البذاءة والابتذال
...............................................................
| |
البذاءة والابتذال فى المجتمع | |
بقلم : سعد رجب صادق
..........................
فى اجتماع لجنة الخطة والموازنة بمجلس الشعب 28-12-2009 ، قال وزير المالية المصرى يوسف بطرس غالى أثناء الحديث عن ملاك العقارات بمنطقة عزبة الهجانة : ( رأيى أن نعوض الذين اشتروا العمارات المخالفة بعد أن نزيلها ، ثم نلاحق الملاك ، ونجرى وراء المالك المخالف ، ونطلع دين اللى خلفوه ) ، وفى جلسة مجلس الشعب المصرى لمناقشة جدار غزة بتاريخ 31-12-2009 ، قال النائب بدر الدين القاضى : ( نحن نحترم الشعب الفلسطينى ، ولكن ولاد الوسخة دول ملناش دعوة بيهم ) ، يقصد حماس ، وعندما احتج نواب الاخوان والمستقلون ، اتهمهم النائب حازم حمادى بعدم الوطنية ، وأنهم اسرائيليون ، ثم سبهم النائب بدر الدين القاضى ( يا ولاد دين الكلب ، يا اخوان يا كفرة ، احنا هنبنى الجدار واللى هيكلم هنطلع دين أمه ) ، ثم قال هو والنائب نشأت القصاص : ( اللى يقترب من السور هنطلع دين أمه ، وأى واحد ابن كلب يقترب من مصر هنطلع دينه ) ، والمتأمل فى تلك الكلمات البذيئة ، والأسلوب المتدنى ، يتملكه العجب لوزير مخضرم ، ونواب يمثلون الأمة ، كيف انحدروا تحت قبة البرلمان الى قاع سحيق من الفحش والسوقية ، والتطاول على العرض والدين ، والتلفظ بما لا يليق بدورهم ومكانتهم.
غير أن شيوع البذاءة والابتذال فى المجتمع المصرى ، وبين طبقاته المختلفة ، أصبح ظاهرة تستوجب التأمل والدراسة ، وتستحق شيئا من التمحيص والتحليل ، وذلك لكونها سلوكا يفتقر الى التحضر والرقى ، ويخالف الدين والعرف والأخلاق ، ويزيد البغضاء والشحناء بين الناس ، ويضرب مثلا سيئا للأطفال والصغار، وقد ذكرت دراسة صدرت العام الماضى للمركز القومى للبحوث الاجتماعية أن هناك 10,000 شتيمة متبادلة بين الناس فى المجتمع المصرى ، وللمرء أن يتخيل هذا العدد الهائل من البذاءات والسفاهات تلفظها الألسنة ، وينطق بها الغاضبون فى طول البلاد وعرضها ، وفى كل وقت وحين ، وأسباب تلك الظاهرة عديدة ومتنوعة ، غير أنه يمكن اجمالها فيما يلى :
أولا : ضعف الوازع الدينى ، وانحسار الثقافة الاسلامية ، حيث أن الاسلام هو مصدر الأخلاق ، وضوابطه الشرعية هى المحددة للسلوكيات فى المجتمع ، وتضييق الأنظمة المتتابعة على كل ما هو اسلامى ، وتشجيعها للثقافات الواردة من الشرق والغرب ، أفرز أجيالا افتقدت بوصلتها ، والتبست مفاهيمها ، واختلت فى أذهانها المعايير ، والناظر الى القرآن الكريم ، والسنة المشرفة ، يجد أن الاسلام قد حذر من كل ذنوب الفم واللسان وأخطرها :
1- الاستهزاء بالله وأسمائه وآياته ورسوله وكتابه الكريم ، وكلها من نواقض الاسلام ، ( ولئن سألتهم ليقولن انما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون . لا تعتذروا قد كفرتم بعد ايمانكم ان نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين ) التوبة 65-66 ، وسب الدين من أقبح الرذائل الشائعة على ألسنة الكثيرين فى المجتمع المصرى ، وامتداد ذلك ليشمل الوزراء والنواب أمر يثير القلق على التدنى والانحدار الذى آلت اليه طرق الحوار ، وأساليب التخاطب ، والسب كما يقول شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله : هو الكلام الذى يقصد به الانتقاص والاستخفاف ، وسب الله هو أشنع وأقبح المكفرات القولية ، ويرى ابن القيم رحمه الله أن ( روح العبادة هو الاجلال والمحبة ، فاذا تخلى أحدهما عن الآخر فسدت ، فاذا اقترن بهذين الثناء على المحبوب المعظم فذلك حقيقة الحب ).
