عبقرية هيكل: عندما تكون الشجرة أهم من ثمارها!
| |
هيكل هو الشخصية العربية الأكثر ارتباطاً بل وتأثيراً أيضاً في الأنظمة العسكري | |
حازم خيري
..............
ربما يكون المفكر المصري محمد حسنين هيكل هو الشخصية العربية الأكثر ارتباطاً بل وتأثيراً أيضاً في الأنظمة العسكرية[أعني دولة العسكر 1945 ـ 2001] التى اُجيز قيامها لملء الفضاء العربي، والحيلولة ـ وفقاً لتحليل سمير أمين لثورة 1952 في كتابه "ثورة مصر" ـ دون استمرار المد الثوري "الشعبي"، بعد جلاء الاستعمار الأوروبي التقليدي، على خلفية انتهاء الحرب العالمية الثانية، وبروز الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفيتي، كقوتين أعظم في العالم.
اهتمامي بهيكل بدأ منذ فترة غير قصيرة، فهو حاضر بقوة في الاعلام المصري ما قبل ثورة 25 يناير المجيدة وما بعدها! آراء الرجل تجري مجرى الأمثال على ألسنة مفكرينا البارزين! فهو "الأستاذ" كما يحلو لهم وصفه بافتخار!
إلى هذه الدرجة اللافتة يصل نفوذ مفكرنا المُخضرم محمد حسنين هيكل في المزاج الثقافي العربي، فضلاً عن أن عبقرية الرجل لا تزال على اخضرارها! وهو ما يعفيني من حرج التصدي لكتابه الأخير بالنقد، في ضوء فكرنا الأنسني!
دار الشروق المصرية[دار نشر] ـ والتي انحاز مُلاكها واسعو النفوذ للثورة المصرية في وقت مبكر جداً، حتى أن جريدتهم اليومية نطقت باسمها، إلى جانب قناة الجزيرة القطرية، على حد تعبير الناشط المصري عبد الرحمن يوسف في مذكراته "يوميات ثورة الصبار" ـ، صدر عنها مؤخراً العديد من الكتابات الخاصة بثورة 25 يناير، لعل أبرزها مُذكرات وائل غنيم، وكتاب هيكل عن اخر حكام دولة العسكر في مصر وعنوانه: "مبارك وزمانه/من المنصة إلى الميدان".
في كتاب هيكل، ومن السطور الأولى، يبدو واضحاً مدى حرص هيكل صاحب التفكير "الغائي/المصلحي" على الايقاع بفريسته "نصف الميتة"، مُستخدماً ما بيده من أوراق كان قد ادخرها، على ما يبدو، لموسم الصيد وقد حان موعده!
المُبرر الأخلاقي الوحيد الذى يُجيز ما دأب عليه الأستاذ هيكل في كتاباته الوثائقية "الانتقائية"، من هتك لستر الموتى أو حتى أنصاف الموتى، غائب! وأعنى هنا التعطش باخلاص للحقيقة، وعدم حبسها عن الناس لغرض! فضلاً عن تعفف العبث بها أو استغلالها في غيبة الفضيلة! آفة البحث اخفاء الحقائق غير المريحة!
تيجي تصيده يصيدك! لشد ما ينطبق هذا المثل العبقري على رواية هيكل لتفاصيل لقاء ست ساعات "ودي ـ على حد تعبير هيكل نفسه ـ"، جمعه بمبارك عقب اطلاق الرجل، بوصفه خليفة أنور السادات، لسراح معتقلي سبتمبر1981!
هيكل أورد، في سياق انتقاده لعدم تقريب مبارك للصحفيين واتهامه لهم بخدمة مصالحهم، افضاء مبارك: "محمد بيه أنت تقيس الصحفيين الحاليين بتجربة زمن مضى، ليس هناك صحفي الآن له علاقة خاصة بالرئيس[وكانت الاشارة واضحة ـ والتعليق لهيكل]". وهو ما رد عليه هيكل بقوله: "إن جمال عبد الناصر كان متصلاً بكثير من الصحفيين، ثم إن هذا لا يمنع قيام صداقة مع أحدهم بالذات، ولكن المهم أن يكون اصبع رئيس الدولة على نبض الرأي العام طول الوقت".
