قصة الفلسفة الغربية: جدلية هيجل
...............................................................
| |
هيجل | |
بقلم: محمد زكريا توفيق
............................
ولد جورج فيلهيلم فريدريش هيجل (1770-1831م)، بمدينة اشتوتجارت بألمانيا. في نفس العام الذي ولد فيه الموسيقار الألماني بيتهوفن والشاعر الإنجليزي الرومانسي وردزورث. كان الأخ الأكبر لثلاثة أولاد في أسرة متوسطة. جذور عائلته نمساوية بروستانتية. هاجرت الأسرة مثل غيرها من الأسر في القرن السادس عشر إلى ألمانيا، هربا من إضطهاد الكاثوليك للبروستانت. كان والد هيجل، موظفا حكوميا صغيرا. وكانت أمه شديدة الذكاء، محبة للتعلم على عكس نساء عصرها. دخل هيجل المدرسة الأولية، وكانت والدته تشرف بنفسها على هذه المرحلة. ألحِق سنة 1775م بالمدرسة الرومانية. ثم ذهب إلى المدرسة الدينية الثانوية بمدينة اشتوتجارت سنة 1780م، لمدة احد عشر عاما. أثناء هذه الفترة، توفت أمه سنة 1783م. وشرع في كتابة مذكرات بعنوان "حوار بين أوكتاف وأنطوان وليبيدوس" سنة 1785م، وكتاب بعنوان "الديانة لدي الإغريق والرومان" سنة 1787م.
نال هيجل دبلوم الدراسة الثانوية سنة 1788م، ثم التحق بالمعهد الأسقفي في توبينجين لدراسة البروتستانتية بمنحة حكومية. وفي نفس العام، انجز بحثا عن "بعض الفوارق والإختلافات بين الشعراء القدماء والمحدثين".
حصل هيجل على شهادة التعليم الفلسفي من المعهد الأسقفي سنة 1790م. لكنه قرر سنة 1793م، التخلي عن عمله كقسيس، وممارسة التعليم في مدينة بيرن. أثناء هذه المدة، كان زميله في السكن الجامعي هولديرلين، الذي أصبح فيما بعد، شاعر ألمانيا العظيم. وكذلك فيلسوف المستقبل شيلنج.
بعد ذلك، مرت بهيجل فترة عصيبة، امتدت لسنوات عديدة. كان يكافح فيها للحصول على لقمة العيش واستكمال نظريته الفلسفية. أول وظيفة أكاديمية كمدرس فلسفة، كانت في جامعة جينا من 1801م إلى 1807م. بدأ بالعمل كأستاذ غير متفرغ. يحصل على أجره من الطلبة الذين يحضرون محاضراته.
خلال هذه الفترة من القرن الثامن عشر، كانت هناك أحداث هائلة تمر بها القارة الأوروبية وأمريكا. العالِم المشهور "وات" يقوم بإستغلال البخار في الصناعة لأول مرة عام 1775م. الولايات المتحدة تعلن استقلالها عام 1776م. في نفس العام، يصدر كتاب أدم سميث "بحث في طبيعة وأسباب ثروة الأمم"، المعروف بالإسم المختصر "ثروة الأمم". جيبون، ينشر كتابه "انحلال وسقوط الإمبراطورية الرومانية".
في عام 1778م، يموت جان جاك روسو. وينشر الفليسوف كانط كتابه "نقد العقل المحض" سنة 1781م. وفي نفس العام، تصدر مسرحية "اللصوص" لشيلر. وفي عام 1783م، ينجح لافوازيه في تحليل الماء. ويتم صهر الحديد وتشكيله بنجاح.
في عام 1785م، أقيم أول مصنع نسيج في العالم بإستخدام البخار. وفي عام 1789م، هبت الثورة الفرنسية، واحتل الثوار سجن الباستيل. وتم اعلان حقوق الإنسان والمواطن. وظهر كتاب بنتام "مبادئ الأخلاق والتشريع". وفي عام 1790م، ظهر كتاب "نقد ملكة الحكم" للفليسوف كانط.
في عام 1792م، ظهر كتاب فيشته عن "نقد الوحي بكل صوره". وفي عام 1793م، ظهر كتابه عن "اسهامات في الثورة الفرنسية". في نفس العام، تم اعدام لويس السادس عشر، واختراع آلة حلج الأقطان.
