الهوية السياسية بين الحداثة والهيمنة
...............................................................
| |
دفع الضرر مقدم على جلب المنفعة | |
بقلم : مسعد غنيم
.....................
يقول كارل بوبر شيخ الفلاسفة المحدثين: " ليس السؤال هو كيف نُمَّكِن الأشخاص الجيدين من الحكم، ولكن السؤال هو كيف نمنع الأشخاص المتنفذين القابضين على مقاليد السلطة من إحداث المزيد من التدمير لنا قدر استطاعتهم." ويتسق ذلك مع القاعدة الفقهية الإسلامية التي تقول بأن "دفع الضرر مقدم على جلب المنفعة". يأتي هذا المدخل على خلفية مشروع اغتصاب (توريث) الحكم في مصر في سياق مقولة مصطفى الفقي الشهيرة عن الهيمنة الأمريكية الإسرائيلية على اختيار رئيس مصر القادم. يمكن تصور ذلك المدخل لإدارة صراع يبدو طويل المدى، مدخل يرفض الانبطاح أمام الهيمنة من حيث المبدأ، ويعتمد البراجماتية أو النفعية الأخلاقية من حيث الوسيلة. براجماتية لاتجعل بقاء مصر على حساب استقلالها، مثلما هو الحال مع مبدأ الاستقرار الذي يبرر به نظام الحكم الحالي وجوده، وفي نفس الوقت لا تجعل استقلالها تضحية ببقائها مع مبدأ المقاومة الذي تدعوا له قوى المعارضة في غيبة استراتيجية واضحة. كما يفترض أن يعتمد هذا المدخل على حيوية مصر التاريخية كما عبر عنها جمال حمدان بقوله: " ... فالحيوية هي أساسا القدرة على الامتصاص، وعلى امتداد الصراع. والقدرة على امتصاص الصدمات، كما يؤكد جوبليه، هي المقياس الحقيقي الوحيد لحيوية الشعوب والدول." إذن فأفضل الممكنات في حالة مصر - والسياسة هي فن الممكن- هو استراتيجية واقعية تتعامل مع نتائج عصر الهيمنة الأمريكية باعتبارها واقع محصلة القوى العالمية والإقليمية والمحلية حتى الآن على الأقل، بما فيها القوة الروسية التي استردت عافيتها الاقتصادية وكثير من قوتها السياسية، وقوة المارد الصيني بعد انطلاقه في نمو غير مسبوق.
الحداثة وسياسة الهوية يقول كولين فلنت وبيتر تايلور مؤلفا كتاب الجغرافيا السياسية (الطبعة الخامسة 2007)، أن الجماعة الإنسانية، على التوازي وفي نفس الوقت، تتأثر بالمؤسسات والتقاليد المحلية، وبممارسات السلطة المخولة، وبالضغوط العالمية، ويربطان ذلك التأثير بإطار فكري متعدد الأبعاد يصل في النهاية إلى بنية عالمية، هي الاقتصاد الرأسمالي العالمي، ويقترحان أن النمو الحالي في الاهتمام بسياسة الهوية يمكن أن يكون نتاج ديناميكا أو حراك عالمي، وأن دورات الهيمنة العالمية السابقة تاريخيا تساعدنا في فهم لماذا أصبحت سياسة الهوية ذات أهمية سياسية وأكاديمية.
وكان إيمانويل وولرشتاين الجغرافي الأمريكي صاحب نظرية "منظومة التاريخ العالمي"، كان قد أكد على الجوانب السياسية الاقتصادية للهيمنة، ولكن في سياق آخر، يضيف مؤلفا كتاب الجغرافيا السياسية، أن مفهوم الهيمنة له أيضا معنى ثقافي أكثر بكثير، وأن تلك "الهيمنة الثقافية" ليست أقل في الخصائص السياسية طبعا، وينتهيان بأن "الهيمنة العالمية" تحكمها قاعدة: أن الأفكار الحاكمة لمنظومة العالم هي أفكار الدولة المهيمنة، على الأقل في فترة قمة الهيمنة، وترجمة ذلك أنه يمكن القول بأن القرن العشرين كان "قرنا أمريكيا".
الهيمنة والحداثة
يوضح المؤلفان أن رغبتنا في أن نصير حداثيين أو "مودرن" أصبحت القوة المحركة الكبرى للتغيير سواء على مستوى الفرد أو المجتمع، وسواء تم تفسير ذلك على أنه "حاجة جماعية" لمجموعة من البشر تحاول أن تحدًّث مجتمعها، أو حاجة شخصية لفرد يحب أن يراه الجميع "على الموضة". ويؤكدان أن الإيمان بالحداثة قد يخفي جانبا غير متصور لها، وهو الممارسات اللأنسانية المتمثلة في مجازر التطهير العرقي مثلما حدث في رواندا والبوسنة (وما يجري في فلسطين من حصار وقتل في غزة من قبل إسرائيل)، فتلك كلها أمور حداثية تمت في ظل مفاهيم عصرية وباستخدام تكنولوجيات حديثة.
وفي إطار تعريفهما للحداثة، يؤكدان على أن شرط الحداثة يشتمل على "معنى مزدوج"، وهو الميل المتزامن نحو كل من التغيير السريع من جانب، والنظام المحكم من جانب آخر. بمعنى أنه لكي نمارس الحداثة يجب أن نعيش في تغيير هيكلي إلى الأبد، ولكن كبشر حداثيين فإننا نحاول دائما أن نتحكم في ذلك التغيير حتى نجعل الحياة مُعَاشة. وباختصار فإننا نحاول أن نروض التغيير الحداثي المتواصل من خلال المشروعات، على كل من المستوى الشخصي و السياسي، لبناء الاستقرار، وتأتي تلك المشروعات في أشكال وأحجام متعددة، وكثير منها ذو طبيعة تتعلق بالأرض، أي أن الاستراتيجية هنا هي حماية الناس في الحيز المحلي. وأكثر الأمثلة المعروفة لتلك المشاريع هي التخطيط القومي والأمان الاجتماعي، ففي الأول يتم تحقيق الاستقرار من خلال الحماية من عدم اليقين المرتبط بالسوق العالمي، وفي الثاني من خلال خلق مجال آمن من ضغوط وإجهاد سوق العمل.
وتطبيقا لهذا المفهوم للحداثة، فيمكننا أن نرى بسهولة حجم الغياب شبه الكامل لكل من المشروعين في حالة مصر، ففي اندفاعة الخصخصة في العقد الأخير تم الفصل بين السياسة (المساواة السياسية) وبين الاقتصاد (العدل الاجتماعي) وتحول الأمر إلى حقوق سياسية شكلية في غياب الحقوق الاقتصادية لتجد ترجمتها في تصاعد فجوة الدخل والثروة وإهمال معاناة عامة الناس وزيادة عناصر عدم الاستقرار، وقد اثبت ذلك أحمد السيد النجار الخبير الاقتصادي المصري بمركز الدراسات الاستراتيجية بالأهرام في كتابه "الانهيار الاقتصادي في عصر مبارك" الذي لا يعتبر فقط كرسالة موثقة ضد النظام، ولكن أيضاً كإثبات فشل الآداء الاقتصادي حتى بالمعايير التي اختارها النظام وحلفائه في واشنطن، وهي معايير الليبرالية الجديدة والاقتصاد الكلاسيكي الجديد. وهذا يجرنا مباشرة إلى الحديث عن الهيمنة.
الهيمنة والعامل الصهيوني
السؤال الآن؛ ما علاقة كل هذا الحديث عن الحداثة بقوى الهيمنة؟ الأمر بسيط للغاية، كما يقول مؤلفا كتاب الجغرافيا السياسية، "فإن الهيمنة هي مصدر عمليات إعادة الهيكلة العظمى في الاقتصاد العالمي، والتي أطلقت تغييرا اجتماعيا كاسحا وحالة عدم يقين في المنظومة العالمية كما وصفها إيمانويل وولرشتاين. وبينما تمتد التطورات الاقتصادية المرتبطة بالهيمنة عبر كل أنحاء العالم، فإن الهيمنة تخلق وسائل للتعامل مع التغيرات الاجتماعية المترتبة على تلك التطورات. وهكذا بينما يتم تدمير الأنماط القديمة للحياة وللوظائف، فإن فرصا جديدة تظهر على هيئة منظومة مختلفة من أنماط الحياة والوظائف. ويضيف المؤلفان أن هناك بالتالي مساهمة ثقافية في الموضوع، حيث أن الدول المهيمنة هي أكثر بكثير من مجرد موقع لأكثر الاقتصاديات كفاءة في عصرها."، ولا أعتقد أننا يعوزنا الدليل هنا على إثبات أثر الهيمنة الأمريكية على فشل مصر اقتصاديا وانهيارها ثقافيا، فقد اتفق معظم المثقفين والمتخصصين وكما اعترف به جزئيا مثقفوا السلطة ومنظروها تحت ضغط الواقع المزري بالفعل. ولا أعتقد أن الأمر يعود فقط إلى التأثير الطاغي لتفاعل عاملي الحداثة والهيمنة كما بيًّنا، بل ربما يعود الفشل والانهيار في المقام الأول وعلى جميع الأصعدة في معادلة الحداثة – الهيمنة في مصر إلى العامل الإسرائيلي أو بالأحرى المشروع الصهيوني ودوره الأصيل في استراتيجية الهيمنة الأمريكية والغربية عموما منذ وعد بلفور البريطاني 1917 بإنشاء دولة إسرائيل بنهاية الحرب العالمية الأولى، وقرار الأمم المتحدة بإنشاءها 1948 بنهاية الحرب العالمية الثانية، وحتى التحيز الأمريكي الكامل لإسرائيل كما نراه في الألفية الثالثة.
الأصولية وشرط ما بعد الحداثة
يقول المؤلفان بوجود شرط لما بعد الحداثة، ويحدث هذا الشرط في جميع مؤسسات المجتمع من التعليم والطب والمحاماة...إلخ، وذلك طبقا لـ "جيدنز1994 Giddens" في كتابه "العيش في مجتمع ما بعد الحداثة" حيث سمى ارتفاع مستوى تحدي الفرد وإصراره في مواجهة تلك المؤسسات، والانحدار المصاحب في السلطة التقليدية، سماه بـ " شرط ما بعد الحداثة"، ووصف رد الفعل المجتمعي العاكس و الناتج بـ" عالم الناس الأذكياء"، ولا يعني بذلك أن المعاصرين أكثر ذكاء من الأجيال السابقة، فقط هم أكثر معلوماتية ومعرفة، وبالتالي أكثر قدرة على تحدي المقولات والقضايا التقليدية، وحتى المعنًّون منها بالسلطة العلمية مثل رفض الجمهور للأغذية المهندسة جينيا. تعتمد كل التقاليد على القبول الغير مشروط بالحقيقة كما تحددها السلطة المعنية مثل مصممي الأزياء وأراء الخبراء. إن رد الفعل المجتمعي العاكس يتطلب من كل مجموعة تقاليد وأعراف تعتز بوضعها، أن تدافع عن نفسها بدلا من ذلك، ومن هنا يصل المؤلفان إلى أفضل مثال على تأثير شرط مابعد الحداثة وهو ازدهار الأصولية.
طبقا لجيدنز، فإن تعبير "الأصولية" بالإنجليزية Fundamentalism له أصل حديث، ويشير إلى الإصرار على الحقائق التقليدية في عالم عاكس للتقاليد ذاتيا. ويضيف المؤلفان أنه في عصر ما قبل الحداثة العاكسة للتقاليد، فإن مثل ذلك الإصرار كان إما مقبولا من المؤمنين أو متجاهلا من باقي الناس. أما تحت شروط العولمة، ومع تجمع مجموعات من البشر متفرقة جغرافيا بفضل الاتصالات الحديثة، فإن ظاهرة رد الفعل العاكس التي تتحدى التقاليد السائدة، يمكن أن تكون مخربة بصفة خاصة.
ويضيف المؤلفان أن قرونا من الحقيقة المؤكدة يبدو أنها قد أصبحت مهددة، ليس فقط من الخارج ولكن أيضا من الداخل حيث أن قدرة الاتصالات الجديدة قد اخترقت كل شئ، وفي مثل هذه الظروف، فإن بعض التقاليد قد استجابت بعملية تطهر داخلي وعدوان خارجي. وردة الفعل تلك يبدو أنها عالمية وهي معروفة أكثر بـ"الأصولية الدينية": مسيحية وهندوسية ويهودية وإسلامية، ولكنها تحدث في سياقات مختلفة، مثل حركة الأمريكيون "الوطنيون" و "حركة الرجال"، واللتان تحاولان استعادة النظام الأبوي المجتمعي "البطرياركي". ومع عدم القدرة على التأقلم مع العالم الجديد من الحوار، فقد أصبح استهداف المدنيين مقبولا في سياسة الكراهية، مثلما حدث في تفجير مبنى فيدرالي الأمريكي، وفي استخدام غاز الأعصاب في المترو الياباني. ذلك هو الجانب الأقصى لرد الفعل من جانب السياسة الجديدة للهوية حيث يشير التحديث العاكس للتقاليد إلى نفسه بوضوح.
عاكسية المجتمع، والهويات المتعددة يؤكد مؤلفا كتاب الجغرافيا السياسية أن شيوع الفردية Individualism هي العملية الجوهرية في ظهور سياسة الهوية كما قدمها بيك Beck (1994) في كتابه (إعادة اختراع السياسة: نحو نظرية لـ"تحديث عاكس")، حيث تم فيها استبدال اليقينيات القديمة لـ"المجتمع الصناعي" برغبة إيجاد أو اختراع يقينيات جديدة، وبصفة خاصة، فإن المفاهيم الراسخة حول الهوية (الطبقة، العائلة، الجنس) تم استبدالها بالسيرة الذاتية الشخصية التي بها نختار أنفسنا، وذلك هو التحديث العاكس، وأن التحديات والشكوك المفروضة من خلال مجتمع المخاطرة قد أدت إلى تقييم دائم للاختيارات السياسية والاجتماعية، ويضيفان أن اختيار سلسلة من الهويات المتعددة هو شكل واحد من السياسات التي تستهدف رسم المسار في مجتمع المخاطرة. وفي ذلك فإن أفكار "بيك" عن مجتمع المخاطر و التحديث العاكس، هي بدورها تعكس الاهتمام بالعولمة وبالتغيير المفروض بالهيمنة في نظرية المنظومة العالمية لوولرشتاين.
بقول آخر، كما يختتم المؤلفان، فإن الناس أصبحوا يتخلون عن انتماءاتهم السياسية التقليدية كما يتخلون عن زي للموضة، ومن هنا، فإن كل فرد سوف يكتسب قناعات وأهداف سياسية متناقضة ومتعددة. ومرة أخرى، يمكن من خلال أفكار "بيك" أن نرى لماذا أصبحت سياسة الهوية مكون ضروري في الجغرافيا السياسية، وهي أيضا شكل من أشكال السياسة التي تحظى باهتمام عالمي ولكنها متجذرة في أماكن فريدة، وبالنسبة إلى السياسات الفرعية فهي تعني تشكيل المجتمع من أسفل كما يقول "بيك"، حيث أنها مدفوعة بعوامل خارج النظام السياسي من خلال كل من الأفراد والنشاط الجماعي، ويبدو أنه بات الآن بأكثر مما سبق، أن السياسة المحلية داخل الأماكن هي التي تبني التركيبة الأكبر (موزاييك) لسياسة الدولة والسياسات العالمية.
بقي أن نوضح أن ذلك التحليل الذي قدمه كولين فلنت وبيتر تايلور مؤلفا كتاب الجغرافيا السياسية (الطبعة الخامسة 2007)، إنما هو تحليل نابع من طبيعة المجتمع الأمريكي ويتسق مع درجة نضجه السياسي، وأيضا يتوجه بالنتائج إلى نفس المجتمع. وعندما يتحدث الكتاب عن الهوية، فهو يتحدث عن الهوية الشخصية أو المحلية الأمريكية بأكثر مما يتحدث عن الهوية القومية كما نفهمها في العالم الثالث، والتي لم يتم التعرض لها في التحليل أو النتائج. وعند تطبيق تلك النتائج على المجتمع المصري، يجب أن نأخذ في الاعتبار عدم النضج السياسي للمجتمع المصري بسبب الاستبداد أساسا، استبداد السلطة السياسية واستبداد المؤسسات والتقاليد، على حد سواء. وربما لهذا السبب أورد المؤلفان دراسة حالة خاصة في الكتاب عن "الأصولية والعولمة ومجتمع ما بعد الحداثة." وهي الدراسة التي تقترب أكثر من ثقافتنا وأحوالنا المصرية والعربية والإسلامية بصفة عامة.
الأصولية والعولمة ومجتمع ما بعد الحداثة يشير المؤلفان أنه لا يمكن فهم الجغرافيا السياسية المعاصرة بدون فهم ماهية الأصولية، ويتبنيان في ذلك أفكار "جيدنز (1994)" التي توفر مقدمة مفيدة تتناسب وأفكار المؤلفين فلنت وتايلور عن العولمة في المنظومة العالمية الحديثة. يعًّرف جيدنز الأصولية ببساطة بأنها "تقاليد مستنفرة للقتال"، والتقاليد هي المعتقدات و الأعراف المتوارثة عبر الأجيال والتي من خلالها نعطى لحياتنا معنى. وكذاكرة جماعية، فالتقاليد توفر الاعتزاز والاستمرارية بما يساعد على التعامل مع " مائدة التغيير." وتمثل العقيدة اللب المقدس للتفكير التقليدي، ولكن في المنظومة العالمية فإن التغيير بصفة خاصة يعتبر عنيفا إلى درجة أصبحت معها الحداثة عامل مؤثر كبير في تآكل التقاليد. وقد وصل الأمر إلى حد المواجهة في القرن الواحد والعشرين عندما هدد التآكل في التقاليد أن يصبح عالميا. وهكذا وطبقا لجيدنز، فنحن لا نعيش في مجتمع "ما بعد حداثي" بل في مجتمع "ما بعد تقليدي".
ويستكمل المؤلفان دراسة الحالة: على ذلك فالأصولية هي ما أصبحت عليه التقاليد في مجتمع ما بعد التقليدي، وفي الماضي فإن الممارسات التي تنتمي إلى التقاليد قد خلقت فضاءات للأماكن أو بتعبير مباشر:"أماكن مقدسة" – روما، القدس، مكة – العالم المسيحي، أرض إسرائيل، الإسلام. هناك خليط من البشر بتقاليد مختلفة، ولكن في الغالب فإنهم قادرون على الاحتفاظ بعقائدهم لأنفسهم وعلى إعادة إنتاج تقاليدهم بدون تهديد يذكر، ولكن العولمة قد غيرت كل ذلك. هذا عالم تسيطر فيه أماكن الهيمنة. لقد وصلت درجة تآكل التقاليد إلى مستويات غير محتملة للمؤمنين، بسبب ظهور مجتمعات شتات متعددة (فلسطين وغيرها)، وتوغل إمكانيات الإعلام والاتصالات الجديدة، وانتشار ثقافة الاستهلاك وغيرها من ممارسات مجتمع ما بعد التقليدي. وبوجود العالم الحديث "في وجهك" كما كان، وبعدم وجود ملجأ من ذلك – عمليا لا تستطيع أن تخرج عن إطار العولمة- فإن المورد الوحيد هو رد الفعل العنيف ضد الجناة. إنهم لايبدون أي احترام للتقاليد، لذا فإن الأصوليين لايبدون أي احترام للحداثة: كلٌ ينتهك حدود الآخر.
ويستدرك المؤلفان فلنت و تايلور بالقول بأن نلاحظ أن الأمر هنا لا يتعلق بإشكالية "صراع حضارات": نموذج هنتنجتون (1993) الذي هو عالم منقسم أو فضاء الأماكن، أما عولمة جيدنز فهي كل ما يتعلق بانتهاك وتدنيس تلك الأماكن التقليدية من قبل أماكن الهيمنة الجديدة. هناك أمثلة متعددة للأصولية العنيفة، ورغم ارتباط أحداث 9/11 بالإسلام، إلا أنها يمكن أن توجد في كل التقاليد والعقائد في رد فعلها على "أخطاء" الحداثة. لذا، فإن تفجير عيادات الإجهاض بواسطة الأصوليين المسيحيين تعتبر مثالا لذلك، وهي في ذلك مثل الهجوم الغير عقائدي على المبنى الفيدرالي في ولاية أوكلاهوما بواسطة "وطنيون" يريدون أن يعودوا إلى حياة تقليدية بسيطة. وفي العلاقة بين الجنسين، فإن رد الفعل العنيف من الرجال ضد النساء هو مثال آخر للعنف في مجتمع ما بعد التقليدي. إن زوال مفهوم "الأسرة التقليدية" قد ترك الرجال وقد فقدوا "احترامهم" المفترض من جانب أزواجهم. وفي هذه الحالة، فإن السلطة التراتبية التقليدية والتي هي "بيت العائلة"، ها هي قد انتُهِكت بأفكار نسائية عن مساواة الجنسين (جيدنز 1994).
عود على بدء
أما وقد رأينا ملخصا يسيرا لوجهة نظر العلم والدراسة المنهجية لمثلث الهوية – الحداثة – الهيمنة، ورأينا مفهوما علميا للأصولية في إطار ذلك المثلث، فلا شك أنه يمكننا أن نبدأ في تصحيح أو تعديل رؤيتنا بعض الشئ لما يجري في مصر والعالم العربي والإسلامي، حيث زخم وقوة التقاليد الموروثة في غيبة أو تأخر مقومات الحداثة الحقيقية المتمثلة في العقل والعلم، وليست الحداثة الشكلية المتمثلة في اقتناء منتجات التكنولوجا (تليفون محمول، كمبوتر، سيارة)، وحيث قوة العقائد المستمدة مباشرة من تمركز الأماكن المقدسة للأديان السماوية الثلاث في قلب المكان والسكان.
أعتقد أننا يجب أن نوسع من مجال رؤيتنا، وأن نتوافق مع التغيير الذي يعدو سريعا ويبدو جبريا، وأن نتعامل معه من خلال مشاريع فكرية وسياسية، حتى على المستوى الفردي كما أشار "بيك"، وهذا يعود بنا إلى مدخل المقال وهو كيف نتعامل ببراجماتية أو بنفعية أخلاقية مع نتائج "الهيمنة" الأمريكية، عنيفة كانت أو ناعمة، والتي ستحدد لمصر رئيسها القادم كما سمعنا ورأينا، بحيث نحتفظ بأكبر قدر من الاتزان في "الهوية" في مشوار استجابتها لتدفقات "الحداثة" التي لاتنتهي.
بهذه الرؤية الواقعية والعلمية في آن، نكون قد أبعدنا شبح اليأس المفضي للعنف أو الانتحار الحضاري، بل ونكون قد حققنا لوجودنا معنى واقعيا بالمشاركة العقلانية، وليس بالانبطاح المزري أو بالمقاومة اليائسة، في صنع "المنظومة العالمية"، على الأقل بالتفاعل الصحيح والصحي معها. بدءا من المستوى الفردي وهو ما نستطيعه يقينا، وإلى مستوى الأسرة وهو في المستطاع إمكانا، إلى مستوى الجماعة وهو مأمول يبدو بعيدا، وانتهاء بمستوى الوطن وهو يغدو مستحيلا تقريبا! بالنظر إلى سطوة الاستبداد وعمق الفساد المرتبطان بنظام الحكم الحالي، والذي تستثمره قوى "الهيمنة" الصهيو-أمريكية بكل آليات "الحداثة" وفقا لدوافع "الهوية" لدى الآخر.
أخيرا، واستبعادا للانغلاق واليأس واستحضارا للعقل والأمل، فبهذه الرؤية العقلية العلمية يمكن فقط أن نحقق حيوية مصر التاريخية كما وصفها جمال حمدان.
24 يناير 2010
06/11/2014