لم يلتفت مبارك على ما يبدو لكلمات هيكل، وانتقل ـ والدهشة عند هيكل تزيد ـ قائلاً: "على فكرة نحن نتصور أنك تجلس على حِجْر الرئيس، الرئيس جمال، لكنه ظهر أن الرئيس جمال كان هو الذى يجلس على حِجْرك". صدمة مُباغتة، لم تتوقف، حيث استطرد مبارك: "لم أكن أعرف أن العلاقة بينكما إلى هذا الحد حتى شرحها لي[أشار إلى اسم الأستاذ أنيس منصور ـ والتعليق لهيكل]".
الأستاذ هيكل استهول ما سمع، وبان ذلك على ملامحه، وربما في نبرة صوته ـ على حد تعبير هيكل نفسه ـ، حين قال لمبارك: "سيادة الرئيس أرجوك لا تكرر مثل هذا الكلام أمام أحد، ولا حتى أمام نفسك، أولاً لأنه ليس صحيحاً، وثانياً: لأنه يسيء إلى رجل كان وسوف يظل في اعتقادي واعتقاد كثيرين في مصر وفي الاقليم وفي العالم قائداً ورمزاً لمرحلة مهمة في التاريخ العربي".
صحيح..تيجي تصيده يصيدك! مبارك بضيق أفقه يفك شفرة "الناصرية"!
أذكر أني قرأت يوماً كتاب "قصة حياتي العجيبة!" للمعجزة الأمريكية هيلين كيلر، وأبهرني تعنيف النقاد لها، وهي الضريرة الصماء، لما تصوروه سطواً من جانبها على أفكار بعينها، تسربت إليها يوماً من معلمتها وأملتها عن غير قصد!
إلى هذه الدرجة يحرص مبدعو الغرب على ارجاع الأفكار لأصولها، تحصيناً لحضارتهم من كل عوار، قد ينتج عن خلط الغث بالسمين! غير أن الطريف هو سيرنا في عكس الاتجاه، فارجاع الأفكار لأصولها، لا يتفق وفهمنا للابداع! فالأفكار عندنا لمن يُجيد العزف عليها، وليس لأولي السبق في ابتكارها!
بعبارة أدق، نحن لا نهتم كثيراً، بل لا نهتم أصلاً، بتحري اصول الأفكار وردها لمنابعها، فلا محل عندنا للأبنية النظرية أو التأصيل! وهو ما يُفسر طبيعة أمزجتنا التى تجعلنا نقبل سياسة ما من شخص ما، ولا نقبلها من شخص آخر..
من هنا، يمكن لنا أن نُفسر احجام باحثي وطلاب الدراسات العليا عندنا طيلة العقود الماضية عن التصدي لفك شفرة الناصرية، رغم كثرة الكتابات والخطب والأحاديث حولها، خاصة في مواسم بعينها، كـ: عيد ثورة 23يوليو 1952، وعيد ميلاد الراحل جمال عبد الناصر، إلى غير ذلك من مناسبات ترتبط في وجدان الجمهور العربي بهذا الابتكار العبقري ـ أقصد الناصرية بالطبع ـ.
فالناصرية التي يتزامن ميلادها مع الميلاد "الفعلي" لدولة العسكر في مصر(23يوليو1952ـ25يناير2011)، اكتفى دارسوها، ومن باب أولى دراويشها، بتحليل بل وأحياناً التلذذ بأقوال وسلوكيات شخص جمال عبد الناصر، كونه تجسيداً للناصرية. لا أنتقد هؤلاء بالطبع، وانما أنتقد عدم ذهابهم إلى ما هو أبعد في تحليلهم للناصرية، فهي برأيي، وربما رأي الكثيرين في المستقبل، تتجاوز حدود "شخص"، كونها حزمة من الأفكار تخطف السُذج داخل الوطن، فيما يشبه التنويم المغناطيسي الشائع وقتها، وتخدم بعبقرية مصالح الحكومات لا الشعوب!
