مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية عن المركز الأمريكى للنشر الالكترونى .. والأراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
............................................................................................................................................................

 
 

 التعليم فى مصر..مشكلات وحلول : 5-اللغة العربية ضرورة دينية وثقافية وتعليمية
...............................................................

 

اللغة العربية

 

بقلم : سعد رجب صادق
..........................


اللغة رمز من رموز تميز الانسان ، وهى مع الدين من أهم مكونات هويته وثقافته ، وهى أيضا الأداة التى يعبر بها عن الفكر والعلم والمعرفة ، وتعد مرتكزا أساسيا فى كل برامج التعليم فى جميع بلاد العالم ، ومكونا محوريا بنيت عليه كثير من المنظمات الدولية الحديثة ، كجامعة الدول العربية المكونة من 22 دولة ، ومنظمة الكومنولث Commonwealth وتتألف من 54 دولة، ومنظمة الدول الناطقة بالفرنسية Francophonia ، وعددها ثلاثين دولة ، وكذلك منظمة الدول الناطقة بالأسبانية Hispanidad ، وتضم عشرين دولة ، واللغة العربية بجانب كل ذلك ضرورة دينية ، لأنها لغة القرآن الكريم ، ( انا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ) يوسف 2 ، ( كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون ) فصلت 3 ، ( قرآنا عربيا غير ذى عوج ) الزمر 28 ، والقرآن الكريم هو كتاب المسلمين ، وقرآته لازمة للصلاة التى هى عماد الدين ، كما أن قرآة القرآن من العبادات التى يتقرب بها العبد الى الله تعالى ، ويثاب عليها بكل حرف حسنة ، كما جاء فى الحديث الشريف عن عبد الله بن مسعود ( رض ) ، قال ( ص ) : ( من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها ، لا أقول ألم حرف ، ولكن ألف حرف ، ولام حرف ، وميم حرف ) ، صحيح الجامع للألبانى 6469 ، وقراءة القرآن الكريم ، والسنة المشرفة ، وكتب التراث ، لازمة لفهم الاسلام ، والدعوة اليه ، كلزومها لصحة الشعائر ، وأداء العبادات ، وكما أن القاعدة الشرعية تنص على أنه ( ما لا يتم الواجب الا به فهو واجب ) ، وقراءة القرآن والحديث ، وأصول العقائد ، وقواعد العبادات ، كلها واجبات على المسلم ، فان معرفته بالعربية يصبح واجبا ، وتصبح اللغة العربية بذلك فريدة بين اللغات فى قداستها ، ولذا يقول جل وعلا مثنيا على القرآن الكريم لكونه عربيا : ( الحمد لله الذى أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا ) الكهف 1 ، ( قرآنا عربيا غير ذى عوج ) الزمر 28 ، فلا اعوجاج فى تشريعاته ، ولا اعوجاج فى لغته وبيانه.

