مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية عن المركز الأمريكى للنشر الالكترونى .. والأراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
............................................................................................................................................................

 
 

 التعليم فى مصر ..مشكلات وحلول : 10- التمويل والمجانية فى النظام التعليمى
..............................................................

 

قم للمعلم وفيه التبجيلا.. كاد المعلم أن يكون رسولا

 

بقلم : سعد رجب صادق
............................

بالعلم والمال يَبنى الناسُ مجدَهم *** لم يُبن مجدٌ على جهل وإقلال .. بيت حكيم من الشعر ، تدلل عليه كل نهضة أقامها الإنسان ، وكل حضارة صنعتها أمة من الأمم ، فلا مجد بدون العلم ، ولا علم بدون مال يُنفق بحكمة وتخطيط للصرف على مؤسساته وبرامجه والقائمين عليه من الطلاب والباحثين والإداريين ، ويُنفق على تطبيقاته فى مجالات التنمية المختلفة ، ورغم ثروات العرب والمسلمين الطائلة فى زماننا هذا ، إلا أنها بُدًدت فى مصارف لا تراعى الأولويات والضرورات الملحة للتقدم والمنافسة ، ورغم أبناء الأمة المتحرقين للبحث والمعرفة ، والمتعطشين للتغيير والإصلاح ، والتواقين لمعالجة علل مجتمعاتنا وأمراضها، إلا أن طاقاتهم ورغباتهم لم تجد السياسات الحكيمة التى توظفها ، ولا الأموال التى تنفق عليها ، ولا البرامج التى تصونها وترعاها ، فأصبح حالنا ما نعلمه جميعا من فوضى وعشوائية ، وتخلف وتأخر ، واتسعت المسافة بيننا وبين غيرنا من أمم الأرض ، حتى ليتملك المرء العجب ، وتعتريه الدهشة ، ويلح عليه التساؤل : ماذا ننتظر ؟ ولماذا نقامر بحاضرنا ومستقبلنا ؟ ولماذا نقبل أن نكون فى ذيل الشعوب ؟ وأين ولاة أمورنا ، والمسئولين عن شئوننا ؟ وأين نحن من ذلك كله ؟ وكيف نرتضى هذا الوضع المذل المهين ؟!، ويتعرض هذا المقال بنظرة متأنية فاحصة للقضايا والبدائل المتعلقة بتمويل النظام التعليمى المصرى ، كما يتناول أيضا موضوع المجانية بأمانة وتجرد ، بعيدا عن العواطف المزيفة ، والشعارات الجوفاء .

أولا : ما هى المشكلة ؟

1- المشكلة أن الاعتمادات الخاصة بالتعليم فى الميزانية المصرية أقل بكثير مما هو مطلوب للوفاء باحتياجات التعليم الحديث ، وفى بحث قدمه د. ضياء الدين زاهر فى مؤتمر إصلاح التعليم والذى عقد بمكتبة الإسكندرية فى ديسمبر 2004 ، ذكر أن الإنفاق الحكومى على التعليم الأساسى أو قبل الجامعى وصل إلى 4.6 مليار جنيه ( 1991/1990 ) ، ارتفع إلى 22.2 مليارا (2004/2003 ) ، ثم إلى 22.7 مليارا ( 2005/2004 ) ، وذكرت صحيفة الوفد بتاريخ 12-8-2010 أن ميزانية التعليم قبل الجامعى كانت 20.7 مليار جنيه (2007/2006) ، ووصلت إلى 22.7 مليارا ( 2009/2008) .

2- المشكلة أيضا أن نصيب الطالب المصرى من ميزانية التعليم يعتبر منخفضا مقارنة بالكثير من الدول النامية ، وحسب الخطة الاستراتيجية القومية لإصلاح التعليم (20012-2011-2008/2007 ) ، فإن مجموع الإنفاق على الطالب (2009/2008) فى مرحلة التعليم الأساسى كان 129 دولارا ، وهى أقل بكثير مما تنفقه دول مثل الأردن والسعودية وماليزيا والهند والفليبين وشيلى ، حيث أنفقت الأردن مثلا لنفس الفترة 800 دولارا ، والسعودية 1,337.6 دولارا .

3- انخفاض معدل الإنفاق على التعليم كنسبة من الناتج القومى ، وقد كانت تلك النسبة %5 ( 2003/2002 ) ، وهى الآن %4.5 (2010/2009 )، بينما ينبغى أن تكون على الأقل %6 حسب توصيات منظمة اليونسكو ، لإعطاء تأثير إيجابى فى معدلات التنمية ، والعجيب أن تلك النسبة كانت %6 فى الفترة (1990/1988 ) ، والعجيب أيضا أنها أقل من مثيلاتها فى الأردن (%7.1) ، المغرب (%7.9) ، الجزائر (%10.8) .

4- انخفاض معدل الإنفاق على التعليم كنسبة من الإنفاق الحكومى ، فينما كانت النسبة %16.2 (2003/2002 ) ، انخفضت إلى %14 (2010/2009) .

5- ذهاب معظم ميزانية التعليم لتغطية الأجور والنفقات الجارية ، وهى ظاهرة شائعة فى البلاد العربية ، وفى مصر فإن %91 من إجمالى ميزانية التعليم تذهب لأجور العاملين ، وخاصة الشرائح العليا فى الهيكل الإدارى ، فى صورة مكافآت وبدلات وتنقلات واجتماعات ونحوها .

6- غياب العدالة فى توزيع ميزانية التعليم بين مدارس المدن والقرى ، وبين الأحياء المختلفة فى العاصمة والمدن الأخرى ، وقد أشارت دراسة أعدها رونالد سولتانا من مكتب اليونيسيف الإقليمى للشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى أن الإنفاق الحكومى على التعليم فى مصر منحاز لصالح الفئات السكانية الثرية ، حيث تستحوذ على %40 من مجموع الإنفاق ، بينما تنال المناطق والأحياء الفقيرة والقرى %7 فقط .

7- غياب التمويل والدعم من المصادر الأخرى البديلة ، مثل الشركات والمؤسسات ومنظمات المجتمع المختلفة والتبرعات والأوقاف وغيرها ، وهى مصادر فى غاية الأهمية ، وتلعب دورا محوريا فى دعم التعليم بجميع مراحله فى كثير من بلاد العالم المتقدمة والنامية .

8- إهدار الجانب الأكبر من المعونات والمنح الدولية ، وعدم الاستفادة منها بما يخدم تطوير التعليم والارتقاء به فى النواحى المختلفة مثل تحسين المناهج ، وإصلاح المبانى المدرسية ، وتجهيز المعامل والمكتبات ، وغيرها الكثير.

9- غياب استراتيجية تعليمية واضحة ومحددة ، توظف الموارد حتى وإن كانت قليلة للاستفادة منها إلى الحد الأقصى ، ويرجع ذلك لأسباب شتى ، منها غياب التخطيط والمتابعة والشفافية والتقييم الدورى والمحاسبة للمسئولين ، وتعدد الوزراء والإدارات ، وتبدل الرؤى والآليات ، وسيطرة البيروقراطية العقيمة والروتين البئيس على عملية إتخاذ القرارات وتنفيذها ، والاستسلام للابتزاز والضغوط الخارجية ، وغياب الفهم والعلم والخبرة بإدارة العملية التعليمية ، وأيضا غياب الإخلاص والرغبة الصادقة فى التحسين والإصلاح ومعالجة المشاكل وجوانب القصور.

ثانيا : المجانية

مجانية التعليم واحدة من أكبر مشاكل التعليم الجامعى المصرى ، ولا أكون مبالغا إذا قلت أنها أكبر تلك المشاكل ، وأكثرها خطرا على النظام التعليمى ، وعلى الطلاب ، وعلى أسرهم ، وعلى مستقبل إصلاح العملية التعليمية برمتها، وتقتضى الأمانة هنا أن أقرر حقيقة لا تقبل جدلا عند كل مخلص غيور على مستقبل هذا المجتمع ، وهى أن المجانية كانت قرارا سياسيا فقط لا غير ، ولأنها كانت قرارا سياسيا دعائيا فإن حركة 23 يوليو لم تهتم ، ولم يخطر على بال أفرادها الجوانب والعواقب الاقتصادية والاجتماعية ، وكذلك الجوانب النفسية والسلوكية ، وعوامل الجودة والقدرة على المنافسة ، والأبعاد المستقبلية وغيرها ، وإذا نظرنا بشئ من التمعن والتجرد لأمكننا الوصول إلى مجموعة من الحقائق البديهية :

1- يحتاج التعليم الجيد إلى نفقات باهظة ، لا يمكن الوفاء بها مع المجانية .

2- كما أن المجتمعات مهما كانت غنية ، ومهما عظمت مواردها ، تظل غير قادرة على الوفاء بنفقات التعليم مع المجانية ، فما بالنا بالمجتمع المصرى الفقير فى موارده ، والفقير فى نظامه الإدارى لاستغلال تلك الموارد ، وتوظيفها بالطريقة المثلى .

