الحضارة الغربية ومستقبل الثقافة فى مصر
...............................................................
بقلم: محمد زكريا توفيق
...........................
صدر كتاب مستقبل الثقافة فى مصر لطه حسين عام 1938م. بعد أن وقعت مصر معاهدة 1936م, التى أنهت بها الإحتلال البريطانى رسميا. وأصبحت بمقتضاها دولة مستقلة. وقد كان فى مصر فى ذلك الوقت, شعور عام ببداية فترة جديدة من تاريخ مصر. التى باتت تحكم بحكومة وطنية تحظى بأغلبية شعبية. فماذا يعنى هذا؟ وما يمكن أن تفعله مصر بإستقلالها؟
الإستقلال, كما يقول طه حسين, ليس غاية فى حد ذاته, وإنما وسيلة لبلوغ أسما الغايات. وأسما الغايات بالنسبة للفرد هو الحرية والسعادة. وبالنسبة للمجتمع, هى بلوغه أعلى درجات الحضارة. وهذا يأتى من إعلاء شأن الفرد وإعمال العقل والمنطق كمنهج.
تصل المجتمعات إلى الحضارة الراقية عن طريق عدة مراحل: المرحلة الأولى, هى مرحلة سيطرة الدين والإيمان الأعمى. حينما يتحكم الدين فى كل حياة الفرد والمجتمع. ثم تمر الحضارة بعد ذلك بعدة مراحل. تنتهى بالمرحلة الأخيرة. عندما يستقل العقل عن الدين. بدون أن يصطدم أو يعادى أيا منهما الآخر. فوظيفة العقل هى هداية الإنسان فى حل مشاكله المادية والحسية. ووظيفة الدين إشباع الناحية الروحية للفرد, وهدايته إلى كل ما هو نبيل. ومواساته فى آلامه ووحدته.
فالحضارة الغربية اليوم قد وصلت إلى هذه المرحلة الأخيرة. حيث قد تحقق التوازن بين العقل والدين. وترك العقل حرا, ليستخدم العلم والمنطق لحل المشاكل المادية, والإستفادة من الثروات الطبيعية وتسخيرها لمصلحة المجتمع. ولوضع القوانين والدساتير, التى تهدف إلى تأكيد حقوق الإنسان, وحماية حريته وعرضه وماله. وتؤكد حقه فى طلب العقيدة والسعادة كما يريدها.
نجد هنا تأثير الفكر الفرنسى على طه حسين, كومتيه ورينان ودرخيم وأناضول فرانس وأندريه جيد. فأوروبا بالنسبة لطه حسين, هى الحضارة الإنسانية والتمدين والديموقراطية. وليست الحضارة الغربية حضارة جافة مادية فقط, كما يدعى أهل الشرق. إنما إنتصارها المادى يرجع إلى ثرائها الروحى. متمثلا فى الأعمال الأدبية والفنية العظيمة. ويرجع إلى نضوج تجربتها السياسية فى شئون الحكم.
يقول طه حسين فى كتابه مستقبل الثقافة فى مصر, أن مصر يجب أن تكون جزءا من أوروبا حضاريا. لأن هذا هو الطريق الوحيد لكى ننتمى للعالم الحديث. ولأن إتتفاقية الجلاء وإعتراف دول أوروبا بإستقلال مصر, هو بمثابة إعتراف وثقة بقدرة مصر على أن تكون دولة حضارية مثل أية دولة أوروبية. أى أنها دولة تحترم حقوق الإنسان وحريته. وتحكم بالنظم البرلمانية الحديثة.
فعلينا أن نكون أهلا لهذه الثقة. وهذا لا يعنى أن نصنع حضارة خاصة بنا, يمكن مقارنتها بالحضارة الأوروبية. وإنما لكى نقنع أنفسنا بأنه ليس هناك أية فروق بين الرجل المصرى والرجل الأوروبى. فالله سبحانه قد خلقنا للمجد والرفعة, ولم يخلقنا للضعف والمهانة كما يتصور البعض. ولكى نكون مثل الأوروبيين, يجب أن نسير فى نفس الدرب الذى ساروا عليه. ونأخذ حضارتهم بما فيها من حلو ومر وخير وشر.