2- قول الزور ، لأنه يقلب الحق باطلا ، والباطل حقا ، وتضيع به الحقوق ، وينتشر البغى والظلم ، ويشيع الجور والعدوان ، ولذلك يقول الله تعالى : ( واجتنبوا قول الزور ) الحج 30 ، ويصف عباده الصالحين ( والذين لا يشهدون الزور ) الفرقان 72 ، وهو نقيض الكاذبين المنافقين ( وانهم ليقولون منكرا من القول وزورا ) المجادلة 2 ، وشهادة الزور كبيرة من الكبائر ، وفى حديث أبى بكرة الذى رواه الصحيحان ، يقول (ص) : ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ( ثلاثا ) ؟ قلنا : بلى يا رسول الله ، قال : الاشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وكان متئكا فجلس فقال : ألا وقول الزور وشهادة الزور ، فما زال يكررها حتى قلنا : ليته سكت ، كما أن شهادة الزور تفسد عمل المرء ، يقول (ص) فى الحديث الذى رواه البخارى : من لم يدع قول الزور والعمل به ، فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه ، وشهادة الزور صارت من الآفات الخطيرة فى المجتمع ، والتى لها مرتزقتها وعملاؤها ، بما لهم من تسعيرتهم الخاصة ، وتعريفتهم المناسبة لنوع شهادتهم وأهميتها.
3- قذف المحصنات ، وهو من الذنوب الموجبة للحد ، ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون ) النور 4 ، ولا يخفى أن قذف المحصنات اعتداء على الأعراض قد تفشى فى بلادنا ، وانتشر فى أحاديث الشباب والرجال ، وفى خطبة الرسول (ص) فى حجة الوداع ( ان دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا فى شهركم هذا فى بلدكم هذا ) البخارى ومسلم ، وفى حديث آخر رواه مسلم ( كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه ) ، وفى حديث البخارى 2560 ، ومسلم 129 ، يقول (ص) : اجتنبوا السبع الموبقات ، وعد منها قذف المحصنات الغافلات المؤمنات.
4- السخرية والاستهزاء بالغير ، وهو من الأمراض الاجتماعية الخطيرة التى شاعت بيننا ، حتى أصبح التحقير والانتقاص من شأن الآخرين على كل لسان ، والتى نهانا جل وعلا عنها ، ( يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الايمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون ) الحجرات 11 ، واللمز هو التحقير ، وصاحبه مذموم ملعون لقوله تعالى : ( ويل لكل همزة لمزة ) الهمزة 1 ، أما التنابز بالألقاب فيعنى استخدام الألقاب التى يسوء المرء سماعها ، وفى الحديث الذى رواه أبو داود والترمذى أن أم المؤمنين عائشة (رض) كانت تجلس مع النبى (ص) ، فأقبلت أم المؤمنين صفية (رض) ، فقالت عائشة (رض) : حسبك من صفية كذا وكذا ، تعنى أنها قصيرة القامة ، فقال لها النبى (ص) : لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته (عكرته) ، دلالة على ما فى الاقلال من الغير من شين وقبح .
5- الغيبة والنميمة ، ( يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن ان بعض الظن اثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله ان الله تواب رحيم ) الحجرات 12 ، وفى الحديث الشريف عن أبى هريرة (رض) ، قال (ص) : أتدرون ما الغيبة ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، فقال : ذكرك أخاك بما يكره ، قيل : يا رسول الله ان كان فى أخى ما أقول ؟ قال: ان كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وان لم يكن فيه فقد بهته ) رواه مسلم ، وفى حديث آخر رواه مسلم ، يقول (ص) : لا يدخل الجنة قتات ، والقتات هو النمام ، والنميمة هى نقل الكلام بغرض التحريش والافساد وايغار القلوب.
