تنويـــــــــــــــــــعات على أنــــــغام مصــــــــــــــــرية- 2
...............................................................
| |
خزان مشابه لخزان مدينة نصر | |
بقلم : أشــــــــــــرف عاشـــــور
.................................
المدينة و الخــــزان : لا أعتقد أنه قد دار فى ذهن أستاذنا الكبير الدكتور محمد هلال (أستاذ المنشآت الخرسانية بهندسة القاهرة فى ستينات و سبعينات القرن العشرين)– عندما وقف يلقى محاضرته فى تصميم المنشآت المائية- أن موضوع تلك المحاضرة يمكن أن يكون ذا دلالة هامة على كيفية التطور العمرانى وكيف سارت الأمور فى القاهرة منذ مطلع السبعينات و حتى وقتنا هذا فى بدايات القرن الحادى و العشرين. فى عصر ذلك اليوم من شتاء عام 1971 ، و قف الدكتور هلال يستعرض مع تلامذته فى السنة النهائية ، تصميم نوع مميز من الخزانات المائية التى تستخدم للتخزين المرتفع عن سطح الأرض. إتخذ أستاذنا الدكتور هلال خزاناً من تصميمه، أنشىء حديثاً فى مدينة نصر، موضوعاً لدرسه. أبدى الأستاذ أسفه لأن المسئولين عن المشروع طلبوا منه تقصير الأعمدة الحاملة للخزان، مما سبب خللاً جمالياً فى نسبه ، فجسمه الأسطوانى ضخم للغاية و تحمله أعمدة قصيرة نسبياً ، ما جعله يبدو قميئاً مقارنة بهذا النوع من الإنشاءات.
و ذكر أستاذنا الجليل، أنه حاول إقناع الجهة المالكة (ربما كان مرفق مياه القاهرة أو جهاز مدينة نصر ) بزيادة إرتفاع الأعمدة ليكون الخزان أجمل و أكثر رشاقة ، من جهة، و أقدر على تأدية وظيفته – بإرتفاع منسوب التخزين- من جهة أخرى، لكنهم أكدوا له أن الخزان مقام فى أعلى منطقة بمدينة نصر، و أنهم واثقون من أنه سيؤدى وظيفته بكفاءة لأنه يغذى مبانى يحكم إرتفاعها قوانين معروفة ومستقرة و لا يوجد أى إحتمال معقول لإقامة مبان تقترب من إرتفاعه، ناهيك عن إقامة مبان تزيد عنه إرتفاعاً .
ودار الزمن دورته، و شاءت الأقدار بعد سنين عدة أن يسكن أبواى فى إحدى عمارت مدينة نصر ، على بعد خطوات من ذلك الخزان الذى حدثنا عنه الأستاذ الكبير فى غابر الأيام، ما جعلنى أطالعه فى غدواتى و روحاتى وأتأمل ذلك العمل الذى سمعت عنه من أستاذى بعد أن أتت عليه تقلبات الزمن و غائلة الدهر.
الصورة الحالية تبعث على مزيج من الحزن و الدهشة . المنطقة المحيطة بالخزان فى جميع الإتجاهات ، تعج بالمبانى الشاهقة الإرتفاع ، و الخزان المسكين باق على حاله ، يقف بينها على إستحياء ، وربما بات أقل المبانى إرتفاعاً فى تلك المنطقة.
فى سالف الأيام، عندما كانت مدينة نصرفى بداية نشأتها ، تنمو نمواً طبيعياً وصحياً، فى زمن "هيبة الدولة " وإحترام سيادة القانون، فى ستينات القرن الماضى ، لم يتصور من بيدهم الأمر ، أن هناك أى داع لزيادة إرتفاع ذلك الخزان( بزيادة تافهة جداً فى التكلفة) ، حيث أن كل شىء يخضع لمبادىء و نظم و قوانين محترمة و مرعية. فالمدينة لها تصميم و تخطيط وضع على أيدى كبار المهندسين ، و كل شىء لابد – هكذا تصوروا- أن يسير على أسس ذلك التصميم .
يبقى هذا المنشأ ، وربما تضاءلت قيمته كثيراً كخزان يمد المدينة بالمياه ، وقد إكتسب قيمة أثرية هامة ، يمكننا أن نستدل بها على تطور العمران، و تدهور التفكير، و هزيمة القيم العليا أمام الفوضى و القيم المتدنية.
يبقى الخزان أثراً ، كأى أثر معمارى، ومنسوب المياه فيه و الذى يظهر فى خطوط التمليح على سطحه الخرسانى من الخارج، مقياساً و علامة على أن هذا المنسوب كان يجب أن يعلو على أى منشآت أخرى فى منطقته، بقدر كاف، يؤمن قدراً معقولاً من الضغط المائى، وأنه فى يوم من الأيام كانت هناك تصميمات لمدينة نصر ، وكانت تلك التصميمات موضع إحترام الجميع.
تغيرت المدينة كثيراً ، وبقى الخزان كما هو
كان هناك تصوراً وخطة تقوم على أساس علوم تخطيط المدن و دراسات للمعماريين و المهندسين المتخصصين حددت الإرتفاعات القصوى المسموح بها و بالتالى حددت الكثافة السكانية المتوقعة لتلك المنطقة و على هذا الأساس تحددت سعة المرافق اللازمة. مياه الشرب ، الصرف الصحى، الطاقة الكهربائية ، تصميم شبكة الطرق و عرض الشوارع و إتجاهاتها ، و أماكن وقوف السيارات و مناطق الخدمات العامة و المناطق التجارية ...إلخ. قد يبدو من البديهى – للعقلاء – أنه لا يمكن تعديل أنظمة المبانى لمنطقة ما ، ما لم تحدث دراسة كاملة لكيفية تعديل المرافق اللازمة لتلك المنطقة وضرورة الأخذ فى الإعتبار لتأثير ذلك التعديل على حياة أصحاب المبانى القائمة و السكان الأصليين .
و الحقيقة أن المبدأ الصحيح هو أنه لا يجوز، فى الظروف العادية ، تعديل أنظمة البناء لأى منطقة سكنية قائمة أبداً ! وحدوث غير ذلك هو إستثناء من القاعدة، و يجب أن تكون هناك اسباباً بالغة الأهمية للأخذ به.
على الأقل هذا ما يفترض فى المدن المتحضرة .(اللهم إلا إذا نُزعت ملكيات و جرى تعويض أصحابها ، و جرى إعادة تخطيط شاملة لمنطقة ، وهو أمر نادر الحدوث) .
فإذا إفترضنا أن منطقة كان قد تحدد أقصى إرتفاع لمبانيها بعدد 4 طوابق. وجاء الناس و إلتزموا بالقوانين وبنوا بيوتهم فى حدود هذا الإرتفاع. هل من المعقول بعد هذا أن يأتى من يعدل قانون البناء و يسمح بأن يكون الإرتفاع 10 طوابق بدلاً من 4 ؟ ما مقدار الظلم الذى يقع على صاحب المبنى المنخفض جراء ذلك التعديل ؟ هل يمكن أن تقول له يمكنك زيادة إرتفاع مبناك و الإستفادة من التعديل ؟ هل من الضرورى أن يكون المبنى القديم قد أخذ بالإعتبار فى تصميمه الأصلى إمكانية زيادة الأدوار؟ ما ذنب الساكن أو صاحب الشقة الذى لن يحقق شيئاً من حدوث التعديل ولكن أصبح عليه أن يدفع ثمن الأضرار التى تلحق به بسبب الإرتفاعات الجديدة فوقه و حوله ؟
لا أظن اننا فى حاجة للإفاضة فى توضيح ذلك. إن ظلما ً فادحاً، بالقطع ، يقع على كل من إمتلك عقاراً فى تلك المنطقة قبل ذلك التعديل ، سواءاً من الناحية المادية أو البيئية ...إلخ . ذلك هو الحال فى جميع مدن العالم المتحضر و التى تخضع الأمور فيها لأنظمة البناء الحديثة.
إذا زرت منطقة سكنية فى مدينة من مدن العالم المتحضر فى أمريكا الشمالية أو أوروبا مثلاً، وكانت قوانين بناء المنطقة محددة على أساس أنها بيوتاً (غالباُ من طابقين و يسكنها أسرة واحدة) ، ثم عاودت زيارة المنطقة بعد 100 سنة ، ستجد أن المنطقة لم تتغير من حيث تنظيم مبانيها . ستبقى بيوتاً صغيرة ، كما هى . قد يزول بيت و يبنى آخر ، وقد يتغير شكل البيت حسب ظهور التصميمات ومواد البناء الجديدة ولكن ستبقى المنطقة كما هى من حيث تخطيطها العام و حدود الإرتفاعات و نسبة إستغلال الأرض...إلخ.
وكان ذلك هو الوضع السائد، إلى حد كبير، فى مصر حتى منتصف السبعينات. كنا نتعامل مع تلك الموضوعات كأمة متحضرة .
ثم جاء طوفان رهيب ، إكتسح امامه كل شىء بدأ بعصر الإنفتاح الفوضوى ، عندما أُنتُهكت وأُستُحلت القوانين و غضت السلطات الطرف عما يحدث، و راح المغامرون و الأفاقون يغيرون شكل الحياة فى قاهرتنا و المدن الأخرى.
هجمة الذهـــــــــــــب
عندما بدأ عصر إنفتاح "السداح مداح"(كما سماه الأستاذ أحمد بهاء الدين)، فى النصف الثانى من السبعينات، وأخذ القانون غفوته، إنطلق المغامرون والإنتهازيون يعيثون فى الأرض فساداً. كان التكالب على النشاط العقارى فى القاهرة خاصة و مصر عامة فى تلك الفترة ، أشبه بـ "هجمة الذهب" ( Gold Rush ) التى شهدتها كاليفورنيا فى منتصف القرن التاسع عشر عندما أُكتشف المعدن النفيس فى أرضها .
دخل نشاط المقاولات و البناء، وقتها، كل من هب ودب ، سواءاً إمتلك الخبرة أو العلم أو لم يمتلك . بل أننى لاحظت أنه كلما كان المغامر أقل علماً و أكثر بعداً عن المجال الهندسى ، كلما كان اكثر نجاحاً و إقداماً فى سوق تلك الأيام . ربما لأن من يعرف، قد يكون أكثر إدراكاً لخطورة ما يفعل ، وقد يكون هذا معوقاً للنجاح و حائلاً دون إغتراف الحد الأقصى من مناجم الذهب المفتوحة على مصراعيها ، بلا رقيب و لا ضابط، وهو ما أدى فى كثير من الأحوال إلى إستبعاد أصحاب الخبرة الحقيقية فالعملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من السوق، حسب قانون جريشام الشهير.
فى منطقة الجيزة ، و بالتحديد خلف السور الجنوبى لحديقة الحيوانات، كانت هناك منطقة سكنية هادئة تتألف من بعض الفيلللات، و العمارات التى لا يتجاوز إرتفاع معظمها 5 طوابق. بنيت فى خمسينات أو أربعينات القرن الماضى. شوارع تلك المنطقة ضيقة و لم تُخطط على أساس تجارى . طاقة المرافق محدودة ، تتناسب مع مستوى الكثافة السكانية المحدود.
وجد المغامرون العقاريون فى فيللات تلك المنطقة ، فريسة سهلة و غنيمة يسيل لها اللعاب .
بمجرد أن سنحت الفرصة، هُدمت الفيللات ، أو مُحيت من على وجه الأرض فى زمن قياسى، و شُيدت مكانها الأبراج التجارية و السكنية بإرتفاعات هائلة، دون أى إعتبار للنظم التى سادت من قبل فى تلك المنطقة و لما يسببه ذلك من أذى للسكان الذين عاشوا فيما بقى من العمارات القديمة. فلا بأس أن يُحجب عن هؤلاء السكان التعساء الهواء و أشعة الشمس و حتى رؤية زرقة السماء.
