التعليم فى مصر .. مشكلات وحلول : 12- البحث العلمى
| |
التعليم فى خطر | |
بقلم : سعد رجب صادق
............................
هل فى مصر بحث علمى ؟! سؤال بسيط ينبغى على المسؤولين والمهتمين والناس جميعا أن يسألوه ، وترجع أهمية السؤال ، وأهمية الإجابة عليه إلى مجموعة من الاعتبارات ذات الدلالة على مكانة المجتمع ومستقبله ، وأهمها :
1- البحث العلمى هو الطريق لمعرفة وحصر مشاكل المجتمع ، وتحديد درجاتها من الأهمية ، وأولويات وطرق التعامل معها .
2- وهو أيضا الطريق لحل تلك المشاكل ، بما يتلاءم مع إمكانيات المجتمع وقدراته وطموحاته .
3- وهو الطريق للحفاظ على مقدرة المجتمع التنافسية فى عالم يتحرك ويتطور بسرعة فائقة .
4- وهو الطريق لتلبية حاجات المجتمع المستمرة والمتزايدة فى كافة مجالات الحياة ، عن طريق تطوير طرق الإنتاج وأدواته وخاماته ووسائله فى الزراعة والصناعة والخدمات واستغلال الثروات الطبيعية وغيرها ، بما يحقق الكفاية أو يقترب منها أو يضع السياسات الحكيمة للموائمة بيت تلك الحاجات وبين الإنتاج والاستيراد ، ويحقق أيضا العمالة لطبقات المجتمع وفئاته المختلفة ، وهو ما يقود إلى الوئام والسلام الاجتماعى .
5- والبحث لازم أساسى للنظام الحاكم ووزاراته وكل أجهزة المجتمع ومؤسساته ومنظماته ، حيث لا يمكن التخطيط بدون بحث علمى ، ولا يمكن بدونه أيضا القيام بعمليات التنفيذ والمتابعة والتطوير وحل المشكلات الطارئة .
6- والبحث أيضا لازم أساسى على المستوى الفردى ، حيث يحتاج الفرد من أجل حياة ناجحة أن يفكر فى كل خطواته وتحركاته ، وأن يجمع لها المعلومات ، ويضع الخطط والبدائل ، ويحسب الربح والخسارة ، والضرر والمنفعة ، والتأثيرات المستقبلية.
7- البحث ليس فقط ما قد يتوارد إلى أذهان الكثيرين من أشياء مثل البحث عن علاج لمرض ما ، أو تطوير الآليات والتقنيات فى مجالات الانتاج ، أو غزو الفضاء ، أو نحو ذلك .. إن البحث research بمعناه الواسع يمتد ليشمل جمع المعلومات وتوظيفها فى جميع أنشطة الحياة العملية والنظرية ، ويمتد ليشمل الفرد والجماعة والمجتمع ، فإذا ما ارتبط بخطوات معينة ، منظمة ومتسلسلة ، لجمع المعلومات وتحليلها ، والتأكد من صحتها ، بغرض الإجابة على سؤال معين ، أو تفسير علاقة ما ، أو حل مشكلة ما ، كان ذلك ما يعرف بالبحث العلمى scientific research.. إنه سلوكُ وأسلوبُ المجتمعات الحديثة ، ووسيلتها لحل مشاكلها ، والتغلب على أزماتها .
8- وبدونه يصبح كل شئ عشوائيا ، مما يقلل فرص النجاح والإنجاز ، ويزيد فرص الفشل والإخفاق ، وهو ما نعانى منه فى مجتمعنا المصرى ، وكم من مشروعات بدأت ، وتم إنفاق الملايين أوالبلايين عليها ثم توقفت ، لأنها لم تحظ بالدراسة الكافية قبل تنفيذها ، أو لأنها تمت فى مكان لا تصلح له ، أو بطريقة لا تصلح لها .. إن غياب البحث العلمى هو السبب الجوهرى الذى تنبثق عنه كل أسباب التخلف والفوضى التى تضرب كل جنبات الحياة فى بلادنا ، مع ما ينتج عن ذلك من هدر للوقت والجهد والطاقة والمال ، وتعويق لنمو المجتمع وتقدمه .
أعود إلى التسائل مرة أخرى : هل هناك فى مصر بحث علمى ؟! الإجابة الأمينة : لا ، لا يوجد فى مصر بحث علمى ، لا فى الجامعات ، ولا فى مراكز البحوث ، والسؤال المنطقى الآن : ماذا تفعل كل تلك الجامعات بكلياتها وأقسامها ؟! وماذا تفعل كل تلك المراكز البحثية ؟! وما هو الدور الذى تقوم به تلك الأعداد الكبيرة من أساتذة الجامعات ، وأعضاء هيئات التدريس ، والمعيدين ، والباحثين ؟! الإجابة : لا شئ يمت إلى البحث العلمى بصلة ، والأمر كله يدور حول أشياء من قبيل الحصول على الشهادات ، وما يترتب عليها من درجات وظيفية ، وزيادات وعلاوات مالية ، ووجاهة اجتماعية .. والسؤال المشروع هنا : هل من المعقول أننا وصلنا إلى تلك الحالة المتردية من الهزل والعبث ؟! الإجابة القطعية : نعم ، حتى لو أنكرنا ذلك مداراة وتجملا ، وحتى لو أنكرناه خجلا وحياء ، وحتى لو أنكرناه ضحكا وكذبا على أنفسنا ، وحتى لو أنكرناه إغفالا لواقع حاضرنا ، ومقامرة بمستقبلنا .. إن الصدق والدقة والأمانة تقتضى الصراحة عند الحديث عن مشاكلنا ، وإذا لم نفعل ذلك لن يكون بمقدورنا مواجهة تلك المشاكل وحلها ، وفى هذا المقال سأتعرض لقضية البحث العلمى من جوانبها المختلفة .
أولا : مشكلات البحث العلمى
يواجه البحث العلمى فى مصر عديدا من المشكلات المعقدة والمتشابكة والمزمنة أيضا ، وكلها وإن تفاوتت فى تأثيرها ودرجاتها ومدى تداخلها لا يمكن النظر إليها منفردة أو منفصلة عن بعضها البعض ، ولا يمكن أيضا التعامل معها بعيدا عن النظام السياسى الحاكم ، وعن الأوضاع الثقافية والاجتماعية والنفسية والسلوكية السائدة فى المجتمع ، لأنها نتاج لتفاعلات كل تلك العوامل ، ومن أهم تلك المشكلات :
1- النظام التعليمى الفاسد : والذى يعتمد على التلقين والحفظ ، وبالتالى يقضى على ملكة التأمل والتفكير والقراءة والتساؤل والتخيل والتجريب والإبداع ، وكلها ضرورات للباحث الناجح ، ومشكلة التلقين ترجع إلى أسباب مختلفة :
- التلقين أسلوب سهل وبسيط وسريع .
- ولا يحتاج إلى مدرسين على درجة عالية من الإعداد والكفاءة ، ولا إلى كليات ومعاهد متطورة لإعدادهم ، ولا إلى نظام يكفل التجديد والتحديث المستمر لمعلوماتهم وإمكانياتهم التربوية ، ويضمن لهم دائمامستوى مناسبا من الخبرة والإجادة .
- ولا يحتاج إلى مناهج متطورة ، أو كتب دراسية رفيعة المستوى فى أسلوبها ومعلوماتها وجداولها ورسومها وصورها وغيرها من طرق العرض والبيان .
- ولا يحتاج إلى عوامل مساعدة كالمعامل المجهزة ، والمكتبات الحاوية للكتب والمجلات العلمية وغيرها من المطبوعات التى تساير العصر بمتغيراته ومكتشفاته .
- ولا يحتاج إلى نظام تقييم متطور لقياس مهارات الطلاب فى الفهم والتفكير وحل المشكلات ، إذ تكفى دائما الامتحانات التى تقيس القدرة على الحفظ والتذكر .
- ولا يحتاج إلى فصول أو قاعات للمحاضرات أو معامل ذات أعداد قليلة من التلاميذ أو الطلاب .
لتلك الأسباب وغيرها يتماشى التلقين مع النظام التعليمى السائد فى بلادنا ، ورغم سهولته وبساطته وسرعته إلا أنه أسلوب عقيم ، يدفع إلى الكسل والخمول العقلى ، ولا يستثير فى الطالب فكرا أو تساؤلا ، بل يقتل فيه غريزة الفكر ، ورغبة التساؤل ،ورغم معرفة القائمين على أمور التعليم بتلك المشكلة وعواقبها الوخيمة ، إلا أنهم تكاسلوا عن حلها ، وانصرفوا يبددون الوقت والجهد والموارد المالية فى سفاسف الأمور ، ونسوا أنهم بذلك يبددون ثروة المجتمع البشرية ، ويرتكبون جرما شنيعا فى حق الأمة ومستقبلها وأجيالها القادمة ، والعجيب أن الأجانب قد تنبهوا لتلك المشكلات فى النظام التعليمى المصرى ، وتناولوها بالنقد والتحليل فى كتاباتهم ، رغم أن الأولى أن يكون الاهتمام من جانبنا ، أو على الأقل أن نستفيد من ملاحظاتهم ، ومن أمثلة ذلك ما ذكرته صحيفة The Economist البريطانية فى الملف الذى أفردته للحديث عن مصر بعنوان A Special report on Egypt ، بتاريخ 16 يوليو 2010 ، وخصصت فيه جزءا للحديث عن التعليم ، الذى وصفته بأنه rote learning ، أى تعليم يقوم على الصم والاستدعاء بدون فهم .