3- المجانية دعوة للاستهتار وعدم الجدية ، والمتأمل فى جامعات مصر يجد أن نسبة كبيرة من طلابها يفتقرون إلى الرغبة والإرادة فى الجد والمثابرة ، والعمل الشاق ، والنفس الطويل ، والاستعداد لتحمل تبعات التعليم الحديث بما فيها من صعوبة ومشقة ومنافسة ، ولا يُعْفى الطالبَ من ذلك حاليا بعض المعاذير، مثل تدهور مستوى المناهج ، وقلة فرص العمل ، وضعف العائد ، فتلك الظواهر السلبية موجودة حتى أيام أن كانت الدولة تلزم نفسها بتعيين الخريجين ، وأيام كانت المرتبات كافية لتحقيق حياة كريمة ، والوفاء بضروراتها الرئيسية ، ويكفى أن نسبة نجاح كثير من هؤلاء الطلاب تتم عند الحد الأدنى للدرجات ، وتتم بتطبيق نظام الرأفة ، وتتم لدفع هؤلاء للمرحلة التالية لكى يتم إفساح المجال لاستقبال آلاف غيرهم لكى تستمر تلك الدورات العبثية من الزج بتلك الأعداد الهائلة إلى الجامعات ، ثم الزج بهم مرة أخرى خريجين لا يفقهون شيئا ، وتكون المحصلة النهائية تبديد ثروات المجتمع وموارده القليلة ، وتبديد طاقات الطلاب ، وتبديد جهود أسرهم ، وتبديد مستقبل المجتمع ، وقدرته على النهوض والتقدم والمنافسة .

4- إن إلغاء المجانية يعنى إعادة التعليم لوضعه الحقيقى كرسالة تعتمد على الإجادة العلمية ، والتفوق والجدية ، فليس من المعقول أن من ينفق ماله سينفقه سدى ، أو أنه لن يعنيه أن يرسب فى مقرر ما أو سنة ما ، أو أن كل هدفه سيكون النجاح عند حده الأدنى ، إن الطبيعة البشرية تأبى على الإنسان تبديد جهده وماله بلا فائدة ، أو إنفاقه بلا مقابل ، وهذا سيكون ضمانا لخريجين يجيدون البحث ، ويحسنون الفكر، ويتقنون العمل ، ويعلمون كيف يتناولون مشاكل المجتمع ، وكيف يعدون لها الحلول ، وكيف يخططون لحضارته ونهضته ومقدرته على المنافسة بما يضمن له مستقبلا ومكانة اقليمية وعالمية .

5- ولا يعنى إلغاء المجانية إعادة الطبقية ، والتمييز بين فئات المجتمع ، لأن الغَنى وإن امتلك المال فلا بد له أيضا من امتلاك الجدية والمثابرة والإجادة ، وهى معايير النجاح فى نظام تعليمى جيد ، وجميع الأنظمة التعليمية التى تتطلب مصاريف للتعليم الجامعى لا تحرم الطالب المتفوق أيا كان مستواه الاجتماعى من فرصة التعليم ، لأن هذا الطالب المجتهد والمتفوق هو ما تبتغيه تلك الأنظمة ، ولهذا فإنها توفر المنح الدراسية ، والقروض ، والوظائف فى معامل الجامعة أو مكتباتها أو غيرها لمساعدته فى دفع الرسوم الدراسية ونفقات الحياة ، والمعونات المختلفة من الصناعات ومراكز الأبحاث والجمعيات الأهلية وغيرها ، إن المجتمع الرشيد يلزمه الطالب المتفوق ، والطالب الجاد ، والطالب القادر على المثابرة والمنافسة ، والطالب الذى يتحمل تبعات الحياة ، ويفى بما عليه من التزامات وواجبات ، ونظام المجانية لا يساعد على وجود تلك النوعية ، ولكنه فى المقابل يخلق فى أغلب الأحيان نوعية مستهترة غير ملتزمة وغير جادة وغير قادرة على تحمل التبعات .

6- هل فى مصر فعلا مجانية ؟ فى دراسة حديثة قدمها د. سامى محمد نصار ، أستاذ أصول التربية وعميد معهد الدراسات التربوية بجامعة القاهرة ، بعنوان ( التعليم الخاص وبنية النظام التعليمى بمصر ) ، وأشارت إليها صحيفة اليوم السابع فى عددها بتاريخ 24-9-2010 ، يذكر صاحب الدراسة أنه لا توجد حقا مجانية فى التعليم المصرى ، وأنه مع التغيرات التى طرأت على المجتمع مع بداية السبعينات ، وتطبيق سياسات اقتصادية تقوم على الانفتاح والسوق الحر ، وظهور طبقات جديدة من الرأسماليين ، أصبح التعليم فى مصر منقسما إلى قسمين : تعليم عام حكومى مجانى إسما، لعامة الشعب ، ضعيف المستوى فقير الإمكانيات ، هزيل العائد أو المردود، يتحمل فيه المواطن ضعف ما تدفعه الدولة ، ففى عام 2005 بلغ الإنفاق الأسرى 54 مليار جنيه ، أى حوالى ضعف الإنفاق الحكومى ، فى صورة دروس خصوصية وكتب خارجية وغيرها ، وأن المواطنين اضطروا لذلك لتعويض جوانب القصور فى التعليم الحكومى ، والقسم الآخر التعليم الخاص بما فيه من التميز وتعدد المستويات وتنوع اللغات ، وهو قاصر على أبناء الطبقة الميسورة ، ويتحمل تكلفته المستفيدون منه .

الشئ الذى يثير عجبى هنا أنه إذا كانت تلك الدراسة وغيرها تظهر أنه لم يبق لنا من المجانية غير إسمها ، فلماذا ينزعج الكثيرون كلما نوقشت فكرة المجانية ؟ ولماذا لا يملك الكتاب والمفكرون الجرأة لتحويل أفكار الناس من وهم المجانية إلى محاولة إيجاد وسائل وبدائل أخرى ، أكثر نجاعة ، وأفضل تأثيرا ؟ ولماذا يقف المسئولون عاجزين عن التغيير رغم أنه أصبح أمرا ملحا ولازما ، ولا يحتمل التأجيل ؟

7- حديث المجانية هنا المقصود به مجانية التعليم الجامعى ، أما بالنسبة للتعليم الأساسى بمراحله المختلفة فإنه حق لكل أبناء المجتمع دستوريا وقانونيا ، وهو المعمول به فى كل بلاد العالم ، وإن كانت بعض الأنظمة فى بلدان مختلفة تتطلب نسبة من المصاريف فى المرحلة الثانوية ، ويرى بعض المهتمين بالشأن التعليمى ضرورة تطبيق ذلك أيضا فى مصر، يذكر د . زكى البحيرى فى مقاله ( استراتيجية بديلة لنظام التعليم الثانوى -4- ) ، والمنشور فى صحيفة المصرى اليوم بتاريخ 28-4-2010 ( توفير ميزانية لا تعتمد فقط على مخصصات الدولة للتعليم ، والتى لا تكفى وحدها ، لذلك يمكن تخصيص ضريبة للتعليم مقدارها %2 على الأرباح التجارية والصناعية ، خاصة على السلع الترفيهية كالسيارات مثلا ، وتشجيع مؤسسات المجتمع المدنى ، ورجال الأعمال للمساهمة فى صندوق يخصص للتعليم ، والاستفادة من المقترح الذى كان قد طرحه وزير الصناعة المهندس رشيد محمد رشيد برفع الدعم عن ال 40 مصنعا الأكبر فى مصر ، مما يوفر 15 مليار جنيه مصرى يتم تخصيصها للتعليم ... كذلك ينبغى تحميل القادرين من أولياء أمور الطلاب نصيبا من تكاليف تعليم أبنائهم فى المدارس الحكومية ، طالما سوف نوفر مدرسة بالمعنى الصحيح ، ولذلك نقترح فرض مصروفات على جميع طلاب المدارس الحكومية ، من المرحلة الإبتدائية حتى المرحلة الثانوية مقدارها فى حدود ألف جنيه سنويا ، على أن يعفى منها فى حدود %40 من العدد الكلى للطلاب من غير القادرين ، وهذا يوفر حوالى 10 مليارات جنيه أخرى سنويا لميزانية التعليم ، مع ملاحظة أن المبالغ المالية التى ينفقها الأهالى على الدروس الخصوصية تتعدى ال 12 مليار جنيه سنويا ) ، ثم يمضى د. البحيرى فى تصوره لوضع التعليم وردود أفعال بعض طبقات المجتمع ( فإذا ما أضفنا هذه المليارات من الجنيهات إلى المخصصات المالية لوزارة التربية والتعليم من ميزانية الدولة ، فسوف تتوفر لنا ميزانية ضخمة تمكننا من توفير العدد اللازم من المدارس المجهزة على المستوى العصرى ... وتجدر الإشارة إلى أنه سوف تعلو الأصوات خاصة من الفئات تحت المتوسطة اجتماعيا وتقول : " هو احنا لاقيين ناكل لما حندفع مصروفات لأولادنا فى المدارس " ، ولن يقبلوا ذلك الأمر ، ولكن لتحقيق هذا البرنامج القومى لا بد من دور إعلامى قوى ، يتولاه الخبراء فى هذا المجال لتوضيح أن المبالغ المالية الضخمة التى ينفقها أولياء الأمور على أبنائهم لتلقى الدروس الخصوصية أكبر بكثير مما سيدفعونه كمصروفات ) ، ثم يخلص إلى نتيجة أن ( مدرسة منتظمة تعلم التلاميذ العلم والأخلاق والنظام ، والاعتماد على النفس ، وامتلاك القدرة على المبادرة ، وتؤهلهم تأهيلا حقيقيا للتعليم العالى ، ولسوق العمل ، خيرا ألف مرة مهما كان الثمن من مدرسة تتسم بالفوضى ، لا تربى ولا تعلم ، وتعطى شهادة لا فائدة منها ) ، ورغم ما فى تلك المقترحات من وجاهة إلا أنه من الواجب دراستها وأمثالها بتمعن ، ومراعة أن حوالى نصف الشعب المصرى يعيشون عند حد خط الفقر أو تحته ، وأن أموال الضرائب ، وثروات المجتمع ، والتى هى ملك للناس ، هى ما يذهب للإنفاق على الخدمات وغيرها ، والتى منها التعليم ، ومن الجدير بالذكر أيضا أن الضرائب العقارية التى تحاول مصر تطبيقها ، هى ما يستخدم فى الولايات المتحدة مثلا لتغطية نفقات التعليم الأساسى ، بجانب صيانة المرافق التى ترعاها الدولة أو الولايات مثل المياه والصرف الصحى ، وصيانة الطرق ونظافتها ، وإعادة استخدام المخلفات recycle ، وأن كل تلك الأمور يتم مناقشتها بشفافية ، ويتم إشراك الناس بالرأى والمشورة قبل تطبيقها ، ويتم أيضا مراقبة المسئولين ومحاسبتهم ، وكلها أمور مفتقدة فى المجتمع المصرى .