وبجانب ضرورتها الدينية ، تأتى ضرورتها الثقافية ، وتكون مع الدين أهم مكونين لثقافة الأمة وهويتها ، ولذا يصفها كاتب ومفكر كبير كعباس العقاد ، بأنها اللغة الشاعرة ، وأنها الهوية الواقية : ( اللغة العربية هى الهوية الواقية ، فالأصل فى الناس أنهم يجتهدون ليقوا هويتهم حتى لا تضيع ، ولكن الأمر مع اللغة العربية يختلف ، فاللغة العربية فى هذا المقام هى التى تحمى أصحابها ، وهى الدرع والحصن الذى يذود عن هذه الأمة ، ويضمن كمالها ودوامها وثباتها واستقرارها ) ، ويصفها حسام الخطيب ، وهو باحث وناقد أدبى ، فى كتابه ( اللغة العربية اضاءة عصرية - الهيئة المصرية العامة للكتاب 1995 ) فيقول : ( اللغة العربية مصيرنا وقدرنا ، ومن يخلعها كمن يخلع جلده ، فاذا كانت البلغارية تصلح ، والسنغالية تصلح ، والفيتنامية تصلح ، والعبرية القديمة صلحت وتجددت ، فان لغة عريقة وحية كالعربية تصلح ...اللغة العربية ذات خصائص متميزة ، تتمثل فى ثروة مفرداتها ، وغنى تراكيبها ، وجمالية تعبيراتها ، ودورها التاريخى والحضارى القديم ، ومن ثم صلاحيتها لكل زمان ومكان...وبجانب غناها وتفوقها وعراقتها وأصالتها وقدسيتها فوق كل ذلك كلغة القرآن الكريم ، والحديث الشريف ، فانه حتى لو كانت - على سبيل الافتراض - أقل غنى فى بعض النواحى ، وأرقى مقدرة فى نواحى أخرى ، فهى أولا وآخرا لغتنا ، وهى نحن ونحن هى ، وعلينا أن نتمسك بها دون مراء أو مفاضلة أو مقارنة بغيرها ، ذلك أن اللغات أشبه بالأوطان ، فلا تعار ولا تستبدل ).
وحيث أن اللغة العربية ضرورة دينية ، وضرورة للهوية والثقافة ، فانها حتما ضرورة تعليمية ، والتعليم يعكس ثقافة المجتمع وفلسفته ، ويؤكد على تفرده وتميزه ، ومن العبث والهزل أن يتخلى مجتمع عن خصائصه ، لأنه يصبح كمن يتخلى عن كل ما يدل عليه ، ولنا أن نتصور انسانا تخلى عن اسمه ، وملامحه ، ولونه ، ولسانه ، وبصمة يده ، وبصمة حامضه النووى DNA ، وقرنية عينه ، فانه حتما سيكون مسخا مشوها ، وبما أن لغتنا العربية ضرورة لتلك الضروريات الثلاث : الدين ، والهوية والثقافة ، والتعليم ، وجب علينا أن نستعيد لها مكانتها ، ونضمن لها البقاء والمنافسة ، وخاصة فى عصر العولمة ، واشتداد الهجمة الغربية .

لكى نفهم موقع اللغة العربية ومستقبلها ، علينا أن نلقى نظرة على لغات العالم ، ونتفهم الديناميكة التى تكفل للغة الاستمرار والحياة ، أو الموت والاندثار ، والتى يبلغ عددها المعروف حسب احصاء 2009 لمنظمة SILInternational أو Summer Institute of Linguistics ، , وهى منظمة عالمية تهتم بأمور اللغات ، وتنشر نتائجها فى صورة مطبوعات ، أو على موقعها الالكترونى Ethnologue.org ، يبلغ عدد تلك اللغات 7,358 ، بينما كان 6,912 فى احصاء 2005 ، وكان 6,809 فى احصاء 2000 ، منها 46 لغة يتحدث بكل واحدة منها شخص واحد فقط ، و 357 لغة يتحدث بكل منها أقل من 50 شخصا ، فمثلا لغة Cambap فى وسط الكاميرون بأفريقيا يتحدث بها 30 شخصا ، ولغة Leco فى Bolivian Andes بأمريكا الجنوبية يتحدث بها 20 شخصا ، بينما لغة Matike بشمال استرالي يتحدث بها أربعة أشخاص ، و %90 من اللغات يتحدث بكل منها أقل من 100,000 شخص ، و 150-200 لغة يتحدث بكل منها أكثر من مليون شخص.