قام بناة المنشآت الجديدة بالبناء المتلاصق (على الصامت) دون ترك مليمتر واحد من الأرض. تضاعفت الكثافة السكانية أضعافاً كثيرة . معظم تلك الأبراج أضحت مبان تجارية ، مكاتب مهنية، عيادات طبية، شركات مختلفة...قل ما شئت. وكان هذا بعينه ما حدث أيضاً فى معظم الأحياء المشابهة كالمهندسين و جاردن سيتى و المعادى وغيرها.
كان لنا فى أطراف المعادى بيتاً (فيللا) من دورين بُنى خلال الستينات (كنت قد أشرت إليه فى مقالى السابق). و تمشياً مع قوانين البناء و الطابع السائد فى حى المعادى وقتها ، أقيمت المبانى على مساحة أقل من 20% من الأرض وتُركت باقى المساحة كحديقة . فى أواخر السبعينات و أوائل الثمانينات كانت هجمة الذهب على أشدها فى مناطق كثيرة ومنها المعادى. كانت الأراضى حولنا صحراء جرداء ، ومعسكرات للجيش ...إلخ . وفى مغامرة عقارية أعقبت رحيل معسكر الجيش المجاور ، إذا بعمارات مرتفعة تُقام لتحيط بالفيللا الصغيرة من جميع القطع المجاورة ، ودون ترك ردود حسب النظام الذى كان متبعاً فى منطقة المعادى.
وبعد عدة سنوات وجدنا أن تصميم البيت أصبح شاذاً ولا يتناسب مع الوضع السائد حوله. صارت حديقتنا الكبيرة محاطة بالعمارات المرتفعة و إقتصر دورها على أن تصبح متنفساً للجيران ولم تعد ذات فائدة تذكر لأصحاب البيت. فكرنا حتى ننتفع من الأرض، أن نهدم البيت و نقيم عمارة تتسق فى الشكل ونسبة إستغلال الأرض مع المبانى المحيطة. فوجئنا بأنه قد صدرت تعليمات مشددة من جهات "عليا " بمنع هدم أى فيللات فى المعادى مهما كانت الأسباب و الظروف ، و لازال هذا الوضع سائداً حتى يومنا هذا.
أى بتعبير آخر من سرق فقد سرق ، و من إحتال على القانون فلا غبار عليه، أما من فاته أن يغترف من الذهب مع غيره من المغامرين فلا عزاء له، بل وعليه أن يدفع ثمن توانيه فى خطف نصيبه من الكعكة عندما خطف الخاطفون.
أرى فى تلك القصة مثالاً حياً على العبث بالنظم و القوانين ، ولىَ عنق هذه النظم و تعديلها من آن لآخر بما يتناسب مع أهواء و مصالح لا يعلمها إلا الله. ومن اللطائف ، التى تبين كيف أصبح الناس يتعاملون مع القوانين و الأنظمة ، أن بعض السكان وضعوا لافتات على بعض الشوارع تحدد إتجاه السير فيه بإتجاه واحد – حسبما يروق لهم- بينما قام آخرون بتثبيت قوائم حديدية أمام مداخل بيوتهم تمنع السيارات من إغلاقها أو تضمن لهم موقفاً لسياراتهم عند الحاجة .
فى مقال للأستاذ أحمد بهاء الدين فى بداية الثمانينات، جاء مايلى :
"نشرت الأهرام تصريحاً للمهندس حسب الله الكفراوى يقول فيه (..أن هناك فى القاهرة وحدها خمسة آلاف عمارة تمت فوقها عمليات تعلية ضد القانون..) وفى البلاد ذات النظم النظيفة المستيقمة، يُطرح السؤال فى أول المشكلة فيكون الحل سهلاً. ولكن فى عهود الفساد و الرشوة وخراب الذمم ، تُترك المشكلة حتى تتفاقم ، ونصبح أمام الأمر الواقع ، ثم يقال لك و ما الحل ؟
و الحل يا سيادة الوزير بسيط ...مخالف واحد فقط ، أو عشرة من الخمسة آلاف ، وفى أماكن واضحة ...يطبق عليهم القانون بالحد الأقصى ، الذى هو الهدم على نفقته و الحبس سنة !