ثالثا : الدروس الخصوصية مرة أخرى

تحدثت عن الدروس الخصوصية فى مقالى السابق ( الثانوية العامة والدروس الخصوصية ومكتب التنسيق ) ، وتعرضت للسوءات الكثيرة التى تسببها للنظام التعليمى ، وللجوانب الاجتماعية والسلوكية السلبية على الطلاب والمدرسين والأسر ، غير أننى أجد نفسى هنا فى حاجة للحديث عن الدروس الخصوصية مرة أخرى ، وذلك لدورها وتأثيراتها على الجوانب المادية والاقتصادية للتعليم المصرى ، والمعروف أن مصر هى أول الدول العربية التى عرفت تلك الظاهرة المشينة ، والتى بدأت مقتصرة على الأسر القادرة ماديا ، ثم تحولت مع ثمانينات القرن الماضى إلى وباء عام طال كل شرائح المجتمع ، وانتقلت إلى مجتمعات عربية أخرى عن طريق المدرسين المصريين المعارين إليها ، وفى المجتمع السعودى على سبيل المثال ، والذى يبلغ عدد الطلاب فيه حوالى خمسة ملايين طالب فى مراحل التعليم المختلفة ، فإن %30-%20 منهم يتعاطون الدروس الخصوصية ، بكلفة سنوية تصل إلى 30 مليون ريال ، ويبلغ متوسط الإنفاق الشهرى للأسرة على الدروس الخصوصية بين 1500-500 ريال .

وفى دراسة لمركز المعلومات واتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء المصرى عن الدروس الخصوصية صدرت فى سبتمبر 2005 ، أن %77-%61 من طلاب المدارس فى جميع مراحل الدراسة يحصلون على الدروس الخصوصية ، مما يكلف الأسر المصرية قرابة 15 مليار جنيه مصرى سنويا، وذكرت الدراسة أن متوسط الإنفاق الشهرى للأسرة على الدروس الخصوصية حوالى 500 جنيه شهريا ، مما يلتهم إجمالى الدخل الشهرى لشريحة كبيرة من الأسر ، وتتفاوت نسبة من يتعاطون الدروس حسب دخل الأسرة ، فهى %61 فى الأسر ذات الدخل المنخفض ، بينما تصل إلى %77 فى الأسر ذات الدخل المرتفع ، ووجدت الدراسة أيضا أن تعاطى الدروس الخصوصية ليس بالضرورة انعاكسا لحالة الطالب الدراسية ، ولكنها لضمان فرصة أكبر للحصول على درجات أعلى ، وتقييم أفضل ، وقد ربطت دراسة أخرى للجنة الشئون المالية والاقتصادية بمجلس الشورى ، فى سبتمبر 2003 ، بين الدروس الخصوصية وانخفاض معدل النمو فى المجتمع ، وذلك لانكماش الدخل المتاح للأسر بعد الإنفاق المتضخم على الدروس مما اضطرهم لتخفيض الميزانية المخصصة لشراء باقى مستلزمات الأسرة المعيشية ، وهو ما ساهم مع عوامل أخرى فى انخفاض معدل النمو ، أى أن الأمر لا يقف عند حدود الأسرة وإنما يتعداه إلى التأثير على اقتصاديات المجتمع وخطط التنمية ، وفى دراسة لمركز البحوث الاجتماعية والجنائية أشارت إليها صحيفة ( المصريون ) بتاريخ 21-9-2010 ، أن %39 من الأسر ينفقون نصف دخلهم على الدروس الخصوصية ، بينما ينفق %22.6 ثلث دخلهم ، و %18.1 ينفقون ربع دخلهم ، وأشارت معدة الدراسة د . ناهد رمزى أن الدروس الخصوصية تخل بمبدأ تكافؤ الفرص بين الطلاب ، ولا تحقق المجانية الحقيقية.

والعجيب أن ظاهرة الدروس الخصوصية امتدت إلى الجامعات ، رغم أن لائحة الجامعة لسنة 1972 تجرمها لأعضاء هيئة التدريس ، سواء تمت بمقابل أو غير مقابل ، والمتأمل فى كل تلك الحقائق يدرك كم الهزل والتهريج ، والتردى غير المسبوق للنظام التعليمى فى مصر ، ويدرك أيضا كم النفاق والتدليس فى التمسك بسياسة المجانية الفاشلة ، ويدرك كذلك الجبن والخور فى مواجهة أنماط وخطط أثبتت عقمها ، وعدم قدرتها على تحقيق أى إنجاز لإصلاح التعليم وتطويره .

رابعا : ما هو الحل ؟ وما هى البدائل المتاحة ؟

1- لا شك أن هناك حلولا شتى ، وبدائل مختلفة ، وتجارب ناجحة لأمم أخرى يمكن تطبيقها عندنا مع شئ من التحوير والتعديل لتلائم ظروفنا ، غير أن كل ذلك لا قيمة له مع غياب استراتيجية قومية واضحة المعالم ، متعددة المراحل ، يقوم عليها المخلصون الأمناء ، والغيورون على مصلحة الأمة ومستقبلها ، ومن يمتلكون الفهم والخبرة بكيفية إدارة العملية التعليمية ، ويلتزم بها النظام والمجتمع ، ولا تتعرض لأمزجة الوزراء وأهوائهم ، ولا تخضع لتدخل الخارج وإملاءاته .

2- ولا شك أيضا أنه فى مصر ورغم انخفاض معدل الإنفاق على التعليم كنسبة من الناتج القومى ( من المؤسف أن إنفاق الأمة العربية على التعليم يعد متدنيا للغاية مقارنة بكل دول العالم ، حيث لا يشكل سوى %0.14 من الناتج القومى العربى الإجمالى ) ، وكنسبة من الإنفاق الحكومى ، إلا أنه شهد زيادة مطردة ، ووصل إلى 48 مليار جنيه لكل مراحل التعليم فى الميزانية الأخيرة ، بينما كان 36 مليارا فيما قبلها، ويستحوذ التعليم قبل الجامعى على %71.9 منها .

