| | | | الأرض والماء
| التصحر |
بقلم : سعد رجب صادق ...........................
السابع عشر من يونيو هو اليوم العالمى لمكافحة التصحر والجفاف World Day to Combat Desertification and Drought ، وفى تقرير خاص للأمم المتحدة بمناسبة هذا اليوم احتلت مصر المركز الأول فى معدلات التصحر ، والذى يعنى انكماش مساحة الأراضى الزراعية ، وتدهور خصوبتها ، وانخفاض إنتاجيتها ، وذكرت السكرتارية التنفيذية لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر أن مصر تفقد 3.5 فدانا كل ساعة من أرضها الخصبة والمحدودة نتيجة الزحف العمرانى ، وهو ما يُعَّد معدلا قياسيا غير مسبوق عالميا فى معدلات التصحر ، وليت كارثة الإهمال والفوضى والعشوائية تتوقف عند العدوان على الأرض ، إنما تمتد لتشمل ماء نهر النيل الذى أصبح أكثر أنهار العالم تلوثا ، علاوة على ما نعانيه من مشاكل مع دول حوض النيل ، وهو ما يهدد مصر فى حصتها السنوية من المياه .. أى أننا هنا وببساطة وكلمات قلائل أمام كارثة على أعتاب المستقبل القريب فى غذائنا ، وهو أمر إذا لم يتم تداركه فسيكون له عواقب وخيمة على مستقبل تلك الأمة ، وسلامها الاجتماعى ، وأمنها القومى ، ويتعرض هذا المقال لهذين الموضوعين الخطيرين ، علنا نستفيق من سباتنا ، ونستيقظ من نومنا الذى طال أمده ، ونتنبه للمخاطر المحدقة بنا فى أهم مقومات الحياة : الأرض والماء .
أولا : الأرض .. ما هى المشكلة ؟! 1- تناقص نصيب الفرد من الأرض الزراعية ، نتيجة الزيادة السكانية المستمرة ، والتى لا يقابلها بنفس المعدل زيادة فى المساحة المزروعة أو فى الإنتاجية : فى ورشة عمل عقدها " مركز الأرض لحقوق الإنسان " بتاريخ 28 ديسمبر 2009 ، تحت عنوان " الفلاح المصرى فى خطر .. نهبوا حاضره وأضاعوا مستقبله " ، ذكر د . الخولى سالم أستاذ الاجتماع الريفى بكلية الزراعة جامعة الأزهر أن %98 من سكان مصر يتركزون فى الدلتا وشريط الوادى الضيق ( %5 من إجمالى مساحة مصر ) ، بينما %2 من السكان يعيشون مبعثرين فى الصحراء الشرقية والغربية وسيناء ( %95 من مساحة مصر ) ، وأنه فى خلال الفترة من عام 1897 إلى 2007 ، زاد عدد السكان من 9.7 مليونا إلى 77 مليونا ، أى بزيادة قدرها %793 ، بينما زادت المساحة المزروعة من 5.14 مليون فدان إلى 8 ملايين فدان ، أى بزيادة قدرها %155 ، والمساحة المحصولية من 6.8 مليون فدان إلى 15.4 مليون فدان ، أى بزيادة قدرها %226 ، وهو ما يعنى حسب عديد من الدراسات أن الأرض الزراعية المصرية قد تختفى خلال ستين عاما .
ملحوظة : المساحة المزروعة تعنى مساحة الأرض ، بينما المساحة المحصولية تعنى مساحة المحاصيل ، حيث تُزرع الأرض فى مصر بمحصولين أو ثلاثة كل عام .
2- التعدى على الأرض الزراعية بالبناء ، سواء من قبل الأفراد والأسر أوالمنشئات الصناعية والتجارية ، أو بالتجريف لاستخدام الطبقة السطحية من التربة فى صناعة الطوب الأحمر ، وهى الطبقة التى تحتوى على غالبية العناصر الغذائية اللازمة للزراعة ونمو النباتات ، وهما مشكلتان معروفتان منذ عقود ، وازدادتا خلال الحقبة الساداتية والمباركية مع عمل كثير من المصريين فى البلدان العربية ، ورغبتهم فى تحسين أحوالهم السكنية والمعيشية ، ومع الانتفاضة المصرية الأخيرة ، وغياب الأمن وتطبيق القوانين ، زادت التعديات لتصل إلى حدود غير مسبوقة ، حيث ذكرت صحيفة " الأهرام " فى عددها بتاريخ 15 فبراير 2011 وحسب تقرير حكومى لوزارة الزراعة أن إجمالى التعديات على الأراضى الزراعية بمختلف المحافظات ، فى الفترة من 25 يناير وحتى 8 فبراير 2011 بلغ 31,128 حالة ، وفى تقرير رسمى أصدرته " الإدارة المركزية لحماية الأراضى " ، وأشارت إليه صحيفة " المصرى اليوم " فى عددها بتاريخ 18 يونيو 2011 ، أن عدد حالات التعديات ارتفع خلال يونيو 2011 إلى 158,000 حالة مقابل 128,000 حالة فى الشهر السابق ، وتنقل الصحيفة فى نفس العدد ما ذكره د . إسماعيل عبد الجليل المنسق الوطنى لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر، فى تصريح له بمناسبة اليوم العالمى ، من أن " تقرير الأمم المتحدة لم يتضمن حقيقة أكثر إيلاما وخطورة ، وهى أن معدل البناء على الأرض الزراعية ارتفع خلال الأشهر الثلاث الماضية ليصل إلى خمسة فدادين كل ساعة ، نتيجة غياب الرقابة ، والانفلات الأمنى ، وهو ما يعنى أن مصر تفقد كل يوم مساحات من أرضها الخصبة ، والتى تكونت عبر فياضانات النيل على مدار آلاف السنين ، ولا يمكن استعادتها بعد تراجع برامج استصلاح الأراضى التى تقوم بها الدولة ، وأن ذلك سيؤدى للاتساع المتزايد لحجم الفجوة الغذائية ، وتزايد فاتورة استيراد السلع الغذائية ، مما يهدد مصر ويجعلها على شفا المجاعة " . فى ورشة عمل " مركز الأرض " التى أشرت إليها سابقا ، ذكر الصحافى عماد حبيب أن تقارير وزارة الزراعة تقدر ما تفقده مصر سنويا من أرضها الزراعية نتيجة للزحف العمرانى بما يصل إلى 60,000 فدان ، وأنه خلال النصف الأخير من القرن العشرين فقدت مصر %36 من أرضها الزراعية ، بما يساوى 1.5 مليون فدان ، بسبب الامتداد العمرانى للمدن والقرى ، وبسبب التجريف ، وذكر الصحافى أيضا أن موسم الانتخابات المصرية يشهد 25,000 حالة للتعدى على الأرض الزراعية ، وأن الحكومة ترتكب جرما فى حق الزراعة والفلاح عندما تصادر أرضه بحجة المنفعة العامة تارة ، والامتداد العمرانى تارة أخرى ، وأن وزارة الإسكان والمجتمعات العمرانية تستولى سنويا على 75-50 ألف فدان من الأراضى الخصبة للبناء عليها .
3- نقص المياه : تنقسم الموارد المائية فى مصر إلى قسمين : أولهما ما يعرف بالمصادر التقليدية coventional water resources ، والتى تنقسم بدورها إلى :
1- نهر النيل ، وتبلغ حصة مصر السنوية منه 55.5 بليون متر مكعب ، حسب الاتفاقية الموقعة مع السودان عام 1959
2- المياه الجوفية فى الصحراء الغربية والتى يبلغ مخزونها 200,000 بليون متر مكعب ، فى المنطقة الممتدة تحت الوادى الجديد إلى شرق العوينات ، وهى مياه عذبة ، غير أنها على عمق كبير ، وغير متجددة non-renewable ، مما يجعل استخدامها صعبا ، ويعتمد على تكلفة الضخ ، ومعدلات النفاذ depletion rate ، مقارنة بالعائد الاقتصادى المحتمل على المدى البعيد ، كما تحتوى شبه جزيرة سيناء على المياه الجوفية التى تتوزع فى ثلاث مناطق : طبقة الصخور المائية الضحلة shallow aquifers فى الشمال – طبقة الصخور المائية فى الوادى valley aquifers – طبقة الصخور المائية العميقة deep aquifers ، ويلاحظ هنا أن المنطقة الشمالية تعانى من ارتفاع الملوحة الناتجة عن مياه البحر salt – water intrusion ، أما منطقة الوادى والدلتا فيبلغ المخزون من المياه الجوفية فى طبقة صخورها المائية 500 بليون متر مكعب ، منها 7.5 بليون متر مكعب من المياه المتجددة .