6- الشتم والسب واللعن والفحش والبذاءة ، وكلها سلوكيات منتشرة فى مجتمعنا ، قال أحد الصحابة : أوصنى يا رسول الله ، قال : أوصيك ألا تكون لعانا ( أحمد 20155 ) ، وعن أبى الدرداء (رض) ، أن النبى (ص) قال : ما من شئ أثقل فى ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن ، وأن الله يبغض الفاحش البذئ (الترمذى 2002 ، ابن حبان 5695 ) ، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص (رض) قال : لم يكن رسول الله (ص) فاحشا ولا متفحشا ، وكان يقول : ان من خياركم أحسنكم أخلاقا ( البخارى 3559 ، مسلم 2321 ) ، وعن جابر بن سليم (رض) ، قال (ص) : وان امرؤ شتمك بما يعلم فيك ، فلا تشتمه بما تعلم فيه ، فان أجره لك ، ووباله على من قاله (أبو داود 4084 ، أحمد 5525) ، بل أن رسول الله (ص) نهى عن لعن الدابة ، وفرق بين امرأة وناقتها لأنها لعنتها ، ونهى عن لعن العصاة ، ومرتكبى الذنوب .
ولخطورة كل تلك الذنوب على الأفراد والمجتمع ، وردت الآيات والأحاديث الكثيرة فى الترغيب فى حسن الخلق ، والترهيب من زلات اللسان وهفواته ، يقول تعالى آمرا عباده بالقول الحسن : ( وقل لعبادى يقولوا التى هى أحسن ) الاسراء 53 ، ( وقولوا للناس حسنا ) البقرة 83 ، ( وجادلهم بالتى هى أحسن ) النحل 125 ، ( فقولا له قولا لينا ) طه 44 ، ونهى الاسلام عن الفظاظة ، وجعل اللين سببا لتآلف القلوب ( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك) آل عمران 159 ، وحذر أن كل ما يقوله العبد مكتوب ومحاسب عليه ( ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد ) ق 18 ، واستثنى من حاق به الظلم أن يجهر بشكايته ( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول الا من ظلم ) النساء 148 ، وفى مخاطبة الوالدين ( فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما ) الاسراء 23 ، ونهى عن سباب الفاسقين حتى لا يسبوا الله سفها وعدوانا ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ) الأنعام 108 ، وجعل الكلمة الطيبة دليلا من دلائل الايمان ، فعن أبى هريرة (رض) ، قال (ص) : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ( متفق عليه ) ، ونبه الى أن ذنوب الفم واللسان من أكبر أسباب العذاب فى الآخرة ، عن معاذ بن جبل (رض) ، ..فقلت يا نبى الله : وانا لمؤاخذون بما نتكلم به ، فقال : ثكلتك أمك يا معاذ ، وهل يكب الناس فى النار على وجوههم أو على مناخرهم الا حصائد ألسنتهم ) الترمذى 2616 ، وسئل رسول الله (ص) عن أكثر ما يدخل الناس النار ، فقال : الفم والفرج (الترمذى 2004 ، ابن ماجة4246 ) ، وجعل الكلمة الطيبة مما تزيد به الحسنات ، يقول (ص) : الكلمة الطيبة صدقة ( البخارى 2989 ، مسلم 1009 ) ، كما أنها دليل استقامة القلب ، وحسن الايمان ، يقول (ص) فى الحديث الذى رواه أحمد : لا يستقيم ايمان عبد حتى يستقيم قلبه ، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه .
ثانيا : فساد النظام التعليمى بجميع مراحله ، وتخريج أجيال تفتقر الى أبسط أصول العلم والمعرفة ، وتفتقر بالتبعية الى الأسلوب الراقى ، والسلوك الحضارى .
ثالثا : فساد الاعلام بجميع صوره ، والمتابع للصحف ، وبرامج التلفزيون ، يصاب بالذهول للكم الهائل من الاسفاف والضحالة والسطحية ، والتراشق بالشتائم والاتهامات ، والتضليل والكذب ، واللغة الركيكة فى القول والكتابة ، ومن الأمثلة على التدنى والهبوط ما كتبه محمد صلاح العزب فى صحيفة اليوم السابع بتاريخ 25-6-2009 ، بعنوان ( ماى انجلش از فرى باد ) ، وفيه يقول : (...أنه لا يفهم من حديثهم ( أى الأجانب) الا كلمات من نوعية .......، وفك يو ...) ، ولا أدرى كيف يكتب صحافى مقالا دون أن يقوم ببعض الجهد للقراءة والاطلاع ، وجمع المعلومات ؟ والعجيب فى الأمر أن الكلمة التى ذكرها الكاتب ، ورغم أنه كتبها بحروف عربية الا أنها واحدة من سبع كلمات يحظرFederal Communication Commission كتابتها فى الصحف اليومية ، أو التلفظ بها فى برامج الاذاعة والتلفزيون العامة فى الولايات المتحدة ، واذا حدث واستخدمت لسبب أو آخر فانه يشار اليها بعلامات **** ، أو تكتب ناقصة كهكذا ***f ، أو f**k ، وتلفظ المفردات البذيئة indecent أو الفاحشة obscene أو المبتذلة profane تعرض صاحبها ، أومسئول المحطة الاذاعية أو القناة التلفزيونية للعقوبة ، والتى تكون بالغرامة التى تصل الى مئات الألوف من الدولارات ، أو حتى السجن ، ورغم حرية الحديث والاعلام ، والتى كفلتها المادة الأولى First Amendment من وثيقة الحقوق Bill of Rights فى الدستور الأمريكى ، الا أن الولايات المتحدة لم تغفل وضع القواعد والقوانين ، وتنظيم اعطاء التراخيص ، ومراقبة المواد المذاعة ، وابتدأ ذلك عام 1927 فيما يعرف ب Radio Act ، والذى أصبح بعد ذلك Federal Radio Commission ، أو FRC ، وفى عام 1943 تم انشاء ما يعرف ب Federal Communication Commission أو FCC ، والمتأمل فى الاعلام المصرى يجد أن البذاءة والابتذال امتدت الى كاتبى التعليقات من القراء ، ولا عجب فى ذلك فانهم يقلدون الكتاب ، والجو العام السائد فى المجتمع ، ويذهل المتابع لكم الشتائم ، وألفاظ التحقير والاستهزاء فى كثير من التعليقات ، وخاصة فى صحيفة اليوم السابع ، ولا يقتصر الأمر على ألفاظ السباب والسخرية ، وانما يمتد أحيانا الى المفردات الجنسية المبتذلة ، رغم أن ديننا الحنيف كنى عن العلاقة الجنسية بكلمات مثل المس ( يا أيها الذين آمنوا اذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن ) الأحزاب 49 ، ( وان طلقتموهن من قبل أن تمسوهن ) البقرة 237 ، أو اللمس (وان كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحدكم من الغائط أو لامستم النساء ) المائدة 6 ، أو التغشى ( هو الذى خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن اليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا ) الأعراف 189 ، ويظن الكثيرون فى بلادنا أن استعمال الانترنت يوفر لهم الحماية ، أو يرفع عنهم الحرج من استعمال الألفاظ البذيئة ، والتعبيرات المبتذلة ، والعجيب أن الدول الأخرى بدأت تتنبه لذلك ، وتضع الضوابط التى تحمى الأفراد ، بل وتوقع العقاب على من يستغلون فضاء الشبكة الرحيب فى الاساءة الى غيرهم ، وخلال العام المنصرم غرمت احدى المحاكم الأمريكية أحد المعلقين على الانترنت غرامة كبيرة لاستعماله ألفاظا بذيئة فى حق امرأة ، وفصلت احدى مدارس مدينة Saint Louis موظفا بها لتعليق بذئ تناول فيه أحد أعضاء جسد المرأة ، وأجبرت المحكمة فى حالة أخرى احدى المعلقات التى تناولت زميلة لها فى العمل بمجموعة من التعليقات التى انطوت على الاحطاط منها واهانتها الى الكشف عن هويتها ، وفى الصين فان محرك البحث الصينى Xinhua Search Engine يقوم بفلترة المواقع التى تحتوى على البذاءة والابتذال ، وهناك أيضا فى الصين مركز شبه حكومى يطلق عليه China Internet Illegal Information Reporting Center ، ويقوم بنشر قوائم للمواقع المبتذلة ، بدعوى أنها تحتوى على معلومات غير صحية ، ولضررها على صغار السن من الأطفال والمراهقين والشباب ، وتشجع دول كثيرة مستخدمى الانترنت على مراقبة أبنائهم ، واستعمال internet filters لحمايتهم .