3- ولكن القضية الكبرى تكمن فى إحسان استغلال الموارد المتاحة ، وتوظيفها للحد الأقصى ، وتقليص أسباب التبذير والتبديد ، والعمل على إيجاد المصادر المساعدة والبدائل ، وقد ذكر د . حامد عمار ، والملقب بشيخ التربويين فى ندوة نظمتها رابطة التربية الحديثة حول جودة التعليم فى 21 اكتوبر 2009 أن ميزانية التعليم ينبغى زيادتها لتكون أكبر نسبة فى ميزانية الدولة ، ودعا ألى أن تصل إلى 50 مليار جنيه ، وذلك لبناء مدارس جديدة ، وصيانة القديمة ، وتدريب المعلمين ، وزيادة رواتبهم ، بما ينعكس إيجابيا على جودة التعليم ، غير أن دراسة تربوية حديثة بعنوان ( العدالة الاجتماعية فى التعليم ) ، صدرت عن المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية ، أعدتها د. ناهد رمزى ، وأشارت إليها صحيفة الشروق فى 27-10-2009 ، وفيها تم استطلاع آراء 68 خبيرا تربويا فى جميع التخصصات ، وأساتذة علم النفس التربوى ، وأساتذة جامعات ، وأعضاء لجنتى التعليم بمجلسى الشعب والشورى ، ومديرى مدارس ، أكدت تلك الدراسة أن سبب تدهور التعليم ليس قلة الميزانية ، وإنما الكيفية التى يتم بها الإنفاق وأولوياته ، حيث يرى %50 من هؤلاء الخبراء أن ضعف توزيع وتوظيف الإمكانيات هو المسئول عن تدهور التعليم ، بينما يرى %13 أن قلة التمويل هى السبب ، ويرى %37 أن السبب هو العاملان معا ، ومما يؤكد نتائج تلك الدراسة أن المركز المصرى للحق فى التعليم ، وحسب صحيفة الوفد فى 12-8-2010 ، أشار إلى أن %0.03 فقط هو نصيب العملية التعليمية من إجمالى الإنفاق الحكومى خلال السنوات العشر الأخيرة ، وأن الوزارة حولت %48 من المعلمين لوظائف إدارية وإشرافية ، وكما ذكرت سابقا فى هذا المقال فإن %91 من ميزانية التعليم تذهب للأجور والأمور الإدارية والمكافآت والبدلات وغيرها ، مما يختزل متوسط نصيب الطالب المصرى إلى 650 جنيه سنويا، أى حوالى 129 دولارا ، بينما المتوسط 3500 دولارا فى إسرائيل ، و 8171 دولارا فى الولايات المتحدة ، و 7000 دولارا فى اليابان ، و 9000 دولارا فى النرويج ، و 1441 دولارا فى المغرب ، و 2192 دولارا فى تونس ، أى أننا هنا أمام كم هائل من الإهدار والتبديد ، وأن ذلك لا يتوقف عند المرتبات فقط ، وإنما يتعدى إلى العدد الهائل من المبانى التى تتبع وزارة التربية والتعليم ، وحسب د . درية شرف الدين فى مقالها ( يا ريت ) ، بصحيفة المصرى اليوم بتاريخ 7-9-2010 ، فإن عدد المبانى الحكومية فى مصر 71,241 ، تمتلك الحكومة نصفها ، وتستأجر النصف الآخر ، وأن وزارة التربية والتعليم وحدها تشغل 25,000 من هذه المبانى ، وحسب تقرير المركز المصرى للحق فى التعليم والسابق الإشارة إليه فإن %25 من مدارس الوزارة ( عدد مدارس مصر 39,000 مدرسة ) آيلة للسقوط ، وتحتاج إلى 750 مليون جنيه لصيانتها وترميمها ، وبإلقاء نظرة مقارنة على وزارة التعليم الأمريكية United States Department of Education نجد أن عدد موظفى الوزارة 4,199 موظفا ( عدد سكان الولايات المتحدة تجاوز ال 300 مليون نسمة ) ، وأنهم يكلفون ميزانية الوزارة حوالى %1 ، أى أنه لكل دولار يذهب 99 سنتا للمدارس والطلاب والولايات الخمسين ، رغم أن الولايات المتحدة بها 133,000 مدرسة ، موزعة على 14,000 منطقة تعليمية ، وعدد طلاب تلك المدارس 56 مليون طالب ، يقوم على التدريس بها 3.2 مليون مدرس ، وهو ما يدلل على كم التسيب والفوضى التى تضرب فى كل جنبات وزارة التعليم المصرية ، وكم التبذير وتضييع المال والذى هو مال الناس ، والمفروض أن يُحسن استخدامه ، ليعطى مردوده لأصحابه تعليما وخدمات جيدة ، ويتجاوز هدر وتبديد الموارد الأجور والمرتبات والمبانى الكثيرة ليشمل أيضا تأليف وطبع ومراجعة الكتب الدراسية ، وكذلك إنشاء المدارس الجديدة ، والتى تصل نسبة التبديد فيها %20 من إجمالى كلفتها ، ولنا أن نتخيل كل تلك الأموال لو تم استخدامها بطريقة حكيمة ، والغريب أن الهدر يحدث حتى فى مساهمات القطاع الخاص فى استثمارات التعليم ، فمثلا فى مدينة الإسكندرية نسبة المدارس الخاصة %34.4 ، نسبة الفصول الدراسية بها %23.5 من جملة الفصول بالمدينة ، أى حوالى ربع عدد الفصول ومع ذلك تستوعب فقط %18.8 من جملة الطلاب ، وهو أقل من المعدل النموذجى مما يعكس انخفاض العائد على الاستثمار ، والمجتمع الذى يبدد موارده المادية ، يبدد حتما موارده البشرية ، ومن صور تبديد تلك الموارد حركات التنقلات المستمرة بالوزارة ، وترقيات المدرسين الأكفاء إلى أعمال إدارية مما يؤثر على الطاقات والمهارات ، وكذلك إهمال المدارس فى الأرياف والأحياء الفقيرة .

4- هناك طرق بديلة لتخفيف العبء على ميزانية الدولة ، وفتح آفاق جديدة للطلاب ، مثل التعليم المفتوح ، والمناهج الإلكترونية ، وتضم وزارة التربية والتعليم ما يعرف بمركز التطوير التكنولوجى ، وقد صرح مديره د . صلاح عليوة فى عام 2007 أن المركز قادر على إنتاج المناهج الإلكترونية ، وإن كانت هناك عقبات عديدة فى هذا المجال أشار إليها د . عادل خليفة رئيس الاتحاد العربى للنشر الإلكترونى ، ومنها غياب المعايير القياسية ، وقلة الدعم المالى رغم الجدوى الاقتصادية العالية ، ورغم أنه أيضا من فائدة تلك المناهج القضاء على الدروس الخصوصية ، حيث تحل الصورة التفاعلية بين الطالب والمناهج ، وقد قدر خليفة الدعم المالى المطلوب بمائة مليون دولار ، ومن العقبات أيضا غياب الشفافية بين الجهات المختلفة القائمة على العملية التعليمية ، وتأخر تطبيق قوانين حماية الملكية ، والتغيير المستمر للخطط والمناهج بالوزارة .

5- وهناك أيضا عوامل كثيرة مساعدة ومن أهمها مشاركة المجتمع المدنى والأهلى فى دعم الجهود الحكومية ، ومساهمة رجال الصناعة والأعمال ، ودمج المؤسسات التعليمية والأكاديمية ضمن مسيرة التنمية ، وربطها باحتياجات المجتمع ، ويرى د. ضياء الدين زاهر فى بحثه السابق الإشارة إليه ضرورة نقل الجامعات إلى نموذج الجامعات المنتجة ، من خلال تحويل وحداتها الأكاديمية إلى وحدات بحوث إنتاجية فى مجالات العمل والخدمات المختلفة ، وتقديم المشورة الفنية والخبرة العلمية لكافة قطاعات المجتمع ، ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن هذا أمر مفقود تماما فى الجامعات المصرية ، وتجدر الإشارة أيضا أن هذا ما فعلته الصين وكوريا وغيرهما لإحداث النقلة العلمية والتقنية الكبيرة فى العقود القليلة الماضية ، ومما يذكره د . زاهر أيضا ضرورة تقليل الهدر فى الموارد حيث أن الإدارة الرشيدة يمكنها تعويض النقص فى الموارد ، ومن وسائل ذلك استخدام الأساليب الحديثة فى بناء المدارس ، واستخدام تكنولوجيا المعلومات المتقدمة فى التدريس ، واستخدام مؤسسات خاصة لطبع الكتب التعليمية بكلفة أقل مع تحسين جودتها ، وإجراء البحوث الميدانية والاستراتيجية لضمان الوصول إلى قرارات سليمة ، ويذكر د. محمد محروس فى كتابه ( اقتصاديات التعليم ) ، والصادر ضمن سلسلة كتاب الأهرام الاقتصادى مجموعة من المقترحات منها تمويل التعليم الفنى والتدريب المهنى عن طريق المستفيدين به أساسا من الصناعات وغيرها من مؤسسات المجتمع ، وفرض رسوم دراسية لتغطية جزء من تكاليف التعليم ، والتبرعات العينية لأفراد المجتمع ومنظماته ، كالتبرع بالأرض ومواد البناء ، وبالجهد والخبرة فى أعمال الصيانة والترميم .