في أكتوبر عام 1806م، سقطت مدينة جينا في يد نابليون بونابرت، واقتحم جنود بونابرت منزل هيجل. إلا أنه تحت هذه الظروف، أمكنه استكمال كتابه "ظاهريات الروح". وهو أعظم ما كتب في هذا الموضوع في الحضارة الغربية. لكنه صعب الفهم. من المستحيل استيعاب بعض أجزائه.
هذا ما كان يدور في العالم الغربي. فماذا كان يدور ياترى في عالمنا الشرقي. ولنأخذ مصر على سبيل المثال. فقد كانت الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت تحتل مصر منذ عام 1798م. في نفس العام الذي جاءت فيه الحملة، خرج الجبرتي في 5 ديسمبر ليشاهد ما يفعله الفرنسيون لشق طرق حديثة في قلب العاصمة. فكتب لنا ما يلي:
"فعلوا هذا الشغل الكبير والفعل العظيم في أقرب زمن. كانوا يستعينون في الأشغال وسرعة العمل بالآلات القريبة المأخذ السهلة التناول، المساعدة في العمل وقلة التكلفة. كانوا يجعلون بدل الغلقان والقصاع، عربات صغيرة. يداها الخشبيتان ممتدتان من الخلف، يملؤها الفاعل ترابا أو طينا أو حجارة من مقدمها بسهولة. بحيث تسع مقدار خمسة غلقان.
ثم يقبض بيديه على خشبتيها المذكورتين، ويدفعها أمامه فتجري على عجلتها بأدنى مساعدة. إلى محل العمل. فيميلها بإحدى يديه، ويفرغ ما فيها من غير تعب ولا مشقة. كذلك لهم فؤوس محكمة الصنعة، متقنة الوضع. غالبا الصناع من جنسهم، لا يقطعون الأحجار والأخشاب إلا بالطرق الهندسية. على الزوايا القائمة والخطوط المستقيمة."
هكذا كانت تعيش مصر وباقى البلدان العربية، كما يقول كاتبنا الكبير المرحوم يحى حقي، في عالمها المقفل . إلى درجة أن عربة نقل صغيرة بعجلة أمامية واحدة، بدت للجبرتي كأنها معجزة شيطانية.
عندما ذهب الجبرتي في اليوم نفسه، إلى المجمع العلمي الفرنسي بالقاهرة، وشاهد مكتبته، وحضر بعض التجارب الكيميائية والفيزيائية، التي هي أشبه بألعاب السحر في السيرك، كتب لنا ما يلي:
"من أغرب ما رأيته في ذلك المكان، أن بعض المقيمين به، أخذ زجاجة من الزجاجات الموضوع فيها بعض المياة المستخرجة. فصب منها شيئا في كأس. ثم صب عليها شيئا من زجاجة أخرى. فغلي الماءان، وصعد منهما دخان ملون، حتى إنقطع وجف ما في الكأس، وصار حجرا أصفر يابسا. أخذناه بأيدينا ونظرناه.
ثم فعل كذلك بمياة أخرى. فجمد حجرا أزرق, وبأخرى، فجمد حجرا أحمر ياقوتيا...وأخذ مرة زجاجة فارغة مستطيلة، في مقدار الشبر، ضيقة الفم. فغمسها في ماء قراح. وأدخل معها أخرى على غير هيئتها. وأنزلهما في الماء. وأتى آخر بفتيلة مشتعلة. وقربها من فم الزجاجة. فخرج ما فيها من هواء محبوس، وفرقع بصوت هائل. وغير ذلك، من أمور كثيرة، وبراهين حكيمة. تتولد من اجتماع العناصر وملاقاة الطبائع."
ويقول الرافعي عن الحالة الإقتصادية: " لقد أهمل الولاة العثمانيون والبكوات المماليك، أمر الري وتوزيع المياة وإقامة القناطر والجسور وحفظ الأمن. فجفت الترع، وتلفت الأراضي، وتعطلت الزراعة، وفقد الأمن، وذهبت ثروة البلاد، وهاجر الكثير من سكان القطر إلى البلاد المجاورة.
اضمحلت الصناعات والفنون، التي كانت تزدان بها في سالف العصور. وبدأت في الإضمحلال، بعد الفتح العثماني مباشرة. بسبب اضطراب الأحوال، وكثرة الفتن، وفقد الأمن، والإسراف في السلب والنهب. وكانت مصادرة أموال التجار، من أهم أسباب ركود الحركة التجارية. فاختفت رؤوس الأموال من أيدي الأهالي. وغلب عليهم الفقر. وصار الشعب إلى حالة محزنة من الضنك والفاقة."
