نفاق وتهريج وخيانة وأشياء أخرى
| |
نفاق | |
بقلم : سعد رجب صادق
..........................
المتأمل فى المشهد المصرى والعربى الراهن يجد مجموعة من الظواهر التى تدعو إلى الحذر والترقب ، وهى وإن كانت غير جديدة على واقعنا المعاصر ، إلا أن ما لها من فورة وزخم يثير فى النفس تساؤلات شتى ، ويحرك فى الوجدان مشاعر متنامية من الشك والريبة ، ويرصد هذا المقال بعضا من تلك الظواهر للتنبيه والتحذير ، وللبحث فى مغازيها ودلالاتها على المستقبل القريب والبعيد .
أولا : نفاق
لا شك أن النفاق الفج ، والمبالغة الممجوجة هما أخطر ما يمكن أن يصيب المجتمعات ، وقد تفنن غالبية أفراد النخبة المصرية السياسية والثقافية والإعلامية فى تلك الممارسات المعيبة طوال العقود الماضية ، فخلعوا على الحكام من الصفات ما لا يستحقون ، ونسبوا إليهم من الأمجاد والإنجازات ما ليس لهم فيه يد من قريب أو بعيد ، وامتد الأمر ليشمل بجانب الحكام كل أصحاب السلطة والثروة والمكانة ، بل إنه تعدى كل هؤلاء ليضم أيضا طبقات أخرى مثل أهل الأدب والفن والرياضة وغيرهم ، والمشكلة فى هذا السلوك القبيح أنه يرفع الحاكم من مرتبة الأجير لدى شعبه إلى مرتبة الفرعون والإله ، ويحول أصحاب السلطة من خدم للناس إلى متحكمين فى البلاد والعباد ، ويرقى بأهل الثروة والحظوة والمكانة إلى درجة المعصومية من النقائص والعيوب ، ويحول الإعلاميين والأدباء والفنانين والرياضيين إلى أعلام ورواد .. إنه فن صناعة الفراعين والآلهة الذى أوردنا موارد الهلاك ، وحوّلنا من آدميين منحهم الله تعالى الكرامة ، وفضلهم على غيرهم من المخلوقات، إلى عبيد أذلة صاغرين ، يُسامون الخسف والذل والهوان .. وسأتعرض هنا لمثالين من أمثلة كثيرة تفيض بها حياتنا اليومية :
أولا : كتب د. محمد المخزنجى الصحافى والأديب والطبيب النفسى مقالا فى صحيفة الشروق بتاريخ 3-3-2011 بعنوان ( زيارة للضمير ) ، وفيه يتحدث عن لقائه بالبرادعى فى منزله بعد أن وجه له الأخير الدعوة للزيارة : ( ... باختصار نحن فى هذه المرحلة المتوترة والمضطربة أشد ما نكون حاجة للرجال الضمائر ، والدكتور البرادعى نموذج لهم ، وينبغى الآن أن يظل كذلك ، لهذا أرجوه ألا يستجيب الآن لدعوة الداعيين إلى إعلان نيته الترشح للرئاسة ... وبرزت فى ثنايا النقاش نقطة غائمة عن أناس يمثلون " الضمير " كالدكتور البرادعى وغيره لم تشملهم لقاءات المجلس العسكرى على كثرتها ، خاصة والمجلس العسكرى نفسه وباستقراء المشهود على الأرض وما يمكن استشفافه من توالى الوقائع كان ضميرا وطنيا لا شك فيه ، فلماذا لا يلتقى الضمير بالضمير ... أجمعنا فى هذا اللقاء على أن الجيش كان الوجه العسكرى لضمير الأمة فى هذه الثورة ... فى شروق الثلاثاء كتب وائل قنديل مقالته " البرادعى والمجلس العسكرى " حاملة دعوة للقاء ، ولا أعرف إذا كانت تلك الرسالة قد وصلت بمثل تلك السرعة ، أم أن اللقاء كان من قبل على جدول المجلس العسكرى ... هكذا كان أول لقاءات الضمير بالضمير ) .
هكذا فجأة ومرة واحدة ، حول المخزنجى البرادعى من بشر له ما له ، وعليه ما عليه ، إلى " الضمير " ، وحول الجيش إلى " الضمير الواطنى " ، وبلقاء البرادعى بالمجلس العسكرى ، يكون " ضمير الأمة " : البرادعى قد التقى بـــ " الضمير الوطنى " : الجيش ، وقد يتفهم المرء أحيانا حاجة الكتابة الأدبية إلى المبالغة ، وحاجة الأدباء إلى التهويل فى وصف الأحداث والوقائع والشخصيات ، ولكن التهويل والخيال فى القصص والروايات أمر قد يكون جائزا ، ولكنه بالقطع غير جائز عند تناول أمور الحياة ، وأفراد المجتمع ، وخاصة فى أمر كالأحداث المصرية الأخيرة ، والسؤال المشروع هنا : ماذا لو تولى البرادعى رئاسة مصر ، وخرج الأفاكون والمدلسون يخلعون عليه أمثال تلك الصفات ؟ وماذا لو استمع المجلس العسكرى إلى هذا المديح فقرر الاستئثار بالسلطة ؟ والإجابة القطعية أن البرادعى سيتحول إلى فرعون جديد ، أليس هو الضمير الذى يفرّق بين الحق والباطل ، والصواب والخطأ ؟! أو أن الجيش سيتحول إلى الديكتاتورية العسكرية ، أليس هو ضمير الأمة الوطنى ، الذى يجوز له تقدير مصلحة الوطن ، واختيار ما يراه مناسبا ؟!، والأمر لا يتوقف عند ذلك ، لأن أخطار هذا النفاق الفج ، والمبالغات الممجوجة ، تمتد لتشويه عقل الأمة وسلوكها ، وتمتد للتأثير على أفكار أجيالها الشابة وتصرفاتهم ، وخاصة أن كثيرا منهم ينظرون للنخبة بشئ من الثقة والاحترام ، ويظنون فى أفرادها الأمانة والمصداقية ، وهكذا يفقد المجتمع قدرته على النظرة الصائبة للأحداث والأشخاص ، وقدرته على تقييمها ونقدها والحكم الصحيح عليها ، وينتهى بنا الأمر من فراعنة إلى فراعنة آخرين .
ولكن أليس المخزنجى هو من كتب فى 22-7-2010 مقالا فى الشروق بعنوان ( من أين يأتى الجمال ؟ روحة صيفية –1- ) ، وفيه يتحدث عن عاصمة دولة ناميبيا الأفريقية ، والتى اختارتها أنجلينا جولىAnglina Joli الممثلة الأمريكية لتضع فيها أحد أطفالها ، ليجد فى ذلك فرصة للتغزل الفج فيمن يسميها لذيذتى أنجلينا : ( بينى وبين اللذيذة أنجلينا جولى غرام خاص مشبوب ... لم تفعل لذيذتى أنجلينا هذه القباحة ، بل ذهبت وهى حامل فى شهرها الأخير بصحبة زوجها غريمى براد بت ... مديرة ظهرها الجميل لكبريات مدن العالم ، التى هى رهن بنانها الساحر ... ولا أعرف بالضبط من أين استقت جولى اللذيذة معلوماتها عن ناميبيا ... البعد الذى شكل غرامى المشترك بالخاطر والتخاطر مع اللذيذة أنجلينا جولى ، وجولى بالمناسبة هو اسمها الأوسط الذى يعنى الجميلة ، وهى جميلة بالفعل ، ليس جمال الكسم والرسم وحدهما ، بل جمال الروح الذى حول بيتها إلى أمم متحدة تضم إضافة إلى أبناء بطنها اللطيف ... ) ؟! ويبدو أن المخزنجى ترك العنان لرغبات قلمه الصبيانية ، فحّول حديثه عن المدينة الأفريقية إلى وصلة من الخيالات المراهقة عن لذيذته أنجلينا ، ويبدو أنه أيضا مغرم بحكايات مجلات النميمة الفنية tabloids ، ولقطات مصوريها ال paparazzi ، والذين يصفون أنجلينا بــ yummy أو لذيذة ، والمفارقة التى تدعو إلى التأمل أن أنجلينا كانت أكثر تأدبا ووقارا من نخبتنا المصرية ، فعندما ذهبت إلى باكستان بعد فيضاناتها المدمرة الأخيرة ، للتعاطف مع شعبها المسلم ، ارتدت ثيابا متحشمة ، وغطت شعرها ، احتراما لتقاليد المجتمع المحافظة ، فى الوقت الذى بخل فيه الكتاب والمشخصاتية المصريون عن حتى مجرد كلمات التعاطف والمؤازرة لإخوانهم المسلمين .
وليت الأمر يتوقف على التغزل الفج فى أنجلينا ، بل إنه يتعداه إلى تصوير آخر شديد الفجاجة لمشاهد لا أدرى هل هى من وقع خيالات متصابية ؟! أو مشاهد حقيقية تم تحويرها وتشويهها لتصبح أقرب إلى الهلاوس منها إلى الحقيقة ؟! ففى مقال بعنوان ( البحث عن حيوان قومى جديد للبلاد –2- ) ، نشرته صحيفة الشروق بتاريخ 24-10-2010 ، يستدعى المخزنجى بعضا من ذكريات طفولته فى مدينة المنصورة ، فيرسم لوحة للمقابر وقد أوى إلى كنفاتها المحبون والعشاق ، يختلسون بعضا من العناق والهمسات ( ... ثمة حياة حراقة كانت تشب نيرانها فى أكناف المقابر المهجورة ، بل فى ظلال أضرحة لأولياء مجهولين ، وأحواش مدافن باذخة قديمة ، يتم فتحها مقابل رشوات زهيدة لحراس المقابر ، كان سكون الموت يجاور همسات وشهقات العشاق ، وكنا نتسلى بترويع هؤلاء العشاق ، حتى نخرجهم من ذرى نشواتهم مفزوعين ، عندما ننطلق بإنشاد جماعى مفاجئ يقبض على العاشقين فى عز العناق : " سيب النعجة يا خاروف / سيبها واطلع على السطوح " ، ثم نجرى ضاحكين خائفين بينما يطاردنا العاشق الذى جُن جنونه ، وتحول إلى شيطان أحمر أو بُنى محمر ، هكذا كنا نراه ! ) ، ثم يرسم لوحة أخرى لمشهد آخر من مشاهد الطفولة ، وهو لقاء الحمار بالفرس للتلاقح : ( ... وكان حضورى لزلزال مركزه " منزل الفرس" سببا لمغادرتى النهائية لجوقة العيال منشدى لحن الخروف والسطوح ، صباح شتوى بارد ، جمع غفير من رجال غرباء فى ملابس بلدية ، وأسطوات ورشتنا ، والصبيان وعيال الحتة ، أحاطوا الحفرة بزحمة صاخبة ، وفى الحفرة أنزلوا فرسا عالية جميلة فتية ، يمسك بخطمها شخص هبط معها إلى الحفرة ، وعلى الحافة المرتفعة خارج الحفرة ، أوقفوا حمارا كبيرا متوترا يردف الفرس المتلملمة ، وكان هناك شخص يحرك الحمار ليكون محوره مضبوطا على محور يمر بنقطة تنصيف كفل الفرس ، والفرس كانت تزحزح نفسها بخفر متجاوبة مع دفعات يدى مشرف الحفرة ، والذى كان يتجاوب مع توجيهات مهندس ضبط المحاور فى الأعالى ، ومع صيحات الخبراء بين المشاهدين : " يمين شوية . حبة شمال . لقدام لقدام . لأ أرجع تانى . كده تمام " تمام تمام تمام ، وشب الحمار المتوهج معتليا الصهوة اللهفى شاهرا سلاحه العظيم ، فصدرت عن جمهرة الحضور صيحة تعظيم " هاااااه " ، كان شيئا مهولا ، هول خروج كل هذه الأداة العظيمة من الغمد المتواضع المضياف ، وهوب هوب هوب كانت الصيحات تتسارع تسارع إيقاع الاشتباك النارى ، ثم حدث الانفجار العظيم مصحوبا بالتصفيق وتهليل الحضور ، وكان الطوفان يفيض ، وثمة بخار يتصاعد من جسم الحمار والفرس ويحيط بهما ، فكأنهما فى هالة من حكاية مسحورة ، علت الوجوه ملامح نشوة ومرح ، وكثرت الغمزات والكنايات التى لم أكن أفهمها لهذا نسيتها ، أما الذى لم أنسه أبدا فكان رد فعل الفرس بعد هذه الزلزلة ، وما كان من الحمار ... الفرس تدور رامحة ... والحمار بدا هامدا صامتا كأنه تجمد فى مكانه كأنه لا يدرى قيمة الزلزال الذى فجره فى حفرة ملعب المخزنجى ).
وكواحد من المصريين ، عاش وخبر الحياة المصرية بكل ما فيها ، لم أر أو أسمع أبدا عن عشاق يلجأون إلى المقابر لاختلاس العناق والهمسات ، وكواحد أيضا من المصريين اعتاد حياة القرية ، وشاهد مرارا وتكرارا مشاهد التقاء ذكور البقر والجاموس والحمير والخيول بإناثها ، لم أر الناس تتجمهر فى جمع غفير ، أو زحمة صاخبة ، لإصدار التوجيهات ، وضبط المحاور كما يسميه المخزنجى ، ولم أر أو أسمع الفلاحين يتبادلون الغمزات والكنايات لخروج ما يسميه " الأداة العظيمة " للحمار من غمدها ، ولم أر أو أسمع عن تصفيق الحضور وتهليلهم لما يسميه " الانفجار العظيم " .. إن ذكور الحيوانات تلتقى بإناثها للتلاقح فى دورات يعرفها أهل الريف ، ولها علامات تظهر على الإناث ، ولا يرتبط ممارسة تلك الوظائف البيولوجية بالتهليل والتصفيق ، أو الغمزات والكنايات ، ولا تحتاج معها لما يسميه المخزنجى " مهندس ضبط المحاور " ، وغير ذلك من الخيالات والأوهام .
لقد كان الأولى بالمخزنجى أن يتساءل ، وأن يُلح فى التساءل : أين كان البرادعى الضمير عندما تم غزو العراق ، وتدمير بنيته التحتية ، وقتل مئات الألوف من أبنائه ، وجرح وتعويق مئات الألوف الأخرى ، وتيتيم ملايين من أطفاله ، يدورون الآن فى الشوارع لجمع القمامة والتسول ، ويواجهون خطر الإجرام والانحراف ؟! هل كان ضميرا ميتا ثم استيقظ الآن ؟! هل كان ضميرا غائبا ثم عاد الآن ؟! ثم أليست الحكمة والحصافة تقتضى أن نحارب بكل ما أوتينا من قوة صناعة الفراعين والآلهة ، وأن نغرس فى أذهان الناس كيف نزن الشخصيات العامة بميزان دقيق ، يقدر جهدهم ، ويعترف بانجازاتهم ، وفى نفس الوقت لا يغفل عن تجاوزاتهم ، ولا يتغاضى عن إخفاقاتهم ، وينتقدهم بل ويُغلظ عليهم متى قصروا فى أمانة هذا الوطن ، وحق أبنائه ؟! أليس حَريّا بنا جميعا أن نقاوم النفاق والتملق والمبالغة ، وأن نحارب الكذب والإفك والتدليس ؟! إننى أكرر دائما أن مشكلة مصر الكبرى ، طوال تاريخها الطويل ، لم تكن أنظمتها الفاسدة ، ولا شعبها المستكين ، وإنما هى النخبة الضالة التى أفسدت الأنظمة بالنفاق والمبالغة ، وضللت الشعب بالكذب والتدليس .
ثانيا : كتب مجدى الجلاد رئيس تحرير صحيفة " المصرى اليوم " بتاريخ 9-3-2011 مقالا بعنوان ( الأقباط والحقوق الضائعة .. البرادعى والثورة ) ، وفيه يقول عن البرادعى : ( كنت أشعر مثل كثيرين بالفراغ والخوف على البلد حين يسافر ... كنت أريده بجوارنا لنستمد منه القوة على مواجهة النظام ... ولكن الإنصاف يفرض على أن أقول إنه المفجر الحقيقى لهذا التحرك ، وأراه أيضا صاحب الدور الأكبر فى المرحلة المقبلة ) ، وفى المقال أيضا يغازل الأقباط بتكرار بعض من تلك الأسطوانة المملة عن ما يتعرضون له من المظالم الوهمية : ( فأنا لا أفهم أن يُحرموا من بعض المناصب القيادية والمهمة والحساسة لأنهم أقباط ... وأنا لا أفهم أيضا إصرار النظام السابق على محاولة إقناعنا بأن بناء كنيسة خطر على الأمن القومى ... ولا أفهم أن تتعامل أجهزة الأمن مع الأقباط باعتبارهم كيانا داخل الدولة يحكمه البابا ... ولم أفهم فى أى مرة أن تقوم الدنيا ولا تقعد لأن فتاة مسيحية أسلمت أو فتاة مسلمة أحبت شابا مسيحيا ) .
والجلاد هنا يمارس نفس النفاق الفج ، والمبالغة الممجوجة فى حديثه عن البرادعى ، فكيف يُمكن للمرء أن يتخيل أن أمن مصر أصبح مرتبطا بوجود البرادعى ؟! وهل يتصور بالغ عاقل راشد أن وجود مصر واستقرارها صار متوقفا على شخصية أيا كانت ؟! إنه الهزل والعبث والاستخفاف بالعقول ، والخروج على المنطق السليم ، يُسَّوقُه الجلاد للمواطن المصرى فى كذب رخيص ، وتدليس ينحدر إلى أسفل سافلين .. ألا يعلم أن مصر هى أقدم الكيانات البشرية ، وأن جميع الامبراطوريات التى غزتها زالت ولا تزال مصر قائمة وموجودة ، بدون البرادعى أو غيره من الزعامات الوهمية ؟! إنه من فرط نفاقه يصف نفسه وكثيرين يظنهم مثله بالفراغ والخوف والضعف ، وكأنهم أطفال صغار ينكمشون فى رهبة ورعب لغياب أبيهم أو أمهم ، وحلول الظلام عليهم .. ثم أليست استهانة كبرى بملايين المصريين الذين تظاهروا ، وبالمئات الذين قتلوا برصاص الأمن ، والآلاف الذين يقبعون فى السجون أن نختزل جهدهم وتضحياتهم طوال تلك العقود ، وننسب الإنتفاضة المصرية ، ونرتهن مستقبل المجتمع بأكمله على شخص لم يعرف مصر إلا فى زيارات سياحية لأيام معدودات ؟!
إنها مرة أخرى النخبة الفاسدة حتى النخاع ، والتى احترفت النفاق ، وتمرست على صناعة الفراعين ، وتضليل الناس ، بل إن كل الذين التفوا حول البرادعى هم تلك النوعية الفارغة الخائفة الضعيفة ، والتى ظنت أن سابق رئاسته لوكالة الطاقة الذرية ، وحصوله على جائزة نوبل فى تدمير العراق ، سيكون عاصما لها من بطش النظام وقسوته ، وتناسوا جميعا أفواجا كثيرة من الشرفاء الذين قدموا حياتهم وأموالهم وجهدهم وطاقتهم لخدمة هذا البلد ، والدفاع عن حقوق أبنائه ، ولم ينتظروا البرادعى أو غيره ، لأن قضية الحق لا تنتظر أحدا ، ولا تتوارى خلف أحد ، ولا يصنعها أصحاب الشعارات والثرثرات ، وإنما البسطاء الذين يبذلون الدماء والتضحيات .
ومشكلة النفاق الآن أنه لم يعد مقصورا على شخصيات قليلة يعرفها الناس ، ولكنه صار مرضا اجتماعيا متفشيا فى كل طبقات المجتمع المصرى ، وصار أيضا مرضا عالميا متفشيا فى الدول الكبرى ، وفى الأسابيع القليلة الماضية انطلق الكثيرون من النخبة السياسية والثقافية والإعلامية والفنية ينشدون القصائد فى مدح الثورة الشعبية ، ويعددون مناقب الشباب الذين قاموا بها ، ويلعنون الحقبة المباركية بكل رموزها وأفرادها ، والعجيب أنه لم يُعرف عن معظم هؤلاء أنهم أصحاب وطنية أو غيرة على مصلحة مصر ، ولم يُعرف عنهم غير مديح النظام السابق وتملقه .. كتب د. جلال أمين مقالا فى "صحيفة الشروق " بتاريخ 4-3-2011 ، تحت عنوان ( المنافقون الصغار والكبار ) ، وفيه يستعرض صورا من النفاق أظهرتها التغييرات المصرية الأخيرة : ( للثورات مزايا كثيرة من بينها فضح المنافقين ... وزراء ومسئولين وكتاب وفنانين كبار ، لم يكونوا فى أدنى حاجة إلى المزيد من المال ، وما كان أغناهم عن مناصب لا تجلب لهم إلا سلطة زائفة ، أو ثروة كان لديهم منها من قبل ما يكفيهم هم وأولادهم وأحفادهم لمئات السنين ، بعض هؤلاء أذهلتهم الصدمة فلزموا الصمت ولم يجدوا ما يقولونه ، ولكن من هؤلاء أيضا من لديهم القدرة على التحول بسرعة فائقة من صورة لأخرى ، فإذا بهم يحاولون الظهور فجأة بمظهر المؤيدين للثورة ومناصريها ... إنهم فعلوا نفس الشئ عدة مرات من قبل مع حكام سابقين ، بعضهم عاصر منظمة الشباب التى أنشأها حاكم اشتراكى فتغنوا بالاشتراكية ، ثم دافعوا بقوة عن سياسة الانفتاح التى دشنها حاكم رأسمالى ، واشتهروا مرة بالمعاداة الشديدة لإسرائيل عندما كان الحاكم يعاديها بشدة ، وبالدعوة للتعقل وعدم التشنج عندما جاء حاكم يقبل التصالح والمهادنة ، فتغنوا به بطلا للحرب والسلام ، ثم عندما ذهب الحاكم الاشتراكى والحاكم الرأسمالى ، وجاء حاكم لا يدين لا بالاشتراكية ولا بالرأسمالية ولا بأى شئ آخر على الإطلاق إلا سياسة النهب والخطف ، سايروه فى الخطف والنهب ، وتغنوا بهدوئه وتعقله وكراهيته لأسلوب الصدمات الكهربائية ، وأطلقوا عليه صفات جديدة مثل صاحب الضربة الجوية الأولى ... نوع آخر لا يصنف عادة بين المنافقين رغم أنه يضم أشخاصا أشد نفاقا وأكثر ضررا بكثير ، وأقصد بهم هؤلاء الحكام الكبار لدول كبيرة ، الذين لا يكفون عن الكذب تحقيقا لمصالح دولهم ، واستمروا يكيلون الثناء على حكامنا الظالمين ، والذين ساموا شعوبهم العذاب لعشرات من السنين ، وقدموا لهم الدعم بالمال والسلاح الذى يستخدمونه ضد شعوبهم ، وعاملوهم بمنتهى المودة والاحترام ، فإذا تغيرت مصالح تلك الدول ، واحتاجوا إلى حكام آخرين ، انقلبوا على أصدقائهم القدامى ، واتهموهم بأبشع التهم ، وبدوا وكأنهم تذكروا فجأة مزايا الديموقراطية وأضرار الاستبداد ... لقد أيدت الولايات المتحدة نظام حسنى مبارك طوال الثلاثين عاما التى قضاها فى الحكم ، فدعمته بالمساعدات العسكرية والاقتصادية ... ومدت نظامه البوليسى بالمعدات اللازمة لمواجهة شعبه ، ودربت ضباطه على استخدامها ، وسمحت بل وشجعت المؤسسات المالية الدولية على تقديم المساعدات المالية له دون أى اعتراض يتعلق بالديموقراطية أو حقوق الإنسان ، مع أنها تعللت بهذه الحجة لمنع تقديم المساعدات بل ولفرض الحصار الاقتصادى على دول أخرى لا تحبها ، واستقبلت الرجل وابنه وحاشيته المرة بعد الأخرى فى واشنطن بالترحاب ، ثم انقلبت الولايات المتحدة على حسنى مبارك فجأة ، وانقلب الثناء ذما ، وتحول الدعم إلى تهديد بقطع المعونة أو تخفيضها ... حيث تحولت الديكتاتورية فجأة من نعمة إلى نقمة ، فأى نفاق أشد من هذا ... من المهم أن نكشف كل صور النفاق التى مارسها منافقونا الصغار على مر الثلاثين عاما التى قضاها الرئيس المخلوع فى حكم مصر ، ومن المهم أيضا ألا نقدم فروض الشكر والامتنان لمنافقين كبار لمجرد أنهم تصادف أن أيدونا فى خلعه ، فالأمر هو ... تلاق مؤقت بين مصالحهم وآمالنا دون حدوث أى تغيير حقيقى فى القلوب والنوايا ، مما يؤكد من جديد أننا لن نستطيع أن نحقق الحرية الحقيقية إلا بالتخلص من خضوعنا للمنافقين الصغار والكبار على السواء ) .
إننا مرة أخرى نواجه مشكلة النفاق والتدليس التى عانينا من آثارها الهدامة على المجتمع المصرى لآلاف السنين ، ولن يحمينا منها دستور أو مؤسسات أو قوانين ، وإنما يحمينا منها أن نكشف المنافقين ، وأن نفضح أساليبهم ، وأن نُعَرى حِيَلهم ، كفانا صناعة للفراعين والآلهة ، وكفانا ما قاسينا من الزعيم الخالد ، والقائد الملهم ، والرئيس المؤمن ، وبطل الحرب والسلام ، وبطل الضربة الجوية .. سبحانك يارب العالمين ، ما أحكمك وأعدلك إذ جعلت النفاق أحط الخصال ، وتوعدت عليه بالدرك الأسفل من النار ( إن المنافقين فى الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا ) النساء 145 ، ( المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون ) التوبة 67
ثانيا : تهريج
الهَرَجُ كما يعرفه " لسان العرب " هو الفتنة واختلاط الأمور ، وكثرة الحديث والخلط فى المواضيع ، وللكلمة معانى أخرى عديدة ، وتُستخدم فى اللغة الدارجة المصرية لتعنى الهزل والعبث ، ويمتد المعنى ليشمل الأقوال والأفعال التى تفتقر للعقل والحكمة والمنطق ، وهو ما يجافى الدراسة المتأنية ، والتخطيط السليم ،والنظرة المستقبلية القويمة ، وكلها نماذج تطفح بها حياتنا ، حتى ليتخيل المرء أن القائمين على كل أمورنا فى كل المجالات يعانون نقصا حادا فى الجدية والعقلانية ، ومن نماذج التهريج الصارخة التى تضرب حياتنا الآن ، وتهدد فرصنا فى إرساء قواعد مجتمع حقيقى بمؤسساته ونظمه وأجهزته ، ما يلى :
1- فوضى استعمال المصطلحات والتعبيرات : المطالع لأية صحيفة مصرية ، أو المستمع لأى برنامج تلفزيونى ، أو المشارك فى أى حوار أو مناقشة عامة أو خاصة ، يجد أن لفظ الثورة يُستخدم مرارا وتكرارا بدون معنى محدد وواضح ، والعجيب أننا إذا أحصينا الأحداث التى أطلقنا عليها تسمية الثورة سنجد ثورة 1919 ، وثورة 1952 ، وثورة التصحيح ، والثورة الأخيرة ، أى أننا فى أقل من قرن من الزمان خضنا أربع تجارب ثورية ، بينما إذا نظرنا إلى المجتمع الفرنسى مثلا نجد ثورة واحدة بدأت فى 1789 ، واستمرت فى إحداث تغييرات هائلة فى تركيبة المجتمع الطبقية والفكرية ، لينتهى الأمر بإرساء مجتمع ومؤسسات جديدة ثابتة حتى الآن ، وممتدة آثارها لتشمل القارة الأوربية بأكملها ، وتشمل أيضا العالم المعاصر إلى حد ما ، والمقارن بين الحالتين لا بد وأن يدرك أن خللا ما فى التسمية أو الممارسات أو كلتيهما قد حدث فى الحالة المصرية ، بينما نجحت الحالة الفرنسية فى أداء دورها المستمر والمتجدد ، وتقتضى الحقيقة هنا أن نعيد النظر فى التوصيفات والأهداف المرتبطة بتلك التجارب المصرية ، فما حدث فى 1919 هو إنتفاضة شعبية ذات غرض محدد ، بينما حركة 1952 هى انقلاب عسكرى لقى تأييد الناس ، ولكنه فشل فى إرساء مؤسسات فاعلة ، وتبددت فاعليته من خلال الممارسات القهرية والاستبداد والفرض القسرى لأفكار ورؤى تتعارض مع هوية المجتمع وثقافته ، أما ما يُسمى بثورة التصحيح فهى صراع بين بقايا عسكر 1952 انتهى بتفرد واحد منهم بالسلطة بعد أن تخلص من الباقين ، أى أننا لم نشهد فى الحقيقة فى تلك الحالات الثلاثة ما يمكن أن نسميه ثورة ذات أهداف وآليات وغايات ، أو ذات نجاحات وإنجازات مستمرة فى عطائها وتجددها ، ويمكن القول هنا أيضا أن ما حدث فى مصر خلال الفترة الماضية هو إنتفاضة شعبية ، انطلقت ردا على الظلم والاستبداد والبطالة والمعاناة ، دون هدف محدد سوى التعبير عن السخط وعدم الرضا بالأحوال المتردية ، وبدون قيادات تعرف آلياتها وغاياتها ومراميها ، وهذا ليس تقليلا أو تجنيا على حركة الناس وجهدهم وتضحياتهم ، بل إننى أرى أن ذلك كان السبب الرئيسى فى نجاح الإنتفاضة المصرية ، كما كان أيضا السبب الرئيسى فى نجاح الإنتفاضة التونسية ، ولو تدخلت فى الأمر النخبة الفاسدة أو المعارضة الهزيلة لتفرقنا وتنازعنا وفشلنا فشلا ذريعا .. إنها إرادة الله الحكيم العليم أن تسير الأمور على هذا المنوال فى تونس ومصر ، وأن يقابل النظامان مطالب الشعبين بالاستهانة والعجرفة ، ليتطور الأمر من صرخة احتجاج إلى خلاص من رمزين قبيحين للقهر والفساد والعمالة والخيانة والجور على الدين والهوية .
من الجدير بالذكر هنا أن كلمة ثورة revolution استخدمت فى الأساس بواسطة كوبرينيكوسCopernicus لتعنى دوران الأجسام السماوية ، وفى القرن السابع عشر تطور الاستعمال ليعنى التغيرات السياسية والاجتماعية ، وليعنى أيضا التغيرات الأساسية والشاملة فى نظم الإنتاج ( الثورة الصناعية والثورة التقنية ) ، ويعرف قاموس هاربر للأفكار المعاصرة The Harper Dictionary of Modern Thoughts , Harper & Row, Publishers , N.Y., 1977 الثورة بالتغيرات الجذرية لتركيبة المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، بما يتجاوز تغيير الحاكم ، أو ما يسميه " ثورات القصر " إلى تغيير الطبقات الحاكمة ، وأساليب الحكم ، والمؤسسات الاجتماعية ، وما يرافق ذلك من عاطفة ثورية تقود إلى تلك التغييرات وما يتبعها من عواقب radical changes in the political , social and economic structure of society ...These are concerned not with mere changes of rulers ( palace revolutions ), but with changes of ruling classes , of the methods of rule , and of social institutions , with the revolutionary passion and actions which lead to these changes , and with their consequences
2- شباب الثورة وثورة الشباب : لم يقتصر الجهل والتضليل الذى تمارسه غالبية النخبة الإعلامية والثقافية والسياسية على الترديد الببغائى لكلمة الثورة ، وإنما امتد ليقصرها على طبقة الشباب ، ويقصرها على مظاهرات ميدان التحرير ، ويقصرها على ما حدث خلال الأسابيع القليلة الماضية ، وكل ذلك إجحاف لا يليق بمحلل أمين ، أو متأمل واع وصادق وفاهم لترابط الأحداث وتسلسلها ، فما حدث فى مصر ، وما حدث قبلها فى تونس ، وما هو حادث فى بلدان عربية أخرى ، هو جهد جماعى لكل فئات المجتمع ، وهو ثمار تضحيات المجاهدين والشرفاء طوال العقود الماضية ، وهو أيضا نتاج حراك شمل معظم المناطق والمدن ، وهو حصاد عوامل كثيرة ومتشابكة ، وحوادث متنوعة ومتفرقة .
كتب د. يوسف زيدان فى صحيفة " المصرى اليوم " بتاريخ 2-3-2010 مقالا بعنوان ( الآفاق المصيرية للثورة المصرية 2/7 ) ، وفيه يؤكد على معانى الشمولية والتنوع والجهد الجماعى فى التغيرات المصرية الأخيرة : ( الثورات كالسيول الجارفة تبدأ بالرذاذ الذى يتساقط متفرقا من السماء الملبدة بالغيوم ، ثم لا يلبث أن يتكاثف فى قطرات منذرة بانهمار السيل العارم ... هذه المقدمات الثورية - الرذاذ – كانت تتوالى تباعا من فوق السطح المصرى ومن تحته ، فكان منها حوادث مشهورة ومشار إليها ، وأخرى خافتة تختبئ تحت الركام السياسى ... ومن هذه المقدمات المشهورة المشار إليها سرا وعلانية أمور مثل : إتمام الرئيس مبارك لأعوامه الثلاثين ، والسعى الحديث لتوريث الرئاسة لابنه ... الرئيس وأسرته والحاشية الفاسدة المحيطة به وسكناهم القصور ... والنهب المنظم لثروات البلاد فى وقت صار فيه ملايين من المصريين يعيشون فى المناطق العشوائية ... مآسى وتعاسة الانتخابات الأخيرة لمجلس الشعب ، والحرص الحكومى على إذكاء نار الفتنة بين المسلمين والمسيحيين ، النظر بازدراء إلى المعارضين لنظام الحكم ، ازدياد النهب المنظم للأراضى ، افتضاح الثمن البخس فى عقد " مدينتى " ، وفى اتفاق " تصدير الغاز لإسرائيل " ، وغير ذلك كثير ... قمع الشرطة لأولئك المتظاهرين ضد حملة التوريث فى الإسماعيلية ، وقتل اثنين منهم ، محاكمة المهندس الذى كتب على الجدران لا للتوريث بتهمة ازدراء الرئيس ، تأخر سن الزواج بسبب الصعوبات الاقتصادية ، البطالة الصريحة والمقنعة ... قتل الشاب خالد سعيد ... تزايد معدلات القراءة ... الثورة المصرية إذن لم تكن حدثا مفاجئا إلا بالنسبة لأولئك الذين تعاموا عن التعامل مع مقدماتها ، وتجاهلوا القطرة التى يبدأ بعدها السيل ...ولذلك فمع أن ميدان التحرير صار رمزا للثورة المصرية إلا أن هطول السيول الثورية جرى تحت سماء مصر كلها ، وكان اندفاع مياهه الهادرة فى السويس من قبل القاهرة ، وفى الإسكندرية من قبل بور سعيد ، وفى الدلتا من قبل الوادى ، وخلال أيام قلائل غزت سيول الثورة أرض مصر كلها ، والمولعون بإطلاق التسميات جعلوا من الشباب عنوانا لهذه الثورة من دون اعتبار إلى أن مبادرة الشباب المصرى جاءت بحكم طبيعة هذه الشريحة العمرية الدافعة ... لأن الشباب شعلة وما لبثت أن لحقت بها الجموع المصرية على اختلاف شرائحها العمرية ... غير أن السيول تكون نافعة حين تشق لنفسها مجرى للمياه ، فلا تتبدد مياهها ، وهى تكون ضارة بالقدر الذى لا تجد فيه هذا المجرى الجامع للمياه ، فتكثر أضرارها حين تكتسح السهول والوديان ، والحال كذلك فى الثورات ) .
3- تغيير الأسماء : تعالت أصوات فى الفترة الأخيرة تنادى بتغيير اسم ميدان التحرير إلى ميدان الشهداء ، وإطلاق أسماء ضحايا الإنتفاضة المصرية على شوارع وميادين ومبانى وأشياء أخرى ، ولو تأمل أصحاب تلك الدعوات فى الهزل والعبث فى دعواتهم لعلموا أن كثيرا من شوارع القاهرة تحمل اسما حاليا واسما سابقا ، ولو مضينا على هذا المنوال لاحتجنا بعد عقود إلى لوحات كبيرة لكتابة أسماء الشوارع الحالية والسابقة ، وهو تهريج لا يحدث عند غيرنا من الشعوب ، علاوة على التكلفة المالية فى رفع لوحات الشوارع الحالية ، وصناعة لوحات جديدة ، بالأسماء الجديدة ، ثم ثبيتها فى أماكنها المختلفة ، ولا يقتصر الأمر على ذلك ، وإنما يتعداه إلى تغيير خرائط المدن لتعكس الأسماء الجديدة ، وتغيير العناوين البريدية ، وعناوين البيوت والمحلات وغيرها فى المرافق المختلفة ( كهرباء ومياه وتليفون وغاز وانترنت وضرائب وقمامة وغيرها ) ، وكل ذلك تبديد للوقت والجهد والطاقة والمال ، فى حين يمكننا إحياء ذكرى ضحايانا بإنشاء نصب تذكارى تُنقش عليه أسماء الضحايا ، ويُحاط بنافورة أو حديقة صغيرة ، بما لا يُحدث تنافرا فى شكل الميدان ، وتشويها لتخطيطه ، وهو على كل الأحوال ليس حاجة ملحة لا بد منها الآن ، بل يمكن تنفيذ ذلك فى المستقبل القريب أو البعيد ، وقد وقعت حركة 23 يوليو فى نفس الخطأ الجسيم ، فغيرت أسماء كثير من الشوارع ، وغيرت أسماء الجامعات وغيرها ، رغم أن معظم تلك الأسماء ارتبطت بظروف تاريخية واقتصادية واجتماعية ، كان من الواجب الحفاظ عليها وعدم العبث بها .
ومن المثير للدهشة أن الصحافى البريطانى الشهير Robert Fisk قد تنبه لتلك الهزليات ، فى حين تغافلنا عنها ونحن أصحابها ، فكتب بتاريخ 5-3-2011 مقالا فى صحيفة The Independent بعنوان The Tunisian whose jihad was for the people , not God يتحدث فيه عن رفع صورة الرئيس من أحد الفنادق ( وللمرء أن يتخيل الكم الهائل من صور الرئيس فى جميع المصالح الحكومية ) ، وتغيير أسماء الشوارع والمنشئات الأخرى التى تحمل اسم مبارك إلى 25 يناير ، ثم يتحدث ساخرا عن إمكانية حدوث ذلك أيضا فى البحرين واليمن وليبيا لو كتب لإنتفاضاتها النجاح Staff at the Marriott Hotel in Zamalek slunk off with Mubarak’s portrait before midnight on the day of his overthrow... And there are plenty of Mubarak streets , Mubarak stadiums and Mubarak hospitals to be renamed...the " demubarakisation" of Egypt ; I suppose all the Mubarak streets must now become " The Street of 25th January "...and I fear that if the 80 per cent Shias of Bahrain one day govern their country , there will have to be quite a lot of dekhalifaisation . And in Aden , desalehisation . And in Libya , deghadeffaisation has already begun
أليس أمرا عجبا أننا لا نتعلم من أخطائنا ؟! أليس أمرا مثيرا للتساؤل أن الأجانب يرون عيوبنا بينما نتعامى نحن عنها ؟! .. اقترحت إحدى قارئات صحيفة الشروق الآتى : ( أقترح إنشاء ميدان تحرير صغير فى كل محافظة ، وميدان تحرير أصغر فى كل قرية ، حتى يبدأ المواطنون يومهم بالمرور على هذا الميدان ليكون عملهم ثوريا ، ومن لا يفعل ذلك يكون عمله ثوريا أيضا ولكن فى الثورة المضادة ) !!! ، وكأننا البلد الوحيد الذى صنع ثورة ، أو غير حاكما .
4- اختيار المسؤولين : من الأشياء التى يعرفها المصريون جميعا أن المعايير التى تحكم اختيار الوزراء وكبار المسؤولين هى معايير مختلة ، وبدل أن نستخدم العلم والخبرة والأمانة كمقاييس لا تكذب ولا تنافق ، نستخدم الواسطة والمجاملة والمعرفة وغيرها من طرائق الغش والتحايل ، ولذلك فشل وزراؤنا ، وأخفق غالبية مسؤولينا صغارا وكبارا فى أن ينجزوا شيئا لهذا المجتمع ، ومن العجيب أننا فى تلك المرحلة الجديدة التى ندّعى فيها رغبة الإصلاح والتغيير نمارس نفس الأساليب الخاطئة فى اختيار وزرائنا ومسؤولينا ، ومن أمثلة ذلك خلال الأسابيع القليلة الماضية ، اختيار ثلاثة وزراء للثقافة كلهم معروفون بعدائهم لهوية الأمة وثقافتها الإسلامية ، وكأننا نختار وزيرا ليخدم الغرب وهجمته التغريبية علينا ، وكأننا نريد المزيد من نوعية الوزير الفنان !! فاروق حسنى .. كتب عبد البارى عطوان فى صحيفة " القدس العربى " بتاريخ 25-2-2011 مقالا بعنوان ( فلول نظام مبارك ) : ( ولعل الإهانة الكبرى تتمثل فى تعيين السيد/ محمد الصاوى وزيرا للثقافة ... الصاوى استفزنى بطريقة أفقدتنى صوابى لما كشف عنه من أفكار وآراء لا يمكن أن تصدر عن عربى ومسلم ... فقد دُعيت قبل أشهر للمشاركة فى مؤتمر دعت إليه الحكومة الألمانية حول الإسلام والغرب ... المفاجأة عندما قدم السيد/ الصاوى مداخلة فى المؤتمر قال فيها بالحرف الواحد إنه يؤيد قرار كانتون جنيف بمنع بناء المآذن لأنه كمهندس معمارى يرى أن منظرها منفر ، وتمنى أن لا تصبح جنيف مليئة بالمآذن المنفرة مثل القاهرة ) ، والسؤال المشروع هنا : أية ثقافة تلك التى يقوم على أمرها لأكثر من عقدين من الزمان الوزير الفنان !! ثم من بعده جابر عصفور ، ثم محمد الصاوى ، ثم اليسارى عماد أبو غازى حاليا ؟! وإذا كانت المآذن قذى فى عين الصاوى ، ونفورا فى نفسه الرقيقة ، فلا بد أن المساجد أيضا لها نفس الوقع على عينه ونفسه ؟! ألا يعلم الصاوى وهو المهندس المعمارى المسلم أن المآذن طوال عصور الإسلام كانت دائما من عوامل الافتتان والانبهار الغربى بالحضارة والعمارة الإسلامية ، وأن الغربيين درسوا فنونها وأشكالها ، وكتبوا عنها الكتب ، وأعدوا لها الكتالوجات المصورة ، ومازالوا يزورون بلاد المسلمين لرؤيتها والتمتع بأشكالها وطرزها ؟!
والمجتمع الذى لا يقيم قادته وزنا لهويته وثقافته وتاريخه وتراثه ، لا بد وأن لا يقيموا وزنا لحياة وصحة وسلامة أبنائه ، ولذلك يختارون فى الوزارة الجديدة وزيرا للزراعة ( أبو حديد ) كان اليد اليمنى لوزيرها السابق يوسف والى ، وكان أيضا رئيس الإدارة المركزية لمعامل الوزارة ، وهو ما يجعله المسؤول المباشر عن المبيدات المسرطنة التى دمرت صحة الملايين من المصريين ، ومن لا يقيمون وزنا لهويته مجتمعهم وثقافته ، وصحة وسلامة أبنائه ، من باب أولى لن يقيموا وزنا لثروات المجتمع ، ولهذا يختارون وزيرا للبترول ( المهندس محمود لطيف ) كان عضوا فى مجلس إدارة شركة شرق المتوسط للغاز EMG ، والتى أسسها رجل الأعمال حسين سالم لتزويد إسرائيل بالغاز المصرى بسعر أقل من سعر استخراجه ، وما ينطبق على اختيار بعض الوزراء فى تلك الأمثلة ينطبق أيضا على اختيار نائب رئيس مجلس الوزراء " يحيى الجمل " المعروف بعدائه للمادة الثانية من الدستور التى تؤكد على هوية مصر الإسلامية ، وله العديد من الشطحات التى يصعب تقبلها ممن هو فى مثل سنه ومكانته ، وممن يصفه مريدوه بالفقيه الدستورى ، ومنها على سبيل المثال التعبير عن أسفه لتحريم الإسلام للتبنى ، واعتقاده أن الحجاب ليس فرضا على المرأة المسلمة ، علاوة على موقفه المتملق للبابا شنودة ، والمؤيد لمزايدات الأقباط وابتزازهم للنظام .. كتب فى صحيفة " المصرى اليوم " بتاريخ 10-1-2011 مقالا بعنوان ( الغضب المشروع ) ، وفيه يقول : ( هبات الغضب والانفعال التى تعترى بعض الأخوة المسيحيين أمر مشروع ومفهوم ... ولا بد من قبوله والتعامل معه بفهم وتسامح ، ومهما وصل مدى ذلك الانفعال ) ، وهو ما يعنى ضمنا أن يقبل المجتمع ويتسامح مع قطعهم للطرق ، وتعطيلهم للمرور ، وعدوانهم على الشرطة والممتلكات ، واستخدامهم لقنابل المولوتوف وغيرها ، كلما حدثت حاثة هنا أو هناك ، وهو ما أصبح أمرا مألوفا خلال الفترة الأخيرة ، وفى نفس المقال يكرر عبارات التملق الممجوجة التى اعتاد ترديدها فى كلامه ومقالاته عند ذكر البابا شنودة : ( لأول مرة منذ سنين طوال يمنعنى المرض من أن أحضر قداس عيد الميلاد المجيد فى البطريركية ، وأسلم على قداسة البابا وأهنئه ، وعندما هاتفت سكرتارية قداسته تكرم بالرد على ، لم أمتلك نفسى إلا وأنا أجهش بالبكاء ، وكم كان قداسته كبيرا وهو يخفف عنى الألم الممض الذى نطقت به عبراتى ونشيجى ) .
5- رموز النظام السابق : ارتفعت أصوات كثيرة من أفراد المجتمع ومن نخبته الإعلامية تطالب بالقضاء على رموز النظام السابق ، فأهالى ضحايا الإنتفاضة المصرية يطالبون بإعدام وزير الداخلية السابق " حبيب العادلى " ، وبعض الأصوات الصحفية تطالب بإعدام رموز النظام السابق فى الميادين العامة ، والبرادعى مثلا يصرح : ( يجب أن تكون كافة قيادات النظام الفاسد ، والعصابة الإجرامية التى تحكمنا فى السجون اليوم ، وهذا أول إجراء سأتخذه لو أصبحت رئيسا ، وأن يغادر كل رؤساء تحرير الصحف القومية والإعلام مواقعهم لأنهم كانوا مأجورين من عصابة مبارك ) ، رغم أنه ردد مرارا لتلفزيون CNN أنه لا يدعو إلى محاكمة مبارك ورموز نظامه ، وتلك الدعوات وغيرها تفتقر إلى المنطق والعقل ، وإلى العدل أيضا ، لأننا لو فعلنا ذلك لما اختلفنا عن النظام السابق فى ظلمه وعشوائيته وعدم احترامه للقانون ، واستهانته بدماء الناس وأعراضهم وأموالهم .. إن العدل واحترام القانون يقتضى محاكمة كل مسؤول سابق تورط فى العدوان على أرواح المصريين أو ثروات المجتمع ، محاكمة عادلة أمام محاكم مدنية ، بعد استيفاء كل الدلائل والقرائن الصحيحة ضدهم ، مع تمكينهم من حق الدفاع عن أنفسهم ، أو توكيل من يدافع عنهم ، وبدون التعرض لهم بالإهانة أو الاستهزاء ، أو تعريضهم للتعذيب أو سوء المعاملة ، أو التعرض لأهليهم وأسرهم ما لم يكونوا متهمين فى ما يعاقب عليه القانون ، مع مراعاة حق هؤلاء الأهل والأسر فى ممارسة حياتهم الطبيعية ، وحقهم فى الوظائف والتعليم والتنقل وغير ذلك .. هذا هو العدل الذى ترتضيه الشرائع والقوانين ، والذى لا يجوز التغاضى عنه لأى سبب من الأسباب ، وإلا نكون قد وقعنا فى نفس الأخطاء الفاحشة التى وقعت فيها حركة 23 يوليو ، ووقع فيها النظام السابق ، ونكون أيضا فعلنا نفس الجرم الذى نطالب بمحاكمتهم عليه ، وينبغى أن يستقر فى الأذهان أيضا أن إعداد الأدلة القانونية يأخذ وقتا طويلا ، وجهدا شاقا ، وليس من المعقول أن نقدم هؤلاء للمحاكمة بأدلة لا تتعدى قصاصات الصحف التى تتحدث عن الفساد ، أو أقوال يعوزها التوثيق والدليل ، ولذا فالواجب علينا جميعا أن نطالب بإقامة العدل ، ثم ننصرف جانبا ، ونترك للأجهزة المتخصصة ممارسة عملها بدون أن نضغط عليها ، أو ندفعها للإسراع بما لا يخدم قضية الحق والإنصاف .
6- الأحزاب والصحف : تتوارد الأخبار كل يوم عن أحزاب جديدة فى سبيلها للتكوين ، وعن طوائف وجماعات تنوى إنشاء أحزاب لها ، وعن نية الكثيرين إطلاق صحف ومجلات جديدة ، وعن توجه النظام إلى اعتبار الإخطار كافيا لقيام الحزب أو إطلاق الصحيفة ، والمثير للانتباه هنا هو سوء الفهم ، وخطأ الإدراك لمعنى الحزب ، فالحزب ليس ناديا خاصا ، وليس حجرة أو مبنى ، وليس يافطة ، وليس مُؤسِسا أو مجموعة من المؤسسين يثرثرون ويتجادلون فى مواضيع لا قيمة لها .. الحزب هو مشروع قومى ، يلزمه جهد خارق ، وقاعدة عريضة ، ولكى يتحقق ذلك لا بد أن يعبر عن اهتمامات قطاعات كبيرة من أبناء الشعب ، ينجذبون له ولبرنامجه ولقياداته ، ويجدون فى لوائحه الداخلية وممارساته الفرصة للتعبير عن الآراء ، والفرصة للمران والصقل اللازم لإعداد كوادر قادرة على ممارسة العمل التشريعى ، وتقلد الوظائف السياسية ، والناظر إلى الأحزاب الحالية والتى تتجاوز العشرين ، يجد أنها لم تحقق أيا من تلك المواصفات ، ولا يعرفُ عن غالبيتها أحدٌ شيئا ، وذلك لفشلها فى التلاحم بالناس ، وعدم مقدرتها على أن تقدم لهم شيئا يُحسون معه بالانتماء إليها أو انتمائها إليهم ، أو تعبيرها عن طموحاتهم وآمالهم .. إنها بالقطع منتديات خاصة للوجاهة الاجتماعية ، والمقارن بين الحالة المصرية والدول ذات الديموقراطيات المستقرة والمتطورة ، والوعى السياسى المرتفع ، وتدنى الأمية أو انعدامها ، يجد أن عدد أحزابها لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة ، ولكنها تحظى بالانتشار والتلاحم الشعبى ، وهناك بُعْدٌ آخر يميز الحالة المصرية وهو التشابه أو التطابق بين معظم تلك الأحزاب ، فكلها يدعو للديموقراطية والعدالة الاجتماعية ، وماعدا ذلك لا يجد المتأمل خصوصية مميزة ، أو تمثيلا لفكر سياسى واقتصادى واجتماعى معين ، وهذا يقود إلى التساؤل : إذا كان التشابه كبيرا ، والخلاف ضئيلا ، فلماذا لا يندمج هؤلاء المتشابهون ، لتعظم فرصتهم فى بناء قواعدهم الشعبية ، وفرصتهم فى التمثيل بالمجالس المنتخبة ، وبالتالى فرصتهم فى التأثير الإيجابى على السياسة العامة للمجتمع ؟! والإجابة الصادمة : رغبة الزعامة ، ورغبة التفرد بالقيادة ، ورغبة الاستئثار بالوجاهة والمكانة الاجتماعية ، وضعف ملكة التعاون والعمل الجماعى ، وتقديم المصلحة الخاصة على المصلحة العامة ، وكلها آفات خطيرة تُضعف العمل الحزبى فى مصر ، وستضعفه أكثر مع ترشح زيادة عدد الأحزاب إلى الضعف وربما أكثر خلال الفترة المقبلة .. وما ينطبق على الأحزاب ينطبق على الصحف ، فليس المهم إصدار صحيفة جديدة ، ولكن المهم المساهمة الخلاقة فى الحراك الفكرى والثقافى ، والإضافة الجادة والمتميزة للتيارات الفاعلة والمؤثرة فى المجتمع ، وإفادة الناس وتوعيتهم ، والارتقاء بمداركهم ، والدفاع عن حقوقهم .
7- المهزلة القبطية : من الممارسات الخاطئة التى اعتادها النظام السابق مع الكنيسة القبطية ، وأيضا الكنيسة القبطية مع النظام ، اللجوء إلى المناورات والألاعيب والتحايل على القوانين ، وتجنب الصراحة والوضوح والأمانة والمصداقية فى التعامل مع كل الملفات القبطية ، حتى وكأن الأمر لعبة شد الحبل بينهما ، يرخى النظام فتشد الكنيسة ، ويشد النظام فترخى الكنيسة ، وهما فى النهاية صديقان حميمان ، فلا الكنيسة تسمح لأتباعها بالخروج على النظام ، ولا النظام يرضى بإغضاب الكنيسة ، ومع كل خلاف لسبب أو لآخر يذهب شنودة مغاضبا ، فيعتكف أو هكذا يقول ، ويوعز لأقباط المهجر بالتظاهر واللجوء إلى المنظمات الدولية والاتحاد الأوربى والكونجرس الأمريكى ، ويخرج أقباط الداخل يقطعون الطريق ، ويعطلون حركة المواصلات ، ويهاجمون الشرطة ، فيضطر النظام للإذعان لابتزاز الكنيسة ومساوماتها ، وهكذا من مهزلة إلى آخرى ، وخلال تلك اللعبة العبثية ، تفقد الدولة هيبتها ، وتضيع سطوة القانون وسلطانه ، ويكسب الأقباط مكاسب آنية فى إقامة كنيسة بدون ترخيص ، أو نحو ذلك ، ولكنهم يخسرون خسارة كبرى فى وضعهم ومكانتهم كجزء من النسيج المصرى الذى لم يفرق أبدا بينهم وبين مسلمى مصر فى أية مرحلة من مراحل التاريخ بعد الفتح الإسلامى ، أى أن النظام والكنيسة والأقباط يخسرون جميعا ، والسؤال هنا : ما الذى يمنع النظام من فرض هيبة الدولة على رعاياها جميعا ؟! وما معنى تلك المقولات الخرقاء بأن الأقباط خط أحمر ، وأن شنودة خط أحمر ؟! ولماذا لا يعود الأقباط مصريين لهم ما لنا ، وعليهم ما علينا ؟! وهل حققت ممارسات التدليس والنفاق ، مثل اللقاءات والأحضان بين البابا وشيخ الأزهر ، وانطلاق شلة الأفاكين فى الإعلام يذرفون دموع الكذب على التمييز ضد الأقباط فى المناصب وبناء دور العبادة وغير ذلك .. هل حققت نفعا أو فائدة للأقباط أو الدولة ؟! وإذا كان هناك إجماع على خطأ وعبثية طريقة النظام السابق فى التعامل مع القضايا القبطية ، فلماذا يصر النظام الحالى على السير على نفس المنوال ؟! .. انفضت المظاهرات والاعتصامات القبطية الأخيرة أمام مبنى التلفزيون بعد مسلسل جديد من مسلسل الابتزاز والمزايدة ، حيث تعهد يحيى الجمل نائب رئيس مجلس الوزراء بإطلاق سراح الأقباط المقبوض عليهم بتهمة خرق حظر التجول ، والإفراج عن مريم راغب المدانة فى قضية تصدير الأطفال للولايات المتحدة ، والتعهد ببناء مطرانية مغاغة ، وكنيسة العذراء والأنبا إبرام بعزبة النخل ، وإعادة فتح خمس كنائس كان قد تم إغلاقها فى جرجا، ملوى ، شبين الكوم ، سلوانة ، ومن قبل تعهد رئيس الوزراء ببناء كنيسة أطفيح ، والتى بدأ العمل فيها فعلا ، وإطلاق سراح القسيس ملتاؤوس المدان جنائيا فى قضية تزوير ، وقد أطلق سراحه فعلا ، أى أننا مرة أخرى نكرر الهزل والتهريج ، ونستخدم المسكنات المؤقتة ، حتى وقوع حادثة أخرى ، ويتدخل رئيس الوزراء فى أحكام القضاء لإطلاق سراح من أدينوا بتهم جنائية ، ويتدخل فى ما يخص المحليات التى تنظم أعمال البناء وإصدار التراخيص ، وفى الوقت نفسه يتجاهل قضية السيدات المحتجزات فى الأديرة ، واللائى لا يعلم عنهن أحد شيئا .. كيف للمجتمع أن يطالب الناس باحترام القانون ، والنظام نفسه لا يحترمه ؟! وكيف للمجتمع أن يتحدث عن المساواة بين أبنائه ، والنظام نفسه يفرق فى المعاملة بين فصيل وآخر ؟! وكيف يكون للدولة هيبة وسلطان ، والنظام نفسه يستجيب للمزايدات والمساومات ؟!
8- الأزهر والفتاوى الشرعية : عندما يفتى واحد من علماء المسلمين فى قضية ما فإنه من المفروض أن يستخدم الأدلة الشرعية ، وعندما تصدر الفتوى عن مؤسسة الأزهر بمكانتها فى قلوب المسلمين ، تصبح معاييرها أكثر دقة وأشد صرامة من فتاوى آحاد العلماء ، وفى الفترة الأخيرة أصدر شيخ الأزهر فتوى بحرمة الخروج على نظام الرئيس مبارك ، بينما أباح خروج الشعب والجيش الليبى على القذافى ، رغم أن مبارك والقذافى لا يختلفان ، فكليها ظالم لشعبه ، وكليهما مستبد فى حكمه ، وكليهما مبدد لثروات أمته ، وكليهما لا يقيم العدل فى مجتمعه ، وكليهما مفرط فى قضايا العرب والمسلمين ، وهى سقطة ما كانت تجوز فى حق الأزهر الذى شوهته من قبل سقطات شيخه الراحل سيد طنطاوى الذى أفتى فى عام 2005 بحرمة التظاهر السلمى ضد النظام ، وحق أجهزة الأمن فى القبض على المتظاهرين .. إن الأزهر يحتاج إلى الاستقلالية التى تحفظ له مكانته وتأثيره ، ويحتاج إلى أن ينأى بنفسه عن شبهة التبعية لحاكم أو نظام ، ويحتاج علماؤه إلى مراعاة أمانة تبليغ العلم .. لا يحابون أحدا ، ولا يتملقون أحدا ، ولا يقولون إلا ما يرضى الله تعالى حتى ولو أغضب الناس جميعا .
9- التعديلات الدستورية : المعارضون للتعديلات الدستورية المقترحة هم فى غالبيتهم من العلمانيين الذين عجزوا عن تبرير رفضهم بأسباب قوية ومقنعة ، وعجزوا أيضا عن تقديم بدائل عملية قابلة للتنفيذ بآليات واضحة ومحددة ، وهى طريقة العلمانيين دائما فى الصياح والضجيج ، والتدليس على الناس بترهيبهم من الدولة الدينية وسيطرة الإخوان ، ورغم الكم الهائل من المقالات والمناقشات والحوارات التى يرفعون فيها " لا " بتشنج وعصبية ، يمكن إيجاز أسباب رفضهم فى الآتى :
- المستشار البشرى رئيس لجنة التعديلات محسوب على التيار الإسلامى ، وهو ما لا يروق لهم ، رغم كونه معروفا بالأمانة والنزاهة والاستقامة طوال فترة عمله الوظيفى .
- إدعاء أن الانتخابات البرلمانية المبكرة ستمكن للإخوان وبقايا الحزب الوطنى ، ولذلك يلزم إطالة المرحلة الانتقالية لتتمكن الأحزاب من الإعداد للانتخابات ، وهى حجة واهية فتلك الأحزاب لم تحاول طوال عقود غير مساومة النظام السابق على الفتات ، ولو أُعطيت عقودا أخرى للإعداد ما أعدت شيئا ، لأنها تفتقر إلى القبول الشعبى ، ولا يحظى قادتها بمصداقية لدى الناس ، وليس لها برامج ذات قيمة .
- يتحفظ بعض المعارضين على مواد معينة ، ولذلك يرى بعضهم ضرورة التصويت على التعديلات مادة مادة ، وهو اقتراح يصعب تنفيذه عمليا ، ولو نظرنا مثلا إلى المادة 75 والتى تنص بعد تعديلها على : ( يشترط فيمن يُنتخب رئيسا للجمهورية أن يكون مصريا من أبوين مصريين ، وأن يكون متمتعا بحقوقه المدنية والسياسية ، وألا يكون قد حصل أو أى من والديه على جنسية دولة أخرى ، وألا يكون متزوجا من غير مصرية ، وألا تقل سنه عن أربعين سنة ميلادية ) ، وهى من المواد التى كثر حولها اللغط بحجة أنها تُقصى البعض من الترشح للرئاسة ، رغم أن منع مزدوجى الجنسية من الترشح للرئاسة وحسب ما يذكر البشرى جاء استنادا إلى أحكام قضائية صادرة من المحكمة الإدارية العليا والمحاكم المختصة ، كما أننى لا أرى وجاهة للرأى المعارض لتلك المادة ، فمصلحة الوطن أهم من المصالح الفردية ، وضمان الإنتماء والولاء النفسى والمعنوى للأمة أمر غير قابل للمزايدة .. يرى البرادعى على سبيل المثال حسب تصريحه لفضائية OnTv فى 9مارس 2011 أن " القيود التى تفرضها المادة 75 على ترشيح مزدوجى الجنسية ، أو المتزوج من أجنبية لانتخابات الرئاسة ، قيود تعجيزية ، وستؤدى إلى حرمان الكثيرين من الترشح للرئاسة ... وأنها غير عادلة ، وغير قانونية ، وغير منطقية "
- يرى الكثيرون ضرورة أن تتم الانتخابات الرئاسية أولا ثم البرلمانية ، بينما الأقرب للمنطق أن انتخاب رئيس قبل المجلس التشريعى سيعطيه سلطات مطلقة ، وبدون مساءلة ، وهو ما قد يمكنه من التأثير فى انتخابات المجالس التشريعية ، وفى انتخاب الجمعية التأسيسية المنوط بها وضع الدستور الدائم ، وفى كتابة الدستور أيضا ، ولذلك ليس عجيبا أن من أعلنوا نيتهم للترشح يعارضون هذا الترتيب ( البرادعى مثلا ) .
- الكثير من القيادات الصحفية ( %52 حسب صحيفة الشروق ، 17 مارس 2011 ) سيصوتون بلا ، ولكن المتأمل فى حججهم لا يجد حجة أو منطقا ، فمثلا " سمير رجب " رئيس تحرير جريدة "24 ساعة " يرى أن التعديلات تم التعجل بها ، ويدعو المصريين للتحرك لحماية الدولة المدنية فى مواجهة التيارات الدينية الظلامية ( أليس هذا هو الوهم والخيال المريض بعينه ! ) ، بينما " صلاح عيسى " رئيس تحرير جريدة " القاهرة " سيصوت " نعم " " لا " حتى يبطل صوته ، لأن التعديلات تصب فى صالح الإخوان ( نموذج آخر للوهم والخيال المريض ! ) ، أما " فريدة النقاش " رئيسة تحرير جريدة " الأهالى " فترى أن تلك التعديلات تخدم انتهازية القوى الإسلامية ، ولذا وجب على المستنيرين التحرك لتشكيل حائط أمام القوى الظلامية ( نموذج ثالث للهزل والاستهبال ) ، ويقول د . جابر جاد أستاذ القانون الدستورى فى ندوة بكلية الحقوق بجامعة القاهرة فى 5 مارس : ( الذين يقولون نعم للتعديلات كالذين يقولون " يا ما نعيمة نعمين " ... وهنا نقول لهم " الشعب لا يريد ألا يتقرطس بعد اليوم ، نحن لسنا هنودا " ) ( كلام سوقى مبتذل كهذا يصدر عن أستاذ للحقوق ، فكيف بالله يُقنع به أحدا ؟!! ) .
إن المتأمل الأمين يجد فوائد كثيرة فى التعديلات المقترحة ، فهى : تُحدد مدة الرئاسة بفترين كل منها أربع سنوات – إلزام الرئيس بتعيين نائب له ، مما يخلق حالة من الاستقرار والاطمئنان فى المجتمع – إعادة الإشراف القضائى على العملية الانتخابية برمتها ، وهو ما يضمن النزاهة والشفافية – إلغاء المادة 76 التى كانت مفصلة لقصر الترشح للرئاسة على الرئيس أو ابنه أو أفراد قلائل ممن يرضى عنهم النظام ، وهو ما يفتح الأبواب لكثير من الشرفاء واأصحاب الكفاءات – إلزام الرئيس بعرض إعلان حالة الطوارئ ، إذا ما اقتضت الضرورة إعلانها على مجلس الشعب خلال 7 أيام ، مع عدم تجاوز مدة الطوارئ لستة أشهر إلا باستفتاء شعبى – إلغاء تلك المقولة الفاسدة " المجلس سيد قراره " ، وجعل أمر الفصل فى صحة عضوية الأعضاء للمحكمة الدستورية العليا ، بينما يفصل القضاء فى الشكاوى المتعلقة بصحة الانتخابات – ضمان أن يكون الرئيس مصريا خالصا ، لا تربطه روابط بجنسية أخرى ، أو زوجة أجنبية – إلغاء المادة 179 الخاصة بمكافحة الإرهاب ، مما يعطى أمانا واطمئنانا وحرية فى ممارسة العمل الإسلامى – إضافة مادة بموجبها ينتخب مجلس الشعب القادم جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد .
لكل تلك الأسباب يمكن للمرء أن يفهم أسرار الغضب ، ونوبات الجعجعة التى انتابت اليساريين والليبراليين وغيرهم من أصحاب البضاعة البائرة ، والأفكار الكاسدة ، وكذلك الأحزاب الكرتونية ، فى معارضتهم للتعديلات ، ورغبتهم فى امتداد الفترة الانتقالية ، ودعوتهم للمجلس العسكرى أن يستمر فى الحكم ، أو تكوين ما يسمونه مجلس رئاسى من مدنيين وعسكريين .. إن الحقيقة التى لا جدال فيها أن جميع هؤلاء أصحاب مصلحة حقيقية فى استمرار الوضع على ما هو عليه ، كما كانوا أكبر المستفيدين من النظام السابق ، ويودون تعويق أى تغيير حقيقى ، كما أنهم يتناسون أحداث التاريخ ، وكيف انقلب عسكر 23 يوليو فى 1954 على مطالب الشعب فى عودة الحياة النيابية ، ورجوع الجيش إلى سكناته ، بعدما أعلن نيته فى ذلك ، وكيف أن ذلك كلفنا ستة عقود من الاستبداد والظلم والقهر ، تقدم فيها العالم أجمع ، وما زلنا نعانى التخلف والهوان .. إنهم لا يريدون ديموقراطية ولا حرية ، لأن ذلك يعنى لفْظَ الشعب لهم ، وبوار صنعتهم فى النفاق والتدليس ، وهو ما سيقامون حدوثه بإصرار واستماتة .
10- الإعلام الهزيل :
لا شك فى هزال الإعلام المصرى بشقيه الرسمى والمستقل ، وافتقاده للحرفية والأمانة ، وتدنى مستوى القائمين عليه فكريا وثقافيا ولغويا ، وحاجتهم الماسة إلى المصداقية بعد سنوات وعقود من النفاق والتدليس والتطبيل والتهليل للسياسات الفاشلة ، ورغم إدراك الكثيرين من الناس لذلك إلا أنهم يعتمدون على هذا الإعلام فى المعرفة وتبنى الآراء والمواقف ، حيث يشق على الغالبية القراءة ، والرجوع إلى المعلومات من مصادرها ، بسبب الأمية الأبجدية والثقافية ، وبسبب النشأة والتعود على كثير مما يجافى المنطق ، وغياب النظرة المتأملة والناقدة والفاحصة للأشياء والأشخاص والأحداث ، وفى خلال الفترة الأخيرة دأب الإعلام على استضافة كثيرين من شباب الانتفاضة فى حوارات تُبرزهم بصورة تتسم بالسطحية والضحالة فى مطالبهم ومواقفهم ، كما دأب الإعلام على استضافة كثيرين من أفراد النخبة الثقافية والسياسية والإعلامية يُنظّرون ويسفسطون ويضللون عوام الناس ، ومشكلة الإعلام المصرى تحتاج إلى كثير من الإصلاح والتطوير ، وتحتاج إلى وجوه جديدة ذات ثقافة عميقة ، ومقدرة عالية على إدارة الحوار ، وفهم وإلمام وإدراك واسع للمواضيع المطروحة ، واختيار الأكفاء والنابهين لتقديم الرأى والتحليل .. لقد ضلل الإعلام المصرى بجميع وسائله الإنسان المصرى لعقود طويلة ، وإذا لم نتنبه لدوره فى المرحلة القادمة ، ونضع الضوابط التى تضمن أداء هذا الدور بحياد ونزاهة وإخلاص ، فإننا نكون مقامرين بوعينا وثقافتنا ودورنا المنشود فى علاقة جديدة مع مؤسسات المجتمع وأنظمته الحاكمة .
ثالثا : خيانة وأشياء أخرى
لا يمكن للمتابع للمشهد العربى إلا أن يصرخ فى وجه الأنظمة العربية ، وقد تملكته مشاعر الحنق والغضب .. أيها الخونة والعملاء .. كفاكم خيانة لهذه الأمة ، وكفاكم عمالة لأعدائها ، وكفاكم تبديدا لمواردها ، وكفاكم سفكا لدماء أبنائها ، وكفاكم استبدادا وسيطرة على مقدراتها ، وكفاكم تقديمها قطعة قطعة للغرب يستبيح أرضها وسماءها وبحارها .. أما كفاكم ما فعلتموه بالعراق ؟! أما كفاكم أننا فى مؤخرة الأمم الآن ؟! أما كفاكم أننا نتسول العلم والتقنية والطعام وكل شئ من الشرق والغرب ؟! أما كفاكم عقودا من القهر والهوان أنزلتموه بكل رعاياكم ؟!
لقد كان مشروع القرار الذى أقرته جامعة الدول العربية بتأييد فرض حظر على الطيران فوق ليبيا فى نهاية الأسبوع الماضى التكأة التى كان ينتظرها الغرب للحصول على قرار من مجلس الأمن يتضمن الحظر وغيره من الوسائل اللازمة لحماية المدنيين !! ، وقد دفعت دول مجلس التعاون الخليجى بهذا المشروع فى الجامعة والذى أقرته غالبية الدول العربية ، والعجيب أن نفس تلك الدول تقف الآن تتفرج على قتل المدنيين فى اليمن والبحرين على يد الشرطة والجيش ، ولا تبدى امتعاضا أو غيرة على الأرواح المزهقة ، والدماء المراقة ، وها هو الجيش السعودى يتدخل فى البحرين لقمع المتظاهرين ، ونفس الجيش تدخل من قبل فى صراع الحكومة اليمنية مع الحوثيين ، وكأن 160 بليون دولار من الأسلحة اشترتها دول مجلس التعاون من الولايات المتحدة كانت لإذلال الشعوب العربية وامتهانها.. ولكن ألم يقفوا لعقد كامل يتفرجون على جنرالات الجيش الجزائرى يمارسون القتل والإرهاب ضد أهلهم وأخوانهم لأن انتخابات حرة جاءت بالإسلاميين إلى الحكم ؟! ألم تصل حصيلة هذا الإجرام إلى 150,000 قتيل على أقل التقديرات ؟! ألم يقفوا يتفرجون على الحرب الأهلية فى الصومال لسنوات طوال وما يزالون ، وكلما لاح فى الأفق شئ من الاستقرار يتدخل الغرب أو أثيوبيا لمزيد من القتل والخراب والدمار ، وتخرج دولة مثل مصر تعلن عن تفهمها لاحتلال أثيوبيا للصومال ؟! ألم يقفوا يتفرجون على العدوان الإسرائيلى الوحشى الهمجى على غزة منذ سنوات قليلة ، ومن قبله العدوان على لبنان ؟! ألم يقفوا يتفرجون على تفكيك السودان وانفصال جنوبه ليكون شوكة فى خاصرة مصر ، وعونا لإسرائيل والغرب ؟! ألم يقفوا يتفرجون على حصار غزة ، وتجويع أبنائها ، وهم يعانون من الشبع والتخمة ؟! ألم يشاركوا من قبل فى حصار ليبيا والعراق ؟!
إن تسليم ليبيا للغرب الآن عمل عربى لا يوصف إلا بالخرق والسفه ، وهو تحت كل الاحتمالات دليل على غياب الحكمة وبعد النظر ، كما أنه ينزع التعاطف الذى يجده كل العرب فى قلوبهم تجاه الليبيين المعارضين للقذافى ، وخاصة عندما يتصرفون بحمق وبلاهة مطلقين الألعاب النارية احتفالا بقرار مجلس الأمن ، وكأن التدخل الغربى فى العراق ونتائجه الكارثية ببعيد عن الذاكرة ، وهو أيضا دليل على أن كثيرا من العرب ما زالوا لا يفهمون أن الغرب لا يعنيه المدنيين الليبيين وسلامتهم ، ولا يعنيه حرية العرب ونهضتهم .. إنه يبحث عن مصالحه وأهدافه فى ثروات العرب وبترولهم ، وفى مصلحة الاقتصاد الغربى وتعافيه ، وفى ضمان أمن إسرائيل وحمايتها ، ولو كانت أرواح المدنيين تعنيه لتصرف بنفس المنطق والوسيلة تجاه المدنيين فى اليمن والبحرين والعراق وأفغانستان وغيرها .. لو تطور الأمر واحتل الغرب ليبيا ، وهى الدولة الشاسعة المساحة والقليلة السكان ، لو حدث ذلك سيكون البترول الليبى مستباحا كما هو مستباح فى العراق ، وهو ما يحتاجه الغرب للإسراع فى وتيرة نموه الاقتصادى ، وثبات البورصات العالمية ، ومواجهة مشاكل الديون والبطالة التى تعصف به ، غير أن الأخطر من ذلك أن مصر ستكون محاصرة من كل جانب ، فإسرائيل على حدودها الشرقية ، والاحتلال الليبى على حدودها الغربية ، ودولة جنوب السودان تتحكم فى نيلها جنوبا ، والأساطيل الأمريكية والغربية فى البحر المتوسط شمالا ، والمشاكل الاقتصادية والسياسية والطائفية تعصف بها داخليا ، ومما يزيد الأسى والمرارة فى النفس ما يتحدث به المسؤولون الأمريكيون بأن مصر أرسلت فعلا أسلحة وذخائر ، وقوات لتدريب الليبيين الثائرين على القذافى ، وأن دولا عربية كالأردن والإمارات ستشارك فى الحظر الجوى ، وقد نشرت الصحف المصرية أنه بمجرد صدور قرار مجلس الأمن بدأت مصر فى تنفيذه ، ونسى الجميع أن شيئا من الشرعية الدولية لم يُنفذ فى حق إسرائيل ، وهى المعتدية والإجرامية دائما .. ولو لم يحتل الغرب ليبيا وبقى الوضع على ما هو عليه ، تكون ليبيا فى حكم الدولة المقسمة ، حيث الجزء الشرقى تحت سيطرة المحتجين على القذافى الذى يسيطر على غرب البلاد ، وتقسيم البلاد العربية هدف غربى أصيل ، ويمضى قدما ، خطوة متأنية تتبعها خطوة أخرى متأنية ، ولو استمر الحال على هذا المنوال ربما ننتهى إلى كيانات هزيلة لا قوة لها ، ولا مستقبل لها .
هل يستفيق العرب للألاعيب والمؤامرات التى يدبرها خونة الداخل وأعداء الخارج ؟! .. يتملكنى أحيانا إحساس بالغضب العارم ، حتى لأكاد أردد مع Robert Fisk ، الصحافى البريطانى فى مقاله السابق الإشارة إليه قوله I still fear much of this will end in tears , new: democracies ending up much like previous regimes ، ( ما زالت أخشى أن تلك الانتفاضات العربية ستنتهى بالحزن والألم والبكاء ، وأن الديموقراطيات الوليدة ستنتهى إلى ما يشبه الأنظمة السابقة ) .
سعد رجب صادق
saad1953@msn.com