أنظر مثلاً إلى مُفردتي "العروبة" و"معاداة الكيان الصهيوني"، وهما من الأركان الرئيسية للناصرية، تجد في حديث هيكل عنهما في كتابه الأخير ما يُبدد الأوهام! فها هو هيكل بتمكن يُعري في حديثه مع مبارك مغزى البعد العروبي للناصرية، بعيداً عن التشنجات الحماسية لأم كلثوم، وعبد الحليم، وأشبال منظمة الشباب الذين نجحت ثورة يناير في تحرير المصريين من نيرهم! يقول "الأستاذ":
"سيادة الرئيس..إن الاحتياج لابد أن يكون متوازياً في السياسة الدولية، واذا جاء الاحتياج من طرف واحد ـ إذن فهو عالة على غيره، وحتى اذا قبل هو، فإن الطرف الآخر لن يقبل، ببساطة لأن السياسة الدولية ليست جمعية خيرية!!
"انه هنا أهمية موارد مصر الاستراتيجية، وقدرتها على ادارة هذه الموارد، وهنا مثلاً أهمية انتماء مصر العربي. بمعنى إذا لم تكن مصر من هذه الأمة العربية بالطبيعة، فلابد أن تكون منها بالضرورة. بصراحة أنا قومي عربي باقتناع، وبطبائع الأشياء فإن أحداً لا يستطيع الاقتناع إلا بما يتوافق مع مصلحة وطنه كما يقدرها ـ وفضلاً عن اقتناعي ـ مبدأ ـ بعروبة مصر، فإنني مقتنع بضرورة هذه العروبة أيضاً لمصر، وكذلك لكل بلد عربي.
"فارق ـ سيادة الرئيس ـ بين أن تتعامل مع أمريكا كمصر فقط ـ وهي بلد مثقل بحجم سكانه، محدود في طاقة موارده، وبين أن تتعامل معها وهي وسط العالم العربي ـ بكل قوة الأمة، وبكافة إمكانياتها ومواردها!!
"هذا أيضاً ـ سيادة الرئيس ـ هو ما يمكن أن يعطيك تأثيراً في العالم الثالث كله وفي العالم الأوسع، إذا كنت وحدك، فالتأثير محدود، وإذا كنت وسط كتلة كبرى، إذن فهناك حساب آخر لتأثيرك".
رؤية هيكل المذكورة تواً تكاد تتطابق، لفظاً ومضموناً، مع حديث الأمريكي مايلز كوبلاند في كتابه المهم "لعبة الأمم"، ولا حرج في ذلك، لولا أن تجربة دولة العسكر(1945ـ2001)، تُعضد للأسف الزعم الأمريكي، بأنه جرى توظيف مُفردة "العروبة" وغيرها من مفردات الناصرية، في اطار ما يسميه الغربيون بفن "صناعة الخصم"! التاريخ إذن هو من يتهم ويستصرخنا تطهيره من الأكاذيب!
خاصة وأننا نرى في الأفق الآن مساعٍ لتكرار السيناريو نفسه، على خلفية ثورة 25 يناير، مع فارق واحد، وهو: استبدال حزمة "اسلام سياسي/دولة خلافة"، يتولى زعيم ـ حُبلى مُحدثات ربيعنا الصامت باحتمالات ظهوره(*) ـ تسويقها، بحزمة "الناصرية" التى برع ناصر في تسويقها! أخطر ما في هذا السيناريو المشئوم، أنه "حلوى مسمومة"، بالتهامنا لها، تصبح الزعامة القوية في بلادنا عبئاً، على نحو ما تُعلمنا تجربة دولة العسكر، لا عوناً لنا، يجرفها الغربيون بأنانيتهم ومعارفهم الواسعة إلى حيث لا ينبغي لها ـ ولا لأبناء المنطقة ـ أن يتواجدوا!