2- الثقافة السائدة فى المجتمع : والتى تروج لسلوكيات فاسدة مثل الاستسهال والفهلوة والاستهبال ، وعدم الدقة والإجادة ، والعشوائية ، وعدم الالتزام ، وتُقلل من قيمة القراءة ، وتُهَّون من أهمية الجدية فى العمل ، وتُعلى من قيمة الشهادات والوجاهة الاجتماعية الزائفة ، وتهتم بالكم على حساب الكيف ، والمظهر والقشور على حساب الجوهر ، وتلك المظاهر القبيحة وغيرها أصبحت من طول الممارسة والتعود وكأنها العرف والعادة ، وامتدت جذورها لتؤثر فى الأفراد وكل مؤسسات المجتمع الرسمية والأهلية .. فماذا كانت النتيجة ؟! .. تدهور الأداء الحكومى والأداء الفردى ، وفشلت الأنظمة المتعاقبة فى إصلاح المنظومة التعليمية ، ولجأت إلى التحايل والبدائل لتغطية إخفاقاتها المتواصلة ، وتعايش الأفراد مع الفشل الحكومى ، وتأقلموا بالتحايل والبدائل أيضا ، ومن الأمثلة الصارخة على ذلك أنه بدلا من الارتقاء بمستوى المدرس علميا وتربويا ، وتحسين مستوى المناهج والكتب الدراسية ، وتحديث المدارس والمعامل والمكتبات ، وتطوير نظم الامتحانات ، وتقنين نظام القبول بالجامعات ، ومراجعة سياسة مجانية التعليم الجامعى .. بدلا من ذلك كله ، وهو ما كان كفيلا بالقضاء على معظم عيوب التعليم ، لجأت الحكومات إلى قياس إنجازاتها كميا وليس كيفيا ، فاعتبرت زيادة عدد الطلاب إنجازا ، وزيادة عدد المدارس إنجازا ، وزيادة عدد الخريجين إنجازا ، وهى لا شك إنجازات إذا اقترنت بمستوى رفيع للطلاب ، ومستوى تجهيزى عال للمدارس والجامعات ، ومستوى مرتفع للخريجيين إعدادا وكفاءة وتدريبا ، وخبرة أكاديمية وعملية ، وإلماما بمحدثات العصر فى العلوم والتقنيات ، وهو ما لم يحدث ، ومن الأمثلة أيضا التغطية على فشل التعليم العام والجامعات الحكومية ، والإصرار على المجانية ، بإطلاق الحرية للمدارس والجامعات الخاصة ، والتى لا تختلف كثيرا إلا فى نفقاتها الباهظة ، وبدلا أيضا من إصلاح المناهج والكتب الدراسية ، وتحسين مستوى المدرس بالارتقاء بمستوى كليات التربية ومعاهد إعداد المعلمين ، لرفع مستوى الطلاب ، والتخلص من أسلوب التلقين والحفظ ، تحايل المجتمع حكومة وأُسَراً بشيوع نظام الدروس الخصوصية ، وقد تنبه إلى بعض من صور الخلل تلك تقرير الصحيفة البريطانية السابق الإشارة إليه ، حيث ذكر أن أعداد المدارس والجامعات قبل حركة 23 يوليو 1952 كان قليلا ، ولكنها كانت ممتازة المستوى ، ومع زيادة عددها ، وزيادة عدد الطلاب الجامعيين إلى عشرة أضعاف فى خلال 25 عاما من الحركة ، وزيادة عدد المدارس إلى الضعف ، وعدد طلابها إلى أربعة أضعاف ، انخفض المستوى انخفاضا شديدا In the following quarter-century university enrolment increased by more than ten times . The number of primary schools doubled , the number of students quadrupled ... Yet something went wrong. Before the revolution Egypt’s schools and universities were few but their standard was excellent . The push to boost numbers came at the cost of drastic fall in quality
ويقارن التقرير مستوى التعليم المصرى بمستوى التعليم فى كوريا الجنوبية ، ومستواه فى تركيا ، ومعظم دول أوربا الغربية ، ويخلص إلى أن مستوى التعليم عندنا الآن يساوى مستواه فى كوريا عام 1960 ( أى بفجوة 50 عاما ) ، بينما الفجوة بيننا وبين تركيا 30 عاما ، وتزيد على 100 عام مع الغرب الأوربى Egyptians’ educational level now equals not only South Korea’s in 1960 but also Turkey’s in 1980 and much of western Europe’s at the end of the 19th century ، وهى لا شك فجوة شاسعة ، وخاصة مع التطورات العلمية والتقنية المتلاحقة .
وقد يتساءل البعض : وما علاقة كل ذلك بالبحث العلمى ؟! والإجابة بديهية ومنطقية .. فالباحث والذى هو خريج هذا النظام التعليمى المتخلف لا يمكن أن يكون مؤهلا علميا وفكريا ومعلوماتيا لممارسة البحث العلمى ، ولا يمكن أن يكون قادرا على التفكير والتخيل والتجريب وقد تشرب لسنوات طوال بكل تلك المعايب .. كيف يمكن لمن تعلم بالتلقين ، ودأب على الحفظ أن يكون باحثا جيدا أو ناجحا ؟! وكيف يمكن لمن لم يزر مكتبة علمية فى حياته ، ولم يطلع على بحث علمى ، ولم يشاهد دورية علمية ، ولم يقرأ كتابا ، ولم يناقش مدرسه أو أستاذه مرة واحدة ، ولم يتعود على التفكير والتأمل ، ولم يُعِد تقريرا دراسيا .. كيف يمكن له أن يكون باحثا جيدا أو ناجحا ؟! وكيف يمكن لمن تفصله عن الغرب فجوة قرن كامل من المعارف والعلوم والتقنيات أن يبحث ، وعن أى شئ يبحث وهو المُغَّيب لمئة عام ، ويحتاج أن يتعلم أولا ويدرك ما فاته على أسس وقواعد سليمة ؟!.
وكما أن الباحث هو نتاج نظامه التعليمى ، فهو أيضا نتاج بيئته ومجتمعه الذى تشبَّع بثقافته الفاسدة ، وسلوكياته الخاطئة .. هل يستطيع أن يمارس البحث بمنهاجه الصارم الدقيق من يذاكر فقط ليلة الامتحان ، ومن يعتمد على الملخصات والملازم ، ومن ينجح بالغش وشراء الامتحانات ؟! وهل يستطيع من أدمن الدروس الخصوصية ، وتجنب الجدية والصبر والعمل الدؤوب أن يكون باحثا ؟! وهل يمكن لمن ينظر للتعليم كشهادة ووظيفة ووجاهة اجتماعية أن يكون باحثا ؟! وهل يمكن لمن حولوا الرخص البحثية ( الماجستير والدكتوراة ) إلى شهادات للوجاهة والعلاوة المالية أن يكونوا باحثين ؟!.. الإجابة القطعية على تلك الأسئلة وغيرها : لا ، والسؤال هنا : كيف ينجح بعضنا فى الجامعات والمراكز البحثية الغربية ؟! والإجابة لا تحتاج إلى كثير من الذكاء .. إنهم ينجحون لأنهم يصبحون جزءا من المنظومة التعليمية والبحثية لتلك البلاد ، وهى منظومة دقيقة وصارمة ، وتعتمد على الجدية والتنافسية ، ويصبح جزءا منها كل من يمتلك الكفاءة والالتزام ، أيا كان جنسه أو أصله ، ويناله نصيب من نجاحها ، أى أن الأمر هنا مرتبط بمنظومة مجتمعية كاملة ، ولو تغيرت ثقافة وسلوكيات المجتمع المصرى ، وتغير النظام التعليمى ، لأنجز الطالب والباحث المصرى مثل نظيره الأجنبى ، وحتى يتحقق ذلك فإنه من الوهم والخيال أن نظن أن ما يحدث فى جامعاتنا ومراكزنا البحثية يمت إلى البحث بصلة من قريب أو بعيد .
3- سرقة الأبحاث وفبركتها ، والغش والتدليس والتلفيق فى أدائها وفى نتائجها : وهى مشكلة مرتبطة بالخلل العام فى ثقافة المجتمع وسلوكياته ، غير أن خطرها فى مجال البحث العلمى يفوق أى مجال آخر ، فالبحث العلمى إما أن يكون دقيقا وأمينا أو لا يكون بالأساس بحثا ، ولا يمكن تطبيقه أو الاستفادة من نتائجه ، وسرقة الأبحاث وفبركتها فى مصر ليست شائعة زائفة ، وليست اتهاما باطلا ، وليست كلاما يقال للصخب والضجيج ، وإنما حقيقة معروفة لكل من يعملون فى هذا المجال فى الجامعات والمراكز البحثية ، ولكن أحدا لا يهتم ، فالسرقة والفبركة والغش والتدليس والتلفيق أصبحت ظواهر عامة ، تشيع وتنتشر فى كل شئ وفى كل مجال .. كتب " محمد حمدى " فى صحيفة " اليوم السابع " بتاريخ 24 أبريل 2009 مقالا بعنوان ( شرابات الدكتورة ليلى ) ، وفيه يتعرض لتلك الظاهرة من خلال واقعة محددة حدثت لأستاذة مساعدة طلب منها رئيس القسم فى واحدة من كليات الزراعة أن تعد أبحاثها مع باحث آخر من أحد المراكز البحثية ، من أجل ترقى كليهما لدرجة علمية أعلى ، وفى المقال يدور حوار بين ليلى الأستاذة المساعدة والباحث الآخر يحدثها فيه عن ترجمة أبحاث أجنبية " أبحاث جاهزة من مراكز بحثية أجنبية " بدلا من تضييع الوقت والجهد فى إجراء أبحاث حقيقية ، وعندما رفضت ذلك يرد قائلا : " وليه التعب يا دكتورة ، ما كل حاجة على النت ، ناقص تقوليلى عايزة تعملى تجارب علمية ... وفى الحالة دى ... المسألة هتطول وتاخد وقت ، أنا رأيى نخلص ونترجم " ، ثم يعَّقب الكاتب قائلا : " قلب الشراب مصطلح شائع فى الصحافة المصرية ، وهو يعنى أخذ موضوع صحفى قديم سبق نشره ثم إعادة كتابته مرة أخرى ، مع وضع اسم الزميل الذى قلب الموضوع عليه ... ولكن المشكلة أن الشراب المقلوب لم يعد يقتصر على الصحافة بل ذهب إلى البحث العلمى ، وانتشرت رائحة الشرابات العلمية المقلوبة وأزكمت الأنوف ... مشكلة الشرابات المقلوبة فى الصحافة أنها تغيب العقول ، وتصنع نجوما فى بلاط صاحبة الجلالة بالغش والتدليس ، أنا شخصيا أعرف العديد من هؤلاء النجوم المزيفين الذين بنوا شهرتهم وأسماءهم من تعب وعرق الآخرين ، لكن المشكلة الأكبر حين تنتشر ظاهرة قلب شرابات البحث العلمى ، وينتشر الغش والتدليس ، فتصاب الأمة فى الصميم ، ويصبح مستقبلها غامضا ، وبالتالى تنتشر ظاهرة الدروس الخصوصية فى الجامعات ، وبيع الامتحانات ، إلى غيرها من الظواهر السلبية التى تخيم على التعليم الجامعى فى مصر ، لأن من يغش فى بحث علمى يفتقد الأمانة فى أى شئ ، ولا أعرف كيف يمكن أن نأتمنه بعد ذلك على أبنائنا وهم مستقبل هذه الأمة " ، ثم يختم مقاله قائلا : " من الواضح أنها ليست حالة وحيدة ، لكن هذا المرض تفشى فى الجامعات ومراكز البحوث العلمية ... نحن فى أزمة شديدة الوطأة ، ومشكلتها الكبرى أنها تقضى على أى فرصة لإصلاح الأحوال فى المستقبل ، لأنه بهذه الطريقة لا يوجد مستقبل " .
4- قلة الإنفاق على البحث العلمى : حسب تقرير منظمة اليونسكو UNESCO لعام 1998 ، وهى إحدى منظمات الأمم المتحدة The United Nations Educational , Scientific and Cultural Organization ، فإن إجمالى الإنفاق العربى على البحث العلمى كان %0.14 من الدخل القومى لعام 1996 ، فى حين كان الإنفاق الإسرائيلى %2.53 ، واليابانى %2.9 ، والكوبى %1.62 ، وفى تقرير المنظمة لعام 2010 ، فإن الإنفاق المحلى الإجمالى لمصر ما زال أقل من %0.23 منذ عام 2007 ، بينما كانت تونس أكثر البلاد العربية إنفاقا ، حيث تجاوزت %1 فى 2007 ، ووصلت إلى %1.25 فى 2009 ، بينما كانت أقل البلاد العربية البحرين ( %0.04 ) ، والسعودية ( 0.05 ) .