ومن المقترحات الجديرة بالاهتمام ما ذكره د . شبل بدران عميد كلية التربية بجامعة الإسكندرية فى بحثه ( نحو تفعيل الجمعيات التعاونية التعليمية فى تطوير التعليم ) ، والذى قدمه لمؤتمر ( مستقبل الخدمات التعليمية ) ، بمدينة الإسكندرية عام 2003 ، وفيه يرى أن صيغة المدارس التى تشرف عليها الجمعيات التعاونية التعليمية صيغة مناسبة اقتصاديا حيث متوسط مصاريفها حوالى 3,000 جنيه ، كما أنها مناسبة أيضا اجتماعيا حيث تخضع للقانون 1 لعام 1990 ، وليست كغيرها من المدارس الخاصة والتى تسيطر على مصاريفها ومناهجها جهات أو دول لا تعنيها ثقافة المجتمع ، وتشترك كاميليا حجازى وكيل أول وزارة التربية والتعليم بالإسكندرية فى بحثها ( التعليم والتنمية البشرية بين الواقع والمستهدف ) فى نفس التصورات الداعية إلى ضرورة البدء فى التخطيط والتنفيذ للمدارس التعاونية .

مشاركة المجتمع فى تقديم الخدمات التطوعية من الأمور المساعدة الهامة فى العملية التعليمية ، وهو أمر سبقتنا إليه جميع بلاد العالم ، حتى البلاد الأفريقية ، وتذكر د. عايدة عباس فى بحثها ( تفعيل دور الشراكة المجتمعية فى تحسين جودة التعليم ) والذى قدمته لمؤتمر ( مستقبل الخدمات التعليمية ) السابق الإشارة إليه ، أن التعليم مسئولية مشتركة بين الأسرة والمدرسة والمجتمع ، ومن أمثلة ذلك المجتمع البريطانى الذى يضطلع فيه 23 مليونا من الكبار بأعمال تطوعية مختلفة لصالح النظام التعليمى ، وأن هناك عشرات الألوف من المنظمات التطوعية التى تقوم بدعم التعليم ، وكذلك الحال فى الولايات المتحدة ، بل إن دولا أفريقية كالسنغال وزيمبابوى وأوغندا وكينيا وأثيوبيا تقوم الحكومات فيها ببناء المدارس ، وتدريب ودفع أجور المعلمين ، بينما يقوم المجتمع باختيارهم وتعيينهم ، وتشكيل لجان مسئولة عن صرف المنح والمصاريف المدرسية وتطوير المدارس ، وفى كينيا على سبيل المثال هناك نظام يسمى ( الهارامبى ) ، ويعنى ( دعنا نضع مصادرنا معا لتطوير مجتمعنا ) ، وفيه تسهم الحكومة ب %40 من مصاريف المدارس ، بينما ال %60 الباقية يتكفل بها المجتمع .

6- تلعب الوقفيات endowments دورا هاما فى دعم وتمويل التعليم فى بلاد مختلفة ، ومن أمثلة ذلك جامعة هارفارد Harvard الأمريكية الشهيرة ، حيث تغطى ثلث موازنتها السنوية والمقدرة بحوالى 3.5 بليون دولار من الوقفيات الاقتصادية ، وتعد وقفيتها الأكبر بين الجامعات الأمريكية ، تليها جامعة ييل Yale ، وجامعة ستانفورد Stanford ، ومما يدعو إلى الأسى أن أموال الأوقاف لعبت دورا هاما فى مصر فى تمويل التعليم والرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية والأعمال الخيرية ، حتى أخضعتها حركة 23 يوليو لسيطرة الدولة ، فانتهى بها الأمر كما انتهت كثير من مؤسسات المجتمع إلى انعدام الدور، وتبديد الموارد ، وغياب الشفافية .

7- لا يمكن للجامعات المصرية أن تحقق نجاحا أو انجازا طالما تعتمد فقط على المخصصات المقررة فى ميزانية الدولة ، والتى تذهب فى معظمها كمرتبات ومصاريف إدارية ، مما يترك مجالات تطوير المناهج وطرق التدريس ، وإعداد المعامل والمكتبات ، ومشاريع البحث العلمى بدون اعتمادات تذكر ، وهو ما يدفعنى مرة أخرى للدعوة لإلغاء مجانية التعليم الجامعى ، وضرورة مشاركة الطلاب وأولياء أمورهم فى دفع نفقات الدراسة tuition بدرجات متفاوتة ، فتعطى المنح الدراسية للطلاب المتفوقين ، وتساعد الجامعات غيرهم من الطلاب بتوفير العمل فى معاملها ومكتباتها وإداراتها المختلفة بصورة جزئية فى أوقات الدراسة ، وكلية أو جزئية فى أوقات الصيف ، وتتولى الدولة تنظيم طرق أخرى لإقراض الطلاب بإنشاء بنك للتعليم ، وحث القطاع الخاص أيضا على المساهمة فى دعم الطلاب والجامعات ، وبمراجعة ميزانيات بعض الجامعات الأمريكية ، وهى معلومات منشورة ومتاحة لكل مهتم ، وجدت أن ميزانية كل جامعة تأتى من مجموعة من المصادر ، منها الميزانية الفدرالية ، وميزانية الولاية ، ويشكلان نحو الربع أو أقل ، بينما ثلاثة أرباع الميزانية يأتى من مصادر أخرى كالرسوم الدراسية التى يدفعها الطلاب ، والمدن الجامعية ، والأنشطة الرياضية ، والمستشفيات الجامعية ، ومصادر أخرى كالتبرعات والأوقاف والخدمات البحثية ، والخدمات العامة وغيرها ، فإذا كانت الولايات المتحدة والتى تصل ميزانيتها للعام الحالى إلى 3.6 تريليون دولار ، منها 157 بليون دولار للتعليم ، تفرض رسوما على طلابها ، فكيف بنا نعيش فى وهم المجانية ، ونعاند التطور والزمن ، ونصر على نظام فاشل لن يؤدى إلا إلى مزيد من الارتكاس والسلبية والتدهور للعملية التعليمية بأكملها؟!!

ذكرت صحيفة USA Today الأمريكية فى عددها بتاريخ 21-9-2010 إحصائية عن معهد Gallup عن كيفية تغطية الطالب الأمريكى لتكلفة دراسته الجامعية والتى تقدر ب 24,097 دولارا للعام الدراسى 2010-2009 ، بزيادة قدرها %24 عن العام الماضى ، والأرقام ذات دلالات هامة جديرة بالتأمل كدعوة للجدية ، والتخطيط للمستقبل ، وتغيير بعض عاداتنا ، وتتوزع كالآتى : 8,752 دولارا من مدخرات الأبوين ، 5,692 دولارا من المنح الدراسية ، 3,396 دولارا اقترضها الطالب ، 2,314 دولارا من مدخرات الطالب ، 2,261 دولارا اقترضها الأبوان ، 1,682 دولارا من الأهل والأصدقاء ، ولو استطعنا أن نعد لمستقبل أبنائنا ، ونشرك الأهل والأصدقاء فى ذلك ، ونوفر لطلابنا فرص عمل مختلفة فى الصيف ، وحسبما تسمح ظروفهم الدراسية ، ونشجعهم على ذلك بدون تأفف أو نظرة دونية لبعض الأعمال ، ونشرك أيضا المجتمع والجامعة والدولة فى تقديم العون والتسهيلات لهم ، أليس ذلك بأفضل من الدروس الخصوصية ؟ وأكثر نفعا من نظام المجانية الهزيل ، والذى يخّرج أناسا يفتقدون للعلم والخبرة والمران ، لينضموا إلى طابور البطالة الطويل ، بدون بارقة أمل فى عمل أو مستقبل أو حياة كريمة؟

أيها القائمون على الأمر فينا .. حان الوقت لوقفة شجاعة أمينة ، نُلغى فيها المجانية الهزيلة ، ونقضى على نظام الثانوية العامة العقيم ، ونمحو فيها من الوجود مكتب التنسيق الذى أفسد علينا دراستنا وعملنا ، ونتخلص فيها من الدروس الخصوصية ، وكل مُدرس فاسد لا يرعى أمانة التعليم ، الذى هو مشروعنا القومى ، من أجل حياة كريمة ، ومستقبل أفضل .