3- الأمطار وخاصة على الساحل الشمالى ، ويتناقص معدل المطر كلما اتجهنا شرقا وجنوبا ، حيث يصل إلى أقصاه فى منطقة الأسكندرية ( 200 ملليمتر فى العام ) ، وينخفض إلى 75 ملليمترا فى العام فى منطقة بور سعيد ، وإلى 25 ملليمترا فى العام فى منطقة القاهرة . وثانيهما ما يعرف بالمصادر غير التقليدية non – conventional water resources ، وتضم تحلية مياه البحر ، وإعادة استعمال مياه الصرف الصحى والصرف الزراعى ، والمصدر الأول يستعمل على نطاق ضيق فى منطقة البحر الأحمر ، بينما إعادة استعمال مياه الصرف الصحى يحتاج إلى مزيد من الإمكانيات ، ويُستخدم أيضا على نطاق ضيق ، أما مياه الصرف الزراعى فتُستخدم على نطاق واسع( حوالى 4.7 بليون متر مكعب سنويا يتم معالجتها وإعادة استخدامها ) ،بينما الكمية الكلية فى صعيد مصر تُقدر بـــحوالى 4.07 بليون متر مكعب ( 1996/1995 ) ، وتصل إلى 4.27 بليون متر مكعب ( 1996/1995 ) فى منطقة الدلتا ، وهناك كميات أخرى من الصرف الزراعى يتم ضخها فى : ترعة الإبراهيمية وبحر يوسف ( 0.65 بليون متر مكعب سنويا ) ، منطقة الفيوم ( 0.235 بليون متر مكعب سنويا ) ، بحيرة قارون ( 0.65 بليون متر مكعب سنويا ) ، فرع رشيد ( 0.3 بليون متر مكعب سنويا ) ، بينما باقى مياه الصرف الزراعى وتقدر بحوالى 12.41 بليون متر مكعب سنويا ( 1996/1995 ) فتصب فى البحر ، كما يتم أيضا إعادة ضخ 2.0 بليون متر مكعب سنويا من المياه المالحة المتسربة من البحر إلى شمال الدلتا إلى البحر والبحيرات الشمالية مرة أخرى للمحافظة على توازن مستوى الملوحة .
أى أننا هنا أمام وضع يكاد يكون فيه نهر النيل هو المصدر الوحيد للمياه فى مصر ، حيث يتم استخدام %85 من حصتنا السنوية فى الزراعة ، والكمية المتبقية ( %15 ) تُستخدم فى الاستهلاك البشرى والصناعى وغيرها ، وحسب تقارير البنك الدولى [ The World Bank , A Strategy for Managing Water in the Middle East and North Africa , 1994 ] فإن الحد الأدنى للفرد من المياه سنويا والذى يلزم للبقاء survival هو 36 مترا مكعبا فى العام ، يُضاف إليها احتياجات الزراعة والصناعة وتوليد الطاقة ليصل الحد الأدنى إلى 1000 متر مكعب سنويا ، وطبقا لتقارير وكالة المخابرات الأمريكية [ CIA World Book ] فإن نصيب الفرد فى مصر من مياه النيل فى عام 1990 كان 1,123 مترا مكعبا فى العام ، ومع توقع زيادة السكان إلى 109.2 مليونا فى عام 2025 ، وزيادة الاحتياجات المائية إلى 103.25 بليون متر مكعب سنويا ، وثبات حصة مصر على ما هى عليه الآن ( 55.5 بليون متر مكعب سنويا ) ، سينخفض نصيب الفرد إلى 630 مترا مكعبا سنويا ، أى حوالى نصف ما كان عليه عام 1990 ، وبنقص عن الحد الأدنى للفرد بمقدار %37 ، وهى مؤشرات شديدة الخطورة ، سيكون لها عواقب وخيمة على الزراعة والثروة الحيوانية وإنتاج الغذاء ، بالإضافة إلى التوسع الصناعى ، ومشاريع استصلاح الأراضى ، أى على كل مظاهر الحياة فى مصر ، وقد بدأت عوارض ذلك فى الريف المصرى الذى يقطنه حوالى نصف السكان ، وتمثل ذلك فى ردم بعض الترع وقنوات الرى ، وهى التى شقها الإنسان المصرى بعرقه وجهده وتضحياته ، كما تعثرت كثير من مشاريع استصلاح الأراضى ، ويفاقم من تلك المشكلة العشوائية والعجز والتكاسل عن الدراسات والمشاريع الحقيقية لاعادة استعمال مياه الصرف الصحى والزراعى ، وتطوير طرق الزراعة والرى ، واستخدامات المياه الجوفية وغيرها .
مما يجدر ذكره أيضا أن بحيرة ناصر حيث يتم تخزين المياه خلف السد العالى تفقد %14-%12 من مياهها سنويا بسبب البخر والتسرب ، وباستمرار تراكم الطمى فيها تقل مقدرتها التخزينية ، ويذكر د . سامى المفتى الأمين العام السابق بمركز دراسات علوم الصحراء فى ورشة عمل " مركز الأرض " السابق الإشارة إليها أن موارد نهر النيل من المياه تأتى من أحزمة الأمطار فوق الهضبة الأثيوبية ( %85 ) ، بينما ال %15 الباقية تأتى من أمطار الهضبة الاستوائية ، وأن تحرك أحزمة تلك الأمطار كما تتنبأ بعض الدراسات قد يؤدى إلى نقص فى موارد النهر يصل فى حده الأقصى إلى %76 ، أو زيادة تصل فى حدها الأقصى إلى %30 ، وفى كلتا الحالتين فإن مصر قد تواجه مزيدا من نقص المياه ، أو زيادة نحن غير جاهزين لها بمشاريع الرى والمنشئات والمساحات التخزينية .
4- الصرف الزراعى : إنشاء السد العالى أدى إلى ضعف الصرف ، وهو ما رفع من نسبة الملوحة فى الأرض الزراعية ، وتعانى منطقة الدلتا على وجه الخصوص من الملوحة المرتفعة high salinization والتى تفقد التربة معها المقدرة على الاحتفاظ بالماء ، مما يمنع نمو النباتات ، وتعانى أيضا من تسرب مياه البحر المالحة saline intrusion ، وينقل الأستاذ فهمى هويدى فى مقاله ( الاغتيال الصامت ) ، والذى نشرته صحيفة " الشروق " بتاريخ 23 يونيو 2011 عن د . إسماعيل عبد الجليل ، المنسق الوطنى لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر قوله : " هناك مشكلة خطيرة أخرى تتمثل فى تدهور إنتاجية 2 مليون فدان من الأراضى الزراعية بالدلتا ، نتيجة لسوء الصرف ، الذى أدى إلى زيادة الملوحة فى التربة ، ذلك أن الأجهزة الحكومية المعنية رفعت يدها عن المصارف ، فلا قامت بصيانة الموجود منها ، ولا هى أنشأت مصارف جديدة ... ثمة دراسة أجريت على واحة سيوة ومدى الهدر المترتب على إهمال الصرف فيها ، وقد أثبتت الدراسة أن الواحة التى تتعرض الآن للغرق بسبب أزمة الصرف إذا عولجت مشكلتها فإن ذلك يضيف إلى دخلها السنوى من البلح والزيتون ما يعادل 30 مليون جنيه ، وهو مبلغ يضيع عليها بسبب الرعونة والإهمال " .