وعن حالة المدارس، كتب على باشا مبارك : " أهمل أمر المدارس، وامتدت أيدي الأطماع إلى أوقافها. وتصرف فيها النظار على خلاف شروط وقفها. وامتنع الصرف على المدرسين والطلبة والخدمة. فأخذوا مفارقتها. وصار ذلك يزيد عاما بعد عام. حتي انقطع التدريس فيها بالكلية. وبيعت كتبها وانتهبت.
ثم أخذت تتشعب وتتخرب من عدم الإلتفات إلى عمارتها ومرمتها. فامتدت أيدي الناس والظلمة إلى بيع رخامها وأبوابها وشبابيكها. حتى آل بعض تلك المدارس الفخمة والمباني الجليلة، إلى زاوية صغيرة. تراها مغلقة في أغلب الأيام. وبعضها زال بالكلية وصار زريبة أو حوشا أو غير ذلك. ولله عاقبة الأمور."
لقد أردت أن أسهب عن قصد في المقارنة بين حال الغرب وحال الشرق ممثلا في الحالة المصرية، أيام هيجل. حتى نفهم، لماذا تطور الفكر الغربي وظهرت به هذه الحركات السياسية والفلسفية والثقافية والفكرية العظيمة. بينما كان الشرق ولايزال، يغط في سبات عميق. مكبلا بالفكر السلفي المتطرف والتخلف الشديد. الذي يحارب العقل والعلم والثقافة والفلسفة والفنون والآداب. مما أصبح يهدد، للأسف، وجودنا ووجود الدين الإسلامي نفسه.
ما هي المدارس الفلسفية التي كانت معروفة أيام هيجل. لقد كانت توجد الفلسفة العقلانية الفرنسية يتزعمها ديكارت، والفلسفة التجريبية الإنجليزية يتزعمها هيوم. والفلسفة الألمانية، التي تزاوج بينهما، لكانط. وكانت توجد أيضا حركة فكرية جديدة توصف بالرومانسية الألمانية.
لكن، ما هي الرومانسية الألمانية؟ الرومانسية الألمانية، لم تكن حركة جديدة في عالم السياسة ونظم الحكم، بقدر ما كانت حركة ثورية في عالم الأدب، والفلسفة والفنون التشكيلية والموسيقى والشعر.
لقد كانت طريقة جديدة للنظر إلى هذا العالم، نتج عنها طاقة إبداع خلاقة، تأثر بها المثقفون والفنانون الألمان. وجعلتهم يرفضون فلسفة التنوير التي تنحصر وتلتزم بالعقل فقط، وبالعلوم الرياضية وعلوم المنطق والقوانين العلمية.
فلسفة الأنوار، حسب رأي الرومانسيين، خُدعت بالتقدم الكبير المادي الذي أحرزته البشرية بتوظيفها للعلوم الحديثة في الصناعة والفلك والكيمياء، مثل قوانين نيوتن وكبلر وغيرها.
لكن ما هو البديل الذي يقدمه الرومانسيون لفلسفة الأنوار؟ البداية جاءت مع فلسفة كانط. كانط يقول أننا غير قادرين على معرفة كل الحقيقة. لأن معرفتنا محدودة بقدرات حواسنا. هناك حقيقة عليا، يعجز العقل عن إدراكها.
كيف الوصول إلى هذه الحقيقة العليا التي لا أستطيع إدراكها بالعقل وحده؟ يجيب الرومانسيون، بالنظر داخل أغوار النفس. لن تجد الحقيقة في العالم الخارجي، الذي يعتمد وجوده على الحواس. إنما الحقيقة والحقيقة العليا، نجدهما في الداخل. داخل النفس. نحن هنا نشم رائحة أفلوطين وإخوان الصفا ومشايخ الطرق الصوفية.
داخل أغوار النفس، يمكن معرفة الله ومعرفة الحقيقة ومعرفة سبب وجود الإنسان على هذه الأرض. وليس بالنظر إلى العالم الخارجي عن طريق العلوم والمنطق والفيزياء. إذا نظرت من الشباك، فلن تجد الحقيقة التي تبحث عنها.
مثل الوجوديين الفرنسيين في القرن العشرين، إستخدم الرومانسيون الألمان الأدب والرواية والدراما والمقالة والقصة القصيرة والموسيقى والشعر، للتعبير عن أغوار النفس الداخلية والشعور الإنساني، وشجب أي فلسفة أخري، تهمل التأمل في أغوار النفس البشرية.
العلوم الحديثة، لم تنجح في كشف كل خبايا النفس البشرية. العالم لا يزال يكتنفه كثيرا من الغموض. التخاطب عن بعد. والأحلام التي تتحقق بالضبط. والنبوءات التي تصدق. والتجارب الخاصة التي يمر بها بعض الأفراد. وقراءة الأفكار بدون كلام. والوقوع في الحب. وموضوع الروح والحياة الأخري والله والملائكة والشياطين...الخ.
لذلك بحث الرومانسيون عن فلسفة تجيب على كل هذه الأسئلة. لكي نفهم هذا العالم ونجيب على هذه الأسئلة، علينا أن نلجأ إلى التجربة الروحية. ولا نعتمد فقط على التجربة الحسية والقراءات التي تدونها أجهزتنا وحواسنا. والتي تعتمد على التحليل العقلي والإستنتاج.
يجب علينا استكشاف الجانب المعتم والمناطق الغير معروفة داخل نفوسنا. ومعرفة أسرار مناطق الشعور والخيال. علينا أن نكتشف روح الإنسان والطريقة التي تتعامل بها مع هذا العالم، والمجتمع والتاريخ والله. على الفليسوف ألا يتقيد بالحدود الضيقة للعلوم والمنطق، ويبحث عن الزهرة الزرقاء التي جاءت في شعر "نوفاليس". والتي عبر بها عن الحنين لحب الجمال بدون حدود.
بالنسبة للرومانسيين، الحقيقة العليا وطبيعة الإنسان، لا تعتمد على الحجة والعقلانية فقط، ولكن أيضا على إرادة الفرد. إرادة الفرد، تتشوق إلى تحقيق الذات.
إرادة الفرد، تبحث عن الكمال. تحاول الوصول إليه عن طريق التجربة الخاصة والتجربة الروحية، أو عن طريق أحداث التاريخ وحركة الثقافة والفكر. تكافح بإستمرار مثل شخصية "فاوست" في مسرحية جوته. دافعها الوحيد، الرغبة العارمة للوصول للحقيقة. مما جعله يبيع روحه للشيطان، ثمنا لذلك.
يقول الرومانسيون، أن الأشياء الحقيقية، هي في الواقع أشياء روحية. وليست مادية، كما يقول فلاسفة التنوير. الطبيعة، في أدب الرومانسيين، أشياء روحية. الطبيعة ليست ساعة كبيرة ميكانيكية. تعمل بقوانين نيوتن. لكنها شئ حي ينبض بالحياة، له إرادة.
الطبيعة هي أعظم معلم. التقارب مع الطبيعة، يؤدي إلى الحكمة والسعادة. وهذه رسالة الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردزورث، عندما قال ما معناه:
" إن نبضة واحدة من غابة ربيعية
كفيلة بأن تعلمنا عن الإنسان
وعن الخير والشر
أضعاف ما يعلمنا إياه الحكماء كافة"
لقد كان وردزورث، يعتقد بأن الحكمة، لا تأتي عن طريق القراءة والدراسة والشهادات العلمية، لكن عن طريق الإقتراب والإرتماء في أحضان الطبيعة. ويقول شاعرنا العظيم جبران خليل جبران في نفس المعنى:
أعطني الناي وغني فالغنا سر الوجود
وأنين الناي يبقى بعد أن يفنى الوجود
هل اتخذت الغاب مثلي منزلا دون القصور
فتتبعت السواقي وتسلقت الصخور
هل تحممت بعطر وتنشفت بنور
وشربت الفجر خمرا في كؤوس من أثير
هل جلست العصر مثلي بين جفنات العنب
والعناقيد تدلت كثريات الذهب
هل فرشت العشب ليلا وتلحفت الفضاء
زاهدا في ما سيأتي ناسيا ما قد مضى
اعطني الناي وغني وانسى داء ودواء
أنما الناس سطور كتبت لكن بماء
بالنسبة لفلاسفة عصر التنوير، الله هو المهندس المصمم لهذا العالم كآلة ميكانيكية. لكن بالنسبة للرومانسيين، الله هو روح هذا العالم. لا يوجد خارجه، ولكن يوجد في كل مكان.
