رسالة مفتوحة إلى الشيخ البدرى
...............................................................
بقلم: محمد زكريا توفيق
..............................
تحية كبيرة تليق بمقامكم الكبير، وبعد
فيا شيخنا الجليل، ليس من المعقول أن تطارد المسلمين من حين إلى حين بهذا الشكل القمئ. تأخذهم، أخذ عزيز مقتدر، إلى المحاكم، كلما تفوه أحدهم بكلمة، أو جاء برأى لا يرضى جنابك. فالرحمة حلوة برضه.
وكما لا يخفى عليك، حرية الرأى مكفولة فى الإسلام، والقرآن الكريم يطالبنا بإعمال العقل وهذا دليلنا:
من كل ثمان آيات كريمة فى القرآن، آية تحض على التفكير والتأمل والنظر وإعمال العقل.
القرآن الكريم يحث على العلم والقراءة. "إقرأ بإسم ربك...".
آيات مثل: "أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت. وإلى السماء كيف رفعت...". ألا يعنى هذا دعوة إلى دراسة علم الحيوان والفلك. أم هى آيات موجهة للكفار ونحن معفون منها. وكأن الغرض من التفكير هو الوصول إلى الإيمان فقط. وما دمنا قد آمنا فلا داعى لإعمال العقل بعد ذلك.
وما رأي جنابك فى الآية التى تقول: "سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق". أليست هذه دعوة لدراسة علم النفس.
والتى تقول: "أو لم ينظروا فى ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شئ...", وهى آية تحث على النظر فى جميع الموجودات, كما يقول إبن رشد.
هناك نص صريح على وجوب إستعمال القياس العقلى فى التفكير وهى الآية: "فاعتبروا يا أولى الأبصار".
والحديث الشريف يقول: "اعقلوا عن ربكم وتواصوا بالعقل تعرفوا ما أمرتم به وما نهيتم عنه. واعلموا أنه ينجدكم عند ربكم...".
من رأى حسن حنفى: "أن النص القرآنى نص لغوى. لاتمنع طبيعته الإلهية أن يدرس ويحلل بمنهج بشرى. وإلا تحول إلى نص مستغلق على الفهم. " وهو رأى يتفق مع رأى المعتزلة.
الرازى يقول: إن البارى أعطانا العقل وحبانا به لننال ونبلغ به المنافع العاجلة. وإنه أعظم نعم الله عندنا وأنفع الأشياء لنا وأجداها علينا.
الفارابى: إن الدين والفلسفة لا تتناقضان. وليس بينهما تعارض. وذلك لأنهما تتفرعان من أصل واحد وهو العقل الفعال.
دعا المعرى إلى تحكيم العقل فى كل شئ وإلى طاعته. ففى ذلك الرحمة والخير. وفى رأيه أن الخير لا يكون خيرا حقيقيا الا إذا كان خاضعا لحكم العقل.
بلغ إيمان ابن طفيل بالعقل درجة جعلته يقول: إن العقل يستطيع بالإستقراء والتأمل أن يدرك الحقائق العليا إدراكا تاما.
ابن رشد كان يتقيد بالعقل ولا يسير إلا على هداه. حتى إنه دعا إلى تأويل الإجماع إذا كان الإجماع يخالف العقل.
آمن علماء المسلمين إبان النهضة الإسلامية بسلطان العقل. فإذا تعارض دليل النقل ودليل العقل, أوجبوا تأويل دليل النقل، بما يوافق دليل العقل. أو عملوا بدليل العقل. وإذا تعارض حديث مع العقل, إعتبروا الحديث مزورا وغير صحيح.
وأخضعوا الأدب والتشريع للعقل. وساروا فى أساليبهم وفى معالجتهم القضايا على أساس العقل والمنطق. لم يعبأوا بالعراقيل والتقاليد والعوائق. ولا بقداسة وسلطة الماضى. فطهروا الفلك من أدران التنجيم. وصححوا الكثير من الآراء التى جاء بها فلاسفة اليونان. وأطاحوا بالخرافات التى تسود بعض فروع المعرفة مثل تحويل النحاس إلى ذهب وغيرها.
يقول الدكتور عمر فروخ فى كتابه "عبقرية العرب": أن نظرية ابن حزم فى المعرفة جاءت قبل نظرية الغربيين بسبعة قرون ونصف قرن. حيث يرى ابن حزم أن المعرفة تتكون من الحواس والعقل والبرهان. ويرى ابن حزم أن الغرض من الشريعة والفلسفة هو إصلاح النفس.
ونجد الغزالى فى تهافت الفلاسفة, يصل إلى أقصى حدود الشك. فيسبق هيوم زعيم فلاسفة الشكيين بسبعة قرون فى الرد على نظرية العلة والمعلول. وبالرغم من محاولاته إخضاع العلم والعقل للوحى والدين. نجد أنه يرى أن العقل هو منبع العلم ومطلعه وأساسه.
وابن باجه بنى فلسفته العقلية على الرياضيات والطبيعيات. وهذا ما أراد "كانط" أن يسير عليه فى فلسفته. ويرى بعض الباحثين, كما يقول قدرى حافظ طوقان فى كتابه "مقام العقل عند العرب", أن ابن باجه خلع عن مجموع الفلسفات الإسلامية سيطرة الجدل. ثم خلع عليها لباس العلم الصحيح وسيرها فى طريق جديد. ويقول الدكتور فروخ, أنه أول من فصل بين الدين والفلسفة.
ونجد ابن طفيل يقوم بنقد بطليموس القلوذى صاحب كتاب المجسطى. ونقد فلسفة الفارابى وابن سينا وابن رشد والغزالى. وكان كثيرا من الأحيان صائبا فى نقده. مما يدل على إستقلال الفكر والبصيرة النافذة. وكتابه حي بن يقظان, من أروع الكتب وأحسن ما تفتخر به الفلسفة الإسلامية.
وابن خلدون يرى أن الأقيسة المنطقية لا تتفق مع طبيعة الأشياء المحسوسة. وهويدعو إلى بحث ما تؤدى إليه التجربة الحسية.
وقول القاضى عبد الرحيم البستانى الذى يدل على الإيمان بالتغير والتقدم والتطور:
"لا يكتب إنسان كتابا فى يومه, الا قال فى غده: لوغير هذا لكان أحسن. ولو زيد هذا لكان يستحسن. ولو قدم هذا لكان أفضل. ولوترك هذا لكن أجمل. وهذا من أعظم العبر. ودليل على استيلاء النقص على جملة البشر."
لنسمع شهادة الدكتور لويس برنارد أستاذ التاريخ بجامعة لندن حيث يقول:
"إن أوروبا تحمل دينا مزدوجا للمسلمين. فقد حافظوا على الميراث الفكرى والعلمى الذى خلفه اليونان, وتوسعوا فيه ونقلوه إلى أوروبا. وعلموا أوروبا طريقة جديدة للبحث المستقل والمعرفة عن طريق التجربة." وكان لهذا الفضل الكبير فى القضاء على العصور الوسطى والإيذان بعصر النهضة الأوروبية.
ويعترف جستاف لوبون بأن المسلمين أول من آمن بحرية الفكر والتسامح الدينى.
وقد إطلع فرانسيس بيكون على فلسفة ابن رشد ومؤلفاته ودرسها دراسة عميقة. وكان معجبا بإبن رشد إعجابا شديدا. وقد إعترف فى كتاباته بأن ابن رشد قد صحح كثيرا من أغلاط الفكر. وأضاف إلى تراث العقول ثروة لا يستغنى عنها.
ويقول الأستاذ ليبرى: "لولا إنقاذ المسلمين لكنوز اليونان الفكرية وصيانتهم لها. ولولا تسامحهم وطريقتهم فى تقديم العقل على النقل, لتأخرت نهضة أوروبا الفكرية عدة قرون."
والمرحوم العقاد يكاد يجزم بأن التفكير فريضة إسلامية واجبة على كل مسلم.
يا شيخنا الجليل، كلنا أولادك. إن كنا أخطأنا، وجل من لا يخطئ، فخذ بأيدينا وإهدنا إلى الصراط المستقيم. ولا تجرجرنا وراءك إلى المحاكم ودهاليز القضاء، كما يجرجر السفلة والمجرمين. وأنت عاقد العزم والنية، مع سبق الإصرار والترصد، على تكفير من يبدى الرأى، والتحريض على قتله وسمل عينيه، وخراب بيته وتطليقه من زوجه وتشريد عياله. ولسان حالك يقول: " أنا ابن جلا وطلاع الثنايا – متى أضع العمامة تعرفونى"
ماذا نفعل إذا وجدنا الجهاز، الذى أمرنا الله سبحانه بتشغيله، والمسمى المخ، يخبرنا ببعض الحقائق التى كانت غائبة عن السلف الصالح، بحكم إختلاف العصر والأوان؟
وبماذا نجيب أولادنا عن أسئلة وتساؤلات كثيرة، يعودون بها من المدارس، عن الخلق، والحياة، والظلم الذى يملأ قلوب البشر، ولا نجد لها إجابات فى التراث والتفاسير القديمة؟
هل نجرى وراء أولادنا بالهراوات والسنج والبوانى الحديد؟ أم نجيبهم بما يسر الله لنا من علم وفهم جديد، لم يكن متوافرا للسلف الصالح من قبل؟
الآن، لدينا الكمبيوتر وشبكة الإنترنت الرهيبة، التى تجعل المعلومة طوع بنانك. تأتى طيعة أمامك، بالصوت والصورة، بالكلمات وبكل اللغات، فى جزء من الثانية. فسبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين.