وتأتى اللغة الصينية Mandarin فى المرتبة الأولى من حيث عدد المتكلمين بها ، والذى يبلغ 1205 مليونا ، تليها الأسبانية 429 مليونا ، فالانجليزية 428 مليونا ، فالهندية 260 مليونا ، وتأتى العربية فى المرتبة الخامسة 221 مليونا ، وهذه الأرقام طبقا للمنظمة سالفة الذكر ، فى احصاءاتها لعام 2009 ، وقصرا على عدد المتحدثين باللغة كلغة أولى ، ومما يجدر ذكره أن تلك الأرقام تتفاوت حسب المصادر ، والتى يضم بعضها جميع المتحدثين باللغة سواء كانت اللغة الأولى ، أو تستخدم كلغة ثانية ، وعلى سبيل المثال فان عدد المتكلمين بالصينية داخل الصين 845مليونا ، وهناك 500 مليونا يتحدثون الصينية فى تايوان وماليزيا وغيرها، مما يصل بالمجموع الكلى الى 1,345,000,000 ، وكذلك الحال بالنسبة للعربية حيث يقدر عدد المتكلمين بها فى بلاد الوطن العربى ب 221 مليونا ، وهناك 104مليونا يتحدثونها كلغة ثانية خارج الوطن العربى ، وينطبق ذلك أيضا على الانجليزية والأسبانية والفرنسية والروسية والبرتغالية والألمانية والهندية ، وأيا كان التفاوت فى التقديرات فان اللغة العربية تأتى ضمن قائمة اللغات العشر الأوائل فى العالم ، كما أنها ضمن اللغات الرسمية الست داخل الأمم المتحدة .

اذا ما نظرنا الى بعض اللغات الأخرى المستخدمة فى المنطقة العربية والشرق الأوسط ، نجد الفارسيةPersian ، وترتيبها 21 عالميا ، ويتحدث بها 72,000,000 ، والتركية Turkish ، وترتيبها 22 ، ويتحدث بها 61,000,000 ، والكرديةKurdish ، وترتيبها 45 ، ويتحدث بها 16,000,000 ، والعبرية Hebrew ، وترتيبها 77 ، ويتحدث بها 9,000,000 ، وفى الشمال الأفريقى نجد الأمازيغية Tamazight ، ويتحدث بها 32,300,000 أدت فترة الاستعمار الأوربى لدول أفريقيا وآسيا والأمريكتين وغيرها الى انتشار الانجليزية فى الولايات المتحدة واستراليا لتصبح اللغة الأم ، وانتشارها أيضا فى كثير من دول أفريقيا ، وانتشار الأسبانية والبرتغالية فى كثير من دول أمريكا الجنوبية ، وانتشار الفرنسية فى كثير من دول أفريقيا ، وهناك كثير من مناطق العالم مازالت موطنا لكثير من اللغات ، فمثلا المكسيك بها 52 لغة ، وفى الاتحاد السوفيتى السابق 100 لغة ، وفى نيجيريا أكثر من 400 لغة ، وفى جزر Papua New Guinea أكثر من 700 لغة ، وفى الهند أكثر من 800 لغة.

بعد تلك المقدمة ، كيف لنا أن نقيم وضع اللغة العربية ، ما هى المشكلة ؟ وما هو الحل ؟ وهل فعلا لغتنا مهددة بالانقراض كما يدعى البعض ؟ لكى نجيب على تلك الأسئلة ، علينا أولا أن نعلم كيف تحافظ اللغة على حياتها ووجودها ؟ تعرف اللغة الحية living language بأنها اللغة التى لها تلك المواصفات : يتحدث بها عدد كبير من الناس ، ويتحدث بها عدد كبير من غير أهلها non-native ، وتعتبر اللغة الرسمية فى عدد من الدول ، وينتمى المتحدثون بها الى أجناس مختلفة multiethnic ، وتستخدم فى المنظمات الدولية ، وفى منظمات تجارية عالمية ، وفى المجتمعات الأكاديمية ، ولها تراث عريض ، ولها وجاهة ومنزلة لغوية linguistic prestige ، ويتم تدريسها كلغة أجنبية على نطاق عريض ، وهى مواصفات جميعها موجودة فى العربية ، مما يعنى أن اللغة العربية لغة حية ، وستظل حية ، ولكنها تحتاج الى كثير من الجهد والمثابرة ، وليست كغيرها من اللغات التى يتحدث بها فرد واحد ، أو أفراد قلائل ، وليس لها تراث مكتوب ، ولا يتم تدريسها لأنها غير مكتوبة ، ( هناك حوالى 200 لغة مكتوبة فقط أى أقل من %3 من لغات العالم ) ، ولا يعرف العالم بأفراده ومنظماته ودوله عنها شيئا ، وهى دلائل على احتمالية الانقراض ، ولذلك فانه فى خلال الخمسة قرون الماضية ، اندثرت كثير من اللغات مما يقدره البعض ب %50 من لغات العالم ، وعلى سبيل المثال اندثرت 52 لغة من أصل 176 فى أمريكا الشمالية ، وفى استراليا 31 من 235 ، ويتوقع Krauss,1992 ، وهو أحد المختصين باللغات فى الولايات المتحدة أن يندثر %90 من لغات العالم خلال المائة عام القادمة ، ولكن أذا كانت اللغة العربية لغة حية ، ولا ينطبق عليها ما ينطبق على كثير من اللغات المعرضة للانقراض ، فلماذا تدهورت مكانتها حتى بين أبنائها ، ولماذا انزوت فى المدارس والجامعات ، ولماذا نلهث لتعلم اللغات الأجنبية ؟!
ما هى المشكلة؟

تواجه اللغة العربية مجموعة من المشاكل المعقدة والمتشابكة ، غير أن أهمها :

1- الأنظمة السياسية المسئولة عن وضع السياسات العامة للمجتمع ، وقد أهملت تلك الأنظمة التأكيد على هوية الأمة فى جميع نواحى الحياة ، فى حين أن شخصا مثل أليعازر بن يهودا رفع شعار ( لا حياة لأمة بدون لغة ) ، وكان ذلك فى نفس السنة التى احتل الانجليز فيها مصر ، حيث بدأ بأهله وأصدقائه لاحياء اللغة العبرية ، وانتشرت الفكرة مما حداهم لتكوين رابطة لنشاطهم فى بولندا ، ولما ضاق عليهم المقام هاجروا الى فلسطين ، وبعد 130 عاما أصبحت العبرية لغة كل اسرائيلى ، ولغة التعليم بجميع مراحله ، حتى أنه احتفل به مؤخرا كأحد رموز تجديد اللغة على مستوى العالم ، ورغم أنه فى مصر قد صدر قرار جمهورى لتعديل ميثاق مجمع اللغة العربية ، وجعل قراراته ملزمة للوزارات والهيئات ، وتعرض المخالف للعقوبة ، غير أن شيئا من ذلك لم ينفذ ، مما اضطر د.عبد الوهاب المسيرى الى رفع دعوى قضائية عام 2007 ضد الرئيس المصرى لالزامه بتطبيق المادة الدستورية التى تقضى بأن العربية هى اللغة الرسمية للدولة .

2- وانعكست السياسات العامة التى تفتقد الترابط والتخطيط على النظام التعليمى ، فأصبح عاملا هاما على تدهور العربية ، وضعف مستوى الطلاب ونفورهم من تعلمها ، وبسبب النظام العقيم للثانوية العامة ومكتب التنسيق ، وهما عاملان من أكبر عوامل فساد التعليم المصرى ، دفع بآلاف من الطلاب رغما عنهمم الى كليات يفتقدون الميل اليها مثل كليات دار العلوم واللغة العربية ، وأقسام اللغة العربية بكليات الآداب وغيرها ، فلم يقبلوا على تعلمها بشغف واهتمام ، ولم تتشرب عقولهم وقلوبهم بحبها ، والشغف بجمالها ، ثم دفع بهم مرة أخرى الى سوق العمل ، ليتم توظيفهم للتدريس ، ولا يتوقع بالتأكيد ممن يفتقد ملكة اللغة ، والاحساس بالرسالة الدينية والتربوية والتعليمية الملقاة على عاتقه ، أن يؤدى الدور المنوط به فى الاعلاء من شأن اللغة ، وتحبيب الطلاب فيها ، وتقديمها وابرازها اليهم بما يضفى عليها الجاذبية والأهمية التى تستحقها، بل ان كثيرا منهم لا يحسنون شرحها بأسلوب فصيح ، ولا يطلبون من الطلاب استعمالها أثناء الحصة ، والنتيجة المتوقعة لهذا الخلل تدهور مستوى الطلاب لغويا ، وشيوع الأخطاء النحوية والاملائية الفاضحة فى الحديث والكتابة ، وتكفى نظرة سريعة على ما يكتبه قراء الصحف من تعليقات ، ليجد المرء نفسه وقد تملكته الدهشة ، وأصابه الأسى ، من هول المهازل اللغوية التى يطفح بها تعليق صغير ، لا يتجاوز سطرا أو سطرين.