الموضوع الأخير بالنسبة للرومانسية، هو إيمانها بالإستقطاب. كل الأمور، لها وجه مقابل، أو وجه آخر. أي تجربة يمر بها الرومانسي، لها وجهان. لو كانت كل الأمور لها وجه واحد، لأصبحت الأمور جامدة صلبة قاسية. ويصبح الإنسان أسير أفكاره.
هذه مشكلة الفكر المتعصب. لا يعترف برأي الآخر. لذلك، يصبح المتعصب أسير أفكاره. الرومانسية تحارب أحادية التفكير. حتي لا يصبح الفرد، عبدا لما يعتقد. أو كما قال فاوست: "طالما أنا ساكن راكد، فأنا مستعبد". ولقد قال الإمام الشافعي في مثل هذا المعنى: "رأي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب".
عندما دخل هيجل المعهد الديني في توبينجين لدراسة الفلسفة والدين لمدة خمس سنوات. كانت أفكار الرومانسيين في كل مكان. فأي الأفكار الفلسفية الموجودة لها التأثير القوي على هيجل؟
هل هي الفلسفة الرومانسية، التي تؤمن بالروح والإرادة والتعدد؟ أم الفلسفة العقلانية أم التجريبية، التي تؤمن كل منها بالعلوم والتقدم والحقوق الطبيعية للإنسان؟ أم فلسفة كانط التي هي مزج بين العقلانية والتجريبية؟ الإجابة هي: لقد تأثر هيجل بكل هذه الفلسفات مجتمعة.
لقد تأثر هيجل بالرومانسية، بالرغم من هجومه عليها في بعض الأحيان. لقد كان يبحث هيجل عن فلسفة غير مقيدة بحدود. تشمل كل تجارب الإنسان وخبراته. تدمج كل المعارف: علوم وتاريخ ودين وسياسة وفن وأدب وموسيقى وشعر.
كيف نجمع كل هذه الخبرات في نظام فلسفي واحد؟ وكيف نضعها كلها في نظرية منطقية واحدة بدون تعارض؟ لقد فعل ذلك، عن طريق مفهوم العقل المطلق أو الروح.
كيف يجمع هيجل كل هذه الخبرات، بما فيها من تناقض وتوتر وتشاحن وتمازج وتجديد وتدمير وإبداع. كيف نضع كل ذلك في سياق وحدة عقلانية شاملة؟ لقد فعل ذلك عن طريق نظريته في "الجدلية".
لكن، هذه الفلسفة الشاملة التي تبغي فهم الحقيقة، هي فلسفة ميتافيزيقية. هنا نجد هيجل قد وقع في مشكلة. هل الميتافيزيقا لا تزال ممكنة؟ التجريبيون، بدءاً من جون لوك، كان موقفهم صعب بالنسبة للأمور الميتافيزيقية.
الميتافيزيقا تفسر معني الوجود والمادة، ولكن كما يقول لوك، هل لدينا دليل أو تجارب عملية تثبت حقيقة هذه القضايا الميتافيزيقية؟ وهل عقل الإنسان قادر على فهم الحقيقة العليا، أو استدراك مثل هذه الأمور؟
كانت نصيحة جون لوك لباقي الفلاسفة: "لا تحاولوا بناء صرح كبير ميتافيزيقي" يكفيكم، تنقية الميتافيزيقا القديمة من الشوائب والتلوث.
قام دافيد هيوم التجريبي أيضا، بمهاجمة الميتافيزيقا. الميتافيزيقا بالنسبة لهيوم، عديمة الفائدة، ومسألة تضييع وقت. لأنها ببساطة مسائل لا تدركها الحواس، ولا تخضع للتجربة. الميتافيزيقا تبحث في أشياء خارج نطاق الحواس، مجرد وهم. لذلك فهي غير ممكنة، ويجب التخلص منها وإلقاؤها في النار.
ثم تذهب الفلسفة الغربية إلى كانط، الذي يجاهد ضد التجريبيين. ويدافع عن صحة العلوم. لكن دفاع كانط عن العلوم، لم يكن بالمجان. الثمن هو أننا لا يمكننا أن نعرف حقيقة الأشياء ولكن ظاهرها فقط.
نحن يمكننا معرفة العالم الخارجي الذي يأتي إلى عقولنا. من خلال نظارة المكان والزمان وفئات أو برامج الفهم الموجودة داخل عقولنا. الميتافيزيقا هنا، هي محاولة معرفة الأشياء على حقيقتها. وهذا شئ مستحيل من وجهة نظر كانط. معرفة الحقيقة، غير معروفة لنا.
لكن الميتافيزيقا بالنسبة لهيجل ممكنة. لقد أخذ هيجل من كانط، كون المعرفة تأتي عن طريق العقل، عن طريق نظارة المكان والزمان وفئات أو برامج الفهم. لكن هيجل له ثلاث إعتراضات علي نظرية كانط في المعرفة.
الإعتراض الأول، هو أن برامج الفهم محدودة عند كانط، لكنها غير محدودة عند هيجل. الإعتراض الثاني، هو أن برامج الفهم هذه، لا تقتصر على الحواس فقط كما يقول كانط. الإعتراض الثالث، هو أن المعرفة ليست ظاهرية، كما يقول كانط. لقد أراد هيجل مزج أفكار كانط بأفكار الرومانسيين، حتي يتخطى حدود المعرفة التي وضعها كانط في فلسفته.
لكن، ما هي نظرية هيجل الجديدة عن الحقيقة؟ لقد وجد هيجل طريقة يجمع بها ثقافة الإنسان وكل علومه وتجاربه الروحية المترامية من فنون وآداب ودين وسياسة وتاريخ، بالإضافة إلى تجاربه الشخصية، في نظرية واحدة. هذه النظرية، توحد كل المعرفة في عقل مطلق أو روح سرمدية أو الله، هي بمثابة الحقيقة العليا.
الحقيقة هنا، مفهوم عام شامل معقد، لمفاهيم عقلية تكوّن العقل المطلق أو الله. الحقيقة عقلانية، والعقلانية حقيقة. الحقيقي هنا حسب كلام هيجل، هو كل ما يدركه العقل، وليس كل ما تدركه الحواس، كما يقول التتجريبيون. وأيضا، كل شئ صادق، يمكن للعقل أن يدركه.
نظرية هيجل عن الحقيقة، هي نظرية ميتافيزيقية تسمى المثالية المجردة. المثالية بصفة عامة، هي إسم لنوع من الميتافيزيقيا، يقول بأن الحقيقة لها خواص عقلانية ومنطقية وروحية.
الحقيقة هي هذا التركيب العام للمفاهيم العقلانية. أي التي يمكن أن يدركها العقل. مثل أفلاطون، يقول هيجل، أن ما يفهم بالعقل والتصورات والأفكار هي الحقيقة. الله عند هيجل، هو الحقيقة العليا والصدق. يتجلى لعقولنا المحدودة خلال كل مجالات المعرفة وتجاربنا المختلفة.
ما هو الوجود؟ أي ما هي الأشياء الحقيقية الموجودة في هذا العالم، من مادة وخلايا ومجتمعات...إلخ؟ هل هذه الصور من الوجود كلها، لها وجود حقيقي؟ بالنسبة لهيجل، العقلاني، أي الذي يدركه العقل فقط هو الحقيقي.
الشئ الحقيقي لا يختلف عن الشئ الموجود. هو نفس الشئ. الفرق بين الحقيقي والموجود، هو أن الموجود أكثر فهما بالنسبة لنا. المثالية المطلقة لهيجل، تخترق هذا الوجود لكي تجد العقلانية والصدق.
هنا يمكننا أن نري الفرق بين مفهوم المُثُل أو الأفكار عند أفلاطون، ومفهوم التصورات عند هيجل. عند أفلاطون، الأفكار توجد مستقلة عن الشخص أو الوجود. وهذا يشكل مشكلة بالنسبة لفلسفة أفلاطون. بالنسبة لهيجل، مفهوم التصورات العقلانية، لا ينفصل عن الوجود وعالم الأشياء.
يختلف هيجل عن هيوم وكانط، في أن الحقيقة يمكن معرفتها والوصول إليها. بالنسبة لهيجل، كل شئ موجود هو عقلاني. وهذا يعني أن كل شئ له تركيبة عقلانية يمكن للعقل البشري أن يستوعبها. كل خبرات الإنسان وتجاربة يمكن إستيعابها وفهمها.
العقل المطلق، عبارة عن توحيد شامل لكل الحقائق العقلانية. يشمل كل التجارب والخبرات. ويقوم بترتيبها في وحدة مترابطة.
وظيفة الميتافيزيقا هي توضيح المكونات المختلفة للحقيقة، ومعرفة حدودها وتداخلها، داخل الوحدة الشاملة للحقائق العقلانية. العقل المطلق، كما يقول هيجل، هو الحقيقة الواحدة التي تبدو صورها المختلفة لنا في كل مجالات التجارب البشرية.
الصور المختلفة لهذه الحقيقة، تظهر لنا كتجارب مختلفة للإنسان. تظهر في علوم المنطق والعلوم الطبيعية وعلم النفس والعلوم السياسية والتاريخ والفلسفة والمسرح والموسيقى والشعر...إلخ. نحن نفهم الفيزياء والفلسفة والفنون وعلم النفس وغيرها، كمفاهيم مختلفة في كل مجال.
كل مجال من هذه المجالات، يظهر جانب أو جزء من جوانب الحقيقة. الفيزياء مثلا، تظهر جانب مهم من الحقيقة. لكنه جانب واحد. وهذا ما يقوله الرومانسيون. وظيفة الميتافيزيقا هي إظهار كل جوانب وسمات الحقيقة. هذا هو معنى الحقيقة عند هيجل. هذه الحقيقة التي تمثل الصدق الكامل. مجرد تركيب كلي لأجزاء متفرقة.
سنقوم الآن بمناقشة النظرية الجدلية الهامة لهيجل.
"الجدلية"، هي فكر فلسفي قديم. أول ظهورها أيام الإغريق، 500 سنة قبل سقراط. حيث كانت نظرية العناصر الأربعة المتعارضة، الماء والهواء والنار والتراب، تكون العالم الحقيقي الذي ندركه.
جاء هيروقليطس، بعد ذلك، ليقول أن كل شئ يتشوق للتحول إلى نقيضه. وسقراط نفسه، لجأ إلى الجدلية في مجادلاته مع معارضيه لكي يوقعهم في التعارض. ثم يقوم سقراط بحل التعارض ليستخرج منه التعاريف الدقيقة.
في جمهورية أفلاطون، أعلى مراحل المعرفة، هي المرحلة التي نتغلب فيها على التعارض. هي المرحلة، التي تطضح فيها المُثُل أو الأفكار، وتعرف بمضامينها الحقيقية، وبالنسبة لعلاقة كل منها بالآخر، وعلاقة كل منها بالله.
لقد قام هيجل بدمج أفكار هيروقليطس وسقراط وأفلاطون في نظريته عن الجدلية. وقدم لنا نظرية طموحة متكاملة عظيمة جبارة.
ماذا يعني هيجل بالجدلية؟ الجدلية عند هيجل هي مجرد توحيد للعناصر المتعارضة. مثل الحكومات الإئتلافية. فهي أيضا، تتكون من أحزاب متعارضة الأفكار.
كل مفهوم نفكر فيه، يبدي لنا حدوده وإمكاناته المتواضعة. هذا يقودنا إلى الضد. وهذا يقودنا إلى تعارض واستقطاب الأفكار.
هيروقليطس في الزمن القديم كان يقول بأن كل شئ في تغير مستمر. هذه الفكرة بدأت تظهر عيوبها. مما أدى إلى ظهور فكرة معارضة للفيلسوف الإغريقي بارمنيدس. التي تقول بأن كل شئ ثابت لا يتغير.
مقولة هيروقليطس أسماها هيجل "الطريحة" أو "الفرضية" أو الرأي الذي لم يثبت بعد (Thesis). فكرة بارمنيدس التي ظهرت من التناقض، أسماها هيجل "النقيضة" أي "التناقض" (Antithesis). الصراع بين "الطريحة" و"النقيضة"، يمكن التغلب عليه، حسب رأي هيجل.
ينتج من ذلك، مفهوم جديد يقوم بحل التعارض. ويأخذ من الأفكار المتصارعة أفضل ما فيها. هذه الفكرة الوليدة، أسماها هيجل "الجميعة" أو "التركيبة" (Synthesis).
فلسفة أفلاطون، تعطينا "الجميعة"، التي تجمع بين "طريحة" هيروقليطس و"نقيضة" بارمنيدس. لقد احتفظ أفلاطون بفكرة التغير، لكنه قصرها على العالم المحسوس. وقام أفلاطون في نفس الوقت، بالإحتفاظ بفكرة بارمنيدس الخاصة بعدم التغيير. لكن أفلاطون قصرها على عالم الفكر.