كان معظم الكتاب والمفكرين فى ذلك الوقت, ومنهم أحمد أمين, يصنفون دول العالم إلى دول شرق ودول غرب. وكانوا يضعون مصر مع دول الشرق نظرا لموقعها الجغرافى. أما طه حسين, فيقول أن مصر ثقافيا وحضاريا, هى دولة غربية بكل ما تعنيه هذه الكلمة من دلالة. فالعالم ينقسم إلى حضارتين لا ثالث لهما. الأولى, تأخذ جذورها من الحضارة المصرية القديمة وفلسفة اليونان والقانون الرومانى. والثانية, تأتى من الهند.
ومصر تنتمى إلى الحضارة الأولى. فلماذا إذن ينظر المصريون إلى أنفسهم على أنهم من أهل الشرق؟ يأتى هذا بسبب اللغة والدين. والمشاركة فى هموم الإحتلال والتخلف. وما دمنا متخلفين مثل دول الشرق, ونتحدث بلغتهم, فنحن مع حضارة الشرق. ولكن تاريخ مصر يقول عكس ذلك.
مصر كانت عبر التاريخ على إتصال بدول البحر المتوسط وبحر إيجة. وكانت هى نفسها مهد حضارة غمرت الآفاق آلاف من السنين. هذه الحضارة هى جذور وأصل الحضارة الغربية الحديثة. وخلال التاريخ, كان تأثير حضارة مصر على اليونان, وتأثير حضارة اليونان على مصر واضح ومستمر. وحتى عندما كانت مصر جزءا من الدولة الإسلامية, نجدها تستقل بشخصيتها منذ حكم إبن طولون. وكانت على إتصال بحضارة الغرب والبحر المتوسط أكثر من حضارة الشرق. لماذا إذن تخلفت مصر عن دول الغرب حضاريا؟
يقول طه حسين أن ذلك يرجع إلى الإحتلال التركى. فهو الذى قضى على حضارة مصر, ولفترة طويلة. وجعلها تمر بعصور مظلمة مثل العصور المظلمة التى مرت بها أوروبا من قبل. وبالرغم من كل ما قيل عن الأزهر, إلا أنه قد حمى الإسلام من الأتراك.
لكن عصور الإنحدار والتخلف إنتهت فى مصر منذ أن تيقظت من ثباتها بالحملة الفرنسية وحكم محمد على. وبدأت تأخذ من أوروبا علومها وأسلوبها فى الحكم. وصار كل شئ فى مصر غربى. حتى المؤسسات الإسلامية فى مصر مثل المحاكم الشرعية, كانت على غرار النمط الأوروبى. حقيقى هناك فروق بين مصر وأوروبا حاليا, لكن هذا يأتى من أن عصر النهضة الأوروبية قد بدأ فى القرن الخامس عشر. أما عصر النهضة فى مصر, فقد بدأ مع بداية القرن التاسع عشر. لكن مصر سوف تلحق بأوروبا فى وقت قصير إن شاء الله.
الحضارة الأوروبية منفصلة عن الدين. لذلك يمكن لمصر أن تأخذ من حضارة الغرب. دون الخوف من تأثير هذه الحضارة على ديانتها. فالحضارة الإسلامية قديما أخذت من حضارة اليونان وحضارة الفرس والهند بدون مشكلة. وفى الواقع ليس هناك حضارة غربية وأخرى إسلامية. إنما هى كلها أطوار مختلفة لحضارة واحدة. هى الحضارة الإنسانية. الكل قد ساهم فيها بقدر كبير أو صغير.
بدأت هذه الحضارة فى مصر. ثم إنتشرت منها إلى جميع أنحاء العالم القديم. ثم خبا نورها فى مصر ليسطع فى اليونان. ومن اليونان إلى الإسكندرية والشام. ثم أسهمت الإسكندرية والشام والفرس والترك والهنود فى الحضارة الإسلامية, التى إستمرت أربعة قرون. ثم إنتقلت عن طريق الأندلس وصقلية إلى أوروبا.
هذه الحضارة تعرف اليوم خطأ بالحضارة الغربية. وإنما الإسم الصحيح لها هو الحضارة الإنسانية. فهى بمثابة النهر الذى يصب فيه الكل. وينهل منه الجميع. ونحن نتساءل بدورنا. لماذا الخوف من الحضارة الغربية؟
الخوف من الحضارة الغربية يأتى من عدم الثقة فى أنفسنا وفى قدراتنا. ويأتى من مجموعة تحتكر تفسير الإسلام. وتعارض الحضارة الغربية من منطلق دينى بحت. خوفا من تأثير هذه الحضارة على مفهوم العقيدة. لكن هذا الخوف لا مبرر له. لأنه ناتج عن عدم فهم لكلا من الديانة الإسلامية والحضارة الغربية على السواء. وكل الذين ألموا بأصول الديانة الإسلامية, وكانوا ذو ثقافة واسعة. مثل الكندى والفارابى والرازى وإبن سينا وإبن رشد وإبن خلدون. ومن المحدثين, أمثال رفاعة الطهطاوى وجمال الدين الأفغانى ومحمد عبده وطه حسين, لم يجدوا أى تعارض أو خوف من الإستفادة من الحضارات الأجنبية, مع الإحتفاظ بالأصول الإسلامية التى تدعو لها الشريعة الغراء.
ضعفنا وتخلفنا هو الخطر الحقيقى الذى يهدد وجودنا. وليست الحضارة الغربية. فماذا يحدث لو تسلح جيشنا اليوم بالسيوف والرماح والسهام. وإستخدم أسلوب الكر والفر, الذى كان مستخدما أيام الفتوح الإسلامية؟ وماذا يكون عليه حالنا, إذا رفضنا إستخدام المضادات الحيوية والأسلوب الحديث فى التشخيص والعلاج, وإكتفينا بأسلوب العلاج المتبع أيام صدر الإسلام؟ وإذا كانت الحضارة الغربية هى الصاروخ والطيارة والسيارة والتليفزيون والفيديو والتليفون والكهرباء والذرة والكمبيوتر والفاكس, وإذا كنا نقبل كل ذلك بسهولة وبشهية نحسد عليها. لماذا إذن الخوف من الحرية والديموقراطية والفلسفة والأدب والفن والموسيقى الغربية؟
من يقول أن كل هذه الأمور محلية تصلح للغربيين ولا تصلح لنا, كما يدعى بعض مشايخنا؟ كل هذه موضوعات ثقافية لا دين لها ولا وطن. هى نتاج التراث الإنسانى. تعبر عن آمال وأحزان الإنسان فى كل مكان وكل زمان. وإذا كانت اليابان قد أخذت من الحضارة الغربية, ونهلت منها كل منهل. دون أن تفقد شخصيتها أو دينها. فنحن من باب أولى, أحق بالإستفادة من الحضارة الغربية التى نحن مؤسسيها. دون خوف على شخصيتنا. لأن جذورنا أثبت وأقدم وأعرق.
حمايتنا من الغزو الفكرى الغربى, هى دعوة غبية مغرضة. تبغى حماية ضعفنا وتخلفنا. وتجد قبولنا من الطغاة وزبانية الحكم الشمولى. لأن الرياح الغربية تحمل معها بذور الحرية والديموقراطية. وهذا هو الخطر الحقيقى على الفكر المظلم والنظم الإستبدادية البغيضة التى تحكم المنطقة دون هوادة. ويخبرنا التاريخ القديم منه والجديد, أن عربة الحضارة لا تجر بالعبيد. وإنما تقاد دوما بالأحرار, متى عصف الزمان وإشتدت الأخطار.