التدين الشكلى والدولة الشكلية
|
التدين الشكلى |
بقلم : سعد رجب صادق
............................
تعرض المجتمع المصرى منذ بدايات القرن الماضى لهجمة علمانية شرسة ، قادها كتاب وصحافيون ومفكرون ممن يتسمْون بأسمائنا ، ويتشابهون معنا سمتا ولونا ، ولكن عقولهم رافضة لديننا وتراثنا ، وقلوبهم كارهة لثقافتنا وحضارتنا ، لا يرون إلا القبح والدمامة عندنا ، ولا يبصرون إلا الجمال والدلال عند غيرنا ، والعجيب أننا خلعنا عليهم الألقاب ، ومنحناهم الأوسمة ، وجعلناهم ملء السمع والبصر ، ومكناهم من الإعلام والصحافة ، والتعليم والثقافة ، فشوهوا عقل الإنسان المصرى ، وأفسدوا ذوقه ، وأدخلوا الشك والريبة إلى قلبه ، وتلاعبوا بوجدانه وعواطفه ، حتى فقدت أجيالنا الشابة ولاءها وإنتماءها وبوصلتها ، وأصبحت الفضائل تخلفا ورجعية وظلامية ، بينما تقليد الآخرين عصرنة وتنويرا وحداثة ، ورغم كل ذلك التشويه الذى ضرب بنيان المصريين ، والخلل الذى عصف بطبائعهم وسلوكياتهم ، على أيدى تلك النخبة الفاسدة المُضللة ، إلا أنهم مازالوا يمارسون دورهم التخريبى ، ولا أدل على ذلك من مقولة التدين الشكلى التى صارت مضغة فى أفواه هؤلاء ، يرددونها فى أحاديثهم وبرامجهم ، ويكتبونها فى كتبهم ومقالاتهم .
والعجيب أن هؤلاء جميعا لم يحاولوا أن يشرحوا لنا أسباب التدين الشكلى أو التدين المغشوش كما يسميه البعض ، ولم يمتلكوا الجرأة والشجاعة ليوجهوا سهام نقدهم ، وجام غضبهم على صورة أخرى أقبح وأشد ضررا ، وهى صورة الدولة الشكلية التى تمتلك كل مظاهر الدولة الحديثة من مؤسسة الرئاسة ، والمجالس النيابية ( الشعب والشورى ) ، وانتخابات دورية ، ووزارات ووزراء ، ومؤسسات إعلامية وصحافية ، وتلفزيون وقنوات فضائية ، ومدارس وجامعات ، وغيرها ، لكنها جميها مظاهر باهتة ومزيفة ، فالمجالس النيابية مُدّجنة ، والانتخابات مزورة ، والوزراء ينتظرون تعليمات الرئس ، وتوجيهات الرئيس ، وتوصيات الرئيس ، وأغلب المسؤولين جاءوا بالواسطة والمحسوبية ، والإعلام والصحافة مجموعة من المرتزقة والمنافقين ، والمدارس والجامعات لا تربية ولا تعليم ، وحتى من ينتقد منهم تلك المظاهر الشكلية للدولة لا يفعل غير الندب والولولة ، حتى أنهم فشلوا جميعا أن يكّونوا رأيا عاما ، أويخْلقوا حراكا نحو الإصلاح والتغيير ، أو يقدموا مقترحات لتفهيم الإنسان المصرى وتنويره وحفزه نحو تعديل أحواله المائلة ، كل ما يهم هؤلاء هو التدين الشكلى ، رغم أن التدين الشكلى نتيجة من نتائج الدولة الشكلية ، التى أفسدت التعليم ، وحجّمت مؤسسات الإسلام الرسمية ، وأطلقت وزير أوقافها يفرض قيوده على المساجد والخطباء ، وأطلقت أمنها وشرطتها تطارد وتعتقل وتسجن وتعذب كل الدعاة الأمناء ، والعلماء المخلصين ، ماذا تكون النتيجة لشعب يعانى الأمية الأبجدية والثقافية ؟ ماذا تكون النتيجة لشعب تخلى عنه مدرسوه وأساتذة جامعاته ؟ ماذا تكون النتيجة لشعب تخلت عنه مؤسساته وأجهزته الرسمية ؟ ماذا تكون النتيجة لشعب يعانى من إعلام ينشر الضحالة والسطحية ، وفن ينشر الرذيلة والإباحية ؟ النتيجة القطعية أن هذا الشعب الذى يحب دينه بفطرته لا بد وأن تختل معاييره ، وتفسد سلوكياته ، ولكنه هنا هو الضحية التى جنى عليها النظام ، وجنت عليها النخبة ، ولو وجد الاهتمام والرعاية ، وتلقى العلم والثقافة السليمة ، لأخذ بالدين فى جوهره وطقوسه ، وتمسك به فى مظهره ومخبره .
وجريمة النخبة لا تتوقف عند ذلك ، لأنها فى حقيقة الأمر هى المسؤولة عن إقصاء الدين عن الحياة ، ومحاولة حصره بين جدران المساجد ، وفصله عن كل شئون المجتمع ، وتشويه تعاليمه ، وتشويه كل من يدعو إلى تطبيقه وجعله منهاجا للحياة ، وقد تنبه لذلك الأستاذ فهمى هويدى فى تحليل قيم فى مقاله ( حج مبرور وآخر مضروب ) : ( إننا نعانى من مشكلة فصل الدين عن الأخلاق والمعاملات ، وقد حدث ذلك جراء الأجواء التى دأبت على اقناع الناس بأن الدين مكانه دور العبادة فحسب ... هذا الفصل الخطير رتب نتيجتين بائستين : الأولى أنه حول التدين إلى مجموعة من الطقوس والمظاهر التى تؤدى فى أماكن معينة وفى أوقات بذاتها ، والثانية أنه أضعف مرجعية القيم الحاكمة للأخلاق والمعاملات ، وحين حدث ذلك لم تعد الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وتم تفريغ الصيام من مضونه ، وتحولت العمرة والحج إلى رحلات للسياحة حينا ، وللتسوق فى أحيان أخرى كثيرة ، إن بعض الناقدين والغامزين كثيرا ما يتحدثون عن مفارقة زيادة مظاهر التدين مع زيادة مظاهر التفلت والفساد والتحرش ، ناسين أن ذلك من نتائج إلحاحهم على الفصل بين التدين وبين الأخلاق والمعاملات ) [ الشروق 13-9-2010 ] ، وقد أصاب الأستاذ فهمى هويدى كبد الحقيقة ، فهؤلاء الذين يتباكون على خيبة المصريين وتدينهم الشكلى ، ينتفضون جميعا صارخين منزعجين إذا دعا أحد إلى تطبيق الإسلام كعقيدة وشريعة ، أو الاهتمام به فى المدارس أو الإعلام ، مرددين كلامهم الفارغ عن الأخطار المحدقة بالدولة المدنية ، والقتل والتهجير الذى ينتظر الأقليات ، والحبس والإقصاء الذى يتربص بالنساء ، والأضرار الفاحشة للدولة الدينية التى ستخرج سيوفها من أغمادها ، وتشحذ سكاكينها ، لجز الرؤوس ، وقطع الأيدى والأرجل ، وغير ذلك من الأكاذيب والأباطيل .
لقد أخذ تضليل النخبة العلمانية وقت وجهد كتابها ومنظريها ، فلا تمر فرصة إلا ويرددون كلامهم السقيم ، يقول أسامة هيكل فى مقاله ( الدين عقل لا شكل ) : ( لقد أصبح الدين بالنسبة لنا شكلا ولا علاقة له بالعقل ) [ المصرى اليوم 28-8-2010 ] ، ثم يذكر مجموعة من المواقف للتدليل على كلامه ، منها سيدة تضع المصحف على عجلة القيادة بسيارتها ، وتقرأ فيه بينما بجانبها طفلها الذى لا يتجاوز 4-3 أعوام ، وبعض الناس الذين يتشاجرون فى نهار رمضان ، وتزاحم على مسجد يُحدث اختناقات مرورية ، بينما تناسى هذا العقلانى أن يدعو إلى تعليم الناس آداب المرور ، وضرورة الالتزام بقوانينه ، وتطبيقها بصرامة على الجميع ، وضرورة وضع قوانين لتعاملات الناس وتقاضيهم منعا للشجار والخناقات فى كل مكان ، وضرورة التخطيط السليم للمدن والشوارع بما يحفظ انسيابية المرور وتدفقه ، وضرورة امتناع المسؤولين عن إرباك المرور فى مواكبهم وتنقلاتهم ، تناسى كل تلك الأشياء ، ولم يجذب انتباهه غير التدين الشكلى ، فإذا تركنا العقلانى أسامة هيكل إلى كاتب آخر من كتاب المصرى اليوم ، وهو د . عمرو الشوبكى ، نجده يكتب عن التدين الشكلى تحت عنوان ( التدين المغشوش ) فى 17-9-2010 ( إننا نعيش بلا أدنى شك عصر التدين المغشوش ... التدين الشكلى والمغشوش لمجتمع يسير بخطى ثابتة نحو الغيبوبة الكاملة ) ، ثم تستهويه الحكاية فيكتب مرة أخرى فى 1-10-2010 تحت نفس العنوان : ( أخذ التدين مكان الدين ، وطغى الشكل على حساب الجوهر ، وظهر قادة جدد للمجتمع ، استفادوا من سذاجة البعض وجهل البعض الآخر ، حين تصوروا أنهم بحاجة إلى وسطاء يحدثونهم فى أمور بديهية وكأنها اكتشاف ، ويتربحون من بساطتهم ، ومن سوء المناخ المحيط بهم ) ، وهو كلام يشبه ما كتبه د . محمود خليل فى أكثر من مقال فى نفس الصحيفة تحت عنوان ( فن الدين ) فى أكتوبر من العام الماضى ، وفيه يتهجم على من يسميهم الدعاة الجدد ، ويلوم عليهم فى انتشار التدين الشكلى ، وتلك المقالات وغيرها تعطى الانطباع بأن نخبتنا العلمانية قد أزعجها الدعاة الجدد الذين استحوذوا على اهتمام الناس وانتباههم فانصرفوا عن النخبة وبضاعتها الفاسدة ، غير أن الشوبكى بدلا من أن يقدم لنا برنامجا للإصلاح ، وهو أستاذ العلوم السياسية ، قدم لنا درسا فى الضجر وضيق الصدر من قراء المصرى اليوم الذين لم يستحسنوا مقاله عن التدين المغشوش ، يقول الشوبكى عن تعليقات القراء على المقال : ( كانت لغتها صادمة بعيدا عن الاتفاق والاختلاف ، حيث وصلت لدرجة مرعبة من الركاكة والتشتت والجهل الكامل بأبسط الأمور السياسية ... كان صفيقا بدرجة كبيرة ، ودافع عن الدعاة الجدد بلغة فيها كثير من النفاق والتزلف المهين ) ، أستاذ العلوم السياسية ، الحامل للواء الدعوة إلى حرية التعبير ، واللائم للمصريين على سلبيتهم وعزوفهم ، لا يملك سعة الصدر ، ولا يستطيع الصبر على انتقاد قرائه ..أليس هذا هو اللهو والهزل بعينه ؟! أليس هذا هو قمة الاستخفاف بعقول المصريين ؟! ، وفى مقال ثالث بعنوان ( دائرة الطائفة الجهنمية ) ، يلقى الشوبكى باللوم على التدين الشكلى فى شيوع التعصب والطائفية ( الحقيقة أن دائرة الطائفة الجهنمية بدأت حين فتحت الحكومة الباب على مصراعيه أمام خطاب التأسلم الشكلى المدعوم من المؤسسات الدينية الرسمية ، وهو خليط من بيزنس الدعاة الجدد ورجال الدين الرسميين ، تواطأت معه التيارات الإسلامية المختلفة ، حتى أصبحت مصر نموذجا يدرس فى تغييب العقل وفى التدين الشكلى ... إن إنقاذ هذا المجتمع يحتاج إلى مواجهة لوثتين الأولى التدين الشكلى والثانية كرة القدم ) [ المصرى اليوم 7-10-2010 ] ، هكذا بتلك السطحية والبساطة يتوصل دكتور السياسة لحل العقدة المصرية !! .
غير أن الأمر يصل إلى قمته الدرامية العبثية على يد واحد آخر من النخبة ، وهو علاء الأسوانى ، الذى استشاط غضبا من التدين الشكلى فنصب نفسه فقيها ومفتيا فى مقاله ( هل يعتبر الظلم من مبطلات الصيام ؟ ) : ( من العجيب أن فقهاء المذاهب الأربعة وربما غيرهم أيضا قالوا إن الصلاة بلا حضور ولا خشوع يحصل بها أداء الفرض ، ماهذا الكلام ؟ إنه باطل ... عندما نقتنع أن الظلم من مبطلات الصيام ، وندرك أن انتزاع حقوقنا المغتصبة أهم من ألف ركعة نؤديها فى صلاة التروايح ، عندئذ فقط نكون قد توصلنا إلى الفهم الصحيح للإسلام ، الإسلام الحقيقى هو الديمقراطية ... هذا التدين الشكلى السبب الأصيل فى تخلفنا ) [ الشروق 17-8-2010 ] ، غير أن الأسوانى فاته أن يتساءل : كيف للمصريين أن يتدينوا حقا وهم يشاهدون الشذوذ والعهر فى فيلمه " عمارة يعقوبيان " ؟! ، وكيف لهم أن يسلكوا الطريق السليم وهم يقرأون هذا الكلام فى روايته " شيكاغو " : ( أخذا يتبادلان القبل ببطء ولذة ، راح يلعق أذنها ، وهوى إلى عنقها يقبله بنهم ، ففتحت فمها وكأنها تتأوه ... وأدخل يديه فى قميصها ببطء متلذذ مثير ، ثم أخرج نهديها ، وأخذ يدعكهما براحته ، كان يوجه إليها كلاما وهو يبتسم وكأنه يهدهد طفلا ... فى حين ظلت هى تصرخ من فرط اللذة ... بدا الإثنان فى حالة حادة من الانفعال ، وكأنهما يريدان أن ينعما بالجنس قبل أن ينسحب المخدر ، أو كأنهما على نحو غامض لا يمكن تفسيره يشعران أنهما مراقبان ، فيتعمدان استعراض أقصى ما لديهما من غرام ، استمر... يعض نهديها ويلعقهما ويمتص حلمتيها ، حتى دفعته برفق فاستلقى على ظهره ، وبديا فى تلك اللحظة وكأنهما يتحركان وفقا لإيقاع راسخ متفق عليه ، انحنت عليه ، مدت يدها ، وفكت سوستة البنطلون ، ثم أخرجت عنقوده وتأملته بشهوة ، أدارت لسانها حوله عدة مرات ثم بدأت تمصه ، وقد أغمضت عينيها باستمتاع ) ..كيف بالله عليك ؟! ، والعجيب أن الأسوانى يجعل أب الفتاة يتلصص من وراء النافذة على هذا المشهد البورنو ، ثم بعد ذلك يتعجب هؤلاء ، ويتساءلون باستعباط : ماذا حدث للإنسان المصرى ؟!.
إن الأمر ببساطة شديدة أن الإنسان المصرى وقع ضحية لمجموعتين من المجرمين :
1- النظام الذى تخلى عن واجباته الدستورية والقانونية ، ووجد فى الفساد والفوضى مُعينا على إلهاء الناس ، وتشتيت جهودهم ، يقول الأستاذ فهمى هويدى فى كتابه ( التدين المنقوص ) : ( إن الحكومة هى المسئول الأكبر عن أخلاق الناس ، انظر للنماذج التى تقدم فى الإعلام عن التدين والمتدينين ، انظر لما تنادى به الحكومة ، ثم تأتى بعكس ذلك ... إن وجدت فضائل شاعت ، أو معايب تفشت وذاعت ، ففتش عن الحكومة ، ودقق فيما تقول وتفعل ، حتما ستجد الحبل السرى الذى يربط بين الاثنين ) .
2- النخبة الفاسدة التى تخلت عن واجبها الأخلاقى فى قيادة الناس وتوجيههم ، بل إنها أخذت على عاتقها تضليلهم وإفسادهم ، والتلاعب بعقولهم وقلوبهم ، رافعة راياتها الكاذبة المضللة عن التنوير والحداثة على الطريقة الغربية ، وكأنه لا يمكننا ذلك إلا إذا تخلينا عن ديننا وتراثنا وقيمنا ، يقول العلامة يوسف القرضاوى فى كتابه ( العبادة فى الإسلام ) : ( من أراد الإنصاف والإصلاح فلينتهج نهج القرآن الحكيم ، حيث ينظم العقائد والعبادات والأعمال الطيبة كلها فى سلك واحد ينتظم منه عقد جميل هو صفات المؤمن البار التقى ) .
سعد رجب صادق
saad1953@msn.com