*** *** ***
خارج الموضوع

المفاوضات العبثية وأوهام السلام

تناولتُ المسألة الفلسطينية من جوانبها المختلفة فى مقال ( تأملات فى القضية الفلسطينية ) ، وخَلصتُ فيه إلى أن السلام مع إسرائيل وهم لا يمكن تحقيقه ، وأن إمكانية وفاء الإسرائيليين بالعهود والمواثيق أمر مستحيل ، واعتمدت فى ذلك على أسباب دينية ومنطقية وتاريخية ونفسية ووراثية وسياسية إقليمية ودولية ، والمفاوضات المباشرة الجارية الآن بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل حدث لا يستحق الكتابة عنه، ومسرحية هزلية رديئة الإخراج ، غير أن ما دفعنى للكتابة فى الشأن الفلسطينى مرة أخرى مجلة ال Times الأمريكية الصادرة فى 13-9-2010 ، وعلى غلافها رسم بزهور ال chrysanthemum لما يسمى نجمة داود ، وفى وسطها سؤال : لماذا إسرائيل غير معنية وغير مهتمة بالسلام Why Israel Doesn't Care About Peace ، ويجيب Karl Vick بنظرة على أحوال المجتمع الإسرائيلى المستقرة والمزدهرة اقتصاديا خلال السنوات الأخيرة ، وباقتباسات عن الإسرائيليين أهمها وأكثرها دلالة ما قاله Tamar Hermann أستاذ العلوم السياسية : The Palestinian is no longer seen as strategic threat anymore . A nuisance , yes ، أى ( أن الفلسطينيين لم يعودوا يشكلون تهديدا استراتيجيا ، ولكنهم فقط مصدر إزعاج ) ، ورغم الألم والإمتهان فى تلك الكلمات القلائل ، إلا أنها تعبير دقيق لما آل إليه حال القضية الفلسطينية ، والسؤال الهام هنا : كيف وصلنا إلى تلك الحالة المزرية ؟ ولماذا تلك المفاوضات الآن ؟ وما هو الشئ الباقى عند محمود عباس ليتنازل عنه ؟
أما كيف وصلنا فالإجابة معروفة لكل متابع .. وصلنا عبر سلسلة طويلة من التنازلات المهينة ، بدأها السادات بتصرف أخرق غير مسبوق فى تاريخ البشرية عندما قرر وحده بدون مشاورة ، ونفذ وحده بدون تفكر فى العواقب ، جريمة الإعتراف بشرعية الاحتلال اليهودى لفلسطين ، وتبعه حسين بن طلال ، وتلاهما ياسر عرفات الذى تنازل عن %80 من أرضه ووطنه ، وارتضى بوعد وهمى لدولة فلسطينية على ال %20 الباقية والتى تقبع تحت السيطرة الإسرائيلية منذ هزيمة العرب النكراء فى 1967 وحتى الآن ، وحتى تلك ال %20 تناقصت بمقدار %40 بسبب التمدد الاستيطانى السرطانى (500,000 مستوطن ) ، وبسبب جدار الفصل العنصرى ، وبسبب مئات من الحواجز الأمنية ، واستمر مسلسل التنازلات المهينة على يد خلفه محمود عباس ، الذى قضى على المقاومة فى الضفة الغربية ، بسجن أفرادها ، وقتل بعضهم فى السجون ، وإغلاق المؤسسات الخيرية التى ترعى أسر الشهداء ، وأخرس كل وسائل المقاومة الأخرى حتى المظاهرات السلمية ، وتنازل عن حق الفلسطينيين طبقا للقانون الدولى فى ملاحقة أفراد من الجيش الإسرائيلى على جرائم القتل والتعذيب والتشريد والإبادة ، وتفرغ أفراد حكومته للفضائح المالية والأخلاقية ، ولم يعد يملك شيئا ليتنازل عنه غير مبنى مقاطعة رام الله ، أو بتعبير أكثر دقة حجرة نومه فى المبنى الواقع تحت المراقبة ، ولذا لا عجب ألا يشكل الفلسطينيون أى تهديد استراتيجى ، فقد تخلت حكومتهم عن المقاومة بجميع صورها ، وهى ورقة الضغط التى أرغمت أنوف كل المستعمرين والمتجبرين على مر التاريخ .

إذا كان الإسرائليون حكومة وشعبا غير مهتمين ، وغير عابئين بالعملية السلمية ، فلماذا تلك المفاوضات ؟ والإجابة أن هناك ثلاثة أسباب :

أولا : تسببت الحرب الهمجية على غزة ، واستمرار حصارها ، والعدوان الأحمق على قافلة الإغاثة فى شجب وإدانة غير مسبوقيين للسلوكيات الإسرائيلية وما فيها من خرق للقانون الدولى ، واتفاقيات حقوق الإنسان ، مما تسبب فى موجة عالمية من الكراهة والمقاطعة والتنديد ، بل وحتى فى انشقاق اللوبى اليهودى فى الولايات المتحدة ، وهو المعروف بعصبيته العمياء لإسرائيل أكثر من الإسرائيليين أنفسهم ، وترصد مجلة The Nation الأمريكية فى عددها الصادر فى نوفمبر 2009 بعضا من تلك التحولات ، ومنها أن البرازيل رفضت فكرة تبنى الدعوة لزيادة التبادل التجارى بين إسرائيل وعديد من دول أمريكا الجنوبية ردا على التصرفات الإسرائيلية العدوانية ، واشترطت ضرورة إقامة الدولة الفلسطينية ، ومنها أيضا موقف بعض الأسماء الشهيرة المشاركة فى المهرجان الدولى للأفلام فى مدينة تورنتو الكندية فى سبتمبر من العام الماضى ، مثل جين فوندا Jane Fonda ، دانى جلوفر Danny Glover ، جولى كريستىJulie Christie وغيرهم ، والذين أصدروا بيانا يصفون فيه النظام الإسرائيلى بأنه نظام فصل عنصرى in the wake of this year's brutal assult on Gaza, we object to the use of such as an important international festival in staging a propaganda campaign on behave of what South African Archbishop Desmond Tutu , former U.S. President Jimmy Carter , and UN General Assembly president Miguel d'Escoto Brochmann have characterized as an apartheid regime ، ومن تلك التحولات أيضا تخلى الممثلة الأمريكية Kristin Davis عن رعايتها لمنتجات شركة التجميل الإسرائيلية Ahava لاستخدامها مواد من الضفة الغربية ، يضاف إلى ذلك مقاطعة عديد من الجامعات الأوربية للجامعات الإسرائيلية ، ومقاطعة عمال الشحن فى عدد من الدول الإسكندنافية للسفن الإسرائيلية ، والتهديدات القانونية لعديد من الشخصيات السياسية والعسكرية الإسرائيلية بالمحاكمة فى بلدان مختلفة ، والانشقاق فى صف اليهود الأمريكيين ، وتكوين تيار جديد يطلق على نفسه J Street ، ويختلف عن اللوبى التقليدى AIPAC ( أيباك ) فى انتقاده للسياسات الإسرائيلية ، وقد عقد أول مؤتمر قومى له فى أكتوبر من العام الماضى ، بعد حوالى عامين من تكونه ، ويضم يهودا ليبراليين ومحافظين ، ويعتبرون أن العدوان على غزة ساعدهم فى التخلص من حاجز الرهبة الذى يمنع من انتقاد إسرائيل ، وقد كتب أحدهم ( Roger Cohen ) فى صحيفة New York Times أنه يحس بالخجل من تصرفات إسرائيل ..shamed by Israel's action .. ، وكتب آخر ( Michelle Goldberg ) فى صحيفة the Gardian أن العدوان على غزة وحشى وعديم الجدوى brutal and probably futile ، وغير ذلك الكثير ، والعجيب أن الإعلام المصرى يتجاهل تلك التحولات ولا يشير إليها فى أغلب الأحوال ، وقد يبدو للبعض أن تلك التحولات غير ذات قيمة ، ولكن الحقيقة عكس ذلك تماما ، فافتقاد إسرائيل للدعم الإعلامى غير المحدود الذى اعتادت عليه خطوة بالغة الأهمية فى تعريتها وفضح ممارساتها وعزلها ، وأخشى ما تخشاه إسرائيل أن يراها العالم كنظام الفصل العنصرى الذى كان فى جنوب أفريقيا ، وهو ما يعتبره المفكر الأمريكى اليهودى نعوم تشومسكى Noam Chomsky بداية تخلى العالم عنها وزوالها ، من كل تلك الحقائق يتبين حاجة إسرائيل إلى مسرحية مفتوحة بلا نهاية للمفاوضات ، تعطى فيها للعالم الانطباع الكاذب عن تضحياتها الشجاعة ، وسعيها المتواصل للوصول إلى ما يسمى تسوية الحل النهائى ، وفى نفس الوقت تعطى للعالم الانطباع أن العرب لا يقدمون التضحيات ، ولا يطبعون معها ، مما يضعهم تحت الضغط الدولى للهرولة نحو التطبيع وإقامة العلاقات ، وهو ما دعا إليه الرئيس الأمريكى منذ أيام مطالبا الدول العربية بإثبات حسن نواياها ، واستعدادها لاتخاذ قرارات صعبة ، حيث قال فى خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 22-9-2010 ( إن إسرائيل دولة ذات سيادة ، والأرض التاريخية للشعب اليهودى ) ، ثم طالب الموقعين على معاهدة السلام ( أن يحولوها إلى حقيقة عبر اتخاذ خطوات ملموسة نحو تطبيع العلاقات مع إسرائيل ) القدس العربى 23-9-2010

ثانيا : من أسباب تلك المفاوضات أيضا صرف الانتباه عما قد يكون دائرا فى الخفاء من التدبير لشن حرب على إيران ، تحت دعاوى خروجها على ما يسمى الشرعية الدولية ، وعدم انصياعها لقرارات مجلس الأمن ، وتهديدها للسلام والأمن العالميين ، ومحاولة امتلاك الأسلحة النووية ، والغرب وإسرائيل لن يعدما الحجج والمعاذير ، وحتى وإن ترددت أصوات بعض العقلاء ضد حرب جديدة فى المنطقة ، فإن المؤسسة العسكرية الأمريكية مبنية فى الأساس على العدوانية وصناعة الحروب ، كما أن إسرائيل قد تورط الولايات المتحدة فى حرب لا تريدها الإدارة الأمريكية على الأقل تحت الظروف الراهنة .