3- ومع تدهور مستوى التعليم والخريجين ، تدهور مستوى الاعلام ، وتمكن منه بالواسطة ، أو اعتمادا على المظهر جيل لا يتقن من اللغة شيئا ، فأضافوا مزيدا من التدنى والانحدار الى مستوى الأداء اللغوى ، بل وصل الأمر بالصحف أن تنشر مقالات كاملة باللغة العامية ، أو بمزيج من العامية والفصحى ، كصحيفة الدستور والشروق وغيرها ، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد ، حتى أن بعض رؤساء التحرير يكتبون مقالاتهم بالعامية ، كممتاز القط فى صحيفة الأخبار.

4- وامتد تأثير فساد النظام التعليمى والاعلامى الى تشويه ثقافة الأمة وهويتها ، فخرجت علينا أجيال ترسل أبناءها لتعلم اللغات الأجنبية منذ مرحلة الحضانة ، وتأنف من استعمال اللغة العربية ، بل تجد فخرا من مزج العامية وكلمات من اللغات الأجنبية ، تحت دعاوى التحضر والعصرية ، وأصبحت السخرية بمن يتكلم العربية أو يدافع عنها أمرا مألوفا ، وصارت الملابس التى تحمل كلمات وتعبيرات انجليزية أو غيرها مما يستهوى الشباب ، ويجذب انتباههم ، وكثرت تلك الكلمات والتعبيرات فى الأفلام وغيرها من المنتوجات الاعلامية ، وكتبت أسماء كثير من المحلات التجارية باللغات الأجنبية .

5- وأدى كل هذا الاهمال ، بل والتجنى فى كثير من الأحوال الى انتشار المدارس الأجنبية ، والجامعات الأجنبية ، ورغم مصاريفها الباهظة الا أنها وجدت لها جمهورا من الأثرياء ، وراغبى ضمان الحصول على العمل بعد التخرج ، وشاعت وظائف كثيرة تتطلب اجادة اللغات الأجنبية ، وخاصة فى قطاعات الأعمال والسياحة والخدمات وغيرها .

6- بذل الاستعمار الغربى للبلاد العربية جهدا كبيرا لاضعاف اللغة العربية ، والتقليل من شأنها ، باعتبارها عامل ربط قوى بين جميع العرب ، وساهم فى تشجيع العامية ، واحياء اللهجات المحلية ، وتجلى هذا التأثير السلبى على أشده فى الجزائر وفى المغرب ، حتى كان هناك وقت استعصى فيه على الجزائريين أنفسهم التحدث بالعربية ، وفى مصر قاد William Wilcox المشروع الاستعمارى الانجليزى لتمصير اللغة ، وتحويلها الى العامية المصرية، ومما يبعث على الأسى أن فريقا من المصريين تبعوا دعوته ، واقترحوا ما سموه الفصحمية ، وهى لغة هجين بين العامية والفصحى ، ورأى البعض الآخر كتابة العربية بالحروف اللاتينية ، مثل سلامة موسى وعبد العزيز فهمى باشا ، فى النصف الأول من القرن الماضى ، كما حدث فى تركيا الأتاتوركية ، حيث حلت الحروف اللاتينية محل الحروف العربية التى كانت تكتب بها التركية ، ومن الذين تحمسوا لتلك الدعوات الهدامة طه حسين ، وان كان تخلى عن ذلك فى أخريات حياته ، ومنهم أيضا أحمد لطفى السيد ، والذى أطلق عليه أستاذ الجيل ، وكان يرى العربية لغة قديمة وصعبة ، وأن الأمة تعرف بالأرض التى يقطنها أهلها ، وليس بدينها ولغتها ، وما زالت تلك الدعوات الاستعمارية نشطة فى بلدان عربية مختلفة مثل موريتانيا والسودان وغيرها.