5- فشل مشاريع استصلاح الأراضى : يرجع فشل مشاريع استصلاح الأراضى فى مصر وغيرها من المشاريع الزراعية عموما إلى العشوائية ، وسوء التخطيط أو انعدامه من الأساس ، ومجافاة الأساليب العلمية الصحيحة ، والتوظيف السياسى كوسيلة للدعاية ومداعبة مشاعر الناس بدون أن يكون هناك فى الحقيقة مشاريع مبنية على أسس سليمة ، ودراسات شاملة لكل عناصرها ، ويذكر د . الخولى سالم فى كلامه السابق الإشارة إليه إلى أن عمليات استصلاح الأراضى وزراعتها ، وإقامة مجتمعات ريفية عليها ، قد فشلت فى تحقيق أهدافها ، ويشير إلى دراسة علمية تمت فى عام 2006 ، رصدت فيها 28 مشكلة تواجه مشاريع استصلاح الأراضى ، والتوطين بالمجتمعات الجديدة ، ومن بينها : مشكلات مياه الرى ، والصرف الزراعى ، وارتفاع أسعار مستلزمات الإنتاج من أسمدة وتقاوى ومبيدات ، وضعف جودة أداء الخدمات الأساسية من صحة وتعليم وترفيه ومواصلات ، وعدم توفر التمويل ، ومشكلات التسويق ونقل المحاصيل ، وعدم توفر العمالة ، أو الميكنة ، وارتفاع أجورها ، علاوة على المشكلات الأمنية فى تلك المناطق .
ثانيا : الماء .. ماهى المشكلة ؟! 1- نقص المياه نتيجة ثبات الموارد ، مع التبديد وسوء الاستعمال ، وزيادة السكان وما يستتبعه من زيادة الاستخدام البشرى ، وزيادة الأنشطة التجارية والصناعية ( فى عام 2000 استهلكت الأنشطة الصناعية 3.6 بليون متر مكعب من المياه ، ستزيد إلى 5.5 بليون متر مكعب فى عام 2017 ) ، وعدم تطور أساليب الزراعة ، وطرق الرى ، وضعف جهود استخدام المصادر غير التقليدية للمياه ، وهى أمور تعرضت لها فى الجزء الأول من المقال .
2- التلوث : تُعتبر مشكلة تلوث المياه من أخطر ما يواجه المجتمع المصرى ، وذلك لما لها من تأثيرات مدمرة على صحة الإنسان ، ومع انعدام الوعى ، وتدنى الرعاية الصحية أو انعدامها ، ونقص الإمكانيات ، وإهمال الدولة للقضية بأكملها ، لنا أن نتخيل حجم الأخطار المحدقة بالمصريين وأجيالهم القادمة .. ذكر المستشار عبد العاطى الشافعى ، رئيس جمعية " حماة النيل " ، حسب ما نشرته صحيفة " اليوم السابع " ، بتاريخ 2 أغسطس 2010 ، أن نهر النيل هو أكثر أنهار العالم تلوثا ، وأن 2.5 مليار متر مكعب من الصرف الصحى تصب فيه سنويا ، منها 1,800,000,000 متر مكعب من الصرف غير المعالج ، 700,000,000 متر مكعب من الصرف نصف المعالج ، علاوة على 500,000,000 متر مكعب من الصرف الصناعى ، والذى يحتوى على مواد عالقة لا تذوب فى الماء ، ومعادن ثقيلة تتسبب فى السرطان ، والفشل الكلوى والكبدى ، أما كميات الصرف الزراعى التى تصب فيه سنويا فتقدر ما بين 10-6 مليار متر مكعب ، تحتوى على عديد من الملوثات والكيماويات والمبيدات السامة ، ويُلقى فى النهر أيضا 500,000,000 طن من القمامة والمخلفات الصلبة ، 120,000 طن من المخلفات الطبية ، بما تحمله من مخاطر وأمراض ، وفى 14 أغسطس من نفس العام نشرت الصحيفة له أيضا أن %80 من الأمراض التى تصيب الكبار فى مصر تحدث نتيجة شرب المياه الملوثة ، وأن %10 – %5 من أمراض الأطفال ترجع لنفس السبب ، وأضاف أنه ورغم الأموال والجهود التى تبذلها الدولة ، يظل هناك عجز كبير ، وغياب ملحوظ لوزارات البيئة والرى والإسكان والمرافق ، وحذر مما أسماه مجاعة مائية .
وفى دراسة دعمها " إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية " ، وأجرى تحاليل عيناتها د . حاتم تليمة ، أستاذ مساعد الكيمياء بالجامعة الأمريكية ، ونشرتها صحيفة " المصرى اليوم " بتاريخ 17 نوفمبر 2009 ، وتمت على عينات من مياه النيل حيث تصرف " شركة الحوامدية للسكر والصناعات التكاملية " مخلفاتها الصناعية عن طريق أنبوبين يمتدان إلى النهر .. وجدت الدراسة نسبا عالية من الفينول phenol أو carbolic acid تزيد بمقدار 23,000 مرة عن المعدل المسموح به حسب منظمة الصحة العالمية ، كما وجدت الدراسة أيضا مادة السيانيد cyanide السامة بتركيز 1 ملليجرام فى اللتر ، وهى المعروفة تجاريا باسم سُم الفئران ، مع أنه من المفروض أن تخلو مياه الصرف منها تماما ، وعند تحليل عينات من مياه الشرب بالمنطقة أظهرت النتائج احتواءها على الفينول بنسبة تفوق المحددة من وزارة الصحة بمقدار عشر مرات ، كما أظهرت النتائج أيضا عنصر النيكل nickel بنسبة تتجاوز الحد المصرح به بمقدار 1.5 ، وتحتوى الأسماك التى تعيش فى تلك المنطقة على نسب عالية من الحديد والسيانيد والفينول والكادميوم cadmium ، والأخير من العناصر الشديدة السمية ، وثبت وجوده أيضا فى أسماك تلك المنطقة ، وتذكر د . منى سعد ، رئيس قسم الأحياء المائية بالمركز القومى للبحوث أن تناول تلك الأسماك بانتظام ، وعلى مدار 5-3 سنوات ، يسبب حدوث أورام سرطانية فى الكلى والكبد ، وأنيميا حادة ، وتشوه الأجنة ، والتخلف العقلى عند الأطفال . والعجيب أنه ورغم تحرير محضر للشركة برقم 5479 فى يوليو 2009 ، يتهمها بالصرف المخالف ، والتخلص غير الآمن من المخلفات الخطيرة فى النهر ، ورغم إصابة معظم العاميلن بالحوامدية بالفشل الكلوى ، ورغم اتهام د . مجدى علام رئيس الاتحاد العربى للبيئة للشركة ، ووصفه لممارساتها بأنها إضرار بالأمن القومى ، ومطالبته بمقاضاتها ، إلا أنها وغيرها من الشركات تواصل مخالفاتها للقوانين ، ويذكر تقرير للبنك الدولى فى 2009 أن تلوث النيل من المخلفات الصناعية والصرف الصحى يسبب خسارة سنوية لمصر مقدارها 3.5 مليار دولار ، أى حوالى 20 مليار جنيه مصرى ، وهو ما يعادل حوالى %1.8 من إجمالى الناتج القومى ، وذلك بسبب التأثير على الصحة ، والإنتاج الزراعى ، وصيد الأسماك ، والجدير بالذكر أن هناك 210,000 صياد فى مصر ، وحوالى 2 مليون يعملون فى الصناعات المرتبطة بالصيد والأسماك ، اضطر كثير منهم إلى هجر مهنة الصيد ، أو الهجرة إلى أماكن أخرى ، طبقا لما صرح به د . محمد الفقى ، رئيس الاتحاد التعاونى لمصادر المياه ، وفى تقرير لوزارة البيئة صدر عام 2009 أن هناك 129 منشأة صناعية ( كيماوية ، كهربائية ، منسوجات ، ورق ، أسمدة ، زيوت وصابون ، أخشاب ، مناجم ومعادن ، أسمنت ) ، 300 فندق عائم ، ترمى بنفاياتها فى النيل .
وقد وجدت الدراسات أيضا أن نسبة المخلفات البرازية فى مياه النيل تزيد عن النسب المقررة حسب مقاييس الاتحاد الأوربى ، ومما يجدر ذكره أن أكثر من %60 من سكان الريف المصرى لا يجدون الصرف الصحى ، بينما تنخفض النسبة إلى %40 فى المدن ، ويسبب تلوث المياه بالميكروبات والطفيليات وغيرها فى إصابة الكثير من المصريين بالأمراض ، ومنها المرض المسمى schistososmiasis والذى يتسبب فى تهتك الأنسجة ، وما يتبعه من فقدان الدم ، وينتج عن الإصابة بدودة طفيلية schistosome تعيش فى المياه الملوثة ، ويسبب التلوث بالمعادن الثقيلة والمبيدات فى الإصابة بالسرطان ، وقد سُجلت نسب عالية من سرطان البنكرياس pancreatic cancer فى شمال غرب الدلتا بسبب تلك الملوثات فى التربة والماء ، ويذكر د . أحمد لطفى استشارى الأمراض الباطنة بمستشفى القصر العينى أن أكثر من 100,00 مصرى يصابون بالسرطان سنويا بسبب تلوث مياه الشرب .
فى سبتمبر 2002 نشرت وكالة التنمية الأمريكية الدولية US Agency for International Development ، والمعروفة باسم USAID بحثا عنوانه " مسح لمصادر تلوث النيل " Survey of Nile System Pollution Sources ، تم بالتعاون مع وزارة الرى ومصادر المياه المصرية ، وفيه رصد لمصادر التلوث الآتية :
1- التلوث الناتج عن الصرف الصناعى industrial wastewater ومقداره 3.6 بليون متر مكعب فى عام 2000 ، ستزيد إلى 5.5 بليون متر مكعب فى عام 2017
2- التلوث الناتج عن الصرف الصحى municipal wastewater ومقداره من كل المحافظات 3.5 بليون متر مكعب ، منها 1.6 بليون متر مكعب يتم معاملتها ، ويتوقع الحاجة إلى معاملة 1.7 بليون متر مكعب إضافية فى عام 2017 ، ولأن الصرف الصحى فى القاهرة وغيرها من المدن يستقبل أيضا الصرف الصناعى والأنشطة التجارية المختلفة فإنه يحتوى على نسب عالية من الملوثات السامة ، بالإضافة إلى الطفيليات parasites ومسببات الأمراض pathogens والمواد العضوية ، ومياه الصرف تلك ، سواء المعالج منها أو غير المعاج يتم صرفها فى المصارف الزراعية ، والتى تصرفها بدورها فى مياه النيل ، مما يرفع نسبة التلوث ، وقد وجدت الدراسة أن النهر يستقبل الصرف من 124 موقعا ممتدة على طول مجراه من أسوان إلى الدلتا ، منها 76 موقعا للصرف الزراعى ، والباقى للصرف الصناعى ، وأن عشرة مواقع منها فقط تلنزم بالضوابط القانونية للصرف ، وأن معظم الصرف الصناعى لا يلتزم بتلك الضوابط ، ويأتى معظم التلوث الصناعى من مصانع السكر فى الحوامدية ، كوم أمبو ، دشنا ، قوص ، ومصانع الزيت والكوكاكولا فى سوهاج ، ومصنع الأسمدة فى طلخا .
3- الصرف الزراعى agricultural drainage water ، ويميز البحث بين نوعين من الصرف الزراعى ، أحدهما ما يأتى من الحقول ويسمى non – point source of pollution ، والآخر يأتى بعد تجميع المياه وتركيزها ويسمى point source of pollution ، وخلط تلك المياه بالنيل وقنواته يؤدى إلى تلوثها ، كما يؤدى أيضا إلى تلوث المياه الجوفية ، ومن أهم الملوثات فى الصرف الزراعى المبيدات ، ومسببات الأمراض من الصرف الصحى ، والمواد السامة العضوية وغير العضوية من الصرف الصناعى والصحى ، والأملاح ، والعناصر الغذائية nutrients ( نتروجين ، فوسفور ، بوتاسيوم ) . ويخلص البحث إلى أن نسب التلوث فى مجرى النهر الرئيسى لم تصل بعد للحدود التى تشكل خطرا على الصحة العامة ، باستثناء بعض المواقع التى ترتفع فيها نسبة التلوث ببكتريا E. Coli مما يجعل الاستعمال المباشر لتلك المياه فى الرى أو الصيد خطرا على الصحة العامة ( يلاحظ هنا أن البحث تم منذ حوالى عقد من الزمان شهدت فيه الحياة المصرية تدهورا كبيرا فى جميع المجالات ) ، ويلفت البحث أيضا الانتباه إلى غياب كثير من المعلومات والدراسات ، وأن الموجود منها قديم ويحتاج إلى تحديثه ، وغياب التعاون والتنسيق بين الهيئات المختلفة .
ثالثا : ما هو الحل ؟ يتملكنى إحساس عميق بالأسى كلما استرجعت إنجازات الفراعنة فى الزراعة والرى ، وكيف كانوا يحجزون مياه الفيضان ببناء أحواض flood basins مختلفة المساحة بواسطة حواجز ترابية ، لها بوابات sluices للتحكم فى المياه وتوجيهها ، وبعد أن تتشرب الأرض بالمياه ، ويترسب الطمى ، يتم صرف المياه ، وبذلك تحصل التربة على العناصر الغذائية ، ولا ترتفع نسبة الملوحة كما فى طرق الزراعة الحديثة ، وكيف تركوا لنا تلك تلك النقوش والرسوم البديعة لبذر الحبوب ، وعمليات الحصاد وغيرها من الممارسات الزراعية ، وكذلك الرسوم والنقوس البديعة لعمال المساحة يرسمون حدود الأراضى الزراعية ، ويقدرون نسبة الضرائب عليها ، وكيف وضعوا تقويمهم المعتمد على ملاحظاتهم الدقيقة للسنة الزراعية .. تلك الأشياء وغيرها تمت منذ أكثر من 3,000 سنة قبل الميلاد .
وفى عهد الخديوى إسماعيل ( 1879-1863 ) ، حدثت إنجازات هائلة فى الزراعة والرى لم تحدث فى عهد أى حاكم آخر فى تاريخ مصر الحديث ، فزادت مساحة الأرض المزروعة بمقدار مليون فدان إلى 4,810,000 فدانا ، وكانت فى عهد محمد على 2,000,000 فدانا فى عام 1821 ، زادت إلى 3,856,00 فدانا فى عام 1840 ، وفى عهد إسماعيل تم إصلاح القناطر الخيرية فى عام 1867 ، وإنشاء قناطر التقسيم بديروط عام 1871 ، وكانت وقتها أعظم قناطر الرى فى العالم ، وتم إنشاء 426 قنطرة على الترع والرياحات ، منها 150 بالوجه القبلى ، 276 بالوجه البحرى ، وفى عهده أيضا تم حفر وإصلاح 112 ترعة ، أهمها ترعة الإبراهيمية ( 267 كيلومتر ) ، وكانت وقتها أهم وأكبر مشروعات الرى فى العالم ، وكذلك ترعة الإسماعيلية .
والسؤال هنا : كيف لنا أن نعود دولة تعتمد فى طعامها على زراعتها ، وتحفظ مياهها من النقصان والتلوث ؟! والإجابة ليست سهلة ولا بسيطة ، فقد أحدثت تراكمات الفساد خللا هائلا فى كل شئ فى المجتمع المصرى ، ولكنها تحتاج أكثر ما تحتاج إلى إرادة سياسية ، والإرادة السياسية لا توجد إلا عند الأنظمة الرشيدة ، والنظام الرشيد لا يتحقق من تلقاء نفسه ، بل يحتاج شعبا واعيا ، ونخبة مخلصة أمينة ، وعملا دؤوبا ، ومثابرة وتخطيطا ، أى أنه طريق طويل ، غير أن أهم ما يجب علينا فعله الآن أن نبدأ بداية صحيحة ، وقد لا نرى نتائج أعمالنا ، ولكن أولادنا وأحفادنا بالقطع سيرونها . 1- التشريعات والقوانين : عند الحديث عن إصلاح الزراعة والرى فى مصر ، يتحدث المسؤولون وغيرهم دائما عن سن التشريعات ، وتنفيذ القوانين بصرامة ، ويتناسى هؤلاء جميعا أن التشريعات ينبغى أن تكون عادلة وواقعية ، وأن القوانين يجب أن تُطبق على الناس جميعا ، بدون مجاملة وبدون انتقائية ، والمتأمل فى مشاكل تجريف الأرض الزراعية وتصحيرها والعدوان عليها ، ومشاكل تلويث النيل وتحويله إلى مقلب كبير للزبالة والنفايات ، يجد أن هناك الكثير من التشريعات والقوانين ، فمثلا المادة 150 من قانون الزراعة 116 لسنة 1983 تجرم تجريف الأرض الزراعية : " يحظر تجريف الأرض الزراعية ، أو نقل الأتربة لاستعمالها فى غير أغراض الزراعة ... يعتبر تجريفا فى تطبيق أحكام هذا القانون إزالة أى جزء من الطبقة السطحية للأرض الزراعية " ، والمادة 153 من نفس القانون : " يحظر إقامة مصانع أو قمائن طوب فى الأرض الزراعية " ، والمادة 154 من القانون نفسه : " يعاقب على مخالفة حكم المادة 150 من هذا القانون بالحبس وبغرامة لا تقل عن عشرة آلاف جنيه ، ولا تزيد عن خمسين ألف جنيه ، عن كل فدان أو جزء منه من الأرض موضوع المخالفة ".
وفيما يخص تلوث المياه فهناك العديد من القوانين المُنَظِمة لمواصفات المياه والصرف : القانون 48 لسنة 1992 لحماية النيل ومجارى المياه من التلوث ، والقانون 4 لسنة 1994 لحماية البيئة ، والقانون 48 لسنة 1982 والقرار 8 لسنة 1983 لتنظيم الصرف إلى مصارف المياه ، والذى يجرم الصرف إلى النيل ومجارى المياه والمياه الجوفية بدون رخصة تشترط الالتزام بالمعايير المحددة ، ولوزارة الداخلية سلطة تطبيق القانون ، ولوزارة الصحة سلطة تحديد مواصفات مياه الشرب، ومراقبة الصرف ، ولوزارة الرى ومصادر المياه سلطة تحديد مواصفات المياه والتلوث ، وحسب القانون 48 فإن وزارة الإسكان والمرافق والمجتمعات الجديدة مسؤولة عن التخطيط والتصميم والتنفيذ لشبكات المياه ، والمعالجة والتوزيع لمياه الشرب ، والصرف ومعالجة مياه الصرف ، كما تُلزم المادة 3 من القانون 48 لسنة 1982 أجهزة وزارة الصحة بإجراء تحاليل دورية لعينات من المخلفات السائلة للمنشئات المسموح لها بالصرف فى النيل ، وتنص المادة 89 لقانون البيئة المعدل لسنة 2009 على معاقبة من يقوم بالصرف المخالف فى مجرى النيل بغرامة لا تزيد عن 200,000 جنيه ، وبالحبس فى حالة تكرار المخالفة .
ومع تلك الوفرة فى القوانين ، عندنا أيضا وفرة فى أجهزة الدولة المسؤولة ، والمعاهد والمراكز المتخصصة فى أبحاث نوعية المياه والصرف ، فمثلا وزرارة الزراعة واستصلاح الأراضى ، ووزارة الرى ومصادر المياه ، ووزارة الصحة ، ووزارة الإسكان والمرافق ، ووزارة الصناعة ، ووزارة البيئة ، ووزارة الداخلية ، كلها مسؤولة حسب تلك القوانين عن الأرض والمياه والصرف ، بالإضافة إلى عديد من المعاهد المتخصصة : معهد بحوث النيل ( مراقبة نوعية المياه ، وتنفيذ قوانين التلوث ، وتقييم المشاريع الجديدة المؤثرة على نوعية المياه ) ، معهد بحوث الصرف ( مراقبة نوعية المياه المصروفة ، والتغيرات التى تطرأ عليها ) ، معهد بحوث المياه الجوفية ، وغيرها .
والسؤال المشروع هنا : كيف فشلت كل تلك الأجهزة الرسمية فى حماية أرض مصر ومائها ؟! وكيف أخفقت كل تلك القوانين والتشريعات فى ردع المعتدين على أرض مصر مائها ؟!
والإجابة تلخصها تلك الحقيقة : %70 من القضايا التى رُفعت أمام المحاكم لإزالة التعديات على الأراضى الزراعية خسرتها الدولة ، وهذا يعيدنى مرة أخرى إلى ما قلته آنفا من ضرورة عدالة التشريعات وواقعيتها ، وحتمية تطبيق القوانين على الناس جميعا ، إذ لا يُعقل أن نطلب من الفلاح المصرى ألا يبنى على أرضه ، دون ان نوفر له مجتمعات عمرانية جديدة ينتقل إليها ، أو ينتقل إليها أولاده الراغبون فى الاستقلال والزواج وتكوين الأسرة ، أو على الأقل نتبنى سياسات جديدة للتوسع العمرانى الرأسى فى الريف المصرى ، ولا يُعقل أيضا أن ننصب المشانق للفلاح المصرى لأنه بنى على أرضه لتحسين مستواه المعيشى والسكنى ، ونتغاضى عن الأغنياء ورجال السلطة والثروة الذين يبنون القصور والفيللات فى ريف مصر ، بعدا عن ضوضاء المدن الكبرى وتلوثها ، ولا يعقل أيضا أن نطالب الفلاح المصرى بالحفاظ على أرضه ، وقد أفقرناه واضطهدناه وأسأنا معاملته وأفقدناه ولاءه وحبه لأرضه ، وأصبناه بالعلل والأمراض ، وتنكرنا له ، بكثير من السياسات والتشريعات الفاسدة ، التى تم إقرارها فى منتصف ثمانينيات القرن الماضى بحجة التحرر الاقتصادى ، مما تسبب فى تدهور أحواله اقتصاديا واجتماعيا ، وأثقله بالديون ، وجعله شريدا مطاردا من أحكام السجن والغرامة لتعثره وعدم مقدرته على سداد ديون بنك التنمية والائتمان الزراعى ، ولا يُعقل أيضا أن نعاقب من يرمون المخلفات فى مجارى المياه دون أن نوفر لهم البدائل الصحية السليمة ( %60 من سكان الريف المصرى ، %40 من سكان المدن بدون صرف صحى ) ، ولا يُعقل أيضا أن نقيم الدنيا ولا نقعدها على عامة الشعب وننسى وزارة الصناعة ( تدير وزارة الصناعة 300 منشأة صناعية كبرى ) ، ورجال الأعمال الذين تشكل مصانعهم أكبر مصادر التلوث والصرف الصناعى فى النيل .. وعندما يأتى اليوم الذى تراعى فيه التشريعات الواقعية والعدالة ، وتُطبق القوانين على الناس جميعا ، وتقدم الدولة للناس البدائل والخيارات ، وتقوم بتوعيتهم وتثقيفهم ، وإشراكهم فى مناقشة القرارات التى تخصهم وإقرارها .. عندما يأتى هذا اليوم ستقوم التشريعات والقوانين بدورها فى حماية أرض مصر ومائها ، بل سيشترك الناس مع أجهزة الدولة فى حماية الأرض ، وصيانة الماء .
2- التنمية والإعمار والمجتمعات الجديدة : خلال الأربعين سنة القادمة سيزيد عدد سكان مصر بمقدار 60 مليون نسمة ، أى أن إجمالى السكان وقتها سيكون حوالى 140 مليون ، ولا يمكن لمثل هذا العدد أن يظل مكدسا فى الوادى والدلتا ، وخاصة مع إمكانية الإعمار وتكوين مجتمعات جديدة ، وقد ذكر وزير الإسكان والمرافق د . محمد فتحى البرادعى بتاريخ 20 يونيو 2011 : " أن المناطق المعمورة بمصر تشكل %6 من مساحتها ، وأن هناك %24 من إجمالى مساحة مصر به قابلية للتنمية بدون مححدات ، وتتوفر به مقومات وموارد طبيعية ، وأن %16 أخرى من مساحة مصر قابل للتنمية وبه موارد طبيعية مع بعض المحددات ، أى أن %40 من مساحة مصر قابلة للتنمية فى المنظور القريب بخلاف المناطق المعمورة ، وأضاف الوزير أن وزارة الإسكان أعدت مشروعا إبتدائيا لمخطط استراتيجى قومى للتنمية العمرانية ، لمواجهة التحديات الأساسية فيما يتعلق بالزيادة السكانية المتوقعة ، والمياه والطاقة ، والتوزيع السكانى ، بما يشكل رؤية مستقبلية لمصر خلال الأربعين عاما القادمة "[ المصريون : 20 يونيو 2011 ].
إن التنمية والإعمار وتكوين المجتمعات الجديدة أمر لا مفر منه لمواجهة الزيادة السكانية ، ولا يُعقل أن نستمر فى تغافل تلك ال %40 من مساحة مصر القابلة للتنمية ، ولا يمكن أيضا أن نترك سيناء بمساحتها الشاسعة لا يسكنها سوى 340,000 نسمة فى شمالها ، 150,000 نسمة فى جنوبها .. إن أمامنا فرصة ذهبية لاستغلال طاقات وطموحات الإنسان المصرى للاستفادة من أرضه وموارده ، شريطة إجراء الدراسات الشاملة الدقيقة ، وتحديد الموارد والإمكانيات ، ووضع الخطط ، ومتابعة التنفيذ ، والتقييم وإصلاح الأخطاء .
ذكرت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة فى تقريرها عام 2008 ، والذى تم بناء على معلومات تم تجميعها خلال 20 عاما أن هناك 110 دولة تواجه أخطار التصحر ، وهو ما يهدد 1.9 مليار هكتار من الأراضى الزراعية ، وأن تجريف الأرض أثر على أكثر من %20 من الأراضى الزراعية ، %30 من الغابات ، %10 من الأراضى العشبية ، وأن 1.5 مليار أى 4/1 سكان العالم يعتمدون مباشرة على الأرض الزراعية التى تم تجريفها ، وهو ما يؤدى إلى تناقص الإنتاجية من المحاصيل الزراعية ، وارتفاع أسعارها ، وهو مع زيادة الطلب على الغذاء ، وقلة المخزون ، وارتفاع اسعار الوقود ، والإضرار بالموارد الأساسية والأنظمة البيئية وزيادة انبعاث الغازات المسببة للاحتباس الحرارى ، والهجرة وإعادة توزيع السكان ، لمما يهدد الأمن الغذائى ، وينذر بحدوث المجاعات .
3- الحفاظ على الموارد الحالية ، والاستخدام الحكيم للموارد المتاحة ، والبحث عن المصادر غير التقليدية : الإعمار وتكوين المجتمعات الجديدة سيصون أرضنا الزراعية الحالية ، ويجنبنا تجريفها أو البناء عليها .. يذكر د . إسماعيل عبد الجليل فى مقال الأستاذ فهمى هويدى السابق الإشارة إليه : " إن تلك الأرض الثمينة التى يجرى تبويرها والبناء عليها تكون فيها الطمى على مدى مئات السنين ، لأن مياه الفيضان ظلت تضيف ملليمترا واحدا كل سنة ، مما يعنى أن السنتيمتر من طين التربة تكون خلال عشر سنوات ، وأن متر الطمى ترسب خلال ألف سنة تقريبا ، وهو ما يتم هدره الآن برعونة مستغربة ، ليحل محله الأسمنت والحديد المسلح ... ولك أن تتصور حجم الكارثة التى يمكن أن تحل بالبلد إذا ما تضاعف عدد سكانه ... فى حين استمر ذلك التراجع المخيف فى مساحة الأراضى الزراعية ، ولئن قيل إن استصلاح الأراضى يمكن أن يعوض ما فقد فالرد على ذلك أن أفق الاستصلاح محدود ومحكوم بكمية مياه نهر النيل المتاحة ، وهذه الكمية فى أحسن فروضها لن توفر لمصر أكثر من مليونين ونصف المليون فدان ... حتى قيام الساعة ".
تطوير أساليب الزراعة ، وطرق الرى سيساهم أيضا فى توفير المياه ، وزيادة الإنتاجية ، والجدير بالذكر هنا أن الولايات المتحدة على سبيل المثال تستخدم 3/1 مواردها المائية فقط فى الزراعة وإنتاج الغذاء ، بينما تستهلك الزراعة وإنتاج الغذاء %85 من مواردنا المائية ، ومما يجدر ذكره أيضا أن %50 من المياه المستعملة فى الزراعة فى إسرائيل ، أى حوالى 1 بليون متر مكعب ( 2008 ) ، هى من مياه الصرف الصحى المعاملة . ذكر د . حسين العطفى وزير الرى والموارد المائية أن : " قضية المياه لها تحديات كثيرة سياسية وقومية ، وبجانب قضايا العجز فى المياه هناك قضايا التلوث ، والتغيرات المناخية ، وقضايا تمويل مشاريع الرى والصرف ، وارتفاع كلفة أعمال الصيانة ... مخزون المياه الجوفية للواحات يهبط بمقدار 6-4 أمتار نتيجة الاستخدام الجائر والعشوائى للمياه الجوفية ... مصر بها أكثر من 60,000 بئر غير مرخصة ، وستشهد الفترة القادمة طرح قانون للمياه الجوفية ، يضع ضوابط لترشيد الاستخدام ... مصر لديها خطة قومية حتى 2017 لتأمين مواردها المائية عن طريق 3 محاور : 1- ترشيد ورفع كفاءة الموارد المائية . 2- إعادة تدوير واستخدام المياه . 3- التعاون مع دول حوض النيل لزيادة حصة مصر " [ الدستور : 23 يونيو 2011 ] .
المصادر غير التقليدية للمياه كما ذكرت فى الجزء الأول من المقال تشمل تحلية مياه البحر ، وهى من المشاريع الرئيسية للمخطط الاستراتيجى الذى تحدث عنه وزير الإسكان فى تصريحه السابق الإشارة إليه ، أما المصدران الآخران فهما : إعادة استعمال مياه الصرف الصحى ، وإعادة استعمال مياه الصرف الزراعى ، وكلا الأمرين يحتاج إلى معاملة تلك المياه قبل صرفها مرة أخرى فى النيل ، وهو ما يتم على نطاق ضيق فى حالة الصرف الصحى ، ويتم بصورة جزيئة فى حالة الصرف الزراعى .
4- حماية التربة والمياه من التلوث : لحماية التربة ومياه الشرب ومياه النيل والمياه الجوفية من التلوث يجب مراعاة الآتى :
- الاهتمام بمشاريع البنية التحتية للصرف الصحى ، فى الريف والمدن ، وهو ما سيمنع تسربها إلى مجارى المياه ومياه الشرب والمياه الجوفية . - تحديث البنية التحتية لشبكات المياه ، وتزويد محطات تنقية المياه بالمعدات والتقنيات القادرة على معالجة المياه .. فى البحث المشار إليه سابقا عن مياه النيل ومياه الشرب فى منطقة الحوامدية ، أظهرت النتائج تلوث مياه الشرب ، وأرجع المسؤولون ذلك إلى أن محطة المياه تستعمل الشبة والكلور فقط ، ولا تملك المعدات والوسائل الحديثة للتخلص من أنواع مختلفة من الملوثات لا يمكن التخلص منها بالشبة والكلور . - معاملة مياه الصرف الصحى والصرف الصناعى ، وهما أكبر مصادر التلوث ، والإضرار بالبيئة ، والصحة العامة ، حيث يمكن بعدها صرفها إلى مجارى النهر وفروعه وقنواته ، واستخدامها فى الزراعة والرى ، والأغراض الصناعية ، وتشمل تلك المعاملة ثلاثة مراحل : المرحلة الأولية primary treatment ، وفيها يتم تجميع المياه ، حيث تطفو على السطح الزيوت والشحوم ، والمواد الصلبة الطافية ، حيث يتم إزالتها ، ويترسب إلى القاع المواد الصلبة غير الذائبة sludge وعادة ما تكون ملوثة بالكيماويات السامة من مخلفات الصناعة ، ولا يتبقى بعد ذلك إلا الماء الذى يشكل %99 من مياه الصرف ، ويحتوى على المواد الذائبة ، والمواد العضوية العالقة ، حيث تقوم الكائنات الدقيقة فى المرحلة الثانوية secondary treatment بتكسيرها إلى مواد غير ضارة ، وبعدها تعامل المياه بالكلور chlorination لتنقيتها وإزالة محتواها من البكتريا ، حيث يمكن بعد ذلك صرفها إلى مجارى المياه لإعادة استخدامها ، وفى المرحلة الثالثة tertiary treatment يتم التخلص من النتروجين والفوسفور لمنع نمو الطحالب .. فى مصر أكثر من نصف مياه الصرف الصحى يتم صرفها مباشرة إلى مجارى المياه بدون معاملة ، والباقى يتم معاملته جزيئا . - الاهتمام بمشكلة القمامة المتفاقمة فى مدن مصر وقراها ، ووضع السياسات الحكيمة لتجميعها ، والتخلص منها بالطرق السليمة ، بعد إعادة استخدام recycle مكوناتها القابلة للتصنيع ، وهو ما يقلل حجم المخلفات ، ويحمى البيئة والمياه من التلوث ، ويحقق العمالة فى مشاريع إعادة الاستخدام ، ويحفظ للمجتمع وجها حضاريا جميلا ونظيفا ، ويحافظ أيضا على الصحة العامة .
- تشديد الضوابط على الصرف الصناعى ، وإلزام المصانع بمراعاة وسائل التخلص السليمة من المخلفات الصلبة والسائلة ، وتنفيذ القوانين بحزم وصرامة تجاه المخالفات ، وإلزام المنشئات الصناعية بعمليات التنظيف والمعاملة للتربة والمياه التى تتلوث من جراء مخالفة التشريعات . - إلزام جميع المشئات الصناعية والتجارية بحماية العاملين بها من كل مصادر التلوث التى تنتج عن أنشطتها ، وإلزامهم بتعويض ومعالجة المتضررين ، حيث أن حماية التربة والمياه والبيئة من التلوث يهدف فى حقيقته لحماية الإنسان فى صحته وغذائه .
5- الأرض والماء والفلاح : حماية الأرض والماء لا يمكن أن يتحققا بدون حماية الفلاح ، وفى خلال العقود الستة الماضية توالت على الفلاح المصرى كل أنواع التشريعات والبرامج والخطط العشوائية ، وجميع أشكال وألوان الوعود والأمانى التى هى فى حقيقتها أوهام وأكاذيب ، للدعاية للأنظمة السياسية الجاهلة والعاجزة والفاشلة والمفتقدة للرغبة الصادقة فى الإصلاح والتطوير .. فماذا كانت النتيجة ؟! ازداد الفلاح المصرى فقرا ، واضطر الكثيرون إلى هجر الأرض والريف والزراعة للعمل فى البلاد العربية ، أو النزوح إلى المدن للبحث عن حياة أفضل ، ولكنهم لم يجدوا فى تلك المدن عملا شريفا يحفظ آدميتهم ، ولا مأوى غير العشوائيات والأحياء المُهمشة المُهملة ، والتى لا تختلف عن الريف فى فقرها وقذارتها ، ولم تستفد تلك المدن بدورها غير مزيد من التكدس والزحام ، ومن تقطعت به السبل ، وعجز عن السفر للبلاد العربية أو النزوح للمدن ، وجد نفسه بقراريطه القليلة عاجزا عن الوفاء بالحد الأدنى للحياة الكريمة ، ومع الاستعمال العشوائى والمفرط للمبيدات ، وتلوث المياه ، انضم الفشل الكلوى والكبدى والسرطان إلى البلهارسيا لينهشوا جميعا جسد هذا الفلاح المُبْتلى بأنظمته الخائنة .. كيف لنا أن نتحدث عن الأرض والماء ، ومن يزرع تلك الأرض ، ويستخدم ذلك الماء ، لا يجد أحدا يمد له يدا ، أو يُقدم له عونا ؟!
فى ورشة عمل " مركز الأرض " السابق الإشارة إليها تناول د . عماد الحسينى ، أستاذ الإرشاد الزراعى والتنمية الريفية ، و د . أشرف عبد اللاه، الباحث بقسم بحوث المجتمع الريفى بمركز البحوث الزراعية ، كيفية تجاهل تشريعات الزراعة والأرض والمياه للفلاح ، رغم تأثيرها جميعها عليه ، وكيف أن الدولة قضت على التعاونيات الزراعية تحت دعاوى الرقابة وتنفيذ خطة الدولة ، والتى كانت تمثل وسيلة لحماية محدودى الدخل ، من خلال تطوير الزراعة ، وتحقيق الأمن الغذائى ، وتوفير السلع والخدمات الجيدة بالأسعار الملائمة ، وتنمية الصناعات الحرفية ، وأحلت محلها بنك التنمية والائتمان الزراعى وبنوك القرى ، التى أوقعت الفلاح فى الديون ، ليواجه أحكام السجن والغرامة لعجزه عن السداد .
إن الزراعة والأرض والمياه والفلاح مفردات فى منظومة واحدة ، ولا يمكن النظر إلها منفصلة عن بعضها البعض ، إذا كنا نريد حقا تحقيق المصلحة ، والمحافظة على مواردنا ، والتى أهمها الإنسان .
6- القمح أو التصحير بالفراولة والكانتالوب الحديث عن الأرض والماء لا يمكن أن يعنى الحديث عن الفراولة والكنتالوب ، ونسيان القمح والأرز والقطن وغيرها من المحاصيل الهامة ، وفى خلال العقود القليلة الماضية أضرت الحكومات الفاشلة بسياساتها العشوائية بالأمن الغذائى المصرى ضررا بالغا ، تحت دعاوى التحرر من زراعة المحاصيل التقليدية ، وإحلالها بمحاصيل من قبيل الفراولة والكنتالوب وغيرها ، من أجل التصدير وتوفير العملة الأجنبية التى يمكن استخدامها عندئذ فى شراء القمح ، وهو منطق مختل ولا يختلف عندى عن تبوير الأرض وتجريفها وتصحيرها أو البناء عليها .. إن المجتمعات تقاوم التصحير لأنه يضر بأمنها الغذائى ، وقدرتها على إطعام أبنائها ، وعندما لا تُستخدم الأرض بغرض إكتفاء المجتمع من غذائه ، نكون كَمنْ قام بتصحير أرضه ، ولا قيمة هنا للتفرقة بين التصحير بمعناه المعهود ، أو التصحير باستخدامها فيما لا يحقق الحاجة الأساسية للإنسان ، وهى الطعام ، وبناء مسكن على الأرض الزراعية يحقق حاجة أساسية للإنسان ، وهى حاجة السكن ، ولكن حاجة السكن تتراجع فى قائمة الأولويات أمام حاجة الطعام ، والفراولة والكانتلوب ليسا من الأطعمة الأساسية للإنسان المصرى ، ولكن رغيف الخبز أو القمح هو الطعام الرئيسى .
من المعروف أن مصر هى أكبر مستورد للقمح فى العالم ، حيث نستورد سنويا 8-6 مليون طن ، بينما إكتفاؤنا الذاتى حوالى %56 ، ومشكلتنا ليست فى الأرض الزراعية ، وليست فى نقص المياه ، ولكنها مشكلة التبعية العمياء للولايات المتحدة ، وتسليم اقتصادنا لتوجيهات البنك الدولى ، وقد عبر عن ذلك وزير الزراعة السابق أحمد الليثى ، والذى لم يُعَّمر فى منصبه أكثر من سنة ونصف .. كتب وائل قنديل فى مقاله ( البلد رايحة فى ستين داهية ) ، والذى نشرته صحيفة ( الشروق ) بتاريخ 17 أغسطس 2010 : " أثناء مفاوضات الحكومة المصرية مع الأمريكان بشأن اتفاقية التجارة الحرة ، والتى تولاها الوزيران رشيد محمد رشيد ويوسف بطرس غالى ، عادا كلاهما من أمريكا ، وأدليا بتصريحات مفادها أن واشنطن غير مرتاحة لوجود وزير زراعة مصرى يتحدث كل يوم عن الإكتفاء الذاتى من القمح ، وهو الأمر الذى يثير غضب الزارعين الأمريكان ، وقد كان ، تم إجلاء أحمد الليثى عن وزارة الزراعة ... بعد خروجه من الوزارة بأقل من أسبوع أعلن الوزير الذى حل محله ، أمين أباظة ، بكل فخر أننا لسنا بحاجة لتبنى سياسة الإكتفاء الذاتى من القمح طالما لدينا أموال نشتريه بها ... فى عام 2005 كلف الليثى رئيس شركة " أبو قير للأسمدة " بإنتاج مركب سمادى مخصص للقمح ، وبالفعل تم إنتاجه فى شكاير مكتوب عليها " يزيد إنتاجية القمح بنسبة %15 " ، فماذا حدث ؟ بعد خروج الليثى أو إخراجه من الوزارة ، جاء وزير الصناعة وطلب من رئيس شركة " أبو قير " أن ينسى هذا الموضوع ، لأن هذه العبارة على الشيكارة تثير غضب الأمريكان وتستفزهم ، وبالفعل أُلغى مشروع إنتاج السماد ... الكارثة الحقيقية التى يحذر منها أحمد الليثى مشددا على أن البلد رايحة فى ستين داهية لو لم نتنبه لمشكلة القمح ، أن العالم على مشارف مرحلة جديدة ، لن تكون فيها الفلوس كافية للحصول على القمح " .
وفى مقال آخر لنفس الكاتب نشرته صحيفة ( الشروق ) بتاريخ 19 أغسطس 2010 ، تحت عنوان ( وزراء يكرهون خبز أمهم ) ، كشف فيه أبعادا أخرى لقضية الإكتفاء الذاتى من القمح : " فى فترة رئاسة بيل كلينتون للولايات المتحدة ، كان نائبه آل جور فى زيارة إلى مصر ، وقرر أن يسافر لمشاهدة مشروع توشكى على الطبيعة ، وسافر إلى هناك يرافقه وزير الرى المصرى فى ذلك الوقت الدكتور محمود أبو زيد ، ولم يكن معهما صحفيون ولا إعلاميون على الطائرة ، وحين وصلا ، سأل آل جور الوزير ماذا أنتم فاعلون بهذه الأراضى ، فرد الأخير نخططها لزراعتها قمحا ، ابتلع آل جور الإجابة دون أن يعلق ، وبعد أقل من ساعة من العودة إلى القاهرة ، رن هاتف الوزير وكان المتصل وزير الزراعة واستصلاح الأراضى فى ذلك الوقت الدكتور يوسف والى ، ولم تخرج المكالمة عن توجيه سؤال غاضب : هل تحدثت مع نائب الرئيس الأمريكى فى زراعة توشكى بالقمح ، فرد الوزير : نعم ، فرد والى بصرامة طالبا من وزير الرى عدم الكلام فيما لا يخص بعد ذلك ... ولاحظ السرعة المذهلة التى عبر بها والى عن انزعاجه نقلا عن انزعاج آل جور ... وهو ما يكشف إلى أى حد لا تتسامح واشنطن مع أى تفكير مصرى فى مسألة الاكتفاء الذاتى من القمح " .
وفى نفس الصحيفة ، كتب عماد الدين حسين بتاريخ 16 أغسطس 2010 تحت عنوان ( تربية العبد أفضل من شرائه ) يُبين الزيف والتضليل فى حكاية زراعة الفراولة : " صادرات مصر من الفراولة عام 2008 وصلت إلى 51 مليون دولار ، وفى عام 2007 كانت 12 مليون دولار ، وفى النصف الأول من عام 2009 صدرنا 40 مليون دولار ، أى أن المطنطين عن زراعة وتصدير الفراولة مُضَلِلون ، لأننا نستورد من القمح أكثر من 3 مليارات دولار سنويا ، كما أن الدولة تخصص 3,500 جنيه لدعم طن الفراولة ... فى زمن الوزير أحمد الليثى وصل الاكتفاء إلى %70 ، ثم تراجع حاليا إلى %60 – %56 ... فى بلد مثل مصر يستطيع كل المواطنين الاستغناء عن حبة الفراولة ، ولكنهم لا يستطيعون ذلك مع حبة القمح ورغيف الخبز " .
7- النظام الرشيد والإرادة السياسية : يُعيدنى موضوع القمح والفراولة ، وقضية القحولة والتصحر ، مرة أخرى إلى ضرورة النظام الرشيد ، والحكومة الأمينة ، وامتلاك الإرادة السياسية ، وذلك لأن أخطار التصحر على الأرض المصرية معروفة منذ تقرير الأمم المتحدة فى عام 1953 والذى وضع مصر على قائمة التصحر فى التقسيم الدولى لدول الحزام القاحل ، أى أن تقرير هذا العام لم يأت فى الحقيقة بشئ جديد ، ولكن الجديد أننا فقدنا فى تلك العقود %36 من أرضنا الزراعية ، وتمكنت العشوائية والفوضى والإهمال من كل جوانب حياتنا .. إننا نواجه موقفا عصيبا ، فلا يمكن لأى نظام مصرى أن يكون مواليا ذليلا للولايات المتحدة ، وتابعا أعمى لسياسات البنك الدولى ، وفى نفس الوقت مخلصا للشعب المصرى ، وأمينا على مصالحه وطموحاته ومستقبله ، وقائما على رغباته واحتياجاته ، وقضية القمح أكبر دليل على ذلك .. إننا نمتلك الأرض والماء ، والشعب الذى يمتلك الصبر والإرادة والتشوق للحياة الكريمة ، ولكنه يحتاج القيادة الحكيمة التى تفجر فيه كل ملكات العمل والإبداع ... يذكر وائل قنديل فى مقاله السابق الإشارة إليه ( وزراء يكرهون خبز أمهم ) مقارنة بين مصر وسوريا فى قضية القمح : " قارن بين ما حدث فى مصر وما جرى فى سوريا عام 1992 حين قررت دمشق أن تناور الأمريكان بعد ضمهم لها إلى قائمة محور الشر ، ماذا فعل الأسد ؟ ، وفقا لما عرفته من وزير زراعة مصر المستبعد ، عقابا على تفكيره فى اكتفاء ذاتى من القمح ، أحمد الليثى ، استدعى الرئيس السورى علماء الزراعة فى بلاده ، وطلب منهم البدء فورا فى وضع وتنفيذ خطط للاستغناء عن مليون ونصف مليون طن قمح كانت تستوردها سوريا من أمريكا سنويا ، وبالفعل بعد ثلاث سنوات كانت سوريا قد اكتفت ذاتيا من القمح ، وصار لديها فائض للتصدير ، بعضه استوردته مصر فى صفقات تبادلية " ، ثم يختم مقاله قائلا : " إذن المسألة باختصار هى إرادة سياسية ، وتربية وأخلاق وطنية ، تزرع فى الوجدان قيما نبيلة ، كأن تأكل من زرع يديك حتى وإن كان الشراء أسهل ، وهى مسألة كرامة واعتزاز بالوطن ، تُعْلى الحقل على السوبر ماركت ، وتعتبر الإنتاج عبادة " .
هل نظل نعبث بمستقبل الزراعة فى مصر ؟! هل نقف متفرجين على أرضنا الزراعية تختفى قطعة وراء قطعة ؟! هل نواصل عدم مبالاتنا حتى نتفاجأ بالكوارث والمجاعات ؟! هل نستمر فى تبديد مياهنا وتلويثها ؟! هل نمضى مخاطرين بصحتنا وصحة أبنائنا ؟! هل نترك المتلاعبين بأمننا الغذائى فى الداخل والخارج يعتدون على قوتنا وقوت أولادنا ؟! هل نرضى بالأنظمة والحكومات التى ينطبق عليها الوصف القرآنى ( وإذا تولى سعى فى الأرض ليُفسد فيها ويُهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد) البقرة 205 ؟! ألم يَحِنْ الوقت بعد ليمتلك نظامُنا إرادته السياسية ، ويمارسَ الشعبُ دورَه فى صناعة حاضره ومستقبله ؟! أم سَيَحِقُ علي مصرنا ما يخشاه الأستاذ فهمى هويدى فى نهاية مقاله السابق الإشارة إليه : " أخشى أن يستهجن أحدهم يوما ما مصطلح " أم الدنيا "، ويتساءل : أُمُ ماذا ؟! " ألا هل بلغت ؟! .. اللهم فاشهد ! سعد رجب صادق saad1953@msn.com
06/11/2014
مصرنا ©
| | | |
| | | | |
|
|