ثالثا : من مصلحة مصر والسعودية التخلص النهائى من القضية الفلسطينية ، ولذلك قدمت السعودية مبادرة التطبيع مع كل العرب والمسلمين مقابل دولة فلسطينية فى الأرض المحتلة عام 1967 ، وأقرتها القمة العربية فيما بعد ، وتلك المبادرة اقتراح إسرائيلى أمريكى فى الأساس ، وتحاول مصر جاهدة بحصار غزة التخلص من حركة حماس كآخر معقل لمقاومة التصفية النهائية للقضية ، حتى يتحقق لمعسكر الاعتدال ، أو بتعبير أدق معسكر التفريط ، تقديم حل نهائى كأكبر خدماتهم على الإطلاق لإسرائيل والولايات المتحدة ، ولا ضيرأن يكون المنتج النهائى فى شكل كيان ما مقطع الأوصال ، بدون حدود ، وبدون سيادة ، وبدون جيش ، طالما سيطلق عليه الدولة الفلسطينية ( وحتى ولو كانت فقط مبنى المقاطعة ) ، وطالما له جهاز أمن عميل يتعاون مع إسرائيل فى تعقب كل أشكال المقاومة ، أليس هذا كافيا وزيادة لمن أعطوا الدنية فى دينهم وأوطانهم وشعوبهم وحاضرهم ومستقبلهم ؟! بالقطع فهو كاف وزيادة ، بل إنه أكثر من ذلك .. إنه كرم إسرائيلى بلا حدود .

الطيب والزقزوق والغزوات

نشرت صحيفة اليوم السابع بتاريخ 28-8-2010 أن شيخ الأزهر د . أحمد الطيب ، ووزير الأوقاف د . محمد حمدى زقزوق ، طالبا بعدم إطلاق لفظة غزوة على معارك الرسول (ص) ، واتفقا على أن كلمة غزوة ليست صحيحة ، وأن المؤرخين المسلمين أدرجوها فى غير نصابها ، وأكد الطيب أن هذه الكلمة تزعجه هو شخصيا ، بينما أكد زقزوق على عدم ارتياحه للكلمة لأنها تحمل معنى العدوان .

لا يملك المسلم الغيور على دينه ، والحريص على عقله أمام هذا الكلام المأفون إلا أن يتملكه الغضب والأسى فى آن واحد ، وإن كان الغضب والأسى لا يكفيان فى أمثال تلك المواقف ، فكم غضبنا لهزال الأزهر ، وتدهور مكانته ، وكم أسينا على شيوخه بعدما طلقوا الدين ليتحولوا إلى ترزية للفتاوى ، يبارون بها ترزية القوانين فى مجلس الشعب ، تملقا للأنظمة الفاسدة ، وانحناء أمام ضغوط الغرب ، وكم تعجبنا لألسنتهم تخرس عن قولة الحق ، ولكنها تنطلق بالكلام الفارغ تدليسا وتضليلا ، وكم تملكنا الهم على أوقاف المسلمين ، وكانت مصدرا للإنفاق على التعليم والرعاية الصحية وغيرها من مصارف الخير ، فأصبحت لا يعلم عنها أحد شيئا ، وصرنا لا نسمع من الزقزوق غير اللغط العقيم عن الختان والنقاب وتوحيد الآذان ، والشئ الغريب فى تلك الآراء الهزلية هو تجاهل أن كلمة غزو كما يعرفها لسان العرب وغيره من معاجم اللغة تعنى الطلب والقصد ، أى أنها لا تنطوى على ما يُزعج الطيب ، أو يُقل راحة الزقزوق ، والأمر الآخر أنها وردت فى القرآن الكريم فى قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا فى الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة فى قلوبهم والله يحيى ويميت والله بما تعملون بصير ) آل عمران 156 ، كما أنها أيضا وردت فى الأحاديث الشريفة ، حيث كان (ص) يقول لإصحابه ( اغزوا على بركة الله ...اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا ) رواه مسلم فى صحيحه ، وقد تنبه بعض الكتاب لما فى تلك الدعوة الخبيثة من معانى ، يقول د . محمود خليل فى مقاله ( الطيب وزقزوق ) ، فى صحيفة المصرى اليوم بتاريخ 5-9-2010 ( .. لقد كان من الممكن أن نفهم أن يحاول العالمان شرح المفهوم الحقيقى للغزو والغزوات .. دون أن يتأففا من الكلمة ، ويطالبا بإلغاء هذا الوصف من ذاكرة المسلمين بحجة أنه بوابة من بوابات اتهام الإسلام بالعنف ، ومن المؤكد أن مثل هذه التصريحات التى يتلاقى فيها المسؤولون الدينيون تعد تمهيدا لإلغاء هذا الوصف من كتب التاريخ وكتب التربية الدينية ، وهو ما يدعو إليه العديد من المؤسسات الغربية ، ولكن السؤال الذى يطرح نفسه : هل سيتم إلغاء هذا اللفظ لا سمح الله من نصوص القرآن والسنة؟! .. إن بعضا من مسؤولينا ومثقفينا يظنون أن إلغاء الألفاظ التى ينظر إليها الغرب على أنها تعبير عن ثقافة العنف فى الإسلام مثل الغزو والجهاد والقتال وغيرها سوف تحقق لهم الرضا السامى فى الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوربية .. علماء المسلمين مطالبون بألا يضيعوا وقتهم الثمين فى مغازلة الغرب ومحاولة إرضائه ، لأنهم يعلمون أكثر من غيرهم أنه لن يرضى عنهم بحال ، والأولى بهم أن يوجهوا جهودهم إلى تأكيد المعانى الحقيقية للإسلام فى نفوس المسلمين حتى تنهض أمتهم .. ) .

غير أن الشئ الذى لم تشر إليه الصحف فى تعرضها لتصريحات الطيب والزقزوق، أن تلك الدعوة توجَه بها من قبل د . نبيل لوقا بباوى عضو مجلس الشورى ، حيث قال فى اقتراحه الذى قدمه فى فبراير 2009 لشيخ الأزهر السابق ، ولصفوت الشريف : ( إن معنى الغزو هو الاعتداء على أرض الغير بغرض الاحتلال .. إن المستشرقين فى الغرب يهاجمون الإسلام انطلاقا من تاريخ الغزوات ، ويشوهونه باستغلال كلمة غزوة .. ماذا يضرنا إذا قلنا إن الرسول لم يغز ، ولا توجد غزوات فى الإسلام ، وإنما دفاع شرعى ؟ .. الهدف من هذا المقترح سحب البساط من تحت أقدام المستشرقين .. إن علينا محو كلمة غزوة من الإسلام حتى لا يظل المسلمون يجلدون أنفسهم بأيديهم ) ، وهنا تكتمل الصورة ، وتتضح معالمها ، ويصبح الأمر إرضاء للأقباط وللغرب وتمهيدا لحلقة جديدة فى مسلسل طمس الهوية بتغيير مصادر الفخر والعزة فى التاريخ الإسلامى ، وقد رد على كلام بباوى فى حينه عدد من أساتذة الأزهر كما نشرت صحيفة الشرق الأوسط فى عددها 11053 بتاريخ 3 مارس 2009 ، ومنهم د . عبد الحكم الصعيدى ( .. إن الغزوة مصطلح فى التاريخ الإسلامى يدل على تلك الموقعة الحربية التى حضرها النبى ( ص) ، سواء شارك فيها أو لم يشارك ، وأن هذه التسمية قد انقطعت بانتقال النبى (ص) إلى الرفيق الأعلى ، فسميت بعد ذلك جميع المعارك بالفتوحات الإسلامية ) ، وكذلك د . محمد أبو ليلة ( إنه لا يجوز استبدال ألفاظ أطلقها القرآن الكريم ، والرسول (ص) لتسمية أشياء محددة ، لأن لتلك التسمية دلالة معينة .. الغزوة تطلق على القتال الدفاعى الذى كان فيه النبى (ص) .. حوالى 26 أو 27 غزوة ، وقد قاتل (ص) فى تسع منها فقط ) .

إن أخطر ما يمكن أن تتعرض له أمة أن تفقد هويتها ، المتمثلة فى دينها ولغتها وتاريخها ، لأنه ساعتها تصبح أمساخا مشوهة لا ولاء لها ، ولا انتماء لها ، فيسهل هزيمتها والقضاء عليها ، فهل يريد الطيب والزقزوق أن يغيرا كلام الله ورسوله ، وأن يسهما فى طمس هوية الأمة ومسخها ؟!

الصحافة المصرية .. شئ من حمرة الخجل

فبركت صحيفة الأهرام المصرية صورة اتخذت للرؤساء المشاركين فى افتتاح المفاوضات المباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين بواشنطن هذا الشهر ، فجعلت الرئيس المصرى يتقدم أوباما والملك عبد الله ومحمود عباس ونتنياهو ، رغم أنه كان فى المؤخرة فى اللقطة الأصلية ، ورغم أن العرف الدبلوماسى يقتضى تقدم رئيس الدولة المضيفة ، وليس فى هذا تقليل من قدر أحد ، إلا أن الصحيفة لم تكتف بتجاهل ذلك ، بل وخرجت تدافع عن تزويرها وتدليسها مدعية أن تلك صورة تعبيرة للدلالة على مكانة الرئيس المصرى ، وزعامة مصر ودورها ، فجعلت من نفسها محط سخرية الصحف العالمية والمحلية ، ومبعث تندرها واستهزائها ، بل وامتد ذلك لينال من مصر ومكانتها فى المنطقة ، يقول عبد البارى عطوان فى صحيفة القدس العربى بتاريخ 17-9-2010 تحت عنوان ( مكانة مصر والفبركة الصحافية ) : ( قيادة مصر ورئيسها للمنطقة وللزعماء الآخرين لا تتم بالتزوير وفبركة الصور ، وإنما من خلال نهضة سياسية واقتصادية حقيقية ، وسياسات إقليمية فاعلة وشجاعة ، وهى أمور بديهية لا نرى أى أثر لها فى مصر حاليا .. الكذب والتزوير وفبركة الصور لن يعيد لمصر ريادتها.. ) .
وتلك الواقعة ليست حدثا فرديا أو عابرا ، فقد أصبح التضليل والنفاق النمط السائد فى الصحف المصرية جميعها ، ولا يمر يوم الآن إلا ويستطيع المتابع أن يحصى نماذج عديدة للإفك والتملق ، والمبالغة والتهويل ، ولى الحقائق وتغييرها أو إخفائها ، والتلاعب بعقول الناس وأفهامهم ، والتردى والابتذال ، والضحالة والسطحية ، وتسفيه الإنسان المصرى وتحقيره ، ونعته بأقبح الصفات ، من الذل والخنوع والرضا بالعذاب والهوان ، دون أن يقدموا له حلا ، أو يمدوا له يدا ، ومحاولة سلخه عن دينه ولغته ، وإبعاده عن محيطه العربى والإسلامى ، وصرفه عن قضاياه الحيوية والمصيرية ، وغير ذلك من صور الإساءة ، ولا يقف الأمر على الأخبار والحوادث ، وإنما يتعدى ذلك لما يسمى مقالات الرأى ، والتى لا تحتوى فى غالبها على فكر قويم ، أو رأى سديد ، وإنما بكاء وعويل وولولة ، حتى ليظن القارئ المداوم أن صحافيينا تحولوا إلى نادبات فى مأتم مستمر يشقون فيه الجيوب ، ويلطمون الخدود ، ويهيلون التراب على أدمغتهم الفارغة ، رغم أن دور الصحافة فى توجيه المفاهيم ، وتشكيل العقول ، وتوجيه حركة المجتمع ، وحشد جهوده لمواجهة المشاكل والتحديات ، أمور لا تحتاج لبرهان أو بيان .

خلال الأسابيع القليلة الماضية أعلنت صحيفة اليوم السابع عن نيتها نشر قصة لكاتب يسمى أنيس الدغيدى خلال شهر رمضان الكريم بعنوان ( محاكمة النبى محمد ) ، وادعت أنها تحوى دفاعا عن رسول الله (ص) ضد الشبهات التى يثيرها أعداء الإسلام ، ثم ذكرت عناوين فصول القصة التى من بينها ( الأسرار الحمراء لعلاقة محمد بالنساء ) ، ولا يحتاج المرء أن يكون عالما أو فقيها ليدرك استحالة أن كاتبا محترما ، يتصدى لقضايا الإسلام ، وليدحض أباطيل خصومه ، لا يعرف أدب الحديث عن رسول الله (ص) ، ولا يعرف الإسفاف فى عنوان قصته ، ولا يعرف الوقاحة فى قوله الأسرار الحمراء ، ورغم تراجع الصحيفة عن نشر القصة تحت ضغط الاعتراض والتنديد ، إلا أن توجهها العام ، وما تنشره من أخبار طائفية ، ومقالات لبعض غلاة أقباط المهجر ، لمما يقدح فى رسالتها وتوجهها .
كتب د . محمد المخزنجى فى صحيفة الشروق بتاريخ 22-7-2010 تحت عنوان ( من أين يأتى الجمال ؟ روحة صيفية -1- ) يتحدث عن عاصمة ناميبيا ( دولة أفريقية ) ، ولأن أنجلينا جولى الممثلة الأمريكية وضعت أحد أطفالها هناك ، وجدها الكاتب فرصة ليحول مقاله إلى تغزل فج فى أنجلينا ( بينى وبين اللذيذة أنجلينا جولى غرام خاص مشبوب .. مديرة ظهرها الجميل لكبريات مدن العالم ، التى هى رهن بنانها الساحر .. لم تفعل لذيذتى أنجلينا هذه القباحة ، بل ذهبت وهى حامل فى شهرها الأخير بصحبة زوجها غريمى براد بت .. ولا أعرف بالضبط من أين استقت جولى اللذيذة معلوماتها عن ناميبيا .. البعد الذى شكل غرامى المشترك بالخاطر والتخاطر مع اللذيذة أنجلينا جولى ، وجولى بالمناسبة هو اسمها الأوسط الذى يعنى الجميلة وهى جميلة بالفعل ، ليس جمال الكسم والرسم وحدهما ، بل جمال الروح الذى حول بيتها إلى أمم متحدة تضم إضافة إلى أبنا بطنها الطيف .. ) ، ويبدو أن المخزنجى مغرم بحكايات مجلات ال tabloids ، وقصص ال paparazzi ، حيث يصفون Angelina Joli ب اللذيذة yummy، ويبدو أيضا أنه مغرم بمشاهدة أفلامها ، حيت تظهر فى أحد أفلامها الأخيرة عارية الظهر والأرداف ( مديرة ظهرها الجميل لكبريات ...) ، غير أن المفارقة التى تدعو إلى التأمل أن أنجلينا عندما ذهبت إلى باكستان للتعبير عن تعاطفها بعد الفيضانات الأخيرة ( لم يذهب أحد من المشخصاتية أو الكتاب المصريين للتعاطف مع أخواننا فى باكستان ) ارتدت ثيابا متحشمة ، وغطت رأسها احتراما لتقاليد المجتمع الإسلامى المحافظ ، فى حين لم يجبح المخزنجى رغبة قلمه الصبيانية ، وأطلق لخيالاته المراهقة العنان ، رغم أن كل قرائه من المسلمين ، وفى نموذج آخر للابتذال يكتب سعد هجرس مقالا فى اليوم السابع فى العام الماضى يتحدث فيه عن تأمين الممثلة الأمريكية جنيفر لوباز على أردافها بمئات الملايين من الدولارات ، ثم يختم مقاله بالشكوى من حظنا الهباب ( جتنا نيلة فى حظنا الهباب ) ، والشئ الباعث على التقزز أن حكاية التأمين كانت شائعة ، نفتها Jennifer Lopez فى حينها ، وأن تلك الشائعة كانت منذ حوالى عشر سنوات ، فمالذى يجعل كاتبا يستدعى شائعة مضى عليها عقد من الزمان ليحدث القراء عنها وكأنها حدث حقيقى ؟ والأمر الأكثر عجبا أنه يكتب فى المصرى اليوم الآن مقالات عن الوضع الطائفى ومشاكل المجتمع ، ويرعى ندوة للحديث عمن يسميه هو وأمثاله بالمفكر الكبير نصر حامد أبو زيد !! ، والمشكلة أن هؤلاء جميعا يتساءلون فى براءة وتعجب : ماذا حدث لمصر ؟ وماذا حدث للإنسان المصرى ؟ وكيف فسد المجتمع وهوى إلى تلك الحالة المتردية ؟ ونسوا جميعا أن سنوات طوال من الممارسة التضليلية والتغيبية للصحافة والإعلام كفيلة بأن تشوه العقول ، وتطمس على البصائر .

سعد رجب صادق
saad1953@msn.com
 


06/11/2014

مصرنا ©

 

.....................................................................................

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية