مستقبل مصر بين أوهام الخلافة وحقائق العولمة
| |
قطب | |
بقلم : مسعد غنيم
....................
يمكن إستخدام منهج التحليل بالإطار الفكري Paradigm Analysis لاستشراف مستقبل مصر القريب بعد إنتخابات الرئاسة القريبة بين شفيق ومرسي، أو بين الدولة المدنية المستبدة كما عاصرناها في تجربة التاريخ القريب، والدولة الدينية المستبدة كما يخشى أن ننزلق إليها في المستقبل القريب، وذلك بعيدا عن العواطف والتقييم الإنطباعي.
تحليل الإطار الفكري
هناك ثلاثة أطر فكرية أولية للتحليل الإجتماعي: إطار تفاعلي رمزي وهو على مستوى جزئي أو "ميكرو" وهو معني بالتفاعل على المستوى الشخصي وجها لوجه، وإطار وظائفي وهو على مستوى كلي أو "ماكرو" وهو معني بالعلاقات بين أجزاء المجتمع وكيفية توظيف الأوجه المختلفة للمجتمع، ثم إطار تصادمي وهو أيضا على مستوى كلي، وهو معني بالتنافس على الموارد النادرة وكيفية تحكم نخبة المجتمع في فقرائه. وكشأن المنهج العلمي دائما، فهناك إنتقادات لكل من تلك الأطر الفكرية كأساس لتفسير سلوك المجتمعات، وهذا النقد هو ما يثري العلم دائما.
في الإطار التفاعلي، يفترض أن الناس تربط المعاني برموز معينة، ثم يتصرفون طبقا لتفسيرهم الشخصي لتلك الرموز، وفي الحوارات الشفوية تبدو الكلمات كرموز مسيطرة مسبقا ومن ثم تجعل ذلك التفسير الشخصي (وليس الموضوعي) واضح بصفة خاصة. وبتطبيق هذا الإطار على الحالة المصرية اليوم، يتضح أن المجتمع المصري في حواراته الشخصية اليومية بشأن مستقبل مصر، نراها قد شملت كل مجالسه وتجمعاته اليوم وتكاد تنحصر في ثلاثة رموز: رمز الثورة ورمز الإخوان ورمز الفلول. ويبدو أن أي حوار بين الأشخاص المختلفين بحكم إنتمائاتهم لتلك الرموز الثلاثة لا يستطيعون الفكاك من سيطرة تلك الرموز على فكرهم المبدئي ذلك، وبالتالي تؤول تلك الحوارات إلى لا شئ سوى الإختصام بلا جدوى. وفي هذا التحليل التفاعلي الجزئي لم يتم إعتبار الجانب الكلي لثقافة المجتمع وتأثيرها على تلك الحوارات. وبالتالي يصعب تحديد شكل مستقبل مصر من خلال تلك الحوارات الشخصية التفاعلية المبنية على آراء مسبقة لا يفيد معها أي حوار.
وفي الإطار الوظائفي، فإن ما يربط المجتمع هو "الوعي الإجتماعي" أو التماسك، حيث يتفق أفراد المجتمع على ما يفيد المجتمع ككل ويعملون معا لتحقيق ذلك، ويأخذ هذا الوعي المجتمعي شكلين متميزين:
• التضامن الآلي أو الميكانيكي، وفيه ينشأ التضامن من خلال إعتناق الناس لنفس القيم والمعتقدات وينخرطون في نفس أنماط العمل، وهذا يحدث في المجتمعات التقليدية البسيطة مثل ما نراه في المجتمعات البدوية وقرى الصعيد على وجه الخصوص.
• التضامن العضوي، وهو شكل من التضامن ينشأ من الإعتماد المتبادل بين أفراد المجتمع مع إختلاف قيمهم ومعتقداتهم وإنخراطهم في أشكال مختلفة من العمل، وينطبق هذا على المجتمعات الأكثر تعقيدا في المدينة الكبيرة مثل القاهرة والإسكندرية وعواصم المحافظات.
هذا بينما تنقسم الوظائف الإنسانية إلى نوعين من الوظائف، الأولى وظائف إتفاقية أو "مانيفست" وهي مقصودة وواضحة ويمثلها في الحالة المصرية جماعة "الإخوان المسلمون" حيث يربط أعضائها قسم ولاء محدد وواضح، ويمكن فهم دور الكنيسة المصرية في هذا الإطار أيضا، وكذلك الجماعات السلفية. والثانية وظائف كامنة وهي غير مقصودة وغير واضحة، وهي معنية بشأن العلاقات بين وظائف الأجزاء الأصغر من المجتمع والوظائف المختلفة ككل، وهو ما يمثلها في حالتنا المصرية بقية عناصر المجتمع المصري بكل فئاته وطوائفه السياسية والإجتماعية والثقافية التي لا يربطها "مانيفيست" واضح ومحدد، وهي بلا شك تمثل أغلبية الشعب المصري.
وفي الإطارالتصادمي، فإن الصراع الإجتماعي قائم بين أي مجموعات يوجد بينها عدم مساواة محتملة: عرقية، دينية، سياسية أو إقتصادية وهكذا. وهذه المجموعات غير المتساوية عادة ما تعتنق قيما ومبادئ وأجندات متصارعة، مسببية بذلك الصراع بينها، وهذا التنافس الدائم بين المجموعات يشكل الأساس للطبيعة دائمة التغير للمجتمع. هذا الإطار التصادمي يوضح الصورة الكلية للمجتمع المصري بعد الثورة بكل أطيافه وفئاته بعد إتساع الهوة الإقتصادية بين قمة مستبدة وأغلبية مسحوقة، ناهيك عن الفروق الإقتصادية الأقل حدة بين باقي الفئات المطحونة من الطبقة الوسطى المتآكلة والطبقة الدنيا المطمورة.
يجمع منظور تلك الأطر الثلاثة إطار متكامل للمجتمع المصري من مستوى التفاعل الشخصي بين الأفراد، وعلاقات الوظائف بين الجماعات المختلفة، والصراع أو التنافس بين المجموعات أو الطبقات الإجتماعية المختلفة. من الواضح أن الإطار التصادمي أو الثورى هو الأظهر في الصورة الآن بعد ثورة 25 يناير، وأنه المصدر الأولي للحراك المجتمعي الآن، وأن الإطار الوظائفي ممثلا في جماعة "الإخوان المسلمون" هو المحرك الأكثر تأثيرا في شكل هذا الحراك الثوري، وذلك في إطار تصادمي مع باقي مجموعات وطوائف المجتمع.
سيناريوهات المستقبل
في حالة سيناريو نجاح شفيق، ستدخل مصر في مرحلة إعادة للثورة، بما يتسع لطيف واسع من النتائج تتراوح بين أقصى درجات الديكتاتورية الناعمة بما يؤجل توقيت إعادة الثورة إلى حين، أو تفادي الأخطاء السابقة وتحقيق بعض النجاحات بما يؤجل الثورة إلى أمد أبعد. أي أن الثورة حتمية في حالتي نجاح أو فشل ديكتاتورية نظام مبارك المستنسخ.
وفي حالة سيناريو نجاح مرسي، وبقراءة التاريخ الحديث لمصير الجماعات الوظيفية التي يربطها "مانيفيستو" أو قسم ولاء وظيفي معين، ومن أشهرها الحزب الشيوعي السوفييتي والحزب النازي في ألمانيا والفاشيستي في إيطاليا، نجد أن الأمر استغرق بضع عشرات من السنين بين مولد الحزب النازي ثم ظهوره بقوة في مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي ونهايته الدموية على يد الحلفاء بنهاية الحرب العالمية الثانية. بينما إستغرق الأمر سبعة عقود قبل أن ينهار الإتحاد السوفييتي ومعه المانيفيست الشيوعي بشكل سلمي بنهاية الثمانينيات تحت ضغط الحرب الباردة مع الغرب الرأسمالي. وقد تمثل الصين نموذجا "شيوعيا مختلفا" عن الإتحاد السوفيتي، حيث ظلت الصين "شيوعية" إسما بينما أصبحت من أقوى الدول الرأسمالية! الأكثر نموا ومنافسة للهيمنة الأمريكية.
كم سيستغرق الأمر قبل أن ينهار مشروع جماعة "الإخوان المسلمون" كجماعة وظيفية تحت ضغط العولمة والهيمنة الصهيو- غربية؟ أو قبل أن تندمج في النظام العالمي وطبقا لشروطه بغض النظر عن الإحتفاظ بالإسم كعنوان بلا مدلول مثل الحالة الصينية؟ وإذا أخذنا الفرق بين التوجه الإيديولوجي للحالة السوفيتية والصينية والقاعدة الدينية لجماعة الإخوان فإننا سنعود إلى التحليل الأصلي لإبن خلدون بشأن نشأة ونمو الدولة على عنصري الدين والعصبية (القوة المسلحة). إن تيار الإسلام الوسطي هو الغالب على المجتمع المصري ولهذا لم تنجح الجماعة في إختطاف الإسلام، بل العكس هو الحادث خاصة بعد الأداء السئ لمجلس الشعب ذي الأغلبية الإخوانية، وإنصراف الناس عنها بوضوح شديد بدا في نتائج إنتخابات الرئاسة حيث إنخفضت نسبة تأييد الشارع لهم مما يقرب من 50% إلى ما يقارب 25%، بنسبة إنخفاض تساوى 50% فقط في بضعة أشهر!.
وفي حالة استدعاء مشروع الخلافة الإسلامية تحت إسم حركي: "النهضة"، إستحضارا لقوة الدين – طبقا لإبن خلدون - في المعادلة السياسية، فإن إستنتاجنا السابق بفشل الإخوان في إختطاف الإسلام يصب في صعوبة تحقيق مشروع الخلافة بداهة. ويدعم هذا الإستنتاج القراءة التاريخية لنهاية آخر طور للخلافة الإسلامية في مطلع القرن الماضي بانهزامها أمام النظام العالمي البازغ في الغرب بكل تداعياته السياسية ما بين غرب وشرق من منظور جيوسياسي، وتداعياته الدينية ما بين غرب مسيحي كاثوليكي وما بقي من الشرق الإسلامي مضافا إليه المسيحية الأرثوذكسية طبقا لتقسيم صمويل هاننجتون في تصوره لـ"صراع الحضارات"! وذلك من منظور ثقافي تاريخي.
هذا البحث المختصر قد يكون مخلا بالمنهج العلمي حيث أن المقام هنا في هذا المقال ليس أكاديميا متخصصا، وبالتالي فإننا نكتفي بإلقاء الضوء على المشهد المصري من واقع التحليل بالإطار الفكري، ونخلص إلى أنه حتى في حالة فوز "الإخوان" بمقعد الرئاسة فإنهم محصورون بين خيارين: الأول هو الفشل الذاتي نتيجة صعوبة المهمة في نهضة مصر، إضافة إلى إنغلاقهم في "مانيفستهم" الوظائفي كجماعة سياسية ذات "مرجعية دينية"، وعدم القراءة الصحيحة للخريطة الجيوسياسية والسجل التاريخي والثقافي. والثاني هو النجاح النسبي في مهمة "النهضة" نتيجة تخلي الجماعة عن إنغلاقها والإنفتاح على مفهوم الدولة المدنية بكل أبعادها، والتعامل مع البعد الجيوإقتصادي في إطار جيوسياسي لا يغفل عن دروس التاريخ وعبره! وبذلك تكون الجماعة قد تخلت عن مشروع الدولة الدينية ولن يبقى لها من الإنتساب للإسلام إلا الإسم فقط. وفي كلا الخيارين، فإن مصر هي الكاسبة؛ ففي حالة فشل الجماعة - وهو الأمر الأكثر ترجيحا - تكسب مصر في الجولة الثانية بعد خسارة بعض الوقت، وفي حالة نجاح الجماعة بتحول توجهها إلى دولة مدنية واندماجها في النظام العالمي بشروطة، تكسب مصر من الجولة الأولى.
الخلاصة أن فوز شفيق بالرئاسة، سواء نجح أو فشل في مهمته بعد ذلك، سيؤدي إلى دخول الثورة المصرية في حالة إعادة. وأن فوز مرسي واستحضار مشروع الخلافة الإسلامية تحت مسمى "النهضة" سينتهي في كل من حالتي فشله و نجاحه إلى الدولة المدنية، وأن الشعب المصري قادر على أن يزيح الجماعة من طريقه في حالة فشلها، وعلى أن يحتضنها في حالة نجاحها بعد تخليها عن أوهام "الخلافة" في عصر العولمة، حيث تكون مصر قد تغيرت بالفعل في عصر التغيير المتسارع، ويبقى العدو التاريخي الحقيقي القابع على الحدود الشرقية هو الهدف التالي.
28 مايو 2012