7- الأمية الواسعة الانتشار فى البلاد العربية ، عامل آخر من العوامل الهامة والمؤثرة سلبا على مكانة اللغة العربية واستعمالها .

ما هو الحل ؟

اذا كانت اللغة العربية تعانى من مشاكل كثيرة معقدة ومتشابكة ، فان الحل أيضا ليس سهلا ، وليس بسيطا ، ويحتاج الى تضافر عوامل عديدة ، وقوى مختلفة :

1- الأنظمة الحاكمة هى المسئولة عن وضع السياسات العامة للمجتمع ، وهى المسئولة عن الحفاظ على ثقافته وهويته ، وهى مسئولة أيضا عن الحفاظ على اللغة العربية كجزء من هوية المجتمع وثقافته ، والأمر هنا فى حقيقته يرقى الى مستوى الأمن القومى ، والذى تجتهد كل أمة فى الحفاظ عليه ، ولا يكفى أن تكون العربية اللغة الرسمية ، بل يجب تفعيل ذلك فى النظام التعليمى ، والاعلام ، والانتاج الثقافى والأدبى والفنى ، والبحث العلمى ، ومستويات الخطاب الرسمى ، بل والاستعمال اليومى أيضا، وقد نجح اليهود فى احياء العبرية ، بعد سبعة عشر قرنا من موتها ، بالجهد والمثابرة ، والارادة السياسية ، وتوفير الضرورات المادية والتعليمية ، حتى أصبحت لغة الحياة اليومية والتعليم والعلم ، ومكونا من مكونات هوية كل اسرائيلى ، رغم أنها لم تكن لغتهم ولا لغة آبائهم أو أجدادهم .

ان مسألة الحفاظ على اللغة أمر شديد الأهمية ، حتى أن الأقليات فى البلاد العربية ، كالأكراد والأمازيغ وغيرهم يحاولون جاهدين الابقاء على لغاتهم فى الاستعمال اليومى والاعلام المحلى ، وكذلك تدريسها لأبنائهم فى المدارس ، ويحاول الأوربيون كذلك الحفاظ على اللغات الأقل انتشارافى أوربا ، والتى يبلغ عددها 73 لغة من أصل 123 ، وقد صدرت توصيات البرلمان الأوربى عام 1981 بحماية تلك اللغات ، وتم انشاء مكتب أوربى لهذا الغرض عام 1984 ، ومقره دبلن ، وفى عام 1992 تم التصديق على الميثاق الأوربى المحدد لتلك اللغات ، والعجيب أن اللغة العربية وهى أهم لغة فى عائلة اللغات الAfro-Asiatic ، والتى تضم 375 لغة ، وتكتب بحروفها 75 لغة فى أفريقيا وآسيا حتى عام 1920 ، لا تحظى بالاهتمام الرسمى والشعبى اللازمين للحفاظ عليها من هجمات اللهجات العامية والمحلية أو اللغات الأجنبية.