والمشكلة لا تتوقف على قلة الإنفاق فقط ، بل إن لها أبعاد أخرى أشد خطورة ، وأكثر دلالة :
وأولها أن %85 من مخصصات البحث العلمى تذهب للمرتبات والحوافز ، وذلك حسب تقرير المجلس القومى للتعليم والبحث العلمى والتكنولوجيا بالمجالس القومية المتخصصة [ صحيفة اليوم السابع ، 8 يناير 2011 ] ، وهذا يعنى أن النصيب الحقيقى للبحث العلمى لا يتجاوز الفتات ، هذا إذا أحسنا الظن بالمسؤولين ، ولم يكن هذا الفتات أيضا يتم تبديده بطرق أخرى .
وثانيها أن %90 من إجمالى الإنفاق فى البلاد العربية يأتى من المصادر الحكومية ، بينما فى الولايات المتحدو وأوربا لا تتجاوز تلك النسبة %30-%20 ، وتتولى الشركات الصناعية بقية التمويل ، بينما تلك الشركات فى البلاد العربية لا تتجاوز مساهمتها %3 ، ومن البديهى أن التمويل الحكومى لا يستطيع الوفاء بجميع احتياجات البحث العلمى المالية ، ولا يجب أن يكون مسؤولا عن الوفاء بها جميعها ، لأن البحث العلمى إذا لم يكن قادرا على خدمة الصناعة والزراعة وغيرها من الاستثمارات فى جميع المجالات ، فإنه ليس بحثا علميا ، ولا قيمة له ، ولا قدرة على مسايرة التغيرات العلمية والتقنية .
5- الفشل الإدارى للأنظمة والحكومات والوزراء والمسؤولين المتعاقبين : صميم العمل الإدارى الناجح فى المجال البحثى هو الربط والتناسق والتناغم بين جميع مكونات العملية البحثية ( الباحثين ، التمويل ، التطورات العلمية والتقنية ، الأولويات البحثية بما يخدم نهضة المجتمع ، المعامل والأجهزة العلمية ، وغيرها ) ، وبين المراكز البحثية المختلفة ، وبين البحث احتياجات التنمية فى المجتمع ، وكل تلك الحلقات قد انفرطت فى المجتمع المصرى ، وهو ما أدى إلى مجموعات من الإخفاقات الخطيرة أهمها : العمل البحثى الفردى ، وعدم وجود فرق بحثية تتكامل بين أفرادها ، وبينها وبين الفرق الأخرى التى تتناول نفس الموضوع أو الموضوعات ، مما أدى إلى عديد من الأبحاث المعادة والمكررة ، مع ما فى ذلك من تبديد للوقت والجهد والموارد ، ومن الإخفاقات أيضا الانفصام الكامل أو شبه الكامل بين البحث واحتياجات المجتمع الحقيقية فى المجالات المختلفة ، وكان من نتيجة ذلك أن كثيرا من الأبحاث لا قيمة لها لأنها تتناول أمورا عفا عليها الزمان ، أو أمورا تقررت حقائقها ولا معنى للإعادة والتكرار فيها ، أو أمورا لا تساهم فى حل مشاكل المجتمع ، ولا تخدم قطاعات التنمية والاستثمار المختلفة ، أو تساهم فى تحسين منتج صناعى ، أو تطور الانتاج الزراعى أو الحيوانى ، أو تستخدم ثروة طبيعية محلية ، أو تبحث عن خامات وموارد جديدة تغنى عن الاستيراد ، أو تواكب حاجات المجتمع فى ميادين جديدة مثل البرمجيات والكومبيوتر والتصنيع الحربى .. أليس أمرا مثيرا للإحباط أن %70 من بحوث طلاب الماجستير والدكتوراة فى ماليزيا ترتبط بالعلوم والهندسة والفيزياء ، ونحن مازلنا نبدد طاقتنا فى اللف والدوران حول مواضيع لا قيمة لها ؟! .
ومن العجيب أن القائمين على أمور التعليم والبحث فى الجامعات ومراكز البحوث مازالوا يمارسون التضليل والاستخفاف بالعقول ، ومازالوا يُنَظِّرون ويسفسطون ، فبعضهم يدَّعى أن كل شئ على ما يرام ، كوزير التعليم العالى السابق د. هانى هلال ، والذى نفى فى الأول من أبريل 2009 فى مكتبة الإسكندرية بمناسبة افتتاح احتفالية العلوم الثالثة لعام 2009 أن تكون هناك أية مشكلة فى مجال البحث العلمى بمصر [ صحيفة اليوم السابع 1 أبريل 2009 ] ، والبعض الآخر يتحدث عن مشكلات البحث العلمى ، وكأنهم غير مسؤولين عنها رغم السنوات الطوال التى قضوها فى الوزارة أو رئاسة المراكز البحثية ، ومن أمثلة هؤلاء :
- د . عادل عز وزير البحث العلمى السابق والذى يلخص المشكلة فى أسباب إدارية ومالية .
- د . فينيس كامل وزيرة البحث العلمى السابقة والتى ترى أن المشكلة فى عدم وجود سياسة واضحة للبحث أو للتنمية من خلال رؤية علمية ، وارتباط الخطط بالأشخاص ، وغياب الشفافية ، وتدعو إلى تطوير الكوادر البشرية ، والتخلص من البيروقراطية والروتين .
- د . أحمد مستجير عميد كلية الزراعة السابق بجامعة القاهرة والذى يربط مشاكل البحث العلمى بغياب التخطيط والإمكانيات ، والبيئة المناسبة ، وغياب تحديد الأولويات ، وعدم وجود برنامج علمى مدروس لطرح الحلول العملية والواقعية .
- د . على حبيش الرئيس السابق لأكاديمية البحث العلمى والذى يعتبر أن النظام الإدارى هو المعوق الأساسى ، مع غياب الاستراتيجية ، وانفصام صلة البحث بالمجتمع ، وشيوع العمل الفردى ، وغياب الفرق البحثية .
- د . فوزى حماد رئيس هيئة الطاقة الذرية السابق والذى يضع غياب خطة قومية على رأس مشاكل البحث ، بجانب عدم ربط العلم بقضايا التنمية ، وعدم الاهتمام بشباب العلماء ، ويؤكد على أن البحث ليس ضرورة بحثية فقط ، وإنما ضرورة سياسية واقتصادية ، وضرورة للأمن القومى .
- د . حسن معوض الرئيس السابق لمدينة مبارك للأبحاث العلمية والذى يحدد المشكلة فى غياب الاستراتيجية الواضحة للبحث والتنمية ، وعدم ارتباط ذلك باستراتيجية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية ، وانخفاض الإنفاق ، واختلال توزيع الكوادر البحثية بين الجامعات ومراكز البحوث ، وضعف استثمار القطاع الإنتاجى والخدمى فى مجال البحوث ، وغياب الآليات الضرورية لإفراز القيادات اللازمة لقيادة قطاعات البحث ، وغياب الآليات المشجعة للباحثين والمبتكرين والمخترعين ، وسيادة نظام التعليم التلقينى الذى يقتل روح الابتكار ، وغياب التقييم المستمر للباحثين ، وغياب الترابط والتنسيق بين المؤسسات البحثية مما يؤدى لتكرار الأبحاث .
- د . هانى الناظر الرئيس السابق للمركز القومى للبحوث والذى يحصر الأزمة فى الإدارة غير الواعية بأهمية البحث العلمى ، والتى تفرغت لقضايا فرعية وشخصية ، بالإضافة إلى العشوائية والتشتت ، وقلة التمويل .
والسؤال المشروع لهؤلاء وغيرهم من المسؤولين : إذا كان غياب استراتيجية واضحة عاملا أساسيا فى تردى حالة البحث العلمى فى مصر ، فمن هو المسؤول عن ذلك ؟! أليس وضع تلك الاستراتيجيات هو مسؤوليتكم جميعا ؟! أليس كل واحد منكم على الأقل مسؤولا عن وزارته أو جامعته أو كليته أو مركزه البحثى ؟! أليس مطالبا بوضع الخطط والبرامج ومتابعتها ، والتصدى للمشاكل وحلها ، والتطوير والتحديث المستمر بما يوافق تغيرات العصر ؟! أليس كل واحد منكم مسؤولا علميا وإداريا عن مؤسسته ؟! كيف بكم تمضون فى مواقعكم تلك السنوات الطوال ومازلتم تتحدثون عن المشاكل التى تحتاج إلى حلول ؟! هل نستورد حلولا ، أم نستورد أيضا أشخاصا لوضع تلك الحلول وتنفيذها ؟! إننى لا أظن أن رئيس البلاد أيا كان يفرض عليكم طريقة ما لإدارة مراكزكم البحثية ، أو يمنعكم من النهوض بها ، أو يتدخل فى عملكم اليومى ، أو حتى يعرف أسماءكم أو أسماء مؤسساتكم ؟! ثم لماذا ينتظر الواحد منكم فى موقعه إذا تيقن له أنه لن يكون قادرا على القيام بواجبه المهنى والدستورى والأخلاقى ، ثم يأتى بعد خروجه ليسرد لنا الأخطاء ، ويعدد لنا المشاكل ؟! أما كان بمقدور أحدكم أن يقدم استقالته ؟! .. إننى أجزم أنكم جميعا رضيتم بالشهرة والمنصب والوجاهة والمكانة ، وتخليتم عن أمانة مواقعكم ، ومستلزمات مراكزكم ، وواجباتكم نحو الأمة ومكانتها ومستقبلها ، وما تصريحاتكم ومقترحاتكم إلا سفسطة الكسالى والمتخاذلين .. خذلوا أجيالا بعد أجيال ، ومازالوا يتحدثون ، ومازلنا ننحدر من هوة إلى هوة أعمق قرارا ، وأبعد قاعا !!
6- هجرة العقول العلمية : بالرغم من أن هجرة الباحثين والعلماء وأصحاب الدرجات العلمية ، وأصحاب الخبرة والكفاءة ، تُعد ظاهرة عالمية بدأت فى ثلاثينيات القرن الماضى متزامنة مع ارتباط البحوث العلمية فى الغرب بالتنمية الاقتصادية ، ودخول المؤسسات الخاصة بالدعم والتمويل ، إلا أنها بدأت فى مصر فى الثمانينيات ، وبالرغم من تأثيراتها السلبية على الحركة العلمية فى مصر وغيرها من البلاد النامية ، بحرمانها من خيرة أبنائها ، وحرمان أجيالها الشابة من علمهم وتوجيههم ودورهم الريادى فى مجالات البحوث المختلفة ، وحرمان اقتصادياتها وبرامجها التنموية من التطبيقات العملية لأبحاثهم ، إلا أنها فى نفس الوقت تُعتبر نتيجة لفشل تلك البلاد فى الحفاظ على أبنائها ، وإخفاقها فى توفير حياة كريمة لهم ، وتقديم الدعم والإمكانيات اللازمة لهم للنبوغ والتميز فى مجالاتهم المهنية ، مما أوقعهم بين خيارات ثلاثة : إما الفشل والحياة الرتيبة الخاملة ، أو المحاولة فى بلادهم ، وهو ما يعنى الدخول فى صراع مع البيروقراطية والروتين واللوائح والأمن وغيرها من العراقيل التى لا تنتهى ، مع ما فى ذلك من تبديد للوقت والجهد والطاقة ، ومع ما فيه أيضا من الإحباط والتثبيط ، واحتمالات النجاح الضئيلة أو المعدومة ، أو الهجرة حيث الدعم المادى والمعنوى اللازم للتفوق والنجاح ، وقد اختار كثيرون الهجرة .. يذكر " محمد حمدى " فى مقاله ( أبو العريف ونظرية العلم نورون ) ، والمنشور بصحيفة " اليوم السابع " بتاريخ 20 أبريل 2009 ، أن أكاديمية البحث العلمى تقدر عدد المصريين المتخصصين الذين هاجروا بأكثر من مليون ، منهم 94 عالما فى الهندسة النووية ، 26 فى الفيزياء الذرية ، 72 فى استخدامات الليزر ، 94 فى الألكترونيات والميكروبروسيسور، 48 فى كيمياء البوليمرات ، 25 فى الفلك والفضاء ، 22 فى الجيولوجيا وعلوم الأرض ، 240 فى تخصصات أخرى نادرة ، ويذكر الكاتب فى نفس المقال أيضا أن ميزانية البحث العلمى فى مصر 300 مليون دولار ، بينما تصل إلى 13 مليار فى إسرائيل ، 44.6 مليارا فى اليابان ، 122.5 مليارا فى الولايات المتحدة ، 172.8 مليارا فى دول الاتحاد الأوربى ، والمتأمل فى الرقم الضئيل لميزانية البحث العلمى فى مصر ربما يلتمس العذر لهؤلاء المهاجرين .
أصدرت جامعة الدول العربية فى يونيو 2009 تقريرها عن هجرة العمل العربية تحت عنوان ( هجرة الكفاءات .. نزيف أم فرص ؟ ) ، وفيه حقائق مذهلة عن النزيف الدامى للعقول العربية :
- ارتفعت نسبة المهاجرين من حاملى الدرجات العلمية إلى %50 من مجموع المهاجرين فى الفترة من 2000-1995 ، وارتفع عددهم خلال الفترة نفسها من 9.4 مليونا إلى 19.7 مليونا .
- فى نفس الفترة زاد معدل المهاجرين بين ثلاثة إلى تسعة أضعاف فى دول مثل اليمن وجيبوتى والسودان وموريتانيا .
- تستقبل فرنسا %40 من العقول العربية المهاجرة ، والولايات المتحدة %23 ، وكندا %10
- نسبة الأطباء العرب فى دول الاتحاد الأوربى %18.2
- %54 من الطلاب العرب الذين يدرسون بالخارج لا يعودون إلى بلادهم .
- تساهم البلاد العربية بنسبة %31 من مجموع هجرة الكفاءات من الدول النامية .
- يبلغ إجمالى الخسارة الواقعة على الدول العربية بسبب هجرة الكفاءات 200 مليار دولار .
هذا النزيف المستمر للخبرات والكفاءات ترك المجتمعات العربية فقيرة فى خبرائها وعلمائها وباحثيها ، وأوجد حالة من الفصام النكد بين تلك المجتمعات وخيرة أبنائها ، والأمر لم يتوقف عند حد الخسارة البشرية والمادية ، بل تعداه إلى خسارة المستقبل المنظور ، وتعداه إلى إضعاف روح الولاء والانتماء بين الأجيال الشابة تجاه أوطانهم ، وفى نفس الوقت قدم للمجتمعات الغربية هدية ثمينة وجاهزة للعمل والإبداع والابتكار ، غير أن المأساة الكبرى أن كثيرا من الدول المشابهة لنا فى ظرفها قد تنبهت لتلك المشكلة ، وبدأت فى مواجهتها والحد من آثارها ، ووضع البرامج والخطط لجذب أبنائها النابغين والإبقاء عليهم ، وتقديم التسهيلات الضرورية لتشجيعهم على البحث والاختراع ، والاستفادة من عملهم وإنجازاتهم ، بينما نحن مازلنا نضع العراقيل والعوائق أمام الأفراد والمشاريع الطامحة لخدمة مجتمعنا ، والمساهمة فى حل مشاكله .. يقول Hitendra S وهو أحد الهنود المهتمين بشؤون التعليم ، فى مقال بعنوان ( حاجة الهند إلى ثورة تعليمية )We need revolution in the education system in India : " ماذا نحن فاعلون لأنفسنا ؟! تزويد العالم بالمهندسين ، وخريجى العلوم ، وخبراء البرمجة ، للعمل باحثين فى الجامعات الأجنبية .. هل هذا له قيمة للهند ؟! نريد ثورة تحدث تغييرا كبيرا حتى تكون الهند مكتفية بكل شئ فى كل الميادين ، لقد اكتفينا فى إنتاج الحبوب ، ولكن الثورة فى التعليم هى الطريق الوحيد لجعل الهند قوة كبرى فى العلم والصناعة والفن وغيرها ، وجعل المنتجات الهندية منافسا قويا لغيرها " ، وها هى الهند والصين تتقدمان فى كل يوم ، وفى كل المجالات ، وها هى دول أخرى كتركيا وإيران والبرازيل والأرجنتين وغيرها ، تتقدم جميعها بخطوات ثابتة ، رغم أنها جميعها تماثلنا فى أحوالها ، وكلها بدأت نهضتها معنا أو بعدنا .
7- الدوريات والمجلات العلمية ، ومراجعة وتقييم الأبحاث :
الدوريات والمجلات العلمية المصرية بجانب أن أحدا لا يعلم عنها شيئا ، ولاتوجد فى أغلب المكتبات العلمية المصرية فى الجامعات أو مراكز البحوث ، فهى أيضا غير معروفة دوليا ، ويُحس المتابع الأمين أن دورها لا يتعدى نشر الأبحاث المصرية كوسيلة وحيدة لترقية أصحاب تلك الأبحاث ، ومشكلة النشر العلمى فى مصر لها وجوه متعددة أهمها :
- أن الأبحاث المنشورة في الدوريات والمجلات العلمية المصرية لا ترقى لمستوى الأبحاث العالمية ، بسبب موضوعاتها القديمة فى أغلب الأحوال، وأخطائها المنهجية .
- وأن القائمين على تقييم الأبحاث المُقدمة لتلك الدوريات والمجلات لا يقومون بواجبهم فى التقييم والمراجعة الدقيقة بسبب الإهمال أوالمجاملة أو عدم الكفاءة .
- كما أن تلك المجلات رديئة الطباعة ، ولا تصدر فى مواعيد محددة وثابتة .
- كل الأبحاث والرسائل العلمية فى مصر تُكتب باللغة الإنجليزية ، والتى لا يتقنها أغلب أصحاب تلك الأبحاث والرسائل ، كما لا يتم مراجعتها editing للتأكد من سلامة الأسلوب ، وبناء الجُمل ، ولا أدرى ما هى المشكلة فى نشر تلك الأبحاث باللغة العربية ( والتى لا يتقنها غالبية المصريين أيضا رغم أنها لغتنا القومية ) ، مع كتابة ملخص للبحث أو الرسالة abstract فى النهاية باللغة الإنجليزية ؟! ، والإدعاء بضرورة الكتابة باللغة الإنجليزية للذيوع والانتشار العالمى إدعاء يناقض الحقيقة ، فأغلب تلك الأبحاث والرسائل ليس لها قيمة عالمية ، ولو أُرسلت للمجلات العالمية لرفضت نشرها ، ولو كان فيها قيمة علمية وتطبيقية لحظيت بالاهتمام العالمى أيا كانت لغة نشرها .
كتب د . أحمد الجريسى فى مقال نشرته صحيفة " المصريون " بتاريخ 16 أبريل 2011 ، تحت عنوان " البرنامج الإصلاحى للعلم والبحوث –2- " عن الضوابط الصارمة للمجلات العلمية الدولية ، وعن رفضها للأبحاث التى لا ترقى للمستوى المطلوب : " قبول أو نشر أى بحث علمى فى المجلات أو الدوريات الدولية المميزة يعتمد على مراجعة شاملة من قبل لجنة مكونة من ثلاث خبراء دوليين معترف بهم فى مجال اختصاص البحث المقدم للنشر ، وتلك إجراءات دولية متعارف عليها ، ومعمول بها كآلية لضمان مستوى الجودة الرفيعة للمجلة ، ومستوى الجودة للبحوث المقدمة لها للنشر ، ويُلزم المراجعون للبحث كاتبه بإعادة النظر فى بحثه فيما يرتبط بالمسائل والحيثيات العلمية المعاصرة التى لم يذكرها ، فيفرضونها عليه لأنها متصلة بموضوعه ، وربما فاصلة لصحة الحكم على دلالاته واستنتاجاته... والأبحاث التى يتم ردها من اللجنة يمكن الجزم بأنها دون المستوى ، أو تعالج مسائل عفا عليها الزمن الذى كانت فيه محور اهتمام ، وأصبح أمرها مفروغا منه فى الحاضر " ، ثم يمضى الكاتب فيصف المجلات العلمية المصرية بأنها مثل " البعكوكة " ، وأن أكثر من %99 من الباحثين المصريون لا يمكنهم النشر فى المجلات الدولية لسوء وتدنى مستوى أبحاثهم ، وكيف أن غالبية رسائل الماجستير والدكتوراة فى الجامعات المصرية لا قيمة لها : " فيما عدا إستثناءات لبضع علماء مصريين أفذاذ ، فإن سجل النشر لما تبقى من الأساتذة المصريين ، ويقدرون بما فوق تسعة وتسعون فى المئة ، فى النشرات الدولية للعلوم الطبيعية ( الفيزياء والرياضيات والعلوم الجيولوجية والجيوكيمياء والعلوم البيولوجية ...إلخ ) يعدل صفرا ، وذلك لسببين : أولهما أن الغالبية العظمى لأعضاء هيئات التدريس يواظبون على نشر بحوثهم غير الموفقة حسب تقديرنا فى مجلات أو منشورات محلية " البعكوكة " تفتقد لأى مراجعة نوعية ... بل إن كلمة مراجعة لا تصدق أصلا عليها بسبب إهمال المسؤولين ، وربما عدم كفاءة لجان التقييم إن وجدت ، وهو منهاج غير سوى ، لا يتحقق به سوى تخطى حاجز الكفاءة النوعية المفروضة على البحوث لتواكب مستحدثات الزمن ، ومجريات الأمور العصرية ، وثانيهما العوار المنهاجى لفحص الإنتاج العلمى فى لوائح المجلات العلمية المصرية ، وهذه السياسة المتبعة فى التقييم ما ضمنت سوى تخرج الكثيرين من أعضاء هيئات التدريس بدون وجه حق ، وتوظيفهم فى مناصب لا يستحقونها أساسا ... التخرج فى الجامعات المصرية بات عموما موضوعه الجملة وليست الكفاءة ... الغالبية العظمى من رسالات الماجستير والدكتوراة المقدمة والمنشورة فى الجامعات المصرية تعانى من التخلف العلمى ، ولا عجب فالمشرفون على تلك الرسالات يحيون فى وسط علمى تخلف 80-50 عاما عن ركب الحضارة الأوروبية ، والولايات المتحدة وإسرائيل ، لذا نجد أن رسالات الماجستير أو الدكتوراة التى يشرفون عليها لا تتعرض لمسائل عصرية " ، ويقرر الكاتب فى مقاله حقيقة لا ينبغى التغافل عنها : " المنهاج القائم فى تقييم البحوث ، وكذلك فى توظيف أعضاء هيئات التدريس لا يمكن أن يعتد به لنهضة كيان سليم على أرض الوطن ، ونشر الثقافة العصرية ، فما يُنشر فى المجلات المحلية للوطن لا حاجة قائمة له محليا ودوليا ، لافتقاره إلى القيمة العلمية النوعية ... إنها حقا لمسخرة " .
ملحوظة :
1- الدكتور أحمد الجريسى من علماء الجيولوجيا والكيمياء الكونية cosmochemistry المشهورين عالميا ، وُلد عام 1933 ، وعمل فى مراكز بحثية هامة منها وكالة الفضاء الأمريكية NASA ، وقد أُطلق اسمه على أحد الأجرام السماوية El Goresy 1981 EK8 تقديرا لمساهماته ، وتم تكريمه من قبل الاتحاد الفلكى الدولى International Astronomical Union فى عام 2002
2- فى عام 1932 أصدر " محمود عزت " مجلة " الراديو " ، والتى تحولت فيما بعد إلى " البعكوكة " ، وهى مجلة ساخرة تناولت الأمور من منطلق التفكه والتنكيت .
8- المراكز البحثية وكوادرها العلمية وتجهيزاتها المعملية :
من أجل عرض جيد ، وتناول دقيق ، يلزم تقسيم هذا الموضوع إلى ما يلى :
1- المراكز البحثية : فى مصر 350 مؤسسة ومعهد ومركز بحثى ، علاوة على 17 جامعة حكومية ، 10 جامعات خاصة ، وذلك طبقا لإحصاءات 2005/2006 ، وقد بدأ الإهتمام بإنشاء المؤسسات البحثية فى عام1946 ، حيث تم تأسيس المجلس الأعلى للعلوم ، لتشجيع البحوث ، ومسايرة التطورات العلمية العالمية ، وفى عام 1956 تم إنشاء المركز القومى للبحوث ، ثم وزارة البحث العلمى فى 1961 ، ثم أكاديمية البحث العلمى فى 1971 لتنسيق البحوث بين الجامعات ، والإهتمام بالبحوث التطبيقية اللازمة لبرامج التنمية ، ثم المجلس القومى للتعليم والبحث العلمى والتكنولوجيا فى 1974 ، ليتولى مسؤولية البحث العلمى ، والتنسيق والتكامل بين الجامعات والمراكز البحثية المتخصصة ، وقد وضع فى عام 1975 خريطة لتوزيع التعليم الجامعى فى مصر ، والاهتمام بإنشاء مراكز بحثية تابعة للجامعات ، وأكدت استراتيجية التعليم لعام 1987 على ضرورة مراعاة الأولويات فى البحوث ، وربطها بالتنمية ، ودعم إمكانية الجامعات ، وتوفير الأجهزة العلمية والتدريب والتنسيق بين الباحثين ، وأهمية وجود نظام يكفل التفرغ لبعض أعضاء هيئات التدريس من أجل البحث العلمى ، ووضع الحوافز المادية المناسبة لهم .
أما فى مجال الطاقة الذرية فقد تم تشكيل لجنة الطاقة الذرية عام 1955 برئاسة جمال عبد الناصر ، وفى يوليو 1956 تم توقيع إتفاق ثنائى مع الإتحاد السوفيتى للتعاون فى المجال الذرى ، وفى سبتمبر من العام نفسه تم توقيع عقد إنشاء المفاعل البحثى الأول ، وفى يوليو من السنة التالية تم إنشاء مؤسسة الطاقة الذرية ، وحصلت مصر على معمل للنظائر المشعة من الدانمارك ، وفى عام 1961 بدأ تشغيل المفاعل البحثى الأول ، وفى عام 1964 أُعلن عن مناقصة لإنشاء محطة نووية لتوليد الكهرباء ، وتحلية مياه البحر ، ثم جاءت هزيمة 1967 ليتوقف ذلك كله .. ومشكلتنا هنا ليست فى عدد المراكز البحثية ، ولكنها فى العشوائية ، وغياب الجدية والمثابرة والإستمرارية ، ووضع الخطط الواقعية وتنفيذها ، والتطور المتواصل ، وقد أصاب د . أحمد زويل عندما قال فى لقائه مع رئيس الوزراء السابق أحمد نظيف : " البحث العلمى ليس بناء مراكز علمية فقط ، وإنما لا بد من دراسة الطاقات البشرية التى يمكن أن تحرك هذا المشروع ، ولماذا نريده ؟ وهل يمكن أن يخدم الصناعة فى بلد مثل مصر أم لا ؟ " [ صحيفة الدستور 11 يناير 2010 ] .
يتعرض د . أحمد الجريسى فى مقال بعنوان " البرنامج الإصلاحى للعلم والبحوث –3- " ، نشرته " المصريون " بتاريخ 27 أبريل 2011 ، للمركز القومى للبحوث ، والذى تم إنشاؤه بغرض تفرغ الباحثين بعيدا عن الواجبات التعليمية والتربوية ، وأيضا للتركيز على المجالات العلمية الحديثة ، ولكنه أُصيب كما يقول : ( بموجة مد عارمة من الجهل واللامبالة ، من عدد هائل من الأساتذة متوسطى الأهلية العلمية ، ممن نجحوا فى اختراق تلك المؤسسة بالمنهاج غير السوى ، القائم والضامن لتخريج الكثيرين منهم لمناصب هم غير أهل لها ولا يستحقونها ... لقد تعطل بذلك أداؤه ليصل اليوم للمستوى غير الموفق الذى نشهده له ... ودراسة سريعة لسجل النشر العلمى للقيادة العليا للمركز لا تعكس سوى المقدار المهول لتراجعه فى أداء مهامه ، فهو شبه معدوم ، ويعكس حالا مشابها وربما مطابقا للجامعات ... يحوى المركز حاليا أقساما عدة تتبنى سلسلة من التجارب العامة الروتينية ، التى لا يمكن تسخير غالبيتها لأى مجال هندسى أو تقنى ، مما يثير التساؤل عن الغرض منها " ، ثم يتناول مؤسسة الطاقة الذرية فيقول : " وما حال هيئة الطاقة النووية ... بخير من المركز القومى للبحوث ... ومؤهل غالبية خبرائها يطابق حال غالبية المؤسسات العلمية ...الأجهزة المخبرية التى تملكها لحد كبير عفا عليها الزمان ... مما يُحَّجم مجال الأبحاث فينحصر فى علوم الطاقة الفيزيائية الضعيفة low energy physics ، وذلك وضع غير سليم فى مؤسسة حيوية ... فكيف لها أن تنهض بمهندسيها وتجهيزاتها بل بكل أمرها ...؟ ... النشاط العلمى لطاقم المؤسسة مطابق لحد كبير لما ذكر فى حق الجامعات ، ولا يقدر عدد علمائها الذين نشرت لهم النشرات الدولية بأكثر من %1 " ، ثم يتساءل : " كيف لدولة بعد السابق ذكره أن تتواصل بركب الحضارة ، ومؤسساتها العلمية غير فعالة ؟ بل كيف لها أن تنهض ببرامجها ومؤسساتها التعليمية والوطنية على هذا الحال ؟ " .
والعجيب حقا فى أزمة البحث العلمى فى مصر أن المسؤولين مازالوا يروِّجون الوهم للناس .. يقول د . هانى الناظر الذى تولى رئاسة المركز القومى للبحوث من 2001 إلى 2009 ، فى حواره مع صحيفة " اليوم السابع " ، والمنشور بتاريخ 18 نوفمبر 2010 : " أنا متفائل بمستقبل البحث العلمى فى مصر " .
ملحوظة : ارتفع عدد الجامعات العربية من 233 عام 2003 ، ليصل إلى 385 عام 2008 ، أى جامعة لكل مليون نسمة ، مقابل 6 جامعات لكل مليون نسمة فى البلاد المتقدمة [ التقرير السنوى للمؤسسة العربية لضمان الاستثمار الصادر فى 2008 ]
2- الكوادر العلمية : كما أشار د . زويل إلى ضرورة وجود الطاقة البشرية القادرة والفاهمة ، والتى تعرف قدراتها وأهدافها ، ودورها فى خدمة برامج التنمية ، لكى يتحقق الغرض من بناء المراكز البحثية ، وإلا أصبحت تلك المراكز لا تتجاوز كونها مبانى لا فائدة منها ، وهو الحادث فى مصر فى أغلب الأحوال ، وبالرغم من وجود 65,000 من الباحثين فى الجامعات المصرية ، وزيادة عدد طلاب الدراسات العليا بمقدار %50 مقارنة بما كان عليه عام 1953 ، وزيادة عدد درجات الماجستير والدكتوراة الممنوحة ، ليصل إلى 4,480 دكتوراة ، 8,986 ماجستيرا فى عام 2009 فقط ، وذلك حسب أرقام الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء ، وزيادة البعثات العلمية للجامعات الأجنبية ، إلا أن الفائدة المنعكسة على المجتمع لا تكاد تُذكر ، وهى ظاهرة تدعو إلى القلق ، والتوجس من إمكانيات الإصلاح المستقبلية .
ملحوظة : هناك 136 باحثا لكل مليون مواطن عربى ، وهو 10/1 النسبة فى إسرائيل ، بينما يتضاعف العدد 20 ضعفا فى أوربا ، 33 ضعفا فى روسيا ، 40 ضعفا فى الولايات المتحدة ، وتؤكد إحصاءات منظمة اليونسكو أن إنتاجية كل 10 باحثين من العرب لا توازى إنتاجية باحث واحد فى المتوسط الدولى ، ويبلغ عدد البحوث المنشورة سنويا فى الدول العربية 15,000 ، كما أن نسبة المتفرغين للبحث العلمى فى الوطن العربى لا تتجاوز %3-%10 بالقياس مع الدول المتقدمة ، وفى الفترة بين 1980 – 2000 فإن نسبة براءات الإختراع فى الوطن العربى لم تتجاوز %5 من تلك المسجلة فى إسرائيل ، و %2.5 منها فى كوريا .
3- الأساتذة والمشرفون على الأبحاث العلمية : وهو موضوع شديد الخطورة لأسباب عديدة منها :
- غالبية هؤلاء الأساتذة وخاصة جيل القدامى ، والجيل الوسطى ، مازالوا يعيشون الفجوة الهائلة بين الجامعات المصرية والجامعات الغربية ، وهى الفجوة التى تصل إلى مئة عام كما ذُكر سابقا فى تقرير الصحيفة البريطانية ، وكتابات د . الجريسى ، وهذه الفجوة تجعل غالبية الأبحاث التى يوجهونها ويشرفون عليها خارج نطاق الزمن ، وبالتالى خارج منطقة المنفعة والفائدة ، وتبديدا للوقت والجهد والطاقة .
- غالبية أو كل الأساتذة يفرضون على الباحثين من طلاب الدراسات العليا مواضيع معينة للبحث ، عادة لا تختلف كثيرا عما قاموا به فى أبحاثهم للدكتوراة ، وهذه الطريقة مع تقييدها لحرية الطالب فى التفكير والإختيار ، وتأثير ذلك على عقليته البحثية المستقبلية ، تقيد حركة البحث العلمى فى مواضيع بعيدة عما يعانى منه المجتمع من مشاكل وأزمات معاصرة ، وبعيدة عن التطورات السريعة والمتلاحقة فى العلوم والتقنيات .. إن درجة الدكتوراة فى حقيقتها هى رخصة للبحث العلمى ، والإنطلاق فى آفاقه الرحبة بدون قيود وبدون حدود .
- غالبية الأساتذة لا يُشيعون روح الفريق البحثى بين طلابهم ، فيعملون وكأنهم جزر منفصلة ، بدلا من توزيع الجهد لتناول قضية أو مشكلة ما من زواياها المختلفة ، وهو أدعى للنجاح والإنجاز ، وهو ما يتبعه الأساتذة والباحثون فى الجامعات المتقدمة .
- غالبية الأساتذة تنقطع علاقاتهم بالبحث العلمى تماما بعد حصولهم على الدكتوراة ، وينصب إهتمامهم على الإشراف على الرسائل العلمية ، وأمور أخرى روتينية وإدارية ، رغم أن دور الأستاذ فى تطوير المقررات الدراسية والمقررات العملية لطلاب الجامعة وطلاب الدراسات العليا ، ومتابعة الجديد فى التطورات العلمية ، دور ينبغى أن يكون مستمرا ومتواصلا ، بل يدخل فى الإعتبار كضرورة للترقية فى كل الجامعات العالمية .
- دراسة كثير من المبعوثين إلى الجامعات العالمية لمواضيع لا تمت إلى احتياجات وظروف المجتمع المصرى بصلة ، ولذلك عند عودتهم يجدون استحالة فى التطبيق والإستفادة مما تعلموه ، ونقله إلى من يعملون معهم من الطلاب والباحثين ، وهو خطأ جسيم ومتكرر فى سياسة البعثات الدراسية ، وينبغى تداركه لتقتصر الأبحاث على الضرورات الملحة للظروف والأحوال المصرية ، مما يحقق الفائدة ، ويصون الجهد البشرى ، والموارد المالية .
- غالبية الأساتذة المصريين مازالوا متشبعين بالثقافة العامة فى المجتمع ، والتى تشجع الإستبداد فى الرأى ، والعجرفة فى التعامل مع طلابهم ، بل وإمتهانهم والتحكم فيهم والإساءة إليهم ، كما أن كثيرا منهم ساهموا بدرجة أو بأخرى فى تدهور التعليم والبحث ، وساهموا فى تملق الأنظمة الحاكمة على حساب تطوير التعليم ، والإرتقاء بالبحوث ، ولا تخلو جميع أقسام الكليات فى جميع الجامعات المصرية من توريث الأساتذة لأبنائهم وذويهم ، وغير ذلك الكثير من المخالفات الأخلاقية التى لا تليق بمكانة الجامعات ووقارها .
- لكل تلك الأسباب وغيرها فلا غرابة فى تدهور وتدنى مكانة الجامعات المصرية ، وخروجها من جميع التصنيفات العالمية ، وكيف لها أن ترتقى وتتطور وكثير من أساتذتها بتلك المواصفات ؟! غير أن الأسوأ من ذلك هو دفاع بعضهم ، ومبرراتهم الباطلة عما وصلت إليه الأحوال .. كتب د . عبد الله نصار ، أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بإحدى جامعات الصعيد ، مقالا بعنوان " عن جامعة القاهرة " ، نشرته صحيفة " المصريون " بتاريخ 14 أكتوبر 2009 ، وفيه يبرر فشل الجامعات المصرية فى أن تجد لها مكانا فى التصنيفات العالمية بإدعاء أن تراجعها هو تراجع ظاهرى ، وأن التصنيفات العالمية تنطوى على قدر كبير من التضليل : " الحقيقة أن جزءا كبيرا من هذا التراجع هو تراجع ظاهرى خالص ... الأرقام عموما كثيرا ما تنطوى على قدر كبير من التضليل ... حساب ترتيب الجامعات ينبنى فى جوهره على حساب متوسط نصيب الطالب من الخدمات التعليمية والبحثية ، ونصيبه كذلك من العناصر المادية التى تتكون منها الجامعة ، من أراضى ومسطحات خضراء وغير خضراء ، ومن منشئات وأجهزة ومعدات ومكتبات ... إلخ ، حيث يتم حساب هذا الرقم من خلال قسمة عدد طلاب الجامعة على مقدار ما هو متاح للجامعة من عناصر مادية وبشرية " ، والمشكلة فى كلام د . نصار ليست فى تبريره للخيبة والتخلف بقدر ما هى فى الأكاذيب والخرافات والخيالات التى يستعملها فى تبريراته .. لقد كتب هذا المقال ردا على تصنيف الجامعات والمعاهد العلمية طبقا لموقعها الالكترونى web site على شبكة الانترنت ، وهو ما يُسمى Web Ranking of World Universities ، والذى يُعده Cybermetrics Lab CSIC ، وبدلا من أن يستخدم مبررات من قبيل أننا حديثو عهد بالانترنت ، ونحتاج بعضا من الوقت والجهد للحاق بغيرنا ، أطلق لخياله العنان فألَّف فيلما مصريا عن المساحات الخضراء وغير الخضراء ، وقسمة هذا على ذلك ، وغيرها من الترهات ، والعجيب أنه بمراجعةالطريقة التى يتم بها توزيع درجات هذا التقييم ، والطرق المستخدمة فى جميع التقييمات العالمية الأخرى ، لا يوجد أى ذكر لما كتبه الأستاذ ورئيس قسم الفلسفة ، الذى لم يكلف نفسه عناء المراجعة والتدقيق ، ولم يحترم عقول قرائه وطلابه ، ولم يضرب لهم مثلا فى الدقة والأمانة ، بل إن رده لا يحمل أساسا أية دلالة على إدراكه لنوعية التصنيف موضوع المقال .. هل لنا بعد ذلك أن نتعجب مما وصل إليه حالنا ؟!!
ملحوظة : لمعرفة الأساليب المتبعة فى التصنيفات العالمية ، وكيف يتم توزيع الدرجات على الجامعات ، راجع مقال ( الجامعات المصرية ومكانتها ) المنشور فى تلك السلسلة .
4- المعامل والتجهيزات وغيرها : من البديهيات أنه لا يمكن إجراء بحوث علمية دقيقة بدون معامل مجهزة ، وبدون حرفيين يفهمون فى تشغيل تلك الأجهزة وصيانتها والتأكد من دقة قياساتها ، وخاصة أن كثيرا من الأجهزة الحديثة على درجة عالية من التعقيد ، والمتأمل فى أحوال التجهيزات المعملية فى مصر يستطيع بسهولة أن يضع يده على كثير من المشاكل التى تعانى منها ، ومن أهمها :
- الإهمال الذى يُلحق الضرر بأبنية المعامل ومكوناتها وأجهزتها .
- نقص الأجهزة ، وهى مشكلة سببها الرئيسى سوء التخطيط والصيانة ، وسوء ترتيب الأولويات ، وذلك لأن هناك الكثير من الأجهزة التى لا تحظى بالصيانة ، مما تتعاظم معه فرص إصابتها بالأعطال ، كما أن كثيرا من الموارد المالية تُصرف لشراء أجهزة مشابهة لما هو موجود بالفعل ، وليس لشراء أجهزة أخرى غير موجودة ، والناظر للجامعات الأجنبية يجد أنه حتى فى أكبرها فإنه ليس من الضرورى أو الواقعى أن يجد الباحث كل ما يطلبه فى معمل واحد ، فهناك معامل مركزية ذات درجة أعلى من التجهيزات ، وهناك معامل مختلفة تحقق التكامل فيما بينها ، وليس من المعقول على سبيل المثال أن يكون هناك ميكروسكوب إلكترونى فى كل معمل ، وخاصة أن أمثال تلك الأجهزة المعقدة لا تحتاج إلى معمل مكون من غرفة واحدة فقط ، وإنما لغرف عديدة ، ومعدات وتجهيزات مختلفة لمراحل تحضير العينات قبل فحصها النهائى ، وغرف ومعدات أخرى يتم فيها تحميض وطبع الصور وغيرها ، علاوة على الكلفة العالية لأمثال تلك الأجهزة .
- انعدام أو نقص التقنيين القادرين على تشغيل الأجهزة وصيانتها ومعايرتها Calibration لضمان قياساتها الدقيقة ، والعجيب أنه يُفترض فى الباحث المصرى أن يكون قادرا على ذلك ، رغم أنه فى كل الجامعات العالمية ليس بالضرورة أن يكون الباحث ملما بالخبرة التقنية اللازمة للأجهزة ، لأن عمله الأهم هو فهم وتفسير النتائج وتحليلها ، ويلجأ الباحثون فى تلك الجامعات إلى هؤلاء التقنيين فى كثير من الخطوات التى لا تتطلب عملهم المباشر ، ويلجؤون إليهم أيضا فى استعمال الأجهزة ما لم تتطلب طبيعة بحثهم غير ذلك .
- نقص المركبات الكيماوية اللازمة للتجارب المعملية ، وهى مشكلة مشابهة لمشكلة نقص الأجهزة ، تعود إلى سوء الإدارة وترتيب الأولويات ، والذى يزور مخازن الأقسام والكليات بجامعة القاهرة مثلا ، سيجد كما هائلا من الزجاجات والعبوات لكل أنواع الكيماويات ، تغطى أرضية المخازن ورفوفها ، وأغلبها مستورد من الشركات العالمية المتخصصة ، بل إن الكثير من تلك العبوات مازالت تحمل ملصقات labels باسم جامعة فؤاد الأول ، والمشكلة هنا أن الجامعات تعهد بتلك المخازن لموظفين يريدون الحفاظ على عهدتهم ، تفاديا لمشاكل الجرد والعجز والغرامة وغيرها ، ليتم تسليمها فيما بعد لموظف جديد ، فى الوقت الذى يُحرم فيه الباحثون من استخدامها ، وهناك بعد آخر لمشكلة نقص الكيماويات ، وهو بعد أمنى ، إذ يحاول الباحثون شراء ما يلزمهم من الشركات ، فيجدون أنفسهم فى حاجة إلى موافقة الأمن على شراء مركب كيماوى ما ، وذلك لضمان ألا يكون داخلا فى صناعة المتفجرات ، وبذلك يبدد الباحث وقته وجهده فى إعداد الأوراق ، والحصول على التوقيعات ، وكان يكفيه ما هو موجود أصلا فى المخازن ، أو مجرد توقيع من الأستاذ المشرف على البحث .. ولا تحتوى مخازن الأقسام والكليات فقط على الكيماويات ، بل على كثير من الأجهزة واللوحات والمجسمات وغيرها من الأشياء الضرورية لمساعدة الأساتذة فى الشرح ، وتسهيل الفهم للطلاب ، وخاصة أن الجانب النظرى قد تغلب على الجانب العملى فى كل ما يُدرس بجامعاتنا .
- المكتبات التى تعانى من نقص حاد فى جميع المطبوعات الحديثة ، بل إن كثيرا من الدوريات والمجلات العلمية قد انقطعت اشتراكاتها منذ سنوات أو عقود ، ولم يتم تجديدها ، وهو ما يحرم الباحث أوالطالب من متابعة التطورات المتتابعة فى كل العلوم ، والأمر لا يتوقف عند المكتبات بكتبها ومجلاتها ، بل يتعداه إلى غياب المكتبات الرقمية أو الإلكترونية ، وقواعد البيانات البحثية data bases ، وغيرها من أدوات التعليم الإلكترونى ، رغم أنها لازم أساسى الآن لسهولتها ، وإمكانية الاستفادة الواسعة والسريعة منها .
- المزارع والصوبات والحظائر ، وكلها من مستلزمات كثير من البحوث الزراعية والحيوانية ، ولكنها تلقى إهمالا شديدا حتى ليعجب المرء من الحشائش التى تغطى مزارع كليات الزراعة ومراكز البحوث الزراعية ، ومن الخلل والأعطال التى تُؤثر فى التحكم الدقيق للحرارة والرطوبة وفترات الإضاءة وغيرها فى الصوبات الزجاجية ، ومن قذارة حظائر التجارب الحيوانية ، وكلها عوامل تُلقى بظلال كثيفة من الشك والريبة على دقة نتائج التجارب ، ومدى صلاحيتها للتطبيقات العملية ، وإمكانية الاستفادة بها .
البحث العلمى ليس كأى عمل آخر ، فهو إما أن يكون دقيقا ، وذا منهاج صارم ، أو لا يكون بحثا من الأساس ، والمشكلات التى تعرض لها هذا المقال ، أخرجت البحث العلمى من دقته ، وحرفته عن منهاجه الصارم ، وأوصلتنا إلى مرحلة انعدمت فيها الخيارات ، ولم يبق أمامنا إلا الإصلاح الشامل على أسس صحيحة ، وآليات محددة ، أو المضى فى هذا الهزل والعبث ، والذى يعنى مزيدا من تردى أحوال المجتمع ، ومزيدا من تفاقم مشاكله وأزماته ، ومزيدا من اليأس والإحباط لأفراده ، ومزيدا من تعاظم الهوة بيننا وبين الآخرين ، الذين اختاروا الجدية والأمانة ، ورفعوا من قيمة العمل والجهد والمثابرة والإخلاص ، فانفتحت لهم الآفاق ، وارتقوا فى درجات النهضة والحضارة ، ومازلنا ننحدر من هوة إلى هوة ، ونتردى من قاع إلى قاع .
ثانيا : ما هو الحل ؟
1- لايمكن إصلاح المنظومة البحثية بدون إصلاح المنظومة التعليمية ، والبحث فى كل بلاد الدنيا إما أن يتم فى الجامعات ، والتى هى قمة المنظومة التعليمية ، أو يتم فى المراكز البحثية على أيدى باحثين جميعهم نتاج المنظومة التعليمية ، أى أن إصلاح المنظومة التعليمية هنا حتمية لا بد منها ، ولكنه فى الوقت نفسه عمل شاق ، يتطلب تخطيطا وتنفيذا ومتابعة وتطويرا ، ويتطلب أيضا وقتا طويلا ، وفى اليوم الذى تُخرج فيه الجامعات والمعاهد المصريا دفعة كاملة من طلابها ، تم إعدادهم إعدادا سليما منذ المرحلة الإبتدائية أو ما قبلها وحتى السنة الجامعية النهائية .. فى هذا اليوم يكون المجتمع قد أرسى لبنة صلبة فى بنائه ، وعهد بمستقبله إلى جيل لم يتكون بالتلقين بل تشرب العلم والفكر وإنفتاح الأفق ، وتشبع بروح الجدية ، وحب البحث والاطلاع والقراءة ، ورغبة العمل والإنجاز والنجاح ، وتعلم أساسيات وأساليب البحث ، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بتطوير المناهج والمقررات والكتب الدراسية ، والإهتمام بالجوانب العملية والتدريبية ، والإرتقاء بمستوى المدرسين تربويا وعلميا ، وتحديث نظام الامتحانات ، وتعديل نظم القبول بالجامعات ، وغيرها من الضروريات اللازمة لتكامل المنظومة التعليمية .
2- إذا كان إصلاح المنظومة البحثية مرتبطا بإصلاح المنظومة التعليمية ، وإصلاح المنظومة التعليمية لا يمكن حدوثه بدون إصلاح منظومة المجتمع بأسره ، فإن ذلك يعنى أننا أمام ضرورة الإصلاح الشامل لمؤسسات المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، إذ لا يُعقل أن نتوقع إصلاح التعليم من نظام سياسى فاشل ، يفرض سيطرته على الجامعات بقواه الأمنية ، وتغيب عنده الاستراتيجيات الواضحة ، ويتعمد نشر السطحية والضحالة وانغلاق الأفق بين أبنائه ، ليضمن انصرافهم عن واجبهم فى تطور المجتمع ونهضته ، ولا يجوز أيضا انتظار الإصلاح من نظام اقتصادى مختل ، يقصد إفقار الناس ، ويسيئ توزيع موارد المجتمع وثرواته ، ولا يمكن أيضا استشراف الإصلاح فى ظل الفوضى الاجتماعية ، والتدهور الثقافى ، والفساد السلوكى ، لأنها كلها عوامل تدمر الشخصية الفردية والمجتمعية ، وتنشر أحاسيس التبلد واللامبالاة ، وتقتل روح الولاء والانتماء ، ورغبة التفوق والنجاح ، وتُشيع جميع المعايب السلوكية والأخلاقية التى لا تُنتج إلا العجز والإخفاق .
3- يجب إعادة النظر فى نظام تعيين المعيدين ، لأنه نظام لا يخدم المنظومة التعليمية أو البحثية فى شئ ، بل إنه أصبح وكأنه طريقة لتعيين مزيد من الموظفين ، مما يُشكل عبئا على الجامعات وعلى الدولة ، والمفروض فيمن يصل إلى درجة الأستاذية أن يكون من الصفوة الفكرية والعلمية لضمان أن تستمر المنظومة الجامعية بشقيها التربوى والبحثى على أعلى درجات الأهلية والكفاءة ، وهو ما ينعكس خيرا على المجتمع فى جميع مؤسساته ونشاطاته ، والأفضل أن يبدأ التعيين من درجة مدرس ، أى الحاصل على الدكتوراة ، ويتم ذلك بالإعلان والمسابقة ، لاختيار أكثر المتقدمين تؤهلا فى مجال البحث والإنتاج العلمى ، مع ضرورة أن يكون أيضا مؤهلا تربويا بحصوله على مقررات ودورات تدريبية للقيام بعملية التدريس ، والتعامل مع الطلاب ، وضرب المثل والقدوة لهم أخلاقيا وسلوكيا .
4- و يجب أيضا أن يكون هناك نظام صارم لترقيات المدرسين إلى أساتذة مساعدين ثم أساتذة ، يضع فى الاعتبار إنتاجهم العلمى ، ودورهم البحثى والإشرافى على الرسائل العلمية ، ودورهم فى تطوير المقررات الدراسية النظرية والعملية لطلاب الجامعة وطلاب الدراسات العليا ، كما يلزم أيضا وضع الضوابط الأخلاقية والقانونية الصارمة التى لا تتجاوز عن أخطاء من نوعية الغش والتدليس العلمى ، وسرقة الأبحاث ، والتحرش الجنسى بالطلاب ، حيث لا مكان فى جامعة محترمة لأمثال تلك التصرفات أو القائمين بها ، وقد أصبحت الآن سلوكيات شائعة فى نظامنا التعليمى الفاسد .
5- الأبحاث العلمية فى الدوريات والمجلات العلمية المحترمة ، بعد مراجعتها وتمحيصها للتأكد من سلامة منهجها ، وتماشيها مع التطورات العلمية ، تُعد دلالة أكيدة على مكانة الباحث ، وعلى قيمة أبحاثه ، ونظرا لهزال وتدنى المجلات العلمية المصرية ، وعدم جديتها فى المراجعة والتمحيص ، أصبح أغلب الأبحاث المنشورة فيها غير ذات قيمة علميا أو تطبيقيا ، رغم أنها تمثل الإنتاج العلمى لأكثر من %99 من العلماء والباحثين فى مصر ، ولذلك يضرب د . الجريسى فى مقاله السابق الإشارة إليه المثل ببعض الدول العربية التى ترسل أبحاثها للتقييم فى أوربا وأمريكا ، مما كان له أثر كبير فى تحسين مستواها : " سعت بعض جامعات بعض الدول العربية ، ومنها المملكة السعودية ودولة الكويت والإمارات العربية المتحدة إلى إرسال أبحاث أعضاء هيئاتها التعليمية لأوربا وأمريكا ، لغرض المراجعة النوعية الماحصة ، الأمر الذى كان مرده أن ارتقت نوعية وكفاءة رسالاتها العلمية بشكل جلى ، إلى حد تجاوز مستواه فى بعض مجالات العلوم الطبيعية مستوى مصر " ، ولا ينبغى أن تكون هذه الطريقة الوحيدة للتعامل مع مشكلة النشر العلمى ، إذ يجب تحسين مستوى التقييم والمراجعة فى المجلات المصرية ، واختيار أفضل الكفاءات العلمية للقيام بذلك ، مع ضمان النزاهة والأمانة ، والبعد عن المجاملة فى عملهم ، كما يجب أيضا تشجيع النشر فى الدوريات العالمية ، حيث يعكس عدد الأبحاث المنشورة لباحث ما فى تلك الدوريات مكانته وقيمته العلمية .
6- ربط الأبحاث العلمية بمشاكل المجتمع ، وبرامج التطوير والتنمية ، إذ لا معنى لتبديد الوقت والجهد والموارد فيما لا فائدة منه للمجتمع فى حاضره أو مستقبلة ، ولا معنى أيضا لتكرار الأبحاث ، ولا معنى لعدم التنسيق والتكامل بين الجامعات والمراكز البحثية ، لضمان تجنب الإعادة ، ولضمان تناول المشاكل من زواياها المختلفة ، مما يعطى فرصة أكبر للوصول لحلول أكثر واقعية ، وأكثر نفعا .
7- ربط الأبحاث العلمية بمشاكل المجتمع ، وبرامج الاستثمار والتنمية ، سيقود إلى مساهمة القطاع الخاص والشركات الصناعية وغيرها فى تمويل البحوث ، وهذا هو الحادث فى غالبية بلاد العالم المتقدمة ، ولا يعنى ذلك تخلى الدولة تماما عن التمويل ، وإنما ستستمر فيه ولكن بنسبة صغيرة مقارنة بكل المصادر الأخرى ، والتى ستشمل بجانب القطاع الخاص والشركات الصناعية تبرعات الأغنياء وأهل الخير ، والأوقاف ، والمعونات الخارجية ، وغيرها ، وقد ذكر د . هانى الناظر الرئيس السابق للمركز القومى للبحوث ، فى حواره السابق الٌشارة إليه أن مساهمة الدولة فى ميزانية البحث العلمى للمركز فى عام 2002/2001 كانت %90 ، والقطاع الخاص %10 ( ميزانية المركز وقتها كانت 69 مليون جنيه ، منها 5 ملايين للبحث العلمى ) ، وفى عام 2009 انعكس الوضع لتصل مساهمات القطاع الخاص فى ميزانية البحث العلمى إلى %90 ، وتتراجع مساهمة الدولة إلى %10 ، وذلك بسبب زيادة الوحدات البحثية داخل المركز من 12 إلى 34 وحدة ، وتعاقداتها مع الشركات والهيئات المصرية ، وزيادة التعاقدات الخارجية فى الفترة نفسها من مليون إلى 28 مليون جنيه ، وقد دعا المجلس القومى للتعليم والبحث العلمى والتكنولوجيا بالمجالس القومية المتخصصة فى تقريره السابق الإشارة إليه إلى ضرورة دعم الأنشطة التجارية التى تعزز البحث والتطوير ، وتبنى الدولة لسياسات تشجع الجهات الإنتاجية على تخصيص نسبة من ارباحها لتمويل المشروعات البحثية مقابل إعفاءات ضريبية ، وتشجيع العلماء على العمل لبعض الوقت فى مواقع الإنتاج ، للاستفادة من الخبرات الصناعية ، والتعرف على المشاكل الحقيقية .