لقد قام أفلاطون بمزج الأفكار المتصارعة وخرج منها بفكر يجمع أفضل ما فيها. كما يقول قيس بن الملوّح، شهيد الغرام:
"وقد يجمع الله الشتيتين بعدما – يظنان كل الظن أن لا تلاقيا". ولو استبدل ابن الملوح كلمة الشتيتين بالنقيضين، لسبق هيجل في التوصل إلى الجدلية.
جدلية هيجل تحدث على ثلاث مراحل. لذلك توصف بالثلاثية. وهي تختلف عن ثلاثية نجيب محفوظ وبطلها السيد عبد الجواد. تنتقل من المرحلة الأولى "الطريحة"، إلى المرحلة الثانية "النقيضة" التي تنفي وتضاد وتعارض صحة المرحلة الأولي. هذا التعارض، ينشأ عنه المرحلة الثالثة "الجميعة"، وهي مرحلة التصالح والتسامي. مرحلة صدق أعلى وأسمى وأرقى من كلا من المرحلتين السابقتين.
المرحلة الثالثة "الجميعة"، لها ثلاث خواص:
1- تستطيع أن تنهي التصادم والتشاحن بين "الطريحة" والنقيضة"
2- تبقي على أفضل ما في "الطريحة" و"النقيضة" من خصال.
3- تتغلب على التناقض وتسمو بالصراع إلى حالة أرقى وأفضل.
هذه الخطوات الثلاث في جدلية هيجل، لا تقتصر على تاريخ الفلسفة، كما بينا سابقا بالنسبة لأفكار هيروقليطس وبارمينيدس وأفلاطون. لكنها، كما يقول هيجل، بمثابة الإيقاع والنغم للحقيقة وكل ما نعرف.
المعلومات التي ننشدها بتجاربنا ودراساتنا وعلومنا، ليست معلومات جامدة وساكنة وثابتة. لكنها تنتقل بإستمرار من الفروض إلى النقائض إلى حقائق جديدة.
العقل المطلق، الذي يشمل كل هذه الحقائق، عبارة عن حركة ديناميكية. تُظهر لنا الحقائق والصدق بأسلوب جدلي. الحقيقة لا تظهر لعقولنا المحدودة مرة واحدة، ولكن خطوة خطوة. أو كما تقول الفلاحة المصرية لإبنها الذي يتعلم المشي: "تاتا تاتا، خطي العتبة تاتا". تاتا كلمة فرعونية قديمة، تعني إمشي.
إذا قارنا نظرية هيجل الجدلية بكلام أفلاطون، فسوف نجد خلافا بينا. بالنسبة لأفلاطون، الهدف من الإرتقاء بالمعرفة، هو التخلص من التناقضات والتعارض.
لكن بالنسبة لهيجل، التعارض دائما موجود ومستمر. خلق التعارض بين الأضداد، هو طبيعة الفكر العقلاني، وبالتالي هو الحقيقة نفسها.
جدلية أفلاطون، ينتج عنها المعرفة والحقائق الصادقة الجامدة الثابتة. لكن جدلية هيجل تقول بأن المعرفة والحقائق، ديناميكية متغيرة.
بالرغم من وجود فروق جوهرية بين جدلية أفلاطون وجدلية هيجل، إلا أنه لا يزال هناك تشابه بين الجدليتين. كلاهما يتصاعد بجدليته من معرفة دنيا إلى معرفة أسمى وأرقى. وكلاهما يرى الحقيقة تتخطى حدود الحواس والأسلوب العلمي المعروف. وكلاهما استخدم الجدلية لبناء نظام فلسفى متكامل.
الجدلية تفسر الوجود بأنه "الطريحة"، والعدم بأنه "النقيضة". ومن التعارض بين الوجود والعدم، يأتي كل شئ في هذا الكون.
الجدلية هي خاصية من خواص الحقيقة نفسها وطريقة العقل الإنساني المحدود لفهمها. تتناغم مع كل الفكر الإنساني وحركة التاريخ، وأسلوب لفهم كلاهما.
وللحديث عن جدلية هيجل عبر التاريخ بقية. فإلى اللقاء.
zakariael@att.net
06/11/2014