2- لا يمكن احياء اللغة العربية ، واستعادة مكانتها ، والمحافظة عليها بدون اصلاح النظام التعليمى ، لأن نظاما تعليميا جيدا سيعد مدرسين على درجة عالية من الاجادة والاتقان ، والمقدرة على تفجير طاقات الطالب ، وتحفيزه واثارة اهتمامه ، فالتدريس عند هؤلاء رسالة وليست وظيفة ، كما أن نظاما تعليميا جيدا سيعد أيضا مناهج دراسية فى النحو والأدب والنصوص وغيرها تراعى ربط الماضى بالحاضر والمستقبل ، وتراعى تنشيط ملكات النقد والتفكير عند الطالب بدلا من الحفظ والتلقين ، وتستخدم التقنيات الحديثة فى التدريس ، وتقييم الطلاب ، وتقييم التعليم اللغوى ، كما أن استعمال المدرس للغة الفصحى فى شرح الدروس ، وكذلك الطالب فى التفاعل والتواصل مع المدرس ، ينبغى ألا يقتصر على حصة اللغة العربية ، وانما يتعداها ليشمل المقررات الأخرى ، مما يصبح عادة ، وطابعا مميزا للحياة المدرسية والجامعية والأكاديمية ، ولا يقتصر أمر اللغة العربية على التعليم فقط ، وانما ينبغى أن يتعداه الى مجال البحث العلمى ، ومن المعيب أن الأبحاث والرسائل العلمية تكتب فى بلادنا بالانجليزية ، مع ملخص قصير بالعربية ، والمفروض أن العكس هو ما يجب اتباعه ، ومن المعيب أيضا أن بعض جامعاتنا العربية ، كما فى بلاد الخليج تشترط اجتياز الطالب لامتحان اللغة الانجليزية Toefl كضرورة للقبول ، بل أن استمارات التقدم نفسها باللغة الانجليزية ، وكلما سمحنا للغات الأجنبية بغزو نظامنا التعليمى ، كلما سمحنا بانزواء اللغة العربية وتقهقرها ، مما يضعف فى النهاية ولاء الناس وانتمائهم ، ويؤثر سلبا على هوية الأمة وثقافتها ، ان اللغة العربية ينبغى أن تكون السائدة فى جميع مراحل التعليم ، وأن تكون متطلبا رئيسيا يلزم للطالب اجتيازه ، وتبذل جميع الأنظمة التعليمية بجميع بلاد العالم جهدا كبيرا للاهتمام باللغة القومية ، وقد تابعت منذ سنوات على صفحات الصحف الأمريكية جدلا حول تدريس اللغة الانجليزية ، حيث رأى البعض أن السود لا يحسنون نطق الحروف ، ويتجاهلون قواعد اللغة grammar ، واقترحوا تقسيم الانجليزية الى لغتين ، اللغة الانجليزية الكلاسيكية بمخارج حروفها وقواعدها ، ولغة يستخدمها السود يطلق عليها African American Vernacular English أو Ebonics ، وقد انتصرت فى النهاية وجهة النظر المحافظة على اللغة ، وكان من أجمل ما قيل وقتها ( أنه بدل أن نهبط بمستوى اللغة ، علينا أن نرتقى بمستوى الطلاب ) .

3- ينبغى الاهتمام بمجامع اللغة العربية ، وغيرها من الهيئات المهتمة باللغة ، وتوفير التمويل اللازم لها ، وتفعيل قراراتها وتوصياتها ، وتعميم ما تدخله من مصطلحات وتعريبات وكلمات جديدة فى المناهج الدراسية ، وفى الاعلام ، مع توجيه عناية خاصة لوضع المعاجم الحديثة ، وغيرها من الطرائق والمستجدات التى تجعل دراسة العربية أمرا سهلا وشيقا.
4- لا تكتمل الجهود فى المجال التعليمى بدون اعلام وفن وأدب يهتم باللغة العربية ، ويجعل لها أولية قصوى ، فليس من المعقول أن تنقطع صلة الفرد بلغته متى غادر مدرسته بعد اليوم الدراسى ، ليجد نفسه محاصرا باعلام وفن أبعد ما يكون عن اللغة ، مما يستلزم اختيار الاعلاميين من المجيدين للغة نطقا واستعمالا ، وهو ما يحدث فى بلاد العالم المختلفة ، كما يجب تجنب الكتابة العامية فى الصحف والمجلات ، فعلاوة على التهوين من مكانة اللغة ، وافساد التذوق والحس الجمالى بها ، فان اللهجات العامية والمحلية عائق للتواصل بين العرب ، وانجاح للمخطط الغربى ، ولا أدرى كيف تغفل صحفنا ، ومواقعنا الالكترونية عن الاهتمام بالنحو والاملاء فى كثير مما تنشر ، بينما الصحف العالمية ، وكثير من مواقع الانترنت تراجع المنشور للتأكد من محتواه ، وللتأكد من خلوه من الأخطاء الاملائية والنحوية ، والألفاظ المبتذلة ، وقد عجبت لكثير من الصحف الأمريكية بتداركها لما قد يمر من أخطاء بالتنويه عليه فى اليوم التالى .