سيدى الشيخ، المصادر العلمية المتوافرة للباحث اليوم، لم تكن موجودة زمان، أيام السلطان شعبان. والباحث اليوم، يستطيع أن يلم بكل ما يعرفه السلف الصالح والطالح. بالإضافة إلى أطنان جديدة من المعرفة، لم تكن متوافرة لشيوخ الماضى.
السلف، لم يكونوا يعرفون ما نعرفه اليوم, وهذا شئ بديهى. كل معلماتهم، بالرغم من إحترامنا الشديد لهم، لم تكن دقيقة، ولا تمثل واحد فى المليون، من المعرفة الحديثة بفروعها المختلفة. حجم المعرفة الموجود اليوم، لا يخطر على بال إنسان. وبالطبع لم يخطر، حتى فى الأحلام، على بال مشايخنا الكرام أيام زمان.
السلف الصالح لم يكونوا يعرفون شيئا عن الميكروبات والفيروسات وتركيب الذرة والخلية والحامض النووى (DNA)، والنظريات الحديثة، مثل النسبية الخاصة والعامة ونظرية الكم والتطور, والكمبيوتر وخلافه.
وكانت تنقصهم المعرفة بالعلوم الرياضية الحديثة ومعادلاتها المعقدة ونظريات الإحتمالات، التى تساعدهم فى كشف أسرار الطبيعة. ومعرفة كيف تنتشر موجات الضوء فى الفراغ، وموجات الحرارة فى الموّصلات والسوائل. وكيف تتحرك الإلكترونات فى أشباه الموصّلات. وكيف تتواجد النجوم والأجرام السماوية, وكيف تنفجر وتموت فى نهاية عمرها المديد, أطال الله فى عمرك.
العلوم الحديثة تساعدنا على التنبؤ بحركة الرياح والتيارات البحرية فى المحيطات، والأنهار وخلافه. لذلك كانت تفسيرات السلف الصالح لمعظم الظواهر الطبيعية، بسيطة وساذجة. تعتمد أساسا على وجود الملائكة والشياطين والعفاريت والجان والقوى الخفية, ودمتم.
هل تعلم يا مولانا أن بتلات الزهرة والقرنبيط وفروع الشجرة وتوالد الأرانب، تتبع نمط عددى يسمى "أعداد فيبوناشى". وأن بعض الزهور تتفتح تبعا لخواص القطع المكافئ الضوئية. وأن هناك أعداد هامة أخرى، تفسر لنا كيف تعمل الطبيعة وتكشف لنا شيئا عن أسرار هذا الكون. مثل أعداد أويلر وبلانك والنسبة الذهبية وأعداد لوكاس وكاتالان و"بل" وغيرها.
بالطبع شيخنا الجليل ومعظم مشايخنا الكرام، قد حبسوا أنفسهم فى آية واحدة أو بضع آيات أو حديث نبوى. لا يستطيعون الخروج منها، أو تفسيرها بما يتماشى مع علوم العصر.
هل تعلم يا شيخنا، أن هناك مادة ومضادات للمادة. إذا تقابلا، تلاشيا واختفيا من الوجود. ولم يبق منهما شئ سوى وميض ضوء، هو بمثابة الروح تصعد إلى بارئها.
وأن الزمن يرجع إلى الوراء، أى إلى الماضى، بالنسبة لجزيئات المادة الصغيرة. فهل هذا كفر أيضا. فالزمن ينكمش ويتمدد، مثل آلة الأكورديون، حسب الحركة وإتجاهاتها. وأن الكون والفراغ ينبعج و ينكمش ويتحدب ويتقعر ويلتوى مثل الرغيف الملعبط، وفقا لما به من مادة.
هل تعلم يا مولانا، أن فى كل خلية من الخلايا الحية، موسوعة علمية ودار معارف مكتوبة بلغة رقمية مثل لغة الكمبيوتر. مدونة بأربع حروف فقط لا غير. هى المسؤولة عن كل شئ يقوم به الكائن الحى.
هذا جزء صغير جدا من المعلومات الموجودة حاليا، على سبيل المثال. بالتأكيد لم تكن متوافرة للسلف الصالح. ليس هذا عيب فيهم، أو ميزة فينا، لكنها إرادة الله فقط لا غير، لأنهم جاءوا قبلنا. فماذا نفعل بهذه المعلومات؟
هل نضع هذه المعلومات فى غرفة من غرف القصر، ونغلق الغرفة بالضبة والمفتاح. ونجلس بالنبوت على بابها لكى نمنع أى متطفل من التسلل ومعرفة ما بداخلها. وهذا ما يفعله مشايخنا الكرام اليوم.
أم الأفضل ترك هذه المعلومات والكنوز وتراث البشرية ملكا للجميع، كما يأمرنا ديننا الحنيف.
لماذا الخوف؟ إذا وجدنا تعارض، فالخطأ يكون دائما فى التفاسير وليس فى النصوص. التفاسير مجهود بشرى. ولولا أنها مجهود بشرى، لما كان لدينا المذاهب الأربعة: المالكى والحنفى والشافعى والحنبلى. فالمعنى، كما يقول الفيلسوف لودفيج فيتجنشتاين، لا يمكن أن ينفصل عن أفعال وسلوكيات أهل اللغة والتفاسير.
يا سيدى، الإمام أبو حنيفة لم يقبل من الأحاديث النبوية سوى 17 حديث (الدكتور أحمد أمين). ولم يكفره أحد، أو يؤخد بتلابيبه ويجره للمحاكم. والخليفة عمر، رضى الله عنه، أبطل حدا من الحدود، فى عام المجاعة، ولم يكفره أحد بسبب ذلك أو يلومه.
الباحث فى التاريخ الإسلامى، ليس كافرا. فالتاريخ الإسلامى ملك للمسلمين وملك للبشرية كلها، مثل أى تاريخ. وليس ملك فئة معينة تحتكر الإسلام لأسباب شخصية.
شبابنا يريد أن يعرف لماذا هناك شيعة وسنة ودروز وعلوية. ولماذا ينقسم الإسلام إلى فرق وأحزاب. ولماذا كان هناك خوارج وقرامطة وحشاشين وأزارقة وأصافرة ومعتزلة وخلافه. لماذا قامت حروب دامية بينهم؟ وليس فى دراسة التاريخ الإسلامى أى عيب. بل واجب مقدس على كل مسلم.
الصحابة رضوان الله عليهم، كانوا منقسمين على أنفسهم. وقامت بينهم حروب وإسالة دماء. حروب بين الإمام على وطلحة والزبير. وكانت السيدة عائشة فى جانب طلحة والزبير ضد الإمام على. وقامت أيضا حروب بين الإمام على ومعاوية. وبين الحسين ويزيد بن معاوية. والصراع على الخلافة، لم يتوقف لحظة واحدة إلى أن ألغيت الخلافة فى تركيا فى النصف الأول من القرن العشرين. وبعد أن تحول الحكم إلى ملكية وراثية، كان سلاطين المسلمين، يقتلون آباءهم ويخنقون أخواتهم حبا فى السلطة.
إننا عندما ندرس التاريخ الإسلامى الحقيقى، لا المزور، نتعلم منه ونستفيد من الأخطاء، إن كان هناك أخطاء، والمزايا إن كان هناك مزايا. وإذا قام باحث منا، بدراسة المجتمع، أو حالة العرب فى الجزيرة قبل الإسلام أو بعد ذلك، فلا يعتبر هذا الباحث كافرا، يستباح دمه، ونسعى إلى تطليقه من زوجه.
الباحث قد يخطئ وقد يصيب. وهذا شأن كل باحث فى كل مكان وكل أوان. إن أخطأ، وجل من لا يخطئ، فله أجر إجتهاده. واجبنا تبصيره بالخطأ والرد عليه، لا قتله وتشريده. وإن أصاب، فله أجران. أجر إجتهاده، وأجر صوابه.
يا شيخنا الجليل، بالله عليك لا تكن من الظالمين. فالله سبحانه لا يحب الظلم. لقد كان فى تاريخنا الإسلامى، من رشق المصحف الشريف بالسهام وهو يتغنى بالشعر. وآخر قفل المصحف، عندما أتته البشارة بالخلافة قائلا، "هذا آخر عهدى بك" ولم يكفره أحد. وثالث قذف الكعبة الشريفة بالمنجنيق وهدم جزءا منها، ولم نكفره أيضا.
كيف تكفر رجلا قال بالشهادة، وكيف تجرؤ على ترويعه وترويع أولاده. ولماذا هذا الهيجان وتصيد الأخطاء على الباحث، واللجنة التى منحته الجائزة. هل هى تصفية حسابات قديمة؟
ياشيخنا الكبير، رفقا بالقوارير.
zakariael@att.net
06/11/2014