رابعا : فساد الفن وانحطاط معظم ما يقدمه لنا من أفلام ومسرحيات ومسلسلات وأغانى وغيرها ، والأمر لا يقف عند حدود الضحالة والسطحية ، والتدنى فى المحتوى والمضمون ، بل يتجاوز ذلك الى حشر كم هائل من الاسفاف والابتذال ، وبذاءة الكلمات والتعبيرات ، ووصلات الردح والسوقية ، والتحرش بالفتيات ، ومشاهد الخمر والمخدرات ، والعرى ، والايحاءات الجنسية ، والقمار ، والنكات السمجة ، والسخرية والاستهزاء ، واساءة معاملة الأطفال والنساء ، ووصل الأمر أخيرا الى الشذوذ الجنسى ، ومما يثير العجب أن الآخرين يضعون الضوابط لحماية أبنائهم ، ونحن نترك الأمر مشاعا لكل منتج أو مخرج أو ممثل أو ممثلة ، ليلقى علينا بكل ما يساعد على الانحراف والضلال ، وافساد الذوق ، والتخلف فى التعبير والسلوك ، وكلنا يعرف مدى ما وصل اليه الفن فى مصر ، غير أن الذى يستوقفنى مشاهد تعاطى المخدرات والتحشيش التى أصبحت فى كل الأفلام المصرية ، وما تحتويه من نكات مريضة ، وتعبيرات ساخرة ، وألفاظ سوقية ، ومما يزيد عجبى أنه فى الولايات المتحدة الأمريكة ، فان الأفلام التى تصنف R أو Restricted أى غير مباحة لصغار السن ، أو من هم تحت 18 سنة ، يضاف بجانب ال R أسباب التصنيف ، والتى تكون واحدة من أو كل الآتى : L وتعنى اللغة language، أى تحتوى على ألفاظ وتعبيرات لا يجب لصغار السن سماعها من كلمات بذيئة وجنسية مبتذلة ونحوها ، D لمشاهد تعاطى drugs أو المخدرات ، Sc لمحتواها الجنسى sexual content ، أما Ac فتعنى موضوعات أو أمور للبالغين adult content لا يجوز مشاهدة الصغار لها ، V للعنف أو violence ، بينما N للعرى أو nudity ، وقد تأسس هذا النظام فى عام 1968 بواسطة Motion Picture Association of America ، ولست هنا داعيا لنظام مشابه ، ولكنى متعجب كيف لغيرنا أن يحموا صغارهم وكيف لنا أن ندمر صغارنا ، ونتلاعب بعقولهم وقلوبهم ، ونفسد سلوكياتهم ؟ وأمر الفن فى بلادنا ينبغى أن يحكمه دين المجتمع وأعرافه وتقاليده ، والمخرج الجيد ، وكاتب الحوار الأمين ، والممثلون والممثلات الذين يعنيهم احداث التأثير الايجابى ، يستطيعون جميعا أن يقدموا أعمالا طيبة ، بأداء فنى محترم ، محدثا التأثير المرغوب على المشاهدين ، وبعيدا عن كل صور البذاءة والابتذال ، وقد وجدت الدراسات والاحصائيات أن أكثر الأفلام مشاهدة وتأثيرا فى المجتمع الأمريكى على سبيل المثال هلى التى تتناول أمور الأسرة والحياة وغيرها من الأمور الجادة النافعة للناس ، والخالية من صنوف الاثارة والابتذال.
خامسا : الفساد العام الذى طرأ على المجتمع وأثر على جميع أفراده وطبقاته ، وتضاؤل اهتمام الأسر بتربية أبنائها ، وشيوع مفاهيم فاسدة عن التسلية واضاعة الوقت ، وانعدام الأنشطة الفكرية والاجتماعية والرياضية للأحزاب والجماعات ، والصحبة السيئة ، والتكبر والتعالى على الناس ، والحسد والأحقاد والضغائن التى باتت تملأ قلوب الكثيرين ، كلها عوامل أخرى تساهم فى امتداد تلك الظاهرة وتفشيها فى مصر ، حتى أصبحت بحق أمرا يجب التنبه له ، ومحاولة علاجه وتصحيحه.
والبذاءة والابتذال ليست حكرا على استخدام الكلمات المسفة ، والتعبيرات الفاحشة ، وانما يتجاوز الأمر ذلك الى صور وأشكال أخرى ، ففوضى المرور من السيارات والمشاة ، والتى تعطى لشوارعنا طابعا قبيحا منفرا ، مظهر آخر للبذاءة والابتذال ، أضف الى ذلك الضوضاء والضجيج والأصوات الزاعقة فى كل مكان وأوان ، ( واغضض من صوتك أن أنكر الأصوات لصوت الحمير ) لقمان 19 ، والقذارة والنفايات والمجارى الطافحة ، وأحشاء الشوارع الخارجة فى كل ركن وناحية صورة أخرى للبذاءة والابتذال ، وكذلك العشوائية فى التخطيط والبناء فى كل قرانا ومددنا ، وتحويل مدارسنا وجامعاتنا الى متاجر للدروس الخصوصية ، وبيع المذكرات الهزيلة ، والغش وتسريب الامتحانات ، صورة من أقبح صور البذاءة وابتذال التعليم ، وافقاده دوره ومكانته ، وغير ذلك الكثير مما ينافى الذوق السليم ، والحس المرهف .
ولكن اذا كانت المشكلة بتلك الضخامة والتشعب ، فما هو الحل ؟
لا يمكن لمجتمع يفتقد القدوة ، ويصبح وزراؤه ونوابه أمثلة للبذاءة والابتذال ، أن يطالب أفراده بالسلوك المتحضر ، والتصرف اللائق ، والعجيب أن واحدا كالمرشح السابق لرئاسة مصر ، أيمن نور ، ضاقت مفردات اللغة عليه ، فلم يجد الا واحدا من مصطلحات العوالم والراقصات ( ما يحكمش ) ليتخذه شعارا لحملته ضد التوريث ، وأن رجلا بسن شيخ الأزهر ومكانته يستخف بطفلة فى السنة الثانية الاعدادية بأحد المعاهد الأزهرية ، فيثير الفزع فى نفسها ، ويحقر خلقتها ، فى مشهد من أقبح مشاهد الانحطاط والغوغائية ( أن أفهم فى الدين أكتر منك ومن اللى خلفوك...لما أنت كده امال لو كنت جميلة شوية كنت عملتى ايه ) ، والعجيب فى كل ذلك أن هؤلاء جميعا لم يتعرضوا للمساءلة ، ولم يقدموا الاعتذار الواجب على سلوكهم السوقى ، بل ان مجلس الشعب قد حفظ التحقيق فى سب بعض نوابه للدين والعرض تحت زعم تقديمهم لاعتذارات كتابية ، رغم تشكيك نواب الاخوان فى حقيقة ذلك ، كما نشرت صحيفة المصريون بتاريخ 12-1-2010 ، كما أن رجل قانون كدكتور يحيى الجمل يكتب فى المصرى اليوم 12-1-2010 مقالا بعنوان ( لن يعتذر..ولن يستقيل ..ولن يقال ) يقول فيه : ( تقديرى أن لم يقصد أن يسب دينا معينا ، أو أن يسيئ الى معتنقيه ، فهو ليس من المتطرفين المتعصبين لدين معين ..