و الحل الثانى : قانون بمصادرة الإرتفاعات المخالفة. فالهدم و المصادرة بالنسبة للمالك سواء. بل المصادرة أرخص لأنه لن يدفع تكاليف الهدم . ويبقى السكان و لكن يدفعون الأجر للمالك الجديد – المحافظة او غيرها- و لا ظلم للمالك الذى فعل ذلك وهو يعرف القانون مقدماً...
و لن أتحدث عن كيف كانت تتم المخالفات ، وأساليب الفساد التى كانت تستخدم و يغمض القانون عينيه. رغم أن هذا دوسيه يجب ان يتولاه جهاز فى مكتب النائب العام ، لإستئصال الفساد قدر الطاقة...
ولكن الإرتفاعات جريمة ضد مرافق المنطقة ، من مياه و مجار و تليفونات . فهى تدمير لمرافق البلاد. و إساءة لباقى سكان المنطقة. و ما فضيحة إنفجار مواسير المجارى ، وموجة القذارة التى تتلوه سوى جزء من آثار هذه المخالفة.
ساعتها يمكن ان نتكلم عن سيادة القانون حقاً ..لا دعاية و تهريجاً ! "
وفى مقال آخر بمناسبة إنهيار عمارة ضخمة عام 1981 بمدينة المهندسين قبل أن تسكن كتب الأستاذ بهاء :
".... نشرت الأخبار فى تحقيق عن عمارة المهندسين قائمة بالإجراءات الرسمية التى إتخذتها الجهات المختصة قبل الإنهيار السعيد (قبل أن تسكن) ..
عشرة إجراءات رسمية !
قرار من حى شمال الجيزة بإيقاف أعمال البناء بتاريخ 26/10/1981 ..قبل إنهيار العمارة بتسعة عشر شهراً ...إخطارات من شرطة المرافق..قسم شرطة العجوزة...مرفق المياه...و إدارة الكهرباء . حررت أقسام الشرطة المحاضر اللازمة ...أولها فى 3/ 12/1981 بواسطة شرطة المرافق قسم العجوزة "لإيقاف المبانى بالقوة الجبرية و التحفظ على أدوات وعدد المقاول ! "و ذلك قبل 17 شهراً من إنهيار العمارة ! ....
القوانين ليست كافية ...فلدينا عشرات قوانين و اللوائح تعاقب الإعتداء على المرور ، وتكسير الشوارع، و إلقاء القاذورات فى الطرق العامة ...
ولكن الذين إمتطوا خيول الجهل النشيط و الفساد الأنشط، و حطموا هيبة الدولة ، خلقوا عرفاً بين الناس يقول بأن القوانين ليست للتطبيق ، على الأقل على الأقوياء ! " إنتهى كلام الأستاذ أحمد بهاء الدين.
قد يقول قائل، تلك كانت فترة عبث و إستهتار بالقوانين، و إنتهت، و لم تعد الأمور كذلك . و الحقيقة أن الشىء المدهش والمحزن، فى آن ، هو أنه و بعد مرور عشرات السنين و قد أريق الكثير من المداد فيما كتب، و أزهقت العديد من الأرواح تحت أنقاض المبانى التى تسقط و تتهاوى على رؤوس أصحابها ، تنقل لنا وسائل الإعلام التصريحات التالية عقب إنهيار عمارة فى مدينة نصر منذ سنوات قليلة (2004 )، أى فى الأمس القريب:
" فى تصريح لرئيس مركز بحوث الإسكان و البناء الأسبق راجح أبو زيد أكد أن 90% من مبانى حى مدينة نصر ، مخالفة لقانون المبانى و لقانون التنظيم ، معتبراً أن الحادث أظهر وجود خلل شديد فى إدارة العمران بمصر سبق التحذير منه.
عبر أبو زيد عن إندهاشه من إقامة سبعة طوابق مخالفة و بدون ترخيص – إستغرق بناؤها 7 أشهر- فى وضح النهار و أمام سمع وبصر الجميع ...
"وصرح مهندس صلاح حجاب رئيس الجمعية المصرية للتخطيط العمرانى... إن موافقة الدولة على تلقى أموال مقابل التصالح على مخالفات المبانى شجع الآخرين على المخالفة ، داعياً إلى المنع التام لما سماه مبدأ المصالحة"
كما قال الأستاذ بهاء، يحدث تخريب لا يستهان به للمرافق، و أذى لباقى سكان المنطقة. ففى الموقع الذى كانت تحتله عمارة بها 10 شقق سكنية ، تقوم أخرى جديدة ، بها ربما 100 شقة سكنية أو مكتباً ، وبدلاً من بضعة سيارات لم تكن تلقى أى صعوبة فى تحركها أو مواقفها، إذا بالطريق يعج بعشرات السيارات وقد إحتلت تلك الواقفة على الجانبين الجزء الأكبر منه ، وبقى ممر محدود لا يكاد يسمح بمرور أكثر من سيارة واحدة . فإذا تصادف مرور سيارتين متقابلتين، فعلى إحداهما أن تعود القهقرى – إذا تيسر لها ذلك – أو أن تخوض معركة مع السيارة القادمة فى الإتجاه المضاد ، عادة ما يكسبها من كان ورائه عدد أكبر من السيارات و السائقين الأشداء الذين تعطلوا بسبب تلك المواجهة بين سيارتى المقدمة . فسرعان ما تعلو أصوات آلات التنبيه و يبدأ السائقون فى الصياح طالبين فتح الطريق بأى ثمن ...وهكذا حتى ينهار سائق إحدى سيارتى المقدمة ويذعن صاغراً تحت وطأة نداءات الجماهير التى تتعالى و تكثر حتى يصبح من المستحيل تجاهلها !
لا يوجد عندى أدنى شك فى ان معظم سكان القاهرة قد شاهدوا هذه الصورة كثيراً ، فى شوارع الجيزة و مدينة نصر و المهندسين و غيرها.
أذكر موقفاً من عدة سنوات من النوع السابق ، حدث فى الشارع الذى كنت أعيش فيه فى مدينة نصر ، وكان ذلك فى مناسبة (ربما ليلة رأس السنة الميلادية) ، عندما إختنق المرور –بعد منتصف الليل- فى الشارع أمامنا عند خروج المحتفلين فى الكنيسة المقابلة (وهى كنيسة رئيسية ضخمة) بعد نهاية الحفل،... و إرتفعت أصوات آلات التنبيه و صياح السائقين دون جدوى.... لا أعلم ما الذى دفعنى و أنا أقف فى شرفة الدور الخامس، أن أصيح بصوت عال على السيارات وطلبت من بعضها التراجع و من الآخر التقدم . و كانت المفاجأة أنها تجاوبت مع ندائى ، و نجحت فى خلال دقائق فى إعادة التدفق فى الشارع ، وسط ضحكات أسرتنا و تشجيعهم !!
من المؤكد أن إحتفالاً كبيراً فى مناسبة معروفة ومكان لتجمع لمئات الناس، كالذى ذكرت، كان من اللازم أن يكون تحت رعاية أجهزة الامن و المرور، وهو ما نراه فى بلاد العالم التى تحرص فيها السلطات على تأدية دورها لخدمة المواطنين ، و ليس فقط لحماية أمن النظام.
ذكر لى أحد الأصدقاء ، أنه كثيراً ما كان يضطر لأن يوقف سيارته عند أحد نقاط الإختناق المرورية ، و ينزل منها و يقوم بعمل شرطى المرور ، فى تنظيم الحركة بين السيارات المتزاحمة ، حتى تنساب تلك الحركة، لأنه بدون ذلك فإنه يبقى جالساً فى سيارته وسط صفوف السيارات الواقفة بلا حراك لمدة طويلة منتظراً رحمة السماء .
المواقف الهزلية السابقة ، تؤكد فكرة غياب الدولة أو تهاونها المدهش.
إذن علينا نحن الموطنون – فى ظل الدولة الرخوة و التى تمارس إنتقائية فاسدة، فى تطبيق القوانين - أن ننظم المرور بأنفسنا ، و أن نجد حلولاً للتخلص من القمامة ، و أن نعثر على ماء الشرب المناسب ، و أن نلجأ إلى الدروس خصوصية لنعلم أولادنا ... و ربما نضطر يوماً إلى حمل السلاح لتوفير الأمن لأنفسنا و أسرنا ، وهو ما بدأت تباشيره تلوح فى الحوادث التى نسمع بوقوعها من آن لآخر من قتال بالأسلحة النارية (الآلية !)، بين عائلات أو جماعات هنا و هناك، بسبب نزاعات كان من المفروض أن يكون القانون فيها هو الحكم ، و السلطة الشرعية صاحبة الكلمة العليا.
تلك هى الدولة الرخوة . التعدى على القانون تارة و تعديله تارة أخرى ، وفى كل مرة، لأسباب لا علاقة لها بالمصلحة العامة للناس والمجتمع. لاشك أن ذلك يؤدى دائماً لوقوع المظالم على الأبرياء ، و إلحاق الأذى بأناس لا ذنب لهم سوى أنهم إلتزموا بالقوانين و إحترموها. ذلك هو الفساد ، وسقوط هيبة الدولة و القانون ، و ضياع الحقوق و فقد الثقة فى أن العدالة يجب أن تكون فى جانب الشرفاء. لقد نفضت الدولة يدها من مسئولياتها ، وبات حماية و تأمين النظام و قمع الأنشطة السياسية المناوئة هو شغلها الشاغل .
وحتى لا نتوه فى التفاصيل ، و نفقد نظرة "عين الطائر" التى أعتقد أننا نحتاجها بشدة ، أحب أن أذكر القارىء بالنغمة الأساسية التى تقوم عليها هذه التنويعات : كما جاء فى كتابه الممتع، "مصر و المصريين فى عهد مبارك" ، شرح د.جلال أمين نظرية الدولة الرخـــــــــــــــــــــــوة للمفكر السويدى "ميردال" ، فقال : "...تكاد تكون هى سر البلاء الأعظم ، وسبباً أساسياً من أسباب إستمرار الفقر و التخلف . وهو يعنى بالدولة الرخوة: دولة تصدر القوانين و لا تطبقها ، ليس فقط لما فيها من ثغرات ، ولكن لأنه لا أحد يحترم القانون : الكبار لا يبالون به لأن لديهم من المال و السلطة ما يحميهم منه، و الصغار يتلقون الرشاوى لغض البصر عنه.
"....فى هذه الدولة الرخوة يعم الفساد إذن و تنتشر الرشاوى ، فرخاوة الدولة تشجع على الفساد، و إنتشار الفساد يزيدها رخاوة . و الفساد ينتشر من السلطة التنفيذية و السياسية إلى التشريعية ، حتى يصل إلى القضاء و الجامعات.
صحيح أن الفساد و الرشوة موجودان بدرجة أو بأخرى فى جميع البلاد، ولكنهما فى ظل الدولة الرخوة يصبحان نمط الحياة . " تلك حال الدولة التى سادت مع بداية ما سمى بعصر الإنفتاح ، منتصف سبعينات القرن الماضى ، و ما برحت تخيم على الحياة فى "مصرنا" ، بل و إزدادت تفاقماً لأنها تنمو فى الرخاوة و الفساد ككرة الثلج التى يزداد حجمها كلما إنحدرت فى طريقها إلى إلى أسفل التل.
وللحديث بقية.
asashour@gmail.com
لنفس الكاتب :
الهويــــــــــــــة الغـــــــــــــــــــائبة
تنويعـــــات على أنغام مصريــــــــــــــة (1)