التقسيم الجيوسياسي للسلطة في مصر بعد 25 يناير
| |
المشير | |
بقلم : مسعد غنيم
....................
في مقال الشهر الماضي قبل إنتخابات الإعادة، وبدون التعرض للتنبؤ بنتائجها، حللنا النتائج المترتبة على إحتمال نجاح ممثل من يحمل السلاح ممثلا في شفيق، وممثل تيار من يحمل المصحف ممثلا في مرسي. وقلنا تحديدا: "أن فوز مرسي واستحضار مشروع الخلافة الإسلامية تحت مسمى "النهضة" سينتهي في كل من حالتي فشله و نجاحه إلى الدولة المدنية، وأن الشعب المصري قادر على أن يزيح الجماعة من طريقه في حالة فشلها، وعلى أن يحتضنها في حالة نجاحها بعد تخليها عن أوهام "الخلافة" في عصر العولمة، حيث تكون مصر قد تغيرت بالفعل في عصر التغيير المتسارع، ويبقى العدو التاريخي الحقيقي القابع على الحدود الشرقية هو الهدف التالي." وفي هذا المقال نستكمل التحليل على نفس المستوى الفكري، وهو مستوى المبادئ والأطر الفكرية الحاكمة لما نراه من أحداث جارية تملأ البصر والسمع سواء في سيول الإعلام الفضائي أو عبر شبكات التواصل الإجتماعي الإلكترونية أو في ميادين التحرير المختلفة وغيرها. فمن طبيعة وخصائص المبادئ والأطر الفكرية الحاكمة لأي تفاعلات إجتماعية سياسية أنها لاتتغير بتغير الأحداث الجارية على الأرض، بل بالعكس، فإن هذه المبادئ والأطر هي التي تؤسس لتلك الأحداث وتدفعها في الإتجاهات التي تتفق وطبيعة تطور المجتمع البشري بغض النظر عن حدود الجغرافيا ومراحل التاريخ.
إن ما نراه من أحداث على مدى أيام حبست أنفاس المصريين والعرب من حولهم بشأن نتائج إنتخابات الرئاسة المصرية، هي في الواقع نتيجة محسومة بسبب تلك المبادئ والأطر الفكرية. والحسم هنا ليس في تحديد فوز تيار معين بذاته، ولكن في أن هذا التيار الفائز، أيا كان، لابد له في النهاية أن يتبع المسار العام للتاريخ الذي يتحدد في ضوء التوازن بين القوى السياسية والإجتماعية محليا وإقليميا وعالميا، أي في حالتنا هنا، بين فكرة أو أطروحة مشروع الخلافة الذي تطرحه جماعة الإخوان المسلمون تحت إسم النهضة، منطلقا من تفسيرات دينية معينة، وتمثلا او تمسكا بدرجة ما بماض تجاوزه التاريخ منذ أكثر من قرن مضى، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى حقائق الجغرافيا السياسية ونتائج إقتصاد المعرفة وأثر التكنولوجيا المتسارعة باتجاه المستقبل في مطلع القرن الواحد والعشرين. أي أن الأصل الفكري وراء ما نراه من ظاهر أحداث إنتخابات سياسية ساخنة ليس إلا صراع أو حوار بين إطار فكري يتوجه نحو المستقبل مع التشبث برؤية خاصة للماضي عندما كان مسار الرحلة من أسطنبول إلى الحجاز يقاس بسرعة الجمل، وإطار فكري آخر يتشكل بواقع التطور البشري باتجاه مستقبل يقيس الرحلة بين كواكب المجموعة الشمسية، بل وبين نجوم درب التبانة بسرعات تستهدف الوصول إلى سرعة الضوء!.
سنتناول تحليل هذا الحوار بين أطروحة الخلافة / النهضة وحقائق العولمة الحديثة هنا من خلال ثلاثة أبعاد محددة وهي: الموضوع، والتاريخ، والجغرافيا وتأثير كل من تلك العوامل على الواقع السياسي والإجتماعي الفائر الذي تعيشه مصر منذ ثورة 25 يناير 2011.
البعد الموضوعي
يمكننا تصور موضوع حوار مشروع نهضة الإخوان في 2012 مع حقائق العولمة وذلك من مسار بحث النخب الفكرية العربية عن إجابات لإشكالات الحداثة بعد صدمتها الحضارية منذ محمد علي. إنتحت تلك النخب منحيين متباينين: الأول العقلانية الإسلامية الإصلاحية (مثلا: حزب النهضة التونسي وفيلسوفه راشد الغنوشي) وهو تيار إنشدَّ إلى الأصول التراثية مع الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا (أستاذ حسن البنا) والحجوي. لكنه تيار لم يستطع أن يتفادى الإنتباه إلى المدنية الغربية ومنظومتها الفكرية. والثاني العقلانية الليبرالية التي جربت أن تنصرف كلية إلى الفكر الغربي الحديث فتستقي منه مقالاتها، " لكنها لم تقوى على تجاهل العقلانية التراثية: الرشدية (ممثلة في فرح أنطون) والخلدونية (ممثلة في طه حسين). وحين نشأت عقلانية نقدية جديدة في النصف الثاني من القرن العشرين، لم تنصرف إلى نقد اللحظتين العقلانيتين: الإصلاحية والليبرالية فحسب، بل إعترفت – بأشكال مختلفة – بتعدد المقالات العقلانية في الفكر العربي باحثة عن حدود كل منها في خطابات ذلك الفكر." وذلك بحسب رؤية عبد الإله بلقيز أستاذ الفلسفة المغربي.
ومن حيث الموضوع يميز حسن حنفي أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة بين ثلاث تيارات في الفكر العربي المعاصر: التيار الإصلاحي الذي أسسه الأفغاني وتلاميذه: محمد عبده، رشيد رضا، حسن البنا، سيد قطب وبعض الجماعات الإسلامية الحالية، والتيار الليبرالي الذي أسسه رفاعة الطهطاوي في مصر وخير الدين التونسي في تونس، والأجيال اللاحقة عند أحمد لطفي السيد، طه حسين، والوفد الجديد. والثالث هو التيار العلمي العلماني الذي أسسه شبلي شميل، فرح أنطون، يعقوب صروف، سلامة موسى وإسماعيل مظهر. وقد إمتد كل تيار على مدى خمسة أجيال، ينحسر فيها التيار جيلا وراء جيل حتى تصبح النهايات غير البدايات وربما نقيضها!.
وهناك مفكرون على التخوم بين أكثر من تيار: الإصلاحي الليبرالي مثل قاسم أمين ومحمد حسين هيكل والعقاد وخالد محمد خالد، والإصلاحي العلمي مثل طنطاوي جوهري والجيل الأحدث من دعاة "العلم والإيمان مثل الدكتور مصطفى محمود. وأخيرا الليبرالي العلمي مثل زكي نجيب محمود وفؤاد زكريا وغيرهم.
وقد اتسمت العقلانية بطابع كل تيار: العقلانية الإصلاحية التي تحاول فهم الدين فهما عقلانيا، والعقلانية الليبرالية التي تحاول تأسيس الحرية على مقتضيات العقل، والعقلانية العلمية التي نموذج العقل فيها هو العقل الطبيعي المرتبط بالحس والواقع. وبتطبيق فكر حسن حنفي هنا تتضح معالم موضوع الحوار المفترض بين فكر مشروع الخلافة/النهضة كما تطرحه جماعة "الإخوان المسلمون" من منطلق عقلاني إصلاحي، وواقع العولمة بتأثيراته الطاغية من منطلقات عقلانية ليبرالية وعلمية.
البعد التاريخي
كما هو معلوم فإن مشروع النهضة المصرية بدأه محمد علي في 1805 قبل قرنين تقريبا. تبلور هذا المشروع من خلال رؤية عبقرية لشخص محمد علي لنتيجة الصدمة الحضارية التي واجهتها الحضارة الإسلامية في آخر عصور ضعفها السياسي. وإنهارت الخلافة العثمانية عام 1918، أي بعد قرن تقريبا من الإستقلال النسبي لمصر على يد محمد علي عن نظام الخلافة، وبعد أربعة عقود من الإحتلال البريطاني لمصر عام 1881. كان التوجه للتعليم العلمي هو أبرز ملامح النهضة كما حققها محمد علي، ومع عودة البعثات التعليمية من فرنسا قرب منتصف القرن التاسع عشر بدأ رفاعة الطهطاوي وزملائه رحلة النهضة، حيث "فتح العرب عيونهم على العصر الحديث في سياق إصطدام كياناتهم بأوروبا الزاحفة عليهم بعساكرها منذ حملة نابليون على مصر، مرورا باحتلال الجزائر وتونس والمغرب وليبيا، وصولا إلى المشرق العربي في قبضة الإستعمار، نبهتهم أوروبا إلى الفجوة الرهيبة التي تفصلهم عن العصر، وكشفت لهم مدنيتها الحديثة عن معضلات وتحديات جديدة إكتشفتها نخبهم الفكرية بأن الجواب عنها ليس ممكنا دائما من داخل المدونة الإسلامية الموروثة، وأن إنتهال معارفهم من هذه الـ "أوروبا" مسلك لا مناص من سلوكه." وذلك أيضا بحسب تعبير عبد الإله بلقيز أستاذ الفلسفة المغربي.
البعد الجغرافي
يشير تاريخ مشروع النهضة المصرية منذ بدأه محمد علي منذ قرنين تقريبا إلى أن العامل الجيوسياسي كان هو الأكثر حسما في تحديد مسار النهضة وفرض نتائجها بالقوة المسلحة. وتكرر ذلك الحسم بشكل مطابق تقريبا، رغم إختلاف السياق والظرف التاريخي، مع مشروع نهضة ثورة يوليو مع جمال عبد الناصر. كلاهما تم إجهاضه بمعرفة التحالف الغربي بشكل أو بآخر، وفي حالة محمد على كان التحالف التركي هو العامل الإقليمي الواضح في التحالف الغربي، وفي الحالة الناصرية كان التخوف السعودي هو العامل الإقليمي الخفي. وكان العامل الإسرائيلي في حالة محمد علي ما زال جنينا في رحم المشروع الغربي للمنطقة، وكان هو رأس الحربة في ضرب مشروع نهضة عبد الناصر. في حالة محمد على قادت الإمبراطورية البريطانية التحالف الغربي التركي، وفي حالة عبد الناصر تولت الإمبرطورية الأمريكية قيادة التحالف الغربي بعد فشل الإمبراطورية البريطانية القديمة عام 1956 مما إستدعى إعادة الضربة عام 1967 بعد إستيعاب أسباب الفشل. تركزت أسباب الفشل الجيوسياسي في ضربة الغرب للتجربة الناصرية عام 1956 في تقدير مدى توازن القوى الإقليمية فيما يخص الإتحاد السوفييتي وكان في عنفوان إنطلاقه بعد الحرب العالمية الثانية، ونجحت ضربة 1967 بعد إحتواء هذه القوة بشكل ناجح.
قد يطرح البعض أولوية عوامل الفشل الذاتية في تجربتي النهضة في الحالتين، خاصة في حالة هزيمة 1967، ولكنها تظل عوامل مساعدة وليست أساسية، فليست هناك تجربة نهضوية لدولة ما بدون أخطاء أو نقاط ضعف، كبيرة أو صغيرة كانت، وإنما إستثمارها من قبل أعداء هذه الدولة يكاد يكون هو العامل الأكثر حسما. وقد يستدعي هذا المنطق تساؤل عن سبب نجاح التدخل الغربي في الحالة المصرية دون باقي دول المنطقة، بل والعالم تقريبا!، وهو التساؤل الذي يطرحه دائما أعداء الداخل للتجربة الناصرية للتأكيد على غلبة عوامل الفشل الداخلية لها وللتقليل من العامل الخارجي لأغراض الصراع على السلطة وتصفية الحسابات التاريخية مثلما تفعل جماعة "الإخوان المسلمون". وهم في هذا التساؤل يتجاهلون أو يجهلون أبسط قواعد اللعبة الجيوسياسية، وهي قواعد معلنة وليست سرية أو ماسونية خفية. يكفيهم لتأكيد حسم العامل الجيوسياسي الرجوع لأفكار ورؤى وخطط زبجنيو بريجينيسكي أو هنري كيسنجر وهما من أبرز مهندسي الجيوسياسة والجيواستريجية الأمريكية فيما يخص الشرق الأوسط وفي قلبه مصر بعبقرية موقعها وموضعها بحسب تعبير الدكتور جمال حمدان. هذا إن لم يكف الإطار النظري الذي تطرحه نظرية "قلب الأرض" لأبي الجيوسياسة الحديثة السير هالفورد ماكندر (1904)، وطبقا لنظريته تتلخص خطورة جيوسياسية الوضع المصري في أن موقعها يقع في منتصف الحافة الداخلية التي تنحيط بالعدو التقليدي للغرب وهو روسيا والصين معا، هذه الحافة تبدأ في أفغانستان وتنتهي مع حدود أوروبا الشرقية تجاه الغرب، ذلك مرورا بإيران والعراق وسوريا وفلسطين وحتى المغرب، وبالتالي كان من المحتم زرع إسرائيل في أرض فلسطين لتكون رأس حربة الهيمنة الغربية في الشرق (إرجع إلى كتابات المفكر الأمريكي اليهودي المعارض؛ نعوم تشومسكي)، ومن هنا كان قدر مصر في التعرض للضغط المستمر منذ بدء عصر الإستعمار الذي بدأه نابليون، ومن المفارفة أنه كان أيضا مفجرا لعصر النهضة! ولكنها سارت في مسار ضد الهيمنة الغربية فكان لابد من ضربها، مرتين! فهل ستضرب الثالثة؟!
التحدي الجيوسياسي لمشروع نهضة الإخوان
بقراءة بعض ما يتم نشره ومناقشته في الإعلام الأمريكي الآن بخصوص حدود تقسيم اللعبة السياسية بين "الجماعة" والمجلس الأعلى العسكري، بما يحقق المصالح الجيوسياسية لمشروع الهيمنة الأمريكية، يمكن إستخلاص الآتي على وجه التفسير والتوقع:
1) الإدارة الإستراتيجية للمجلس الأعلى العسكري
أن يتولى المجلس الأعلى العسكري ملف مصر على المستوى الإستراتيجي، ويتجلى هذا في الخبر المسرب عن إجتماع كل من رئيس الأركان المصري الفريق عنان واللواء مهندس محمد العصار مع قائد القيادة الأفريقية للجيش الأمريكي في أفريقيا (أفريكوم AFRICOM) جنرال وليام وورد في 17 فبراير 2012. كان الهدف من الإجتماع هو تأكيد الدور المركزي لمصر في القيادة الأفريقية وعدم الإقتصار على تنسيقها في إطار القيادة المركزية الأمريكية (يو إس سنتيكوم USCENTCOM). وهنا يجب توضيح أن تشكيل القيادة الإفريقية للجيش الأمريكي في فبراير 2007 هو مؤشر مؤكد على زيادة الأهمية الإستراتيجية لأفريقيا، ولا يمكن تصور أي إستراتيجية للجيش الأمريكي بشأن افريقيا لا تكون فيها مصر عامل مركزي، وهذا بدورة مؤشر على إزدياد الأهمية الإستراتيجية لمصر افريقيا غضافة إلى أهميتها شرق أوسطيا. هذا رغم حقيقة عمق وشمول التغلغل الإسرائيلي في أفريقيا بالفعل، ولنا في إنفصال جنوب السودان خير مثال على ذلك التغلغل.
هذا التغيير في الخريطة الكونية للجيوسياسة الأمريكية بالتحول للتركيز على إفريقيا يتوازى مع بدء الإنسحاب الإستراتيجي من العراق (2012)، وأفغانستان (2013)، وبدء نشر قوات المارينز في إستراليا (أواخر 2011)، بما يعني وبلغة نظرية ماكندر: الإنسحاب من الحافة البرية الداخلية لأوراسيا، أي من أفغانستان مرورا بالعراق ومصر وحتى المغرب العربي إلى الحافة الخارجية البحرية ومركزها إستراليا. أي أن نقاط الإرتكاز الجديدة للإستراتيجية الأمريكية في المنطقة هي الحافة البحرية من إستراليا مرورا بجنوب أفريقيا وحتى جنوب أمريكا اللاتينية، مع التمركز في أفريقيا من خلال القيادة الأفريقية أفريكوم.
الخلاصة من قراءة كل تلك التغييرات الجيوسياسية الكبرى في المنطقة هو تأكيد زيادة أهمية مصر أكثر وأكثر، وأن ثروة مصر الحقيقية تكمن في موقعها من حيث الجغرافيا، وفي موضعها من حيث مواردها الطبيعية (النيل وقناة السويس) والبشرية والثقافية التي ما زالت هي القوة الحقيقية لمصر. إذن هذا هو الدور الرئيسي المفترض من الجانب الأمريكي للمجلس الأعلى العسكري والذي يؤهله للحصول على نسبته المكافئة من السلطة داخل مصر بعيدا عن كل الصراعات السياسية في الداخل بكل تعقيداتها الدستورية والقانونية. وهذا التخصيص للسلطة داخل مصر للقوات المسلحة المصرية له ما يؤكده في تاريخ أكثر من ثلاثة عقود من العلاقات العسكرية الوثيقة بين القوات المسلحة المصرية والأمريكية في خط مواز للعلاقات الدولية بين مصر وأميركا!
هذا الخط أوهذا التصور لإستقلالية نوعية للقوات المسلحة المصرية عن الدولة المصرية هو على ما يبدو الضمانة الإستراتيجية لإستمرار مصر في القيام بدورها المركزي بتأمين التوجهات الجيوسياسية للهيمنة الأمريكية في المنطقة، على الأقل فيما يمكن تصنيفه على أنه لصالح الطرفين!.
2) الإدارة التكتيكية لجماعة الإخوان المسلمين
تمضي قسمة السلطة في مصر والتي يفترض أن أوباما إرتضاها بأن تترك السياسة الداخلية والتنمية المجتمعية إلى جماعة "الإخوان المسلمون" بعدما أثبتوا إستحقاقهم لنصيبهم من السلطة في اللعبة السياسية من خلال عملية ديموقراطية مقبولة بعد ثورة 25 يناير. يرى بعض المحللين الأمريكيين أن تلك التقسيمة التي إرتضاها البيت الأبيض لاتعجب كل من إسرائيل وفلول نظام مبارك في القطاع الإقتصادي والذين إستحوذوا على معظم موارده بالفساد، ولعل هذا مايفسر قدر إنزعاج تلك الفلول من المجموعة الإقتصادية الجديدة التي شكلها خيرت الشاطر مهندس الجماعة! لبدء رحلة إستعادة الثروة الإقٌتصادية والسيطرة على السوق من أتباع مبارك، بشكل أو بآخر.
هنا نأتي إلى ما يهم المواطن المصري من هذا التحليل المطول والمتشعب بين التاريخ والجغرافيا والسياسة، فإن نفس قواعد اللعبة الجيوسياسية التي أفشلت تجربتي محمد علي وعبد الناصر في نهضة مصر، هي أكبر تحد لمشروع الإخوان في النهضة أو الخلافة. وهنا سنفترض صدق إدعائهم بأنهم يبتغون صالح مصر معبرا عنه بمسمى النهضة وليس لصالح رؤية الجماعة فيما يمكن وصفه بمشروع الخلافة!. حيث أنه ليس لأحد الحكم على النوايا، هذا رغم سوابق عديدة للجماعة في الكذب وخلف الوعد، أيا كانت مبرراتهم من باب التقية أو العمل السري. تلك القواعد للعبة الجيوسياسية سيتعرف الإخوان عليها أو سيعترفون بها شاءوا أم أبوا، إن عاجلا أم آجلا، هذا إن لم يكونوا قد بدءوا بالفعل في اللعبة حتى يتفادوا الصدام مع مشروع الهيمنة الصهيو-غربي! فهل سينجحون؟ إن أمامهم إحتمالان مؤكدان، الأول هو أن يتخلوا عن أي مشروع نهضة حقيقي تطمينا لمخاوف المشروع الصهيو- غربي في المنطقة، ويكتفوا بالحديث عن "النهضة" مثلما فعل مبارك! حفاظا على مكاسبهم السياسية الداخلية الضيقة والمتمثلة في الإحتفاظ بالسلطة بعد شوق دام أكثر من ثمانين عاما ومنذ حكم آخر سلالة محمد علي؛ الملك فاروق. وفي هذه الحالة لن يتمكنوا من إخفاء تواطئهم طويلا، خاصة في عصر التواصل الإجتماعي عبر الإنترنت كقوة خامسة بعد الإعلام، ناهيك عن المتربصين من الفلول وغيرهم كما يؤكد كاتبنا الكبير فهمي هويدي في سلسلة مقالاته الداعمة للإخوان مع التأكيد على أخطائهم القاتلة!.
الإحتمال الثاني وهو الذي نتمناه، أن يكون "الإخوان المسلمون" جادون في تغليب مشروع نهضة حقيقي لمصر على أي إنحرافات للجماعة من منطلق "عشائري"! فيتصادموا بالضرورة الجيوسياسية مع الهيمنة الغربية، لا محالة!، لأن التاريخ قال لنا بأن الغرب لايريد لمصر نهضة حقيقية، وإنما نهضة تكفي لتأمين مصالحه الإستراتيجية في المنطقة، لا أكثر....ولا أقل!. وهنا سنكون بصدد فصل جديد من تصادم مشروع نهضة مصر بحكم عبقرية موقعها وموضعها مع الأطماع الكونية للهيمنة الغربية في المنطقة والعالم. وهنا، وهنا فقط، سيظهر المعدن الحقيقي لمشروع "الإخوان المسلمون" سواء كان مشروعا إحيائيا دينيا أو عقلانيا إصلاحيا. وأمام الإخوان لإدارة هذا الصراع ثلاثة نماذج واضحة، نموذج محمد علي وعبد الناصر وهو نموذج وطني (وقومي في حالة ناصر) تصادمي إنتهى إلى إجهاضهما كليهما بالقوة المسلحة. والثاني نموذج الـ 99% والذي إنتهجه السادات الذي ظن أنه قد فهم اللعبة فقال بقولته الشهيرة بأن 99% من أوراق اللعبة بيد أمريكا! والنموذج الثالث هو نموذج بلا هوية ولا فكر وقد تبدى في فترة مبارك بتطبيق مبدأ الـ 99% وجعله 100% بالإنبطاح التام إلى حد العمالة لللإرادة الصهيو-أمريكية!
ولاشك أن نجاح الإخوان – في حال إخلاصهم لمصر الوطن - في الإدارة الذكية لهذا الصراع الجيوسياسي مع مشروع الهيمنة الصهيو-غربي هو الذي سيمكن من تعظيم هامش التنمية الممكن لمصر دون إثارة مخاوف إسرائيل، وأيضا دون الرضوخ لضغوط ومعوقات الغرب للتنمية الحقيقية لمصر.
ومن هنا يقفز إلى الخاطر سؤال عميق: في خطابه الأول للشعب فإن محمد مرسي الرئيس المنتخب المحسوب على جماعة الإخوان المسلمين عمليا، تعمد أن يركز بالكامل على العمل الداخلي لدرجة أنه ذكر كل الـ 27 محافظة مصرية باسمها، وفي نفس الوقت لم يتطرق إلى العلاقات العربية المصرية ولا ذكر القضية الفلسطينية، بينما أكد على إلتزامه بالمعاهدات الدولية، يعني كامب ديفيد!! فهل يعد هذا مؤشرا مبكرا يؤكد فيه مرسي للغرب بأن الجماعة إرتضت قسمة السلطة بينها والمجلس الأعلى العسكري، بأن تتخلى الجماعة عن أحلام الوحدة العربية أو أوهام الخلافة الإسلامية، وتكتفي بتولى الشأن التكتيكي الداخلي، بينما يتولى الجيش (المستقل إقتصاديا وبفضل المنحة الأمريكية) الشأن الإستراتيجي الخارجي الذي صار بالواقع يعمل في إطار إستراتيجية القيادة العسكرية الأمريكية المركزية USCENTCOM والإفريقية AFRICOM معا ؟!.... هذا سؤال جيوسياسي كبير، يبدو لي منطقيا ومشروعا،.... ولننتظر الإجابة.
مسعد غنيم
28 يونيو 2012