5- اذا صلحت السياسات العامة ، وصلح معها التعليم والاعلام ، واهتم المجتمع بمحو أمية أفراده ، فان شعورا بالزهو والفخار سيصيب غالبية الناس ، مما يدفعهم الى استعمال لغتهم ، والحفاظ عليها ، وعدم الاحساس بالدونية تجاه غيرها من اللغات ، واستخدامها فى تسمية محلاتهم وغيرها ، ومما يجدر ذكره هنا أن القانون 85 لوزارة التجارة يحرم تسمية المحلات بأسماء غير عربية ، فاذا لزم ذلك وجبت كتابة التسمية الأجنبية بجانب العربية بحروف أقل حجما بمقدار النصف عن حروف التسمية العربية.
6- يتطلب نظام العولمة ، واستخدام الكمبيوتر والانترنت ، جهدا من نوع جديد للحفاظ على اللغة العربية ، وضمان انتشارها ، ويشمل هذا الجهد تنشيط حركة الترجمة للمعارف المختلفة من اللغات الأخرى ، والبنية التحتية الرقمية للغة العربية ، وانتاج النصوص الرقمية العلمية والأدبية ودوائر المعارف والمعاجم والمقررات الأكاديمية وغيرها ، وقد نجحت كثير من الدول فى كسر احتكار اللغة الانجليزية ، ووضعت لغتها القومية موضعا مرموقا فى الترجمة وغيرها من المتطلبات الرقمية ، والصين مثل حى على ذلك.

ان المكانة الدينية للغة العربية ، كلغة القرآن الكريم ، والذى وعد الله تعالى بحفظه ( انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون ) الحجر 9 ، تعنى حفظ اللغة العربية أيضا ، غير أن تلك القداسة والمكانة الدينية ، تضيف مزيدا من العبء ، وتستوجب مزيدا من العمل ، ولا يكفينا أنها احدى اللغات الست الرسمية فى الأمم المتحدة ، ولا أنها الثالثة عالميا من حيث عدد الدول التى تستخدمها كلغتها الرسمية ، ومن حيث الزيادة السكانية للمتحدثين بها ، ولا أنها الخامسة من حيث عدد المتكلمين بها ، ولا أنها فى المرتبة 22 من حيث النشر الثقافى الاجمالى ، و 42 من حيث النشر العلمى ، ولا أنها المرشحة للبقاء مع الصينية فى مواجهة الانجليزية ، للخصوصية الحضارية للأمتين الصينية والعربية ، كل تلك المؤشرات تبعث على شئ من الطمأنينة ، غير أن هذا ليس كافيا ، ان علينا أن نخرجها للعالمية مرة أخرى ، وقد كانت عالمية لقرون عديدة ، وما علينا كحكومات ، ومؤسسات تعليمية ، وأفراد ، الا أن نضعها فى قلوبنا وعقولنا ، كما نضع قرآننا الكريم ، وخاصة أننا أمة من 1.57 مليار حسب الاحصاء الأخير لمؤسسة Pew الأمريكية ، والذى نشر فى اكتوبر من هذا العام ، والحلول المطروحة فى هذا المقال جزء من عمل شامل أصبح شديد الالحاح ، وعاجلا وضروريا ، مع تزايد الهجمة التغريبية ، والتراخى واللامبالة الرسمية ، ويرحم الله حافظ ابراهيم فهو القائل فى قصيدته عن اللغة العربية :

وسعت كتاب الله لفظا وغاية ** وما ضقت عن آى به وعظات
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة ** وتنسيق أسماء لمخترعات
أنا البحر فى أحشائه الدر كامن ** فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتى ؟

saad1953@msn.com

06/11/2014

مصرنا ©

 

.....................................................................................

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية