تأملات فى الانتخابات المصرية الأخيرة
| |
عز | |
بقلم : سعد رجب صادق
.....................
لا شك أن الانتخابات المصرية الأخيرة كانت حدثا هاما ذا دلالات ومعانى عديدة ، وأهمية حدث الانتخابات تأتى من كونه كالامتحان الذى تعبّر نتائجُه عن جهد النظام والمعارضة والنخبة والمجتمع بأكمله لسنوات عديدة متتالية تفصل كل انتخاب عن الآخر ، كما أن الدلالات والمعانى العديدة فى العملية الانتخابية ونتائجها تعطى مؤشرا لمستقبل المجتمع ، وما ستؤول إليه الأوضاع فى مستقبل الأيام ، فماذا كانت النتيجة ؟ والإجابة : لم ينجح أحد ، لقد رسب الجميع : النظام والمعارضة والنخبة والمجتمع ، وهذا يعنى ببساطة أن الجميع لم يعدوا للأمر عدته ، ولم يجهزوا له بالأفكار السديدة ، والآليات المناسبة ، وهو ما يعطى انطباعا آخر بأن الجميع غير جادين ، وغير مخلصين ، وغير صادقين مع أنفسهم ، ومع الناس ، وغير أمناء على مصالح الأمة ، وغير مهتمين بإصلاح حاضرها ، وضمان مستقبلها ، وأن الأمر كله لا يتجاوز المتاجرة بالكلمات والشعارات ، والبحث عن المصالح الشخصية والآنية الزائلة ، وهى كلها أمور تشف عن مستقبل أكثر تدهورا وانحطاطا وفسادا ، والسؤال هنا : أين مواضع الخلل ؟ وكيف لنا أن نتجاوز تلك الحالة المتردية ؟ وما هو السبيل إلى نظام ذى أسس قويمة ، ومؤسسات فاعلة ، وجماهير ناضجة وواعية ومُشاركة ؟ والإجابة على تلك الأسئلة وغيرها ليست بسيطة أو سهلة ، وذلك للتداخل والتشابك بين العوامل والعناصر الشتى التى تؤثر على المجتمع بأطيافه ومؤسساته وآلياته ، ولكنه ورغم ذلك فإن أمورا كثيرة تبدو واضحة جلية ، وهو ما يساعد المحلل الدقيق ، أو الناقد الأمين ، على أن يضع يده على مواضع الداءات والعلل ، فى خطوة ضرورية ولازمة لإيجاد الحلول ، والبحث عن المخارج ، لما نحن فيه من اضطراب وعشوائية وفوضى ، ويتناول هذا المقال العملية الانتخابية المصرية من جوانبها المختلفة .
أولا : النظام
ليس سرا أن حركة 23 يوليو 1952 هى أول من أصّل لتلك الممارسة المشينة فى تزييف إرادة المجتمع ، وتزوير استفتاءاته وانتخاباته ، وسارت الحكومات المتتابعة منذ ذلك اليوم على هذا المنهاج القبيح ، حتى أن عدواه امتدت إلى بلاد عربية وإسلامية وأفريقية عديدة ، والمتأمل فى ممارسات تلك الحقبة يجد معايب ومخازى تبعث على الأسى والعار ، ومن أمثلة ذلك ال % 99.99 ، وتصويت الموتى ، وتسويد البطاقات الانتخابية بواسطة القائمين على اللجان ، والصناديق المعدة سلفا لتحل محل الصناديق الحقيقية ، والتصويت نيابة عن الناس ، وشحن موظفى الحكومة وعمال المصانع لمقار اللجان وإجبارهم على التصويت الذى ترتضيه الحكومة ، وإلا واجهوا التهديد فى أعمالهم وأقواتهم ، وتفتقت على مر الدورات الانتخابية عبقرية الشر لدى المسؤولين ، فأضافوا وسائل جديدة للتدليس على الناس ، وتزوير إرادتهم ، ومن أخطرها استخدام البلطجية لمنع المرشحين المعارضين والناخبين من الاقتراب من اللجان ، والذى بدأ على استحياء فى انتخابات 2005 ، ثم أصبح أمرا مألوفا وشائعا فى 2010 ، أى أننا هنا أمام أنظمة مستميتة فى الحفاظ على سطوتها وسيطرتها على مقاليد المجتمع ، مهما كان الثمن ، ومهما كانت فجاجة أساليب التزوير وقبحها ، والعجيب أن رموز الحزب الوطنى والمدافعين عنه يبصرون ويسمعون فى هلاوسهم البصرية والسمعية ما لا يبصره ولايسمعه غيرهم ، فهذا ممتاز القط رئيس تحرير صحيفة أخبار اليوم يسمى الانتخابات ( عُرْس الديمقراطية ) ، ويرى أحمد عز أمين التنظيم أن ( الإخوان حصدوا من قبل 88 مقعدا ، لا لشعبية لهم ، ولكن لغلطة فى الحزب الوطنى لن تتكرر بعد ذلك أبدا ) ، بيما يرى صفوت الشريف ( أن نتيجة الانتخابات الأخيرة ، وفشل الإخوان فى الحصول على نجاح واحد منهم ، كان نتيجة طبيعية لأن كل الشعب كشف زيفهم وتخلفهم ) ، ورغم أن الحزب الوطنى قد حصل فى الانتخابات الأخيرة على أغلبية المقاعد ، إلا أنه فى حقيقة الأمر قد رسب فى الاختبار ، ولم ينجح من نوابه أحد ، وهو ما دعا فاروق جويدة إلى الاندهاش والتعجب فى مقاله ( بعد كل ما حدث وما زلنا نتحدث عن الديمقراطية ) ، وفيه يقول : ( نحن أمام حزب يحكم منذ ثلاثين عاما ، وجَمَعَ من السلبيات والمخاطر ما يتجاوز كل الحدود ، أمامنا سلسلة من الإخفاقات على كل المستويات ، سياسيا واقتصاديا وإقليميا ، فعلى أى أساس يحصل الحزب الوطنى على هذه الأغلبية الساحقة ؟! ) [ الشروق ، 10-12-2010 ] .
ملحوظة : يبلغ عدد مقاعد مجلس الشعب المصرى 518 مقعدا ، منها 444 مقعدا بالانتخاب فى 222 دائرة حيث يمثل كل دائرة عضوان ، بالإضافة إلى 64 مقعدا لكوتة المرأة ، وقد تناولت الكوتة بالتحليل فى مقال ( الإصلاح والتغيير .. والكوتة ) ، وخلصت فيه بالدلائل والدراسات إلى أن الكوتة فكرة فاسدة تساهم فى صناعة مجتمعات فاشلة ، أما العشرة مقاعد الباقية فتتم بالتعيين حيث يمنح الدستور لرئيس الجمهورية حق تعيين عشرة نواب ، وهو ما أراه مناقضا لمعنى النيابة عن الناس والتى تتطلب أن يختار الناس من يمثلهم أو ينوب عنهم ، وقد عينهم الرئيس مبارك بعد الانتخابات حيث اختار سبعة أقباط وثلاثة مسلمين .
ثانيا : المعارضة
تقتضى الأمانة والإنصاف التأكيد على حقيقة معلومة لنا جميعا ، وهى أن المعارضة فى بلادنا معارضة وهمية وهزيلة ، وذلك لأسباب متعددة أهمها أنها صناعة النظام الحاكم ، وليست نتيجة للتفاعل بين رموز المجتمع وجماهيره للتعبير عن حاجات الناس أو حاجات فئات منهم ، كما أن بعضها مازال يعيش أوهام أيدلوجيات غابت شمسها بعد فشل أفكارها وآلياتها ( حزب التجمع )، والبعض الآخر مازال يعيش التاريخ أو بعض أحداثه ( حزب الوفد ) أو بعض رموزه ( الحزب الناصرى ) ، ولا يمكن لمعارضة من هذا النوع أن تكتسب أرضية جماهيرية ، أو أن تستحوذ على قلوب الناس وعقولهم ، يضاف إلى ذلك أنها لم تحاول أصلا ، وانتهت طموحاتها عند غرفة أو مقر للحزب ، ويافطة تحمل اسمه ، ورغم العدد الكبير من الأحزاب المصرية ، والذى يتجاوز العشرين ، إلا أن أحدا من العامة أو المتابعين لا يستطيع تسميتها أو حتى تسمية عدد قليل منها ، فهى أحزاب بلا برامج ، وبلا رموز ، وبلا أتباع ، ورغم فوز بعض مرشحيها من أحزاب مختلفة ، إلا أنها قد رسبت جميها فى الاختبار ، ولم ينجح من نوابها أحد .
ملحوظة : تشكيلة المجلس الجديد كالآتى :
- 477 مقعدا للحزب الوطنى
- 15 مقعدا للمستقلين
- 10 مقاعد بالتعيين
- 16 مقعدا لأحزاب المعارضة موزعة كالآتى :
- 6 لحزب الوفد ، 5 لحزب التجمع ، 1 لحزب الجيل الديموقراطى ، 1 لحزب السلام الديموقراطى ، 1 لحزب العدالة الاجتماعية ، 1 لحزب الغد ( جبهة موسى مصطفى موسى ) ، 1 للإخوان
ثالثا : الإخوان المسلمون
الحديث عن المعارضة يقتضى الإشارة إلى الإخوان المسلمين ، فهم المعارضة الحقيقية فى المجتمع المصرى ، وهم الوحيدون الذين يمتلكون فكرا محددا ، وآليات واضحة ، وخبرة ومراسا فى العمل السياسى والدعوى والاجتماعى والعام على مدار ثمانية عقود ، وقاعدة شعبية واسعة تضم الكثيرين من خيرة أبناء المجتمع ورموزه ، وإدعاء النظام أو الإعلام أو النخبة بغير ذلك يرجع إلى كراهية هؤلاء للمشروع والمنهاج الإسلامى الذى يمثله الإخوان، ومحاولاتهم الدؤوبة تشويه صورة الجماعة ، وإثارة الشك فى أهدافها ونواياها ، وكذلك جهلهم بأدبيات الإخوان وكتاباتهم والتى تناولت شؤون المجتمع المختلفة ، منذ زمن مؤسس الجماعة الإمام حسن البنا ( رحمه الله ) وحتى الآن ، وسأتناول هذه الأمور بالتفصيل فى مقالات ملف الإصلاح والتغيير ، ويعنينى هنا الإشارة السريعة إلى ما استقر فى فكر الجماعة من ( أن الإسلام قرر سلطة الأمة وأكدها ) [ رسالة إلى الطلاب للإمام البنا 1939 ] ، وأن ( نظام الحكم النيابى الدستورى أقرب نظم الحكم القائمة فى العالم إلى الإسلام ، ونحن نسلم بالمبادئ الأساسية للحكم النيابى الدستورى ، باعتبارها متفقة بل مستمدة من النظام الإسلامى ) [ رسالة المؤتمر الخامس للإمام البنا] ، وأن ( رجال الإسلام فى كل عصر من عصوره إلى الآن لم يدّعوا لأنفسهم سلطة أكثر مما يؤهلهم علمهم ، ولم ينازعوا الأمر أهله بعضا من الأيام ... فأين هذا من سلطان الأكليروس فى أوربا وما أدعوه لأنفسهم من سلطان على قلوب الناس وحياتهم الدنوية والأخروية ) [ مقال الإمام البنا بمجلة التعارف ، عدد 4 ، 1940 ] ، كما أن للجماعة نظاما أساسيا صدر عام 1931 ، وفيه تحديد لرؤيتها الواضحة لشمول الإسلام للسياسة والحكم وكل شؤون الحياة ، وكذلك موقفها من قضايا العالم الإسلامى ، والأحزاب السياسية ، والأفكار القومية والوطنية ، وقبيل الانتخابات الأخيرة كتب عضو مكتب الإرشاد ، وأستاذ الحديث بالأزهر د . عبد الرحمن البر تأصيلا شرعيا للانتخابات على موقع الجماعة [ Ikhwan online.net ] ، وأشارت إليه بعض الصحف ومنها [ المصريون ، 6-10-2010 ] ، وفيه يرى ضرورة المشاركة فى الانتخابات ، وأن مقاطعتها سكوت عن الحق ، وقبول للمنكر ، وتقاعس عن تغييره ، وتقصير فى الواجب الشرعى فى الأمر بالمعروف ، والنهى عن المنكر، ويرى أيضا أن للانتخابات سند شرعى ، بل هى مفهوم شرعى أصيل ، حيث أنه (ص) عندما بايعه الأنصار فى بيعة العقبة الثانية ، قال لهم : ( أخْرجوا إلى منكم اثنى عشر نقيبا، يكونون على قومهم كفلاء ، وأكون كفيلا على قومى ) ، أى أنه أراد انتخاب ممثلين عنهم ينوبون فى عقد المبايعة ، ويرى كذلك أن المشاركة تدرأ الكثير من المفاسد عن الأمة ، وأنها باب من أبواب النصيحة الشرعية التى لا يجوز التخلف عنها لأى سبب من الأسباب ، قبل المفسدون أم رفضوا ، شاء الناس أم أبوا ، وأن الأداء النيابى له أهداف تربوية وأخلاقية واقتصادية وبيئية وسياسية وغيرها، وأنه لا مانع من التحالف مع الفصائل الأخرى تحت سقف مشروع إسلامى وطنى واحد ، بل لا مانع أيضا من التحالف مع الجهات الوطنية والقومية والتى لا تمتلك مشروعا إسلاميا، بل وحتى مع المرشحين غير المسلمين ، طالما أنهم لا يرفضون المشروع الإسلامى ، ويلتزمون بصميم الدستور الذى ينص على اعتبار الشريعة المصدر للتشريع ، ورغم أن الإخوان خسروا جميع المقاعد التى فازوا بها فى الانتخابات الماضية ( 88 مقعدا ) ، ولم يحصلوا على مقاعد فى المجلس الجديد ، إلا أنهم فى الحقيقة الرابحون الوحيدون ، لأن حكمتهم وبعد نظرهم وقرارهم بالمشاركة قد عرى سوأة النظام تماما ، وكشف عورته على الملأ محليا وإقليميا وعالميا ، وأظهر زيف حججه وكذب ادعاءاته ، وكلها لم تكن لتحدث لولا خوضهم للانتخابات ، كما أنهم اكتسبوا مزيدا من الخبرة والمران ، وأدوا واجبهم الشرعى والوطنى فى المشاركة والمحاولة ، ولا يضيرهم بعد ذلك النتائج ، وخاصة أن الناس جميعا تعلم أنه لو جرت انتخابات نزيهة لفازوا بعدد أكبر مما فازوا به فى الدورة السابقة .
رابعا : النخبة .. بكاء وعويل وندب وولولة
إذا كان الحزب الحاكم هو الخاسر الأكبر فى تلك الانتخابات رغم حصوله على معظم المقاعد ، فإن النخبة المصرية بكتابها ومفكريها وإعلامييها هى الشريك الأصيل للحزب فى تلك الخسارة الكبرى ، فقد أثبتوا المرة تلو المرة أنهم ليسوا إلا مجموعة من الأفاكين ، الذين لا هم لهم إلا الطنطنات الفارغة ، والسفسطات العقيمة ، والتنظيرات الهزيلة ، ولو كانوا أمناء أو مخلصين لتحقق على أيديهم تنوير هذا المجتمع ، والإرتقاء بفكره وفهمه ، ومساعدته على الحركة والخيار، ولاستطاعوا تكوين رأى عام قوى وفعال تجاه أزمات المجتمع وقضاياه ، ولكنهم لم يفعلوا ولن يفعلوا ، لأن بضاعتهم من الثرثرة والكلام تروج وتزدهر فى أجواء الفساد ، فإذا انصلحت الأحوال ، بارات تجارتهم ، وخفا بريق شعاراتهم ، وانصرف الناس عنهم ، والمتأمل فى مواقفهم وكتاباتهم بعد الانتخابات يجدهم وقد نصبوا سرادقات العزاء ، حيث أنفجرت أعينهم بالبكاء ، وبُحّت أصواتهم من الندب والعويل والولولة ، وليتأمل القارئ هذا المشهد الهزلى للنادبين والنادبات ، والمولولين والمولولات :
1- انعقد مؤتمر لجنة الحريات بنقابة المحامين بتاريخ 2-12-2010 تحت عنوان ( عزاء نقابة المحامين فى مأتم الديمقراطية ) ، وفيه وقفوا دقيقة حدادا على أحداث الانتخابات ، والتى وصفوها بالمهزلة
[ اليوم السابع ، 2-12-2010 ] .
2- كتاب صحيفة اليوم السابع يلطمون الخدود ، ويشقون الجيوب ، ويهيلون التراب على أدمغتهم وأدمغة القراء، فى نوبة عارمة من الحزن ، وهذه عناوين بعض المقالات المنشورة فى 30-12-2010 :
- (عروس اليمقراطية ليست عذراء ) [ محمد بركة ] .
- ( انتخابات دولة البلطجية ) [ عادل السنهورى ] .
- ( البرلمان للوطنى والجرى للمتاعيس ) [ أكرم القصاص ] .
- ( مجلس الشعب بالتعيين ) [ كريم عبد السلام ] .
- ( والوطنى والتكتيكات الخادعة فى المعركة الانتخابية ) [ جمال العاصى ] .
- ( المشهد السياسى القادم ) [ د . فاطمة سيد أحمد ] ، وفيه تقول : ( أحيى هذا الرجل الداهية الذى وضع خطة الانتخابات اللى ما تخرش المية للحزب الوطنى ... لأنه نجح فى تحويل مصر بين يوم وليلة
لدولة حزب بدلا من دولة مؤسسات ) ، وكأن الكاتبة لا تعرف أن مصر لم تكن دولة مؤسسات طوال ستة عقود ، وأن المجتمعات أيضالا تتحول من الاستبداد إلى الحكم المؤسساتى بين يوم وليلة .
- ( الانتخابات الحرام ) [ محمد الدسوقى رشدى ] ، والذى كتب فى اليوم التالى مقالا بعنوان ( انتخابات تأخذنا إلى باب جهنم ! ) ، وفيه يقول : ( اتفقنا بالأمس على أنه لا توصيف أفضل من اليوم الحرام
يمكن أن نصف به يوم الانتخابات ... ولا توصيف لتلك الانتخابات أفضل من كونها انتخابات الحرام والذنوب ، فما حدث على أرض مصر فى ذلك اليوم من خطايا يكفى لأن يجرنا إلى باب نار
جهنم ) ، وهكذا تحول الدسوقى الذى يقتات فى معظم مقالاته على التهجم على الدعاة والفتاوى وكل ما هو إسلامى ، تحول فجأة إلى الإفتاء ، واكتشف أن ما شاب الانتخابات من تجاوزات هى من
الحرام الذى يقود إلى أبواب جهنم .
3- فإذا نظرنا إلى صحيفة المصرى اليوم ، وجدنا تلك العينات من المقالات المنشورة فى 2-12-2010 :
- ( لماذا هى الانتخابات الأسوأ ؟ ) [ د . عمرو الشوبكى ] .
- ( وعاد إليكم الاتحاد الاشتراكى ) [ نصر القفاص ] .
- ( نأسف للإزعاج جميع المقاعد محجوزة للوطنى ) [ صبرى غنيم ] .
والمشكلة مع هؤلاء جميعا ليست فى اختلاف الرؤى ، وتنوع المفاهيم ، ولكنها فى التدليس والتضليل ، فجميعهم يعلم يقينا أن ما حدث لم يكن شيئا جديدا ، وأنه يحدث مع كل دورة انتخابية ، وأنه يحدث
أيضا منذ ستة عقود ، والأهم من كل ذلك أمران : أولهما أن أصحاب الفكر والريادة والغيورين على مصلحة الناس ومستقبل المجتمع لا يستسلمون للنواح إذا ما انتكست مخططاتهم وآمالاهم ، وإنما
يستفيقون من سقطتهم ، ويعيدون النظر فى وسائلهم ، ويواصلون طريقهم بتصميم أشد ، وعزيمة أمضى ، وثانيهما أن هؤلاء لم يروا من عوار الانتخابات غير التزوير والبلطجة ، رغم أن هناك ما
هو أخطر من ذلك ، وهو غياب البرامج من كل حملات المعارضة ، حتى أن الناخب العادى فى حقيقة الأمر لا يستطيع التفرقة بين الحزب الوطنى وغيره ، فكلهم لا يقولون له شيئا عن مشاكله ، وكلهم
لا يقدمون له حلولا لأزماته ، وكلهم لا يرسمون له طريق لمستقبله ، إنهم جميعا يبعثون فيه مزيدا من الحيرة واليأس والإحباط .
4- غير أن الأسوأ من كل هذا وذاك ، الدعوات التى ارتفعت بملاحقة النظام دوليا ، وكأن هؤلاء أغرار لا علم لهم ، ولا معرفة عندهم بمخاطر تدويل قضايانا المحلية ، وإعطاء الآخرين مبررا للتدخل فى
شئوننا الخاصة ، ومن ذلك " الجبهة الحرة للتغيير السلمى " ، وهى إحدى جبهات المعارضة المصرية ، التى تبنت حملة الكترونية تستهدف الضغط على البرلمان الدولى والأوربى والأورومتوسطى
من أجل عدم الاعتراف بنتائج الانتخابات البرلمانية المصرية [ المصريون ، 12-12-2010 ] ، وكذلك دعوة قوى المعارضة إلى تشكيل " جبهة إنقاذ مصر " ، لملاحقة النظام دوليا بتهمة تزوير
الانتخابات [ المصريون ، 12-12-2010 ] .
5- ومن أكثر صور الهزل والعبث فجاجة ، والتى لا تقل عن فجاجة تزوير الانتخابات ، دعوة أيمن نور وقوى معارضة أخرى لتأسيس ما يسمونه " الجمعية التشريعية الوطنية " ، أو " البرلمان
الموازى أو البديل " ، للتعبير عن قضايا الجماهير ، وملاحقة الحكومة [ اليوم السابع ، 8-12-2010 ] ، وكأننا مازلنا دولة تقبع تحت سيطرة الاحتلال ، وتحتاج حركات المقاومة فيها إلى إنشاء
حكومة موازية ، أو حكومة فى المنفى ، وهو ما وصفه ممدوح قناوى رئيس الحزب الدستورى الحر بـ ( العبث ) [ اليوم السابع ، 8-12-2010 ] .
6- والأمر لا يتوقف عند كل تلك الهزليات ، وإنما يصل إلى مطالبة " المركز المصرى لحقوق الإنسان " للرئيس المصرى بإعادة انتخابات مجلس الشعب بجولتيها لأنها غير نزيهة [ اليوم السابع ، 8-
12-2010 ] ، وهو ما يوحى أن هؤلاء يعيشون فى دولة أخرى ، أو يعيشون وهْما أعماهم عن كل حقائق الواقع المصرى .
7- والأمر مع كل تلك الدعوات التى تفتقر إلى الواقعية والفهم لا يخلو فى بعض صوره من تفكه وطرافة ، فالمواطن البورسعيدى ( محمد السيد ) ، مؤسس موقع " حماسنا " على الانترنت ، يوجه
رسالة إلى ( جوزيف بلاتر ) ، رئيس الاتحاد الدولى لكرة القدم " الفيفا " ، يشكو فيها المهندس هانى أبو ريدة مرشح الحزب الوطنى الفائز فى الدائرة الأولى ببور سعيد ، لتجاوزاته أثناء الحملة
الانتخابية ضد مرشح المعارضة ، مما يشوه صورة " الفيفا " ، باعتبار ( أبو ريدة ) عضو اللجنة التنفيذية بالمنظمة [ المصريون ، 12-12-2010 ] .
إن المعارضة المصرية بشقيها الحزبى والنخبوى فشلت فشلت ذريعا فى الالتحام بقطاعات الشعب المختلفة ، والتعبير عن مشاكلها وأزماتها ، وتقديم الحلول والبدائل لها ، وانشغلت بخلافاتها الهزيلة ،
ووجدلياتها العقيمة ، فانصرف عنها الناس ، ولم تلق الحكومة إليها بالا ، يقول عماد الدين حسين فى مقاله ( المعارضة تغرى الحكومة بالتهامها ) : ( المواطنون بسطاء معذورون ولا يمكن لومهم ،
نلوم فقط الأحزاب والقوى السياسية التى تتحدث ليل نهار عن الإصلاح والطهارة والتغيير ، وهى أكثر إجراما من الحكومة ، لأنها ضحكت علينا وأقنعتنا أنها معارضة ، ثم تبين أنها معارضة
للشعب وليس للحكومة ) [ الشروق ، 12-12-2010 ] .
ملحوظة : يُعرف معجم [ لسان العرب ] الكلمات الواردة فى العنوان الفرعى لتلك الفقرة كالآتى :
- عويل : أَعْوَلَ الرجل أو أعولت المرأة أى رفعا صوتهما بالبكاء والصياح ، والاسم : العَوْل والعَويل والعوْلة .
- الندب : نَدَبَ الميت أى بكى عليه ، والاسم النَدْب والنْدبَة .
- ولول : وَلْوَلَتْ المرأة أى دعت بالويل وأعْوَلَتْ ، والاسم الولولة ويعنى الصوت المتتابع بالويل والاستغاثة ، وأصوات النساء بالبكاء .
خامسا : المجتمع
لا تكف المعارضة والنخبة المصرية عن توجيه أصابع الاتهام للشعب على رضاه بأحواله القاسية ، وسكوته عن المطالبة بحقوقه ، وإحجامه عن المشاركة فى التغيير ، ويصل الأمر بالكثيرين إلى وصف المصريين بالكسل والخنوع ، واستعذاب المذلة والهوان ، والقابلية للاستعباد ، وغير ذلك من الاتهامات الهوجاء التى تفتقر إلى اللياقة ، وتتصف بعدم الفهم وعدم الإدراك وعدم الرؤية ، ويعوز أصحابها الحكمة والحصافة ، فليس من المنطقى أن يصف المرء أهله وأصدقاءه بتلك المعايب ، ثم يدّعى أنه لا يريد إلا الإصلاح ، وليس من العقل أن تلوم المعارضة والنخبة الناس على عجزها فى إيصال رسالتها ، وعلى تقاعسها فى تأليف القلوب على قضية قومية تكون نواة لمشروع الإصلاح والتغيير ، والمجتمع المصرى هنا وإن كان خاسرا فى الانتخابات الأخيرة شأنه شأن المعارضة والنخبة ، إلا أنه أدرك بفطرته مجموعة من الأمور الهامة واللازمة لفهم حقيقة المشهد السياسى والاجتماعى وتداعياته المستقبلية ويمكن الإشارة إليها فى الآتى :
1- انعدام ثقة الإنسان المصرى فى المعارضة بشعاراتها الجوفاء ، وفى النخبة بسفسطاتها العقيمة ، وثرثراتها الباعثة على السأم والملل ، وهو محق فى ذلك ، فلم يُعهد من هؤلاء غير المتاجرة فى الكلام ، والارتزاق بالطنطنات الفارغة ، والتى لا تحقق نفعا أو فائدة ، وتاريخهم جميعا خير شاهد على إفكهم ، وأصدق دليل على عدم جديتهم ، بل إنهم فى الحقيقة أصحاب مصلحة فى استمرار الفساد والفوضى ، حيث تروج تجارتهم وتزدهر ، ولو تحقق الإصلاح والتغيير لبارت بضاعتهم ، وخفت بريقهم ، وانصرف الناس عنهم .
2- الفصام الكامل بين المعارضة والنخبة وبين الناس ، ولا أدرى كيف لهم بعد ذلك أن يلوموا الإنسان المصرى فى عدم مشاركته فى الانتخابات ، أو فى أى حراك من أى نوع ، وفى عدم تصويته ،ودفاعه عن صوته واختياره ؟! وكيف لهم أن يتهموه بأنه انصرف عنهم ليقبل قطعة من اللحم ، أو كيسا من الأرز أو السكر من مرشحى الحزب الوطنى أو غيرهم ؟! إن أمثال هؤلاء ليس من حقه مأن يطلبوا من الناس شيئا وهم منعزلون عنهم ، لقد فشلت الأحزاب على مدار عقود فى أن تكوّن لها قاعدة شعبية عريضة ، ولم تحاول بجدية ومثابرة أن تلتحم بقطاعات المجتمع ، وأن تتواصل مع
أطيافه المختلفة ، ولم نسمع لهم عن ندوات أو حوارات أو مؤتمرات أو لقاءات دورية لمناقشة المشاكل ، وبحث الأزمات ، ووضع الخطط والسياسات ، وهى كلها أمور هامة ولازمة لبناء أحزاب حقيقية متداخلة ومتفاعلة مع الناس ، وهى أيضا أمور هامة ولازمة لتوعية الناس ، وتدريب الكوادر وإعدادها لمراحل أخرى من العمل الحزبى والسياسى ، ولا أدرى كيف يتجاهل القائمون على تلك الأحزاب أن أحزابهم لا تساوى شيئا بدون الناس ، وهى بديهية لا تحتاج إلى برهان ؟! وكما فشلت المعارضة فشلت النخبة أيضا فى التواصل مع الناس ، وتعريفهم بحقوقهم وواجباتهم ، وتكوين رأى عام فاعل وقوى ذى رؤية واضحة ومؤثرة تجاه قضايا المجتمع ، واقتصر عملهم على كتابة المقالات المُضللة ، والظهور الإعلامى الذى لا يقدم ولا يؤخر ، بل إن كثيرا منهم ركزوا جهودهم على التهجم على الإسلام تحت دعاوى التنوير والتجديد ، رغم علمهم اليقينى أن الإنسان المصرى يحب دينه بفطرته حتى وإن شابت سلوكه الأخطاء والانحرافات ، وأنه لا يمكن أن يسير خلف مشكك فى دينه وعقيدته ، وانصرف آخرون للترويج للتطبيع مع العدو الإسرائيلى ، او التبعية
العمياء للمخططات الغربية والأمريكية ، وتولى فريق ثالث التأصيل لفرعونية مصر وضرورة انسلاخها عن عروبتها وإسلامها، وهكذا بددت المعارضة والنخبة كل فرصها رغم تعطش المصريين للانخراط فى كل النشاطات الجادة والمخلصة والأمينة ، من أجل حاضر أفضل حالا ، ومستقبل أكثر أملا ، ولكنهم لا يجدون فى المشهد غير المنافقين والكاذبين والمدلسين ، ولو أخلصوا لأخلص لهم الناس ، ولكنهم قنعوا بالفتات ، وبددوا الوقت والجهد والطاقة فى الصراعات الداخلية ، وانشقوا على أنفسهم ، حتى ليعجب المرء مما يحدث فى حزب الوفد والتجمع والغد والناصرى وغيرها ، كما أنهم أيضا اختلقوا المعاذير لكسلهم وتبلدهم مثل التضييق الأمنى وقانون الطوارئ وغير ذلك من الحجج والمبررات .
3- إذا كان الناس يحتاجون إلى التحام المعارضة والنخبة معهم ، وشعورهم بمشاكلهم ومعاناتهم ، ومشاركتهم طموحاتهم وآمالهم ، فإنهم يحتاجون أمرا آخر شديد الأهمية والإلحاح ، وهو البرامج والخطط
التى تدلل على جدية المتصدين لقضايا الإصلاح والتغيير ، وتوحى بوضوح الرؤية والآليات والأهداف ، وفى كل الانتخابات المصرية وخاصة الأخيرة ، لم نر خططا ، ولم نسمع عن برامج ، ولو حاول كل حزب من تلك الأحزاب أن يتبنى مشاكل وطموحات قطاع من قطاعات الشعب لكان كافيا لتكوين قاعدة شعبية عريضة ، والتركيز على فصيل فى المجتمع فى إطار قومى عام مع الاستعانة بالخبراء لإعداد الدراسات والإحصائيات والأبحاث يمكن أن يضمن لتلك الأحزاب قبولا وجاذبية ، ولا أدرى مثلا كيف لتلك الأحزاب أن تتجاهل الفلاح المصرى بمشاكله المزمنة ، والتى أجبرته لأول مرة فى تاريخه على هجر أرضه ؟! أليس أهل الريف نصف سكان مصر ؟! وكيف لها أن تغض الطرف عن أصحاب العشوائيات وهم قنبلة موقوتة يعدون بالملايين ؟! أو العمال الذين بيعت مصانعهم بأبخس الأثمان ، ففقدوا وظائفهم ، ومصادر أرزاقهم ، وفقدت معهم مصر صناعتها الوطنية ، وتحولت إلى مستورد ومستهلك ، من الإبرة إلى الصاروخ ؟! أو الطلاب الذين تبدد أزهى سنوات أعمارهم فى نظام تعليمى عقيم ، لينضموا بعد تخرجهم إلى قوافل البطالة ، لا علم ولا خبرة ولا كفاءة ولا مران ولا قدرة على تلبية متطلبات التقنيات الحديثة ؟! إن تلك الأمثلة وغيرها دليل
على عجز تلك الأحزاب ، وعجز القائمين عليها ، وعدم جديتهم أو تؤهلهم للتصدى لمشاكل المجتمع وقضاياه ، ثم بعد ذلك يتعجبون من انصراف الناس عنهم ، والعجيب أن الأحزاب والنخبة لا يتعلمون من أخطائهم الفاحشة ، والتى يكررونها المرة تلو الأخرى ، ويصرون على الاستهبال والاستعباط فيرفعون شعارات مثل الديمقراطية هى الحل ، ولم يقل لنا أحد منهم : ما هى تلك الديمقراطية ؟ وما هى آلياتها ؟ وكيف نعد الناس لها ؟ وكيف نطبقها ؟ وهل الصورة الغربية التى تبهرهم تلائم مجتمعنا ؟ وهل يعلمون فعلا الثمن الباهظ الذى يدفعه الإنسان الغربى لذلك ؟ وهل نحن
قادرون على دفعه تحت ظروفنا وأحوالنا الحالية ؟ ويخرج آخرون يرددون : التغيير هو الحل ، دون أن يذكروا لنا ، تغيير من أو ماذا ؟ وكيف ؟ إن هؤلاء جميعا أمثلة صارخة للهزل والعبث ، وهم فى حقيقة الأمر جزء أصيل من المشكلة المصرية المزمنة ، فكيف يكونون حلا لها ، أو مساهما فى حلها ؟! إن المجتمعات تحتاج إلى عقود من الإعداد والممارسة لتصل إلى النظام السليم لإدارة شؤونها ، والمعارضة والنخبة المصرية تساهمان فى تأخير إعداد المجتمع المصرى وتأهيله لحكم نفسه ، وتحقيق الرفاهية لأبنائه .
سادسا : ماذا لو كانت الانتخابات نزيهة ؟!
لكى يكتمل الطرح والتحليل للمشكلة المصرية ، لا بد لنا من افتراض تلك الحالة التخيلية عن انتخابات نزيهة ، خالية من البلطجة ، تتم وفق القواعد والقوانين ، فماذا ستكون النتيجة ؟! والإجابة : سيفوز الحزب الوطنى ، فإذا ما مضينا فى تلك الافتراضات إلى الانتخابات الرئاسية ، وكان الرئيس مبارك مرشحا فيها ومعه آخرون ومنهم البرادعى ، ستكون النتيجة : فوز الرئيس مبارك ، فإذا ما انتقلنا خطوة أخرى وتخيلنا انتخابات رئاسية لا يترشح لها الرئيس مبارك ، وإنما يترشح ولده جمال ، ومعه آخرون ومنهم البرادعى ، ستكون النتيجة فوز جمال مبارك ، والسؤال المشروع هنا : كيف ؟ ولماذا إذن البلطجة والتزوير ؟!
سيفوز الحزب الوطنى لأن أحزاب المعارضة فشلت فى التواصل مع الناس ، وفشلت فى تقديم البدائل لهم ، وفشلت فى الحصول على ثقتهم ، فتلك الأحزاب عند غالبية الناس لا تختلف عن الحزب الوطنى ، بل ستكون مثله ، وربما أسوأ منه عند وصولها إلى السلطة ، كما أن الطبيعة البشرية لا تميل إلى التغيير وخاصة إذا كان البديل لا يتمتع بالجاذبية والإقناع ، وترجح فيه كفة الفائدة على كفة الوضع الراهن ، والقرآن الكريم أخبرنا فى عشرات المواضع عن تلك الطبيعة البشرية (...قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا...) البقرة 170 ، ( ...قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا...) المائدة 104 ، (...بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا...) لقمان 21 ، ( بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون ) الزخرف 22 ، [ أمة تعنى دين وملة ] ، ( قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون ) الشعراء 74 ، وقد يقول البعض : ولكن المجتمعات الغربية تغير أحزابها ورؤساءها ، والإجابة ما ذكرته آنفا من أن المجتمعات تحتاج إلى عقود من الإعداد والممارسة لتكون قادرة على أداء دورها ، وصيانة حقوقها ، ورغم ذلك فإن الحياة السياسية الغربية لا تخلو من سلبيات كثيرة ، وملاعبة مستمرة بين الناس والأنظمة .
سيفوز الرئيس مبارك أو ولده كما أسلفت لنفس الأسباب : فشل الرموز الحزبية والنخبوية فى التواصل ، وفشلها فى تقديم البدائل ، وفشلها فى الحصول على ثقة الناس ، وواهم من يظن أن مجرد الحديث عن الديمقراطية أو التغيير أو تعديل الدستور تعنى عند غالبية المجتمع شيئا ، فهى مصطلحات يراها معظم المصريين من قبيل الثرثرة والسفسطة النخبوية التى ربما تصلح للمقالات أو على شاشات التلفزيون ، ولكنها عند الناس لا تزن مثقال ذرة ، إن الناس تريد من يوفر لها فرص العمل ، ويضمن لها قوتها ، ومستقبل أبنائها .
إذا كان الحزب الحاكم سيفوز فى الانتخابات التخيلية النزيهة ، فلماذا إذن يمارس أعمال التزوير والبلطجة ؟! والإجابة : الغباء ، وقصر النظر ، وعدم الاعتبار من أحداث التاريخ ، وهو آفات يسلطها الله تعالى على المستبدين ليزرعوا بأيديهم بذور زوالهم . هل كان الإتحاد السوفيتى السابق فى حاجة إلى غزو أفغانستان ؟ وهل الولايات المتحدة فى حاجة إلى البلطجة ، والتدخل فى شؤون الآخرين ، ونشر قواعدها وجنودها فى كل مكان ؟ وهل كانت فى حاجة لغزو العراق ، واحتلال أفغانستان ؟ وهل كانت فى حاجة إلى سجون أبى غريب وبجرام وجوانتينامو والسجون الطائرة والعائمة والسرية وغيرها ؟ وهل هى فى حاجة للتجسس على الآخرين ، وإنفاق البلايين على تدبير الفتن والمؤمرات لهم ؟ بالقطع ليست فى حاجة إلى كل ذلك ، وكان يكفيها الصورة الجذابة عن العدل والحرية واحترام حقوق الإنسان ، لتحظى بقبول العالم واحترامه وتعاونه ، ولكنه غباء المستبد وعنجهيته وعجرفته ، وقصر نظره ، وانطماس بصيرته ، وعدم أخذه الدروس والعبر من هلاك الظالمين والطغاة وسوء مآلهم .
سابعا : أين البرادعى من كل ذلك ؟
البرادعى كان قابعا فى بلاد الفرنجة ، يبعث التويتات كلما عنّ له المزاج ، ويتحدث للصحافة بين الحين والآخر ، فلما انفض المَوْلد ، جاء فى زيارة سياحية ليكرر نفس الكلام الفارغ عن العصيان والمظاهرات والاعتصامات ، وخلال لقائه بعدد من شباب الحملة المستقلة لدعم مطالب التغيير ، وشباب 6 أبريل ، ورابطة دعم البرادعى ، وعدد من المستقلين ( شجعهم على التحرك الميدانى عبر المظاهرات والوقفات الاحتجاجية ، للعمل على نزع شرعية مجلس الشعب الجديد ، وشجع فكرة البرلمان الموازى ، ولكنه أوضح أنه لن يتقلد أى مناصب قيادية على أن يظل شريكا أساسيا فى عملية التغيير ) [ اليوم السابع ، 10-12-2010 ] ، وفى لقائه بمنزل السفير سيد قاسم مساعد وزير الخارجية الأسبق بالمنيا قال : ( إذا استطعنا أنا وغيرى من المستقلين أن نخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة فإن الحزب الوطنى لن يفوز أيا كان مرشحه ... سنلجأ لكل الوسائل المشروعة من أجل التغيير ومن بينها النزول للشارع والعصيان المدنى ، وسنفرض على النظام أن يحدث التغيير المطلوب ويستجيب لنا... ساعدونى أساعدكم لأننى سأعطى أولوية لمشروع التغيير ) [ الشروق 11-12-2010 ] ، وفى خلال لقاء خاص مع فريق عمل حملة البرادعى صرح بأنه ( لو لدينا 10 ملايين أو 20 مليون توقيع ، فإن النظام يبقى انتهى خلاص أمام نفسه والعالم ... هذا العدد يعنى أيضا أن الشعب بدأ يتفاعل مع قضية التغيير ، وسنقول للنظام إننا نمثله ، وإذا لم يستجب فسنكون مستعدين للنزول بمظاهرة تتجاوز النصف مليون شخص ، وهذه ليست أعجوبة ، أما غير كده مش هيحصل تغيير ... أنا لا أخلى مسؤوليتى ، وسأكون قبطان السفينة ، لكن أريد من يركب معى سفينة التغيير حتى تسير ، وإذا كان الشعب يريد زعيما أو قائدا فأهلا وسهلا ، بس لازم يكون لى ضهر ) [ الشروق 15-12-2010 ] ، وتلك التصريحات وغيرها تظهر عدم فهم طبيعة المجتمع المصرى ، وعدم فهم طبيعة النظام ، وعدم فهم طبائع التغيير ، والمشكلة هنا أن زعماء الإصلاح ، وقادة التغيير على مر التاريخ لا تظهر عليهم علامات الريادة والزعامة فجأة بعد تقاعدهم ، أو وشوك شمس حياتهم على المغيب ، ولكن الزعامة حالة نفسية وعقلية وسلوكية تسيطر على صاحبها ، فتؤرق ليله ونهاره ، وتسيطر عليه فى حركاته وسكناته ، فيصبح حالُ وطنه شغله الشاغل ، يضحى فى سبيله بماله ووقته وجهده ، ويكابد من أجله المشاق والصعاب ، وقد يتعرض فى أحوال كثيرة للمطاردة والنفى والسجن والتعريض بأهله وأسرته ، وقد يصل الأمر إلى المساس حتى بحياته ، ولكن كل ذلك لا يفت فى عضده ، ولا يثنيه عن مراده ، كما أن قيادة التغيير تتطلب فهما عميقا وإدراكا شاملا لمشاكل المجتمع ، وتصورا واضحا عن كيفية التعامل معها ، وتقديم الحلول لها ، وتحتاج القيادة أيضا إلى حنكة فى التعامل مع كل قوى التغيير على الساحة ، ومقدرة خاصة على جذب الشرفاء والمخلصين والأمناء ، وحشد فئات المجتمع المختلفة ، ولذلك فهى عملية تحتاج وقتا وجهدا وصبرا ، ولهذا فإنه من العبث أن يعتبر البرادعى مظاهرة من نصف مليون كفيلة بإحداث التغيير ، غير واضع فى اعتباره قوات الشرطة الهائلة ، وما قد يحدث من فوضى عارمة ، وقتل وتخريب وعدوان على الأعراض والممتلكات ، أو أن 10-20 مليونا من التوقيعات ستعطيه الشرعية ، وهو لم يجمع فى عام كامل غير حوالى 100,000 توقيع معظمها لشباب الكومبيوتر ، وباقى التوقيعات جمعها الأخوان المسلمون ، وشباب الكومبيوتر فئة لا يمكن التأكد من مصداقيتها ، ومدى استعدادها للتضحية ، كما أن كثيرا منهم يقيمون خارج البلاد .
من أبرز مظاهر العجز والقصور فى مفهوم البرادعى للتغيير تركيزه على الإصلاح الدستورى ، ونسيانه أن مواد الدستور التى يريد تغييرها ، والإجراءات الإدارية الأخرى التى يراها ضرورية للانتخابات وحكاية الديمقراطية ، كلها أمور ليست مما يشغل المواطن العادى ، فإذا أراد كما يقول أن يكون قبطانا لسفينة التغيير ، ولكنه يريد من يركب معه ، فعليه أن يجذب الركاب إلى سفينته ، وهم لن ينجذبوا إلى قبطان لا يعرف القيادة ، ولن ينجذبوا لقبطان لمجرد ترديد لمطالب التغيير المبهمة والعامة ، وهم لن يجعلوه من الأساس قبطانا أو زعيما أو قائدا لمجرد كلمات يطنطن بها كما يطنطن غيره ، والزعامة لن تكون أبدا شوية تصريحات صحفية ، وشوية تويتات ، وصفحة على الفيس بوك ، وشوية زيارات سياحية .
ثامنا : هل هناك من أمل ؟
الإجابة القطعية لا على المدى المنظور ، وذلك لأن عوامل التغيير ودوافعه وعناصره غير متوفرة فى المجتمع المصرى الآن ، صحيح أن الناس تعانى ، وصحيح أن الكثيرين يشكون ، وصحيح أن النخبة تندب وتولول ، ولكن الصحيح أيضا :
1- أن المعارضة المصرية غير مؤهلة لقيادة عجلة التغيير ، بسبب عجزها وانقسامها ، وعدم مقدرتها على التعاون فيما بينها، وافتقارها إلى الجدية والإخلاص ، وعدم امتلاكها لبرامج تتجاوز الكلام عن
الإصلاح السياسى والدستورى إلى الإصلاح الاقتصادى والاجتماعى ، وتتناول مشاكل المجتمع الحقيقية الأكثر إلحاحا فى التعليم والصحة والمرافق والخدمات العامة والإسكان والوظائف وغيرها ،
كما أن غياب الكوادر المؤهلة والمتمرسة بالعمل السياسى والحزبى ، وغياب الدماء الشابة ، وسيطرة الوجوه القديمة التى لا تؤمن بسنن التداول والتغيير ، وإفساح المجال للأقدر والأكثر كفاءة ، رغم
تباكيها على ما يمارسه النظام من استمرارية الحكم لعقود ، وهو دليل كاف على أنها لا تختلف عن النظام فى شئ .
2- وأن نخبتنا عاجزة عن تهيئة المجتمع للتغيير والإصلاح ، إنها قادرة فقط على الندب والولولة ، والأخطر من ذلك أنها تضلل الناس وتكذب عليهم ، يقول د . معتز بالله عبد الفتاح أستاذ العلوم السياسية
فى مقاله ( شهادات من ثلاثة أساتذة ) ، والذى نشرته صحيفة الشروق بتاريخ 15-12-2010 : ( من حسن حظ قراء الشروق أن ثلاثة من كبار أساتذة العلوم السياسية فى مصر يكتبون فيها بانتظام
، وقد سجلوا شهاداتهم لما جرى فى انتخابات مجلس الشعب ... د . نيفين مسعد فى مقالها يوم 9 ديسمبر 2010 قالت بلا مواربة : فى التأريخ للانتخابات البرلمانية المصرية الأخيرة سيقال أنها
الانتخابات الأقل نزاهة ، والأكثر استخفافا بأحكام القضاء ، وعبثا بإرادة الناخبين ... د . أحمد يوسف أحمد وفى نفس اليوم : الجديد الذى انفردت به الانتخابات هذه المرة هو التخلى عن الإشراف
القضائى الكامل ... د مصطفى كامل السيد فى مقاله يوم 13 ديسمبر 2010 : لم يعرف تاريخ مصر الحديث ممارسات تستهين بحكم القانون مثلما عرفت انتخابات مجلس الشعب الأخيرة ... هذه
الشهادات تأتى من ثلاثة باحثين كبار كل واحد منهم يمثل رأس مدرسة لها تلاميذها فى التحليل السياسى داخل مصر وخارجها ) ، والمشكلة هنا فى كلام هذا الرباعى من أساتذة السياسة أن الناس
جميعا تعلم ما حدث فى الانتخابات ، وليست فى حاجة إلى تكراره ، ولكنها فى حاجة إلى من يقدم لها الحلول ، ويساعدها على الخيار ، وفى حاجة أيضا إلى أن تعلم تاريخها ، وأن تعلم أن الاعتداء على
القانون والاستهانة به بدأت عندما أحلت النخبة لحركة 23 يوليو ما سموه بالشرعية الثورية ، فامتهنوا كرامة الناس واستحلوا حقوقهم ، ومن يومها والقانون يتم تنحيته جانبا للأقوياء وأصحاب النفوذ
، وأن سكوتهم جميعا على التجاوزات والمخالفات أصّل لكل تلك الأعمال المشينة حتى وكأنها أصبحت عادة لا تستثير انتباه غالبية الناس ، ومن العجيب أن د . نيفين مسعد تمنع تعليق القراء على
مقالها الأسبوعى ، ولا تجد حرجا بعد ذلك فى الحديث عن حرية الرأى والتعبير ، وتستشهد فى مقالها ( أصابت إمرأة وأخطأ رجال ) بالسيدة القرشية التى راجعت عمر بن الخطاب ( رض ) فى
مسألة المهور ، فأقر لها عمر بأنه أخطأ ، وتنهى أستاذة العلوم السياسية مقالها ( أم أن الإقرار بالخطأ فى هذا الزمن بات فضيلة لا يقدر عليها أحد ؟ ) [ الشروق 18-11-2010 ] ، والسؤال هنا :
كيف نربى أجيالنا إذا كنا نحجر على رأيهم وفكرهم ؟ وكيف لنا أن نكون قدوة لهم ونحن نقول ما لا نفعل ؟! إنه ورب الكعبة قمة مأساة تلك الأمة .
نخبوى آخر من الذين ملأوا الدنيا صياحا وضجيجا عن حقوق الأقباط المنتهكة ، وحقوق النوبيين المسلوبة ، وأخطار التوريث الحادقة بالمجتمع ، ولم يتورع عن الترويج للتغيير بالاستعانة بالخارج ،
إنه د . سعد الدين إبراهيم الذى يصرح خلال ندوة عقدها مركز ابن خلدون فى 14 ديسمبر الحالى بأنه ( إذا حصلنا على حكم من القضاء الدولى يقول إن الانتخابات مزورة سننزع الشرعية عن النظام
... نستطيع إنجاز هذه المهمة خلال سنة ... هذا ما حدث فى حالات مشابهة مثل أوكرانيا وإيران ) [ الشروق ، 16-12-2010 ] ، ويصرح أعضاء الائتلاف المستقل لمراقبة الانتخابات والذى يضم
40 جمعية أهلية ، ويشرف عليه مركز ابن خلدون ، أنهم سيرسلون ملفا مدعوما بالمستندات والصور إلى البرلمان الدولى بباريس لمطالبته بوقف عضوية د . أحمد فتحى سرور رئيس البرلمان
المصرى [ المصريون ، 8-12-2010 ] ، والشئ المثير للدهشة والتساؤل : كيف يكون دعاة التدخل الخارجى أمناء وغيورين على بلادهم ؟ وهل أصاب هؤلاء العمى والبله عن رؤية وإدراك
أحوال العراق ولبنان واليمن والسودان وباكستان وغيرها ممن تلاعبت فى شؤونها أصابع الخارج ؟!
3- وأن الإنسان المصرى فى حيرة من أمره رغم فقره وفاقته وإحساسه بالكبت والظلم ، ولكنه يُعذر لغياب رؤية إصلاحية تجذب انتباهه ، وقيادة تنظم جهده وحركته .
وستبقى المسألة المصرية تراوح مكانها ، وستظل الانتخابات يتلاعب بنتائجها المزورون والبلطجية ، وسيظل التغيير أملا يداعب خيالات الناس وأحلامهم ، حتى يخرج من بيننا من يعيشون عيشتنا ، ويتألمون ألمنا ، ويعانون معاناتنا ، ويطمحون فى غد نضمن فيه قوتنا ، ونأمن فيه على أنفسنا وأموالنا وأعراضنا ، ونطمئن على مستقبل أولادنا ، ومكانة بلدنا .. لقد سئمنا العواجيز من أصحاب الياقات البيضاء ، وسئمنا أيضا أصحاب البزات العسكرية ، ومللنا ندب النخبة وولولتها ، وكرهنا المعارضة الهزيلة وعبثها ، ونريد دماء شابة ، وعزائم متوقدة ، وحتما سيأتى ذلك اليوم ، لأن التغيير والتداول سنة إلهية ، ولكنه يأتى لمن يطلبونه بأيديهم وأعمالهم وتضحياتهم ، ومن يتملك عليهم قلوبهم وعقولهم .. إنه آت لا محالة .
سعد رجب صادق
saad1953@msn.com