تنويعـــــات على أنغام مصريــــــــــــــة (1)
...............................................................
| |
أشــــرف عاشــــور | |
بقلم: أشــــرف عاشــــور
.............................
زحام و فوضى و ضوضاء و قاذورات فى كل مكان . باتت تلك هى الصفات المميزة لمعظم أحياء و ضواحى القاهرة . حتى شوارع وسط البلد مثل قصر النيل ، طلعت حرب ..لا تستطيع السير على أرصفتها بعد أن صارت "مناطق محتلة" بواسطة بائعين عشوائيين يعرضون أشياءاً متنوعة ..ملابس...أحذية وشباشب ...أى شىء. لا يخضعون لأى رقابة أو محاسبة و لا يدفعون ضرائباً أو رسوماً أو إيجارات عدا ما يفترض من إتاوات يقال أنها تدفع لمن يوفرون لهم ملاذا آمناً و يعطونهم الحق فى إشغال الطريق دون محاسبة. كل هذا يحدث تحت سمع وبصر واحد من أعتى أجهزة الأمن و أضخمها فى العصر الحديث .
حيثما تول وجهك فى الأحياء السكنية ترى العجب العجاب من العشوائية و الفوضى المعمارية . أحياءاً كانت سكنية تتحول إلى تجارية، مناطق كانت بيوتاً صغيرة من دور أو دورين ، يفاجىء سكانها بناطحات سحاب تنشق عنها الأرض بين ظهرانيهم ، وتحول حياتهم جحيماً بما تحدثه من ضغوط شديدة على الطرق و المرافق و السيرفى الشوارع و الضوضاء...إلخ.
كلما قدت سيارتى فى شوارع القاهرة ونظرت إلى ما يفعله قادة السيارات من تصرفات غير منضبطة ، يقفز إلى ذهنى آية تصف حال أهل الجحيم يوم القيامة ، تقول فى سورة المدثر:
" كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) " و الآيات تشبه الكفار ،يومئذ، بقطيع من الحمير(ربما البرية) هاجمها السبع ، فإنطلقت هائجة فى كل إتجاه تطلب الفرار و النجاة بحياتها !
كل أنواع العبث و الفوضى مما لم يسمع به أحد من العالمين فى أى بلد عرف شيئاً من الحضارة ، بل أننى أزعم أنه قبل عصرالتنظيمات و العمارة الحديثة و قبل وضع أسس علوم تخطيط المدن و القواعد المتعارف عليها فى إنشاء الأحياء السكنية و التجارية ، عرفت مصر قدراً لا بأس به من التنظيم المعمارى و الرقابة على نشاط التجارو السكان و غيرهم – نظام الحسبة- كان يكفل لسكانها قدراً معقولاً جداً، بمقاييس العصور الوسطى ، من التحضر و الإنضباط .
إذا تخيلنا أننا نشاهد فيلماً تسجيلياً ، فليسمح لى القارىء أن أبدأ بلقطة بانورامية من شرفة مسجد محمد على بالقلعة، و لنوجه البصر فى إتجاه الغرب ، لنرى مساحة لا بأس بها من القاهرة و الجيزة، من عل . إذا أقدمت على تلك التجربة ستجد أمامك بحراً هائلاً من العمران يصعب تمييز تفاصيله أو معالمه – خاصة مع وجود غيمة التلوث التى تحيط بكل شىء – إلا قليل من المعالم الشديدة التميز و التى قد يساعدك على تمييزها علمك المسبق بأنها موجودة، مثل برج القاهرة، ومآذن بعض المساجد المشهورة...إلخ .
إذا ألقيت تلك النظرة البانورامية- كما فعل كاتب هذه السطور منذ عدة سنوات- فى يوم صحو،قد يمكنك أن ترى أهرامات االجيزة فى الأفق (لا أعدك بأن تتمكن من رؤية المنظر نفسه الآن) ، وذلك شىء رائع بالتأكيد. ولكن للاسف لن تكتمل فرحتك لأنك سوف تلاحظ بناية مرتفعة جداً، تقف منفردة شامخة كالخازوق فى وسط ما بدا أنه أحياءاً سكنية قديمة ، مبانيها ذات إرتفاعات عادية.
لفت نظرى ذلك المشهد ووقفت عدة دقائق أتأمل ما أراه و دار فى ذهنى خاطر قد يبدو غريباً .
أغلب الظن أن تلك البناية الخازوقية قد شيدت بشكل مخالف للقانون ، ولكنها قننت وضعها فى مرحلة تالية للإنشاء . وهذا الظن بنى على ما أعرفه من أنظمة البناء فى مصر و التى تحدد أقصى إرتفاع فى مكان معين، مثلاً بستة أدوار، ولكن جرى العرف أن يقوم المالك ببناء إثنا عشر طابقاً- مثلاً - ثم يسدد غرامة و"يتصالح" مع السلطات !!!
إذا إفترضنا أن ذلك العمل مخالف أساساً للقانون، فكيف يتم دون أن يتصدى القانون لمرتكبه و يمنعه ؟
لو قارنا تلك الجريمة بجرائم أخرى مثل السرقة، الإعتداء على الممتلكات أو الأرواح، التربح من الوظائف العامة أو الرشوة وإستغلال النفوذ...إلخ ، سنجد أننا بإزاء مفارقة مثيرة للعجب. كل هذه الجرائم وغيرها ، ينزع مرتكبها إلى نوع من التخفى أو السرية ، وقد يفضل الإقدام عليها تحت جنح الظلام وفى غفلة من رجال القانون و القائمين على حمايته . وهذا شىء منطقى ومفهوم تماماً. ولكن فى حالة إرتكاب جريمة المبانى المخالفة فإن المجرم لا يكتفى بإقترافها فى وضح النهار و أمام جمع من الناس و أمام الشهود من جميع الفئات و الأعمار، بل أنه يؤكد جريمته و يقيم نصباً تذكارياً شاهداً عليها غير عابىء بمؤاخذة أو عقاب.
عملية بناء دور – ناهيك عن بناء خمس أو ست أدوار- فى إحدى البنايات لا يمكن أن تتم فى طرفة عين كمن يغافل ضحية فى مكان مزدحم و ينشل محفظته أو يسطو على مسكن تحت جنح الظلام و يهرب بعد الإستيلاء على بعض المجوهرات أو المنقولات، فالموضوع الذى نحن بصدده مختلف تماماً. فالبناء نشاط معقد و يمر بعدد من المراحل و يشترك فيه عدد غير قليل من العمال و الفنيين وهو – خاصة فى بلادنا- يرتبط بإحداث قدر لا يستهان به من الجلبة و الضجيج. كل ذلك يحدث وهو ما يعد - نظريا على الأقل – إعداداً وتنفيذاً للجريمة ، بينما السلطة و رجالها غافلون او متغافلون تماماً عما يحدث.
السؤال الذى يتبادر إلى ذهنى ، هو كيف ومتى تداعت الأحوال حتى وصلت إلى ما وصلت إليه ؟
يربط نفر من الناس هذه الظواهر وغيرها من الفوضى و العبث بالقوانين و الإستهتار بالأنظمة ، بما أحدثته ثورة يوليو من تغييرات إجتماعيةعلى طبيعة الحياة فى مصر وبالمشاكل التى نشأت جراء هجرة أعداد كبيرة من سكان الريف إلى القاهرة ، و إزدياد عدد السكان ، و التحولات الإجتماعية العنيفة التى إنعكست على منظومة القيم و العادات و التقاليد التى عرفها المصريون . ويذهب بعضهم إلى الترحم على ما كانت عليه الحال فيما مضى ، و يتذكرون كيف كانت شوارع مثل سليمان باشا (طلعت حرب ) وقصر النيل وغيرها ، غاية فى الجمال و النظافة ، و أن بعض مناطق القاهرة، كانت كأنها " قطعة من أوروبا "، كما أرادها يوماً الخديو إسماعيل. ويعزو هؤلاء عادة ، ذلك التدهور الذى لحق بالقاهرة وغيرها من المدن المصرية – تبسيطا للأمور و حتى لا "نوجع أدمغتنا" – إلى ما فعلته ثورة يوليو بنا و بالبلد ! بل أنى أذكر أنى سمعت يوماً إحدى سيدات الصالونات وهى تصرح بأن مصر – فيما سبق – كانت "حلوة" بفضل بهواتها و بشواتها و تستنج أن تلك "الحلاوة " زالت مع زوال تلك الأبهة التى كان يسبغها هؤلاء على طابع الحياة فى مصر !
وقد يكون للأسباب السابقة منفردة أو مجتمعة إنعكاسات على شكل الحياة و المجتمع بصورة أو بأخرى.
ولكن الحقيقة – فى نظرى – غير ذلك.
ومن أسف فإن الكثيرين منا ، لا يقفون أمام ذلك الموضوع ليعطونه ما يستحق من التركيز و الإهتمام. وقد لاحظت أن هناك فئتان رئيسيتان فى مجتمعنا . الأولى ، الأصغر سناً ، و هم من ولد فى أواخر الخمسينات و ما بعدها ، وهؤلاء بدأوا يتعرفون على الدنيا و تتفتح مداركهم مع أوائل السبعينات ، و من الصعب أن يكونوا محتفظين بذكريات لها قيمة ترجع إلى ما قبل تلك السنوات.
الفئة الثانية هى من كبار السن الذين عاشوا و عرفوا كيف كان شكل الحياة فى مصر فى الخمسينات و الستينات – والبعض ربما يدرك ما كانت عليه فى الأربعينات- و بالطبع هم عاشوا الحقب المتوالية حتى وقتنا هذا. هؤلاء يعرفون . ولكن السؤال هل الصورة و تعاقب الأحداث الموجودة فى أذهانهم – وأنا منهم – هى صورة بانورامية ...أو صورة "عين الطائر" بتعبير المعماريين ؟ بمعنى أنك حين تقف على الأرض فإنك لا ترى سوى ما يحيط بك ، بينما لو تخيلت أنك تنظر من عل – كالطائر- عبر المراحل الزمنية فإنك ترى الأمور بشكل مختلف ، غالباً ما يكون أكثر تعبيراً و دلالة للدارس و المتأمل .
من عاصر الحياة فى مصر من أوائل الخمسينات ، يمكنه أن يتذكر كيف كانت الحياة حتى أوائل السبعينات.
أستطيع – كشاهد عيان- أن أؤكد أن الحياة فى مصر وفى القاهرة بالتحديد، كانت منضبطة و منظمة إلى درجة لا بأس بها . هى لم تكن مثالية بكل تأكيد ، و أين يوجد المجتمع المثالى أصلاً ؟
و لكن المراقب المنصف لابد أن يعترف بأن مدن مصر و قراها، كانت إلى حد كبير منضبطة ، للقانون فيها إحترامه، و الكثير من العيوب و المشاكل الناتجة عن الفوضى و الفساد الإدارى و الإستهتار بالنظم و القوانين و التفنن فى الإلتفاف من حولها و تجاوزها كان فى أضيق الحدود.
وسأستعرض عدة جوانب من حياتنا لتوضيح ما أريد :
- نظم البناء و الإسكان.
- الشارع و المرور .
- التعليم .
- الضوضاء و مكبرات الصوت.
- إحترام الشرطة و رجال الأمن.
و بالرغم من أننى للأسف لا أملك البيانات الرقمية والإحصائيات، وليست عندى النية و لا القدرة على تقديم دراسة علمية فى هذا الصدد، إلا أننى أثق أن كل من عاصر التطور الذى حدث فى بلدنا على مدى الفترة من أوائل الخمسينات إلى الآن ، سيتفق معى فيما أنا ذاهب إليه. أو على الأقل فذلك ما آمله.
حسناُ. إذن فسوف أتكلم من واقع تجربتى الشخصية ، و سأحاول قدر ما أستطيع الحرص على أن تكون تلك التجربة نموذجاً واقعياً ومعبراً و ليست حالة شاذة أو غريبة عن الوضع العام.
و لنبدأ بموضوع نظم البناء و الإسكان و كيف سارت الحال فى ذلك الجانب، عبر ست حقب من الزمن ، خاصة فى القاهرة.
أزعم أن عمليات البناء فى القاهرة حتى منتصف السبيعنات كانت تخضع للقوانين، ولم يكن هناك تجاوزات ، و حتى إن وجدت فقد كانت نادرة الحدوث، لدرجة أن معظمنا لم يلمسها أو يشعر بها ، وربما لم تتجاوز مخالفات بسيطة للغاية لا يدركها سوى الفنيين و المتخصصين . أسوق هنا أمثلة من التجربة الشخصية .
قام والدى ببناء بيت للأسرة فى أطراف المعادى ، ضمن تقسيم أراض لجمعية لأساتذة الجامعة . و بالرغم من أن المكان كان قصياً، و يقع على حدود الصحراء ، فقد تعرضنا للمخالفة مرتان. الأولى بسبب وجود كمية من رمل المبانى على رصيف قطعة الأرض الجارى بناءها، مما يعد إشغالاً للطريق(كانت تمر عدة أيام دون أن نرى إنساناً يسير فى ذلك الطريق) ، و الثانية بسبب بناء سور مصمت يحيط بحديقة البيت ، ولم تكن قوانين البناء فى المعادى تسمح إلا بإرتفاع صغير (ربما لم يكن يتجاوز نصف المتر) بالشكل المصمت ، على ان يستكمل باقى الإرتفاع بسور من السلك لتنمو عليه النباتات المتسلقة حفاظاً على طابع المنطقة و الذى كان يتسم بكثرة الأشجار و النباتات ...إلخ
الشىء المهم ، هو أنه فى الحالتين لم نفكر سوى فى الإنصياع وإزالة المخالفة مع تسديد الغرامة فى الحالة الأولى ، و هدم السور المخالف فى الحالة الثانية .
ومثال آخر ، هو حى مدينة نصر. بدأ إنشاء ذلك الحى فى أواخر الخمسينات ومع نمو محدود فى الستينات. كان تخطيطاً نموذجياً من حيث إتساع الشوارع ، و تحديد الإرتفاعات ، و مراعاة عمل ما يكفى من الحدائق و المساحات الخضراء ، و تحديد مدروس للمناطق تجارية و الأسواق ووسائل الترفيه ، مما تفرضه الأصول المتبعة فى تصميم المدن . و يمكن للمتخصص فى" دراسة الآثار" أن يتتبع التطور العمرانى فى ذلك الحى حتى وصل إلى ما وصل إليه الآن، من خلال دراسة المبانى القديمة و التى ترجع إلى فترات العهود الأولى لذلك الحى و ما تبقى من بعض المنشآت الأصلية مثل مناطق الأسواق و المحلات ، و التى و إن بقي بعضها على حاله إلا انها باتت كيانات غريبة شاذة وسط غابة من المبانى و المنشآت المستحدثة التى ضربت عرض الحائط بكثير من القواعد و النظم و صارت تهيمن على الجو العام بحيث أصبح هناك شعور عام بان تلك المبانى و الاسواق القديمة ما هى إلا بؤر أو جيوب تحارب معركة خاسرة لتبقى شاهدة على حضارة آفلة، هُزمت أمام زحف القبائل الهمجية، كما حدث للإمبراطورية الرومانية ، التى سقطت تحت ضربات القبائل الجرمانية الهمجية، أو الإمبراطورية العباسية التى سقطت أمام الغزو الوحشى لقبائل التتار .
نشأ فى نفس الفترة حى جديد وجميل فى الناحية الأخرى من القاهرة (أو بالأحرى فى الجيزة) وهو حى المهندسين. و لابد أن بعضنا قد عاصر سنوات الستينات حينما كان ذلك الحى يتألف من مجموعة من الفيللات التى تتخللها بعض الأراضى الزراعية.
ولتبدو الصورة واضحة لمن لم يعاصر تلك الأيام، ونظراً للتفاوت الهائل بين حال و حال ، فإنه لجدير بالذكرأن من المشاكل وقتها لسكان ذلك الحى أو زوارهم ، هى أن المنطقة كانت شديد الهدوء و ذات كثافة سكانية منخفضة للغاية ، مما يجعلها تبدو موحشة ، خاصة فى الليل. لم تكن وقتها السيارات متوفرة إلا لفئة قليلة من أبناء الشعب، إذ كان أغلب أبناء الطبقة المتوسطة و الفقيرة يعتمدون على وسائل المواصلات العامة، فكان السير فى شوارع ذلك الحى وصولاً للشوارع الرئيسية التى يتوفر بها وسائل المواصلات يبدو كمغامرة غير مأمونة العواقب .!
ماسبق ينطبق تماماً على أحياء كثيرة أخرى فى القاهرة مثل حى المعادى...جاردن سيتى...ضواحى الجيزة. والسؤال هو متى تغير الحال فى تلك المناطق و غيرها و كيف ؟
طالما فكرت و تأملت فيما حدث . سمعت كثيراً عن جرائم مرحلة الإنفتاح التى بدأت فى منتصف السبعينات فى مصر ، وأنها مسئولة عن بداية العبث و الإستهتار بالقوانين ، و جميع أنواع التسيب و الفساد الذى ساد فى حياتنا منذ تلك الفترة و إستمر فى التفاقم حتى وصل إلى ما وصل إليه الآن .
تلك المقولة فى رأييى لم تجانب الصواب . وكلنا يذكر صيحة الفزع التى أطلقها الكاتب و المفكر الكبير، الأستاذ أحمد بهاء الدين عندما قال عبارته الشهيرة "الإنفتاح ليس سداح مداح" !
ولكن كيف يكون مجرد الإنفتاح على العالم (وهو على ما أعتقد أصل تعبير الإنفتاح) و التخفف من بعض قيود النظام الإشتراكى الصارمة بإتاحة الفرصة للإستثمارات ، المحلية و الأجنبية، و تشجيع القطاع الخاص على ممارسة دورٍ فى التنمية ، مدعاة لكل ما حدث من تداعيات خطيرة أدت إلى هدم أسس الحياة المدنية و المتحضرة و التى عرفتها بلادنا منذ فترة طويلة ؟
أتفق أيضاً مع الرأى القائل بانه خلال العقود الأربعة أو الخمسة الماضية حدث ما يسمى "بأريفة المدينة، و تمدين الريف". أو بتعبير آخر إنتقال الكثير من قيم وعادات القرية مع اهلها إلى المدينة ، و إنتقال بعض أساليب و أفكار المدينة إلى القرية. ولكن هل ذلك يعنى بالضرورة إنهيار النظم وإستباحة القوانين الراسخة و المتأصلة و التى يقوم على حمايتها اجهزة الدولة و التى كان لها هيبة و سطوة غير قليلة ؟
فى مقال للأستاذ أحمد بهاء الدين وقتها، وردت عبارة هامة و ذات دلالة عظيمة :
" لقد سقطت هيبة الدولة ".
لم يكن فى الأفكار السابقة بعداً عن الحقيقة ، أو مجانبة للصواب ، ولكن تبقى أفكاراً مبعثرة كقطع من اللغز التى لازالت عاجزة عن تشكيل صورة مترابطة يجمعها منطق قوى و مفهوم.
نجح أخيراً الدكتور جلال أمين فى صياغة مقنعة وجامعة لما سبق . و أسوق هنا فى بضعة أسطر ما قاله أستاذنا الكبير فى كتابه الأخير "مصر و المصريين فى عصر مبارك" .
يقول الدكتور جلال أمين فى الفصل الأول من كتابه الممتع، أن عالم إجتماع و إقتصادياً سويدياً مرموقاً، إسمه "جنار ميردال" وضع كتاباً فى أواخر الستينات و أتبعه بآخر فى أوائل السبعينات ناقش فيهما مشاكل الفقر و التخلف فى بلدان العالم الثالث وشرح ما سمى بـنظرية "الدولة الرخوة" كسبب رئيسى للتخلف فى تلك البلدان.
الدولة الرخوة ، كما قال يقول الدكتور جلال أمين، شارحاً نظرية "ميردال" ،
"...تكاد تكون هى سر البلاء الأعظم ، وسببا أساسياً من أسباب إستمرار الفقر و التخلف . وهو يعنى بالدولة الرخوة: دولة تصدر القوانين و لا تطبقها ، ليس فقط لما فيها من ثغرات ، ولكن لأنه لا أحد يحترم القانون : الكبار لا يبالون به لأن لديهم من المال و السلطة ما يحميهم منه، و الصغار يتلقون الرشاوى لغض البصر عنه.
الرخص والتصريحات معروضة للبيع، سواءاً لبناء غير قانونى أو لإستيراد سلعة ممنوعة، أو لإسترداد ضريبة واجبة الدفع، أو لفرض حماية لسلعة مسموح بإستيرادها...إلخ. و القيود لا تفرض إلا لكى يثرى البعض من كسرها و الخروج عليها...."
"فى هذه الدولة الرخوة يعم الفساد إذن و تنتشر الرشاوى ، فرخاوة الدولة تشجع على الفساد، و إنتشار الفساد يزيدها رخاوة . و الفساد ينتشر من السلطة التنفيذية و السياسية إلى التشريعية ، حتى يصل إلى القضاء و الجامعات.
صحيح أن الفساد و الرشوة موجودان بدرجة أو بأخرى فى جميع البلاد، ولكنهما فى ظل الدولة الرخوة يصبحان "نمط الحياة" . "
وللحديث بقية.
لنفس الكاتب : الهويــــــــــــــة الغـــــــــــــــــــائبة
asashour@gmail.com
06/11/2014