8- لابد أيضا من ربط البعثات العلمية بمشاكل المجتمع واحتياجاته ، لأنه من العبث وتبديد الطاقات والموارد أن نرسل المبعوثين لدراسة مجالات لا تخدم اقتصادنا وظروفنا المحلية ، أو مجالات يصعب تطبيقها فى مصر ، أو ليست هناك ضرورة ملحة لدراستها ، أو ليس هناك بالأساس معنى لها ، مثل إرسال البعض إلى أوربا ليدرس أمور الإسلام واللغة العربية وفلاسفة المسلمين ، وكلها مشاكل يمكن تجاوزها بقصر البعثات العلمية والتدريبية على المجالات الضرورية لنهضة المجتمع وتقدمه ، وهو ما سيساهم أيضا فى الحفاظ على ثروتنا البشرية المؤهلة من مخاطر تفضيل البقاء فى الخارج على العودة إلى وطن لن يكون قادرا على الاستفادة من علمهم وخبرتهم ، وتوفير الظروف الملائمة لهم ليمارسوا ما تعلموه وخبروه بالخارج .. يذكر د . هانى الناظر فى حديثه المشار إليه سابقا أنه من كل 4 باحثين يتم إيفادهم إلى الخارج لا يرجع 3 منهم ، وأن هناك 16,000 عالم مصرى بالولايات المتحدة ، ومثلها فى أوربا ، من بين 35,000 عالم مصرى بالخارج ، وهو تبديد هائل للخبرات والأموال أيضا .
من الأمور الهامة أيضا ضرورة تأهيل المبعوثين وإعدادهم علميا ولغويا وفكريا ونفسيا ليكونوا أمثلة مشرفة لمجتمعهم ، وليكونوا قادرين على عبور الفجوة العلمية الهائلة بيننا وبينهم ، وقد تنبه لذلك نفر قليل من المهتمين بالتعليم والبحث فى مصر ، ومنهم د . الجريسى فى مقاله السابق الإشارة إليه ، حيث يرى أن تلك الفجوة تُحدث صدمة محبطة لكثير من الدارسين : " من أسوأ مظاهر تلك الفجوة العلمية ما يقع على النشء العلمى لشباب مصر والوطن العربى ، والذى لا يقل ذكاء عن النشء العلمى فى الدول المتقدمة ... وهو تقصير فى حقهم فى عرض فرصة تأهيل مكافئة لهم يستطيعون بها نهضة أوطانهم ، أو منافسة زملائهم فى السوق الدولية ، سواء فى البحث العلمى ، أو فى الحصول على فرص عمل فى تلك السوق ... إنه أمر مؤسف وواقع يدركه كل طالب للدراسات العليا سواء للماجستير أو الدكتوراة ، ممن أتيحت له الفرصة لإكمال دراساته فى أوربا وأمريكا ... إنهم يواجهون بسبب تأهيلهم غير الموفق صدمة ثقافية محبطة لواقع عظم الفجوة العلمية القائمة ... وعلى ذلكم فإن المجهود المبذول والمطلوب منه ليلحق بالركب يعجز عن تداركه للأسف كثير من أبناء الوطن " .
أليس حريا بنا أن نتساءل كما تساءل الهنود فى مقال Hitendra المشار إليه سابقا : ما فائدة تعليم أبنائنا وإعدادهم والإنفاق عليهم ، ثم تقديمهم بعد ذلك هدية جاهزة لجامعات الغرب ومراكزه البحثية ؟!
9- تشجيع تأليف الجمعيات العلمية للمتخصصين فى المجالات المختلفة ، وعقد المؤتمرات الدورية لهم للتعارف والتواصل ، وإصدار نشرات ومطبوعات دورية تُرسل لهم جميعا ، وتتضمن الأخبار والتطورات العلمية والاجتماعية وغيرها مما يدخل فى نطاق اهتماماتهم ، وكله مما يساهم فى الترابط والالفة وتبادل المعلومات ، ويثرى الحياة العلمية والثقافية فى المجتمع .
10- عقد المؤتمرات العلمية الدورية لعرض الأبحاث والتطورات المعاصرة فى مجالات العلوم المختلفة ، وهو ما يساهم فى تعارف وتعاون العاملين فى مجالات البحوث المختلفة ، ويكون أيضا فرصة للتعرف على آخر الإصدرات العلمية من كتب ومجلات وأقراص مدمجة وأجهزة علمية حديثة وغيرها مما يجب الإحاطة به ، ويستفيد منه العلماء والباحثون .
11- ضرورة التكامل العلمى والبحثى بين الدول العربية والإسلامية ، وهو ما يرفع جزءا من العبء المالى والبشرى عن كاهل الحكومات والمراكز البحثية ، إذ لا يعقل مع شح الإمكانيات ، وكثرة المشاكل ، أن تقوم المنظومة البحثية فى دولة ما بالبحث فى كل المجالات ، ولذا يصبح التكامل والتنسيق والتعاون أمورا ملحة لا مناص منها ، فبعض المجتمعات مثلا يركز جهوده على البحث فى أمور الزراعة أو محاصيل معينة منها ، والبعض فى أمور البتروكيماويات ، والبعض الآخر فى الاستفادة من الموار المائية أو الصحراوية أو الطاقة الشمسية ، وغيرها مما يحقق المنفعة والفائدة لشعوب المنطقة ، كما أنه من اللازم عربيا وإسلاميا التعاون فى بحوث التسليح والإنتاج الحربى ، لأنه من السفه والحمق تبديد مئات المليارات فى شراء أسلحة غربية منزوعة الفائدة ، فى حين يمكننا تطوير برامجنا الخاصة ، والاستغناء عن الغرب الذى لا يريد لنا نفعا أو فائدة .
12- النظام الإدارى الناجح ضرورة ملحة للربط والتنسيق بين مكونات العمل البحثى ، والجامعات ومراكز البحوث ، والبحث واحتياجات المجتمع ، والبحث وبرامج التنمية ، والموارد المالية المتاحة والمطلوبة ، وهو أيضا ضرورة ملحة لإعداد مشاريع الأبحاث وعرضها على الشركات الصناعية وغيرها لجلب الموارد والتمويل ، وفى ظل إدارة فاشلة ، وبيروقراطية مُعوِّقة ، وروتين ممل ، ينفرط التناسق ، وتتبدد الجهود .
13- ضرورة إعداد وتوفير قاعدة بيانات data base للأبحاث ، وهو ما يوفر كثيرا من الجهد والمشقة والوقت على الباحثين .
14- الاهتمام بالنشر الإلكترونى ، لأنه وسيلة سهلة وسريعة ورخيصة ومتوفرة للباحثين فى كل مكان وفى كل وقت ، وكذلك وجوب وجود موقع إلكترونى لكل مركز بحثى ، أو قسم من أقسام الكليات فى الجامعات المختلفة ، وتطويره وتحديثه باستمرار .
15- ضرورة الاهتمام بالمعامل وأبنيتها وأجهزتها العلمية ، وتوفير الأطقم الفنية القادرة على التشغيل والصيانة والمعايرة وإصلاح الأعطال ، وضرورة الإهتمام بمزارع البحوث والصوبات فى كليات الزراعة ومركز البحوث الزراعية ، ومحطات بحوث الثروة الحيوانية وغيرها ، لأنه لا يمكن الحصول على نتائج دقيقة من أجهزة غير دقيقة ، ولا يمكن الحصول على نتائج دقيقة من تجربة تمت فى مزرعة موبوءة بالحشائش أوالحشرات ، وعندما تفتقد التجربة دقتها تفتقد قيمتها العلمية والتطبيقية .
16- التعاون مع الجامعات والمراكز البحثية الأجنبية ، والاستفادة مما وصلوا إليه من خبرات وإنجازات .
هذه المقترحات وغيرها تحتاج من أجل تطبيقها إلى رؤية وعمل فى مجتمع منسجم ومتوافق بين مؤسساته وأفراده ، وهو ما يقود إلى السؤال المشروع : إذا كان غالبية الوزراء وكبار المسؤولين فى أجهزة المجتمع من الحاصلين على الدكتوراة ، أى أنهم خدموا فى مواقع جامعية وبحثية ( فى مصر أكثر من 130,000 من الحاصلين على الدكتوراة ، وهى نسبة تتجاوز بعض الدول المتقدمة ) ، وكثير منهم حصل علي درجته العلمية من جامعات غربية عريقة ، فما هى مشكلتنا إذن؟! ولماذا فشلنا فى كل شئ ، ونجح غيرنا ؟! هل نعانى من غياب المصداقية والأمانة ؟! هل نحن أقل حبا وإخلاصنا لمجتمعنا وبلدنا ؟! هل من المعقول الإدعاء بأن النظام السياسى أوصلنا وحده إلى تلك الهوة السحيقة ؟! وما هو النظام الحاكم فى المجتمع ؟! أليس هو النظام المكون من هؤلاء الوزراء والمسؤولين ؟! هل يضحكون علينا عندما يدعى كل واحد منهم البراءة ، وأنه لم يكن إلا منفذا لتعليمات الرئيس ، وتوصيات الرئيس ، وأوامر الرئيس ؟! وهل الرئيس يعلم أو يعنيه كل صغيرة وكبيرة من أمور الجامعات ومراكز البحث وغيرها من مؤسسات المجتمع ؟! وهل الرئيس وحده مسؤول عن وضع الاستراتيجيات والخطط القومية ؟! .. لا شك عندى أن مجتمعنا لم يفشل بسبب الرئيس وحده ، ولا شك عندى أيضا أن أنظمتنا الحاكمة لم تتحول إلى الاستبداد بمفردها ، ولا شك عندى كذلك أن شعوبنا لم تتعلم السلبية والفساد من تلقاء نفسها .. إن القطعى عندى أن مجتمعنا وصل إلى هذا الحد من التخلف والفساد بسبب نخبته العلمية والثقافية والسياسية والإعلامية ، لقد أجرموا جميعا عندما تخلوا عن واجبهم الدينى والأخلاقى والوطنى والمهنى ، وتحولوا إلى التطبيل والتهليل والنفاق ، فجعلوا من الحكام فراعين وآلهة ، وضللوا واستخفوا بعقول الناس ، وأشعروهم بالمذلة والدونية والعجز والمهانة، وكانت النتيجة المريرة ما نحن فيه .. قاع عميق القرار .. فماذا بقى لنا إذن ؟! وماذا بقى لجامعاتنا بعد أن فشلت فى واجبها التعليمى ، ودورها البحثى ؟! .. لاشئ !!
سعد رجب صادق
saad 1953@msn.com