الشخصيات اللافتة للنظر.. من محمد حسنين هيكل إلي عمرو موسي.. ومن أسامة الغزالي حرب إلي سيد درويش.. وجميع أشرطة الكاسيت والفيديو التي لم يسجلها الحزب بصوت رجاله الرخيم هي أشرطة غير قانونية تتولي أجهزة الأمن والرقابة علي المصنفات الفنية مصادرتها من الأسواق لأنها ضد أمن الدولة وضد الاستقرار والسلام الاجتماعي .
قد يكون صوت أحمد عز شجيا وتراجيديا ومثيرا للشجن ولكننا بعد كل هذه السنوات التي حكم فيها حزبه نشعر بالحاجة إلي فترة هدنة نسترد فيها أنفسنا.. ونرمم طبلة أذننا.. ثم إن من حقنا كمستمعين أن نختار مطربنا المفضل.. ونوع الأغنية التي نحب أن نسمعها.. مهما كان موقفه السياسي.. ولكننا.. للأسف محرومون من تحقيق أمنياتنا الصغيرة.. ومضطرون للإصغاء لمطربين من الدرجة العاشرة.. وليس أحمد عز واحدا منهم .
ونسي وهو يتحدث عن جمال مبارك "مفجر ثورة التحديث في الحزب الوطني"، أنه يوجه لوما للرئيس مبارك الذي تولي رئاسة الحزب في نفس اليوم الذي تولي فيه رئاسة الجمهورية.. ونسي وهو يوجه سهامه المسمومة للمعارضة ويطالب بعزلها وضربها وتشريحها أن الرئيس نفسه يحافظ علي قاعدة عريقة قيد بها وجوده وهي أنه رئيس لكل المصريين.. المؤيدين والمختلفين.. القريبين والبعيدين.. والمساندين والمهاجمين.. فهل يكسر أمين التنظيم تلك القاعدة؟.. ومن الذي منحه حق العزف المنفرد وسط أوركسترا جماعي كان بالقرب منه علي المسرح؟
لقد خلط أحمد عز بين متاعبه الشخصية مع الصحافة وبين متاعب حزبه معها وصورت له الارتيكاريا السياسية والنفسية التي يعاني منها أن العالم كله يناصبه العداء.. لذلك تتراءي أشباح المعارضين والصحفيين والرأسماليين والسياسيين والإخوان المسلمين له في النوم.. وهي حالة معروفة في كتب الطب بعقدة الاضطهاد.. لذلك فهو ليس في حاجة إلي جمال مبارك وإنما في حاجة لأحمد عكاشة.
إن أي شخص مهما تعددت مواهبه لا يمكن أن يعتبر خشبة المسرح السياسي أملاكا خاصة له فيشطب من النص المكتوب ما يشاء.. ويلغي من السيناريو ما لا يعجبه.. ويطرد الممثلين الذين لا يؤدون أدوارهم علي هواه.. ويسقط من حساباته عمال الإضاءة لأنهم لا يسلطون الكشافات عليه.. هذا لا يمكن أن يحدث في الفن المسرحي.. خاصة إذا كان المسرح هو المسرح القومي.. في المسرح القومي لا يوجد سوي بطل واحد اسمه الوطن.. ولا مكان للاستئثار والاحتكار والوثنية.
إننا نرفض مسرح الآلهة.. بكل طقوسه وكهنته وأوامره الفاشية.. نرفض أن تكون أقدرانا معلقة بين شفتي البطل أو مربوطة في قدميه.. نرفض ألا يكون لنا رأي في المسرحية التي تعالج شئوننا اليومية وتناقش حياتنا ومماتنا وغدنا ومستقبلنا.. إن المسرحية بالأساس هي قصتنا نحن فكيف يعلن أحمد عز عن انتحارنا.. في حين أننا لا نزال في مقاعد المتفرجين؟.. ذلك لا يحدث إلا في مسرح الشخص الواحد الذي لم يعد أحد يقبله أو يتصوره أو يطيقه أو يتحمس له إلا أمين تنظيم الحزب الحاكم الذي يقول ــ صدق أو لا تصدق ــ إنه رئيس اركان حرب ثورة التجديد والتحديث فيه
قصة أحمد عز من الابتكار إلي الاحتكار ..
06/11/2014