على أية حال، رد فعل هيكل الانفعالي على حديث مبارك عن الناصرية، ومناشدته له بأن يكتم مثل هذا الرأي وعدم تكراره أمام أحد ولا حتى أمام نفسه، يعضد مُحاجتى بأن الناصرية تتجاوز حدود ناصر! هي جهد "مُتقن" لمحترفين!
ولو أن كلاماً خطيراً كهذا شاع، ومبارك في أوج القبول الشعبي والعالمي، لكان احتمال التفكر فيه غير معدوم، ولكان أغرى خصوم هيكل به، وهو ما زلزل هيكل وقتها! غير أن تحول مبارك من القوة إلى الضعف، أهدى هيكل فرصة لوأد ما ردده أنيس منصور وغيره! قرر هيكل أن يبوح بسره ليئده، كونه يعلم يقيناً أن مبارك في محنته لو نطق بحق لرآه الناس باطلاً، فالرجل لم تتبق له مصداقية!
تصرف هيكل هذا يُعيد إلى ذهني ما اعتادت فاشية العسكر أن تأتيه في حق شرفاء بلادي! يحضرني منهم اسم الموهوب "نجيب سرور" الذى اغتيل أدبياً عبر ايداعه مستشفي المجاذيب، ليفقد صراخه بالحق أي تعاطف، رغم أنه كان ضمن قلة لم ينطل عليها سحر الناصرية، ورأت في حكم العسكر ما نراه اليوم!
الأستاذ محمد حسنين هيكل، ومن واقع كلامه هو نفسه، ليس بمنآى عن أجهزة الاستخبارات، خاصة الغربية، حتى أنه تطرق في كتابه الأخير على استحياء، وتحت ضغط الحاجة لتعضيد وجهة نظره، إلى لقاءات وصلات جمعته بشخصيات استخباراتية نافذة، لدواعٍ قال عنها أنها ترتبط بمؤلفاته، ناهيك عن صلاته غير المحدودة ببارونات السياسة في جميع أنحاء العالم، خاصة الغربي.
وعليه، تطرق الرجل في كتابه الأخير لقضايا استخباراتية، لا رابط بينها سوى سعيه الضاري، لشيطنة تاريخ مبارك، تصريحاً أو تلميحاً، على نحو فج!
من تلك القضايا قضية "أشرف مروان"، وهي ترتبط بالناصرية، وبالتحديد مُفردة "معاداة الكيان الصهيوني"، تلك الفكرة المحشوة بالديناميت، ليس في عدائها ـ على الأقل بالإدانة والشجب ـ لقهر الصهاينة للفلسطينيين، وإنما في صلاحيتها كغطاء لفاشية العسكر لعقود عديدة، اختلط الأمر فيها على الشعوب، فلم تع مساندة اسرائيل لوجود دولة العسكر، كونها أبرع من غيرها في تدمير شعوبها بالمدح!
في كتابه، بدا واضحاً حرص هيكل على تبرئة أشرف مروان من تهمتي التجسس لصالح اسرائيل، واخبار "الموساد" بتوقيت نشوب حرب اكتوبر 1973، ولو أن هيكل اكتفى بتبرئة صديقه، ونفي زعم اسرائيل عنه، لأراح واستراح!!
لكن يبدو أن رغبة هيكل "المُسلحة" في الايقاع بالفريسة ملكت عليه أمره، فراح يزرع الشك في نفوس القراء، ويغريهم بصيد "نصف ميت"، ولنقرأ قوله:
"وفي كل الأحوال فقد أصبح الآن مؤكداً أن اسرائيل كان لها في مصر جاسوس على مستوى عال، وأن هذا الجاسوس أبلغها بما كان محظوراً ابلاغها به، حتى ولو كان الابