الإنسان المقدس! في إمبراطورية خلق الأماكن أو الفضاءات
...............................................................
| |
الانسان المقدس | |
بقلم : مسعد غنيم
.....................
خلافا لقواعد الكتابة، ربما آن الأوان لحديث شخصي، فقط لأعتذر لكثير من السادة القراء الذين بادروا مشكورين بنقد ما أكتب من حيث صعوبة التعبيرات والتركيب المعقد للمعاني. وقد يكمن بعض العذر في أن ما أتعرض له بالكتابة يتجه في أغلبه إلى غير المطروق بالقدر الكافي من فروع العلم في ثقافتنا ونظامنا التعليمي، وأحدها علم الجغرافيا السياسية. وهو العلم الذي اعتبره علما جامعا للكثير من فروع المعرفة، وأعتقد أننا في أشد الحاجة إلى قراءته على الأقل، فهو، بطبيعة تعرضه للجغرافيا البشرية والاقتصاد والسياسة، قادر على تفسير طبيعة القوى المحركة لتاريخ منطقتنا والعالم، ونجتهد في تفسيرها من مواقع الانطباع بأكثر منها منابع العلم، فنظل ندور في حلقات مفرغة تبعدنا أكثر فأكثر عن مسار الحداثة وما بعد الحداثة، وهي التي تنطلق أصلا بسرعة غير مسبوقة في التاريخ الإنساني جعلت حجم المعرفة الإنسانية، في نظر البعض، يتضاعف كل خمس سنوات! (بقياس عدد براءات الاختراع)، ونحن، في الغالب الأعم، لا نكاد نشعر بأي تغيير، بله تقدم، سوى في موديل التليفون المحمول والكمبيوتر.
أما عذري فيما يخص أسلوب الكتابة، والذي أرجو أن يتقبله القارئ، هو أنني في معظم ما أكتب لست بأكثر من ناقل معرفة، وأحرص دائما على نقل النصوص من المراجع والكتب كما هي تحريا للأمانة والدقة، وإذا علقت عليها فيجب أن أعلق بنفس مستوى الكتابة والأسلوب. ولأنها في الغالب كتب علمية متخصصة، فإن أسلوبها قد لايناسب ظروف معظم السادة القراء بحكم ضيق الوقت وضغوط الحياة التي تستلزم التخفيف والتبسيط. ومن هنا فإني أتصور ما أكتب تحت عنوان "انطباعات رجل عادي"، ليس بكتابة بقدر ما هو "قراءة مشتركة"، أو بمعنى أوضح هو دعوة للسادة القراء إلى المشاركة فيما أقرأ من كتب، وعدم الاكتفاء بمجرد قراءة المقال الذي هو غالبا عبارة عن ملخص، وهو مبتسر في معظم الأحوال، قياسا على حجم المعرفة الأصلية. والغرض من كل ذلك هو نقل أكبر قدر من "التنويه" عن المعرفة في سباق لايرحم أحدا، وأعتقد أن تغييرا في بعض من عاداتنا في "قلة القراءة" وعدم السعي نحو الجديد لنقرأه، قد أصبح واجبا، أم هل أقول "لازما"، ببعض من الإرادة، وبكثير من الخوف من عالم لن يرحم "من لايعرف"؟!
والآن إلى المقال الجديد: في مقال سابق (سياسة الهوية بين الحداثة والهيمنة) استعرضنا سويا ملخص مبتسر لبعض أجزاء كتاب "الجغرافيا السياسية: الاقتصاد العالمي، والدولة- الأمة والمحلية" (2007)، شارك في كتابته د.كولين فلنت أستاذ زائر الجغرافيا في جامعة إلينوي بالولايات المتحدة، و د. بيتر تايلور أستاذ الجغرافيا بجامعة لوبروف بالمملكة المتحدة، والكتاب مهدى للدكتور إيمانويل وولرشتاين الجغرافي الشهير صاحب نظرية "المنظومة العالمية". وفي ذلك الملخص تعرضنا لمثلث الهوية والحداثة والهيمنة، والأهمية المتزايدة لإشكالية الهوية. وفي هذا المقال نستكمل جزء آخر من الكتاب هو بمثابة نتائج المقال السابق، وتأتي أهميته الخاصة من انطباق تلك النتائج في جوهرها وفي المقام الأول على عالمنا العربي والإسلامي، رغم عمومية الدراسة وعالمية النتائج.
تعتبر ثقافة المجتمع وفي قلبها العقيدة الدينية هدف رئيس لقوى الهيمنة على مدار التاريخ بصفة عامة، وفي القرن الواحد والعشرين اكتسب هذا الهدف أهمية أكبر حجما وأكثر عمقا مع الهيمنة الأمريكية في تقاطع الجيوسياسة مع الجغرافيا الإنسانية. ويمكن فهم ذلك بسهولة بعد تصفية الصراع الغربي- غربي بعد حربين عالميتين بنهاية النصف الأول من القرن العشرين، وبانتهاء الحرب الباردة مع الشرق السوفييتي مع نهايات القرن. من زاوية أخرى فقد انعكس البعد التكنولوجي للحداثة وما بَعدها في الفارق الرهيب في مستوى القوة الشاملة بين قوى الهيمنة والشعوب المقهورة، ففي شرقنا العربي الإسلامي، نجحت الهيمنة في تحويل الأماكن إلى فضاءات بحسب تعبير كتاب الجغرافيا السياسية، مجرد فضاءات تم فيها استباحة حياة الإنسان بفصل وجوده المادي عن وجوده السياسي بتحويله إلى "إنسان مقدس!" بحسب التعبير المعكوس للفيلسوف الإيطالي جورجيو أجامبين في كتابه "الإنسان المقدس!: قوة السيادة والحياة العارية - 1998Homo Sacred: Sovereign Power and Bare Life ".
الإرهابي "إنسان مقدس!"
يُعًّرف أجامبين الإنسان المقدس! (تم إضافة علامة التعجب زيادة على أصل التعبير بالإنجليزية، لبيان التناقض المقصود في المعنى) بأنه: " الإنسان الذي يمكن قتله ولكن لايمكن التضحية به (للآلهة)، بما يشكل تناقضا منطقيا يراه أجامبين واضحا في حالة الفرد الحديث الذي يعيش في منظومة تفرض سيطرتها على "الحياة العارية" لكل الأفراد."، ويقول بأنه "منذ الأطروحات الأولى للنظرية السياسية، خاصة فكرة أرسطو أن الإنسان حيوان سياسي، وطوال تاريخ الفكر الغربي حول السيادة (سواء من الملك أو الدولة)، فإن فكرة السيادة كقوة فوق "الحياة" هي فكرة ضمنية واضحة."
أكمل أجامبين في 2004 عمله على ذلك التصنيف التاريخي لـ"الإنسان المقدس! Homo Sacer". وهو معنى مرتبط أصلا بالإمبراطورية الرومانية. وهو لقب كان يعطى للأعداء الذين يعتقد بأنهم ليسوا بمقدسين، وبالتالي كانوا خارج رعاية القانون الإلهي، كما أنهم ليسوا خاضعين للقانون (الروماني)، وبالتالي لا يستحقون الحماية القانونية وإجراءاتها. وبكلمات أخرى فالإنسان المقدس! يمكن قتله بدون أي تبعات قانونية، أو بالتعبير العربي "مهدر دمه"، أو بالبلدي "مالوش دية" أي يمكن قتله بدون استحقاق دية.
يقول مؤلفا كتاب الجغرافيا السياسية: "الإنسان المقدس! تعبير استخدمه أجامبين وغيره من الدارسين لاستكشاف طبيعة الجغرافيا السياسية للحرب على الإرهاب، ويتمثل أحد مظاهرها في تجريد الأماكن المستهدفة للهجوم في الحرب على الإرهاب من صفة الإنسانية، مثل العراق وأفغانستان وفلسطين، تصور على أنها فارغة حيث ينكر عليها حدوث الأنشطة الإنسانية اليومية. وفي جزء من تلك البنية الجغرافية السياسية، فإن سكان تلك الأماكن تم اختزالهم في كونهم "إرهابيون"، وهذا التعبير له بنية مزدوجة، فكل فرد في مكان معين يرى على أن له دور واحد، فتعبير "إرهابي" هو تعبير معاصر مرادف لتعبير الإنسان المقدس!، وبالتالي يمكن استهدافه وقتله بدون أي تبعات، وغالبا عن بُعد، بالقصف الصاروخي أو اليورانيوم المستنفذ."
متناقضة الجغرافيا النسائية
ولكن بذلك تظهر متناقضة في الخطاب المهيمن الأمريكي، حيث أن قتل النساء في مثل تلك الغارات يتناقض مع مفهوم "الجغرافيا النسائية" الذي يتصدر خطاب الهيمنة الأمريكي، والذي يتلى علينا في شرقنا العربي والإسلامي بإلحاح مريب في مقولة "تمكين المرأه"، تلاوة في صور شتى تبدأ بالكلمة والخبر ولا تنتهي بالمسلسل التليفزيوني أو الفيلم السينمائي، فهي شرط أساسي لايغيب أبدا في أي منحة غربية أو قرض دولي. يقول مؤلفا كتاب الجغرافيا السياسية نقلا عن الفيلسوف الإيطالي أجامبين أنه لحل تلك المتناقضة بشأن قتل النساء في البلاد الفضاء (الشرق العربي والإسلامي) مع المناداة بحقوق المرأة، فإن قوى الهيمنة قد صاغت البنية الجيوسياسية للـ"الإنسان المقدس!" بإنكار حق الإنسانية على أفراد البلاد الفضاء. ولفعل ذلك فقد تطلب الأمر صياغة وجودهم باعتبارهم كائنات موجودة بالضرورة (تصادف وجودهم في الموقع المستهدف!)، وبدون تعقيد تعدد الأدوار: فلا دور للأم أو الأب أو الزوج أو الزوجة أو الأخ أو الأخت وهكذا.
ويضيف المؤلفان: " ولكن تعبير الإنسان المقدس ليس فقط عن مدى تمثيل الأفراد والأماكن والدول، ففي الحرب على الإرهاب استلزم الأمر بناء فضاءات مادية خارج نطاق القانون، أو خارج التعاطف الإنساني، ويمثل معسكر أشعة إكس في سجن جوانتانمو أكثر الأمثلة وضوحا، حيث تم سجن مواطنين من كل أنحاء العالم بدون حماية قانونية، فهم خارج أي نظام قضائي قومي أو محكمة دولية. لقد تم دمغهم بصفة ’مقاتل غير قانوني"، وهو تصنيف لم يوجد من قبل حتى اخترعته إدارة الرئيس بوش الإبن. إن معسكر أشعة إكس في جوانتانمو هو فضاء يعرف نزلائه كـ"إنسان مقدس"، وهم خارج النظام القضائي المؤسس في الجغرافيا السياسية. وقد بقي المعسكر بالرغم من اللوم من الأمم المتحدة والحكومات. وحتى النائب العام البريطاني وقائد تحالف الولايات المتحدة كلاهما أعلن أن هذا المعسكر يجب أن يغلق." وجدير بالذكر أن الرئيس أوباما صاحب استراتيجية القوة الناعمة تراجع عن وعده بإغلاق المعسكر تحت ضغط أصحاب المصلحة في استمرار ممارسة أساليب الهيمنة الإمبراطورية في خلق الفضاءات داخل القانون وخارجه.
شكلان من الجغرافيا السياسية
يؤكد المؤلفان: "إن معسكر أشعة إكس في جوانتانمو هو فضاء للحرب على الإرهاب، وهو أحد الفضاءات المادية التي تم إنشاؤها وتبريرها في إطار تعريف ’الأماكن الإرهابية’. هذا هو العالم الذي نواجهه، فلدينا شكلان متنافسان من الجغرافيا السياسية يعينانا في فهم وبناء المستقبل على ضوئهما. إحداهما هي تقسيم العالم إلى فضاءات بسيطة بها أناس مجردون، يعتقد أنهم يشكلون تهديدا ويجب أن يتم السيطرة عليهم أو قتلهم. والأخرى هي جغرافيا سياسية لأماكن داخل البنية السياسية والاقتصادية للعالم الاقتصادي الرأسمالي، وهي تهدف إلى فهم تعقيد تركيبة البشر والأماكن حول العالم، وتؤدي إلى التعاطف معهم،. والجغرافيا السياسية الأخيرة هي التي نوصي بها." تلك كانت خاتمة كتاب الجغرافيا السياسية لمؤلفيه د.كولين فلنت و د.بيتر تايلور.
الفضاء العربي الإسلامي
رغم كل الزخم الإعلامي الفضائي الغربي لتجميل شكل نتائج فعل قوى الهيمنة التي حولت معظم أوطاننا العربية والإسلامية إلى مجرد فضاءات، فإننا نعايش ونستشعر كل يوم مهانة صفة ’الرجل المقدس’ كما جاءت بكتاب الجغرافيا السياسية. ورغم خطاب أوباما الودود في القاهرة منطلقا من استراتيجية القوة الناعمة، فقد تراجع عن إغلاق معسكر جوانتانمو، وتركه فضاءا ماديا خارج نطاق القانون القومي والعالمي.
مثال نراه متكررا عبر الفضائيات كل حين عن "أفغانستان: مقتل أسرة من بضع وعشرة فرد بينهم نساء وأطفال بقصف من طائرة يعتقد أنها أمريكية". ودلالة الخبر واضحة، فقوى الهيمنة الأمريكية في معركتها الجيوسياسية في أفغانستان ضد كل من الصين وروسيا، لايعنيها حتى أن تبرر مقتل العشرات من النساء والأطفال، لأن أفغانستان ببساطة لم تعد مكانا لبشر يسكنونه، بل فضاء يعيش فيه أفراد موجودين بالضرورة أو "الإنسان المقدس!"، وبالتالي لايحظى برحمة إله الغرب ولا يصلح حتى قربانا له، ولايتمتع بحصانة القانون الأمريكي فلا يحاسب أحد على قتله، ولا يستحق حتى الإعلان عن قتله باعتباره عدو (ذو أهلية) سقط في المعركة!.
لهذا لا نسمع في الخبر الفضائي عن أي صفة من تلك الصفات لهؤلاء "القتلي"، بل هم مجرد "أفراد" أو أعداد، بينما أهم صفة في خبر مقتل مواطني دولة الهيمنة في حربها الإمبريالية هي صورة الزوج الذي تستقبل جثمانه الزوجه والابن. ونستطيع أن نفسر لماذا نسمع دائما خبر الجندي الإسرائيلي الأسير لدى الفلسطينيين مقرونا باسمه "شاليط" بينما في المقابل يشار فقط إلى "الأسرى الفلسطينيين" بلا أسماء أو صفات، مجرد أعداد، فأولا وأخيرا " فًهُــمُ كُـــثـُرْ"!. كما نستطيع أن نفهم عندما قتل جندي إسرائيلي وبدم بارد الطفل الفلسطيني محمد الدرة في بث مباشرعلى شاشات التليفزيون،أن هذا الخبر كان له وقع خطير ليس فقط لمجرد إذاعته على الهواء مباشرة ولكن لأنه كان يصف إبنا قتل في حضن أبيه وبالإسم، كان إنسانا وليس "إنسانا مقدسا!" أو مجرد رقم في إحصائية عن عدد قتلى الأطفال الفلسطينيين بيد الاحتلال الإسرائيلي خلال عام.
بل إن هذا الفضاء قد امتد مؤخرا ليشمل فضاء الكوكب كله، وذلك باستغلال، وربما بتخطيط، حادث وصف بأنه "محاولة إرهابية" لتفجير طائرة أمريكية بواسطة شخص نيجيري (مسلم طبعا!)، كان نتيجته رفع مستويات الأمن في المطارات فقط على مواطني 14 دولة معظمها عربي، بشكل يخترق خصوصيتهم الإنسانية، مما استدعى استنكار منظمات عديدة لحقوق الإنسان. وبتعريف الفيلسوف الإيطالي المعاصر جورجيو أجامبين، فقد تم إخراج مواطني تلك الدول من صفة الإنسان العادي إلى صفة ’الإنسان المقدس!’، ليس فقط في أماكنهم بعد أن حولتها الإمبراطورية الأمريكية إلى فضاءات مادية، بل في كل الفضاء العالمي عندما يختص الأمر بالسفر جوا.
متى؟ وإلى أين؟ وكيف؟
هل آن لنا أن نتعرف من خلال منهج العلم وحقائق المعرفة الإنسانية على حجم وقوة تيار التغيير الذي يجرفنا معه، شئنا أم أبينا؟ تيار لايعترف بخصوصة ثقافية إلا من باب التجمل الدبلوماسي، ولايعترف بمعظم بلادنا إلا كفضاءات جغرافية تمارس فيها قوى الهيمنة قوتها وتأثيرها لتشكيل العالم بقدر استطاعتها على ثقافتها هي ولمصلحتها هي؟ وهل يمكن أن نبدأ في فهم قوانين تلك الحركة البشرية الكونية؟ وهل يمكن أن نفهم سرعة تلك الحركة بما يكفي لأن ندور في فلكها بأكبر قدر من الاتزان الحضاري، اتزان لايخل به تحديث للهوية يبدو أنه لامفر منه أما جبروت قوى هيمنة ليست بجديدة على التاريخ البشري نوعا، وإن كانت كذلك قوة وحداثة. ربما يجب أن يبدأ هذا بتحديث الخطاب الديني على تنوعه واختلافه ما بين مسلم ومسيحي، كما طلب الرئيس مبارك، وكما أتفق معه على مضض شديد! بفرض اختلاف المنطلقات وتضارب الأهداف، ربما!.
30 يناير 2010