الأمر لا يعدو أن يكون نوعا من بذاءة اللفظ ، وانحطاط مستوى التعبير ..أما فى البلاد التى يدرك فيها الوزير أنه يأتى بارادة مولاه فقط ، وينصرف بارادة مولاه فقط ، ولا يعرف أنه حتى انصرف الا من وسائل الاعلام ..فى هذه البلاد فان الوزير لا يعتذر ولا يستقيل ولا يقال اذا أخطأ فى حق الشعب ، وانما يستمر فى موقعه يسب الشعب ، أليس كذلك ؟ ) ، وسواء كان الوزير قاصدا أو غير قاصد ، فقد ارتكب فعلا سفيها ، وكان أقل واجب عليه أن يعتذر للمجتمع بأكمله قولا وفعلا على تصرفه الأخرق ، أو يستقيل ويترك موقعه لغيره ممن يحسنون الكلام والسلوك ، وفى خلال الأسبوع المنصرم اعتذر زعيم الأغلبية الديمقراطية فى مجلس الشيوخ الأمريكى Harry Reid على وصفه Barak Obama أثناء حملته الانتخابية عام 2008 بأنه light skinned with no Negro dialect ، ولم يقتصر الرجل على الاعتذار للرئيس الأمريكى بل اعتذر للشعب الأمريكى كله والسود : I deeply regret using such poor choice of words. I sincerely apologize for offending any and all Americans, especially African-Americans for any improper comments ، فى حين أن شيخ الأزهر قال فى برنامج العاشرة مساء ، بتاريخ 10-10-2009 ، ردا على منتقديه بعد حادثة تلك الطالبة الصغيرة : ( أنا لا أرد على السفهاء وهؤلاء جماعة مغررون ولا أرد عليهم..أنا أقول بمنطق الشرع وليس بالفشر والأونطة يكون الحديث ) .
اننا نحتاج لمكافحة شيوع البذاءة والابتذال فى المجتمع الى نظام تعليمى جيد ، واعلام مسموع ومقروء يقوم على أمره مؤهلون لغة وعلما ممن يحترمون عقل الناس وذوقهم ، ونريد فنا راقيا يخاطب عقل الانسان وقلبه ، ولا يفسد حسه وذوقه ، ونريد نظاما مسئولا يخطط لكل شئ ، ويضع الأكفاء فى مواقع المسئولية ، ويقضى على عشوائية التخطيط والتنفيذ فى كل مجالات الحياة ، ونريد ضوابط وقوانين يلتزم بها الناس جميعا حكاما ومحكومين ، ونريد ثقافة ووعيا اسلاميا يرشد القلوب الحائرة ، والعقول الضالة الى ما فى ديننا من سلوكيات هى المثل الأعلى فى الذوق السليم ، والحس المهف ، والأدب الجم .
ملحوظة : الكاتب يرحب بجميع التعليقات والاضافات والاقتراحات على جميع ما يكتب من مقالات تتناول الشأن المصرى ، ترسل الى بريده الالكترونى الخاص ، ويعد بأن يتناول فى مقالات منفصلة وبصفة دورية ما يصله من تلك المشاركات ، وأن يجعل من ذلك نافذة لتبادل الآراء ، وتقديم الحلول ، عملا بالواجب الشرعى ( الدين النصيحة ، قلنا : لمن يارسول الله ؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ) ، علاوة على ما فى ذلك من الاستفادة من خبرات الآخرين وعلمهم وتجاربهم ، مما يساعد على تكوين رأى مستنير حول القضايا والمشكلات المطروحة ، ويبقى الاهتمام بمصرنا شغلا شاغلا فى قلوبنا وعقولنا .
سعد رجب صادق
saad1953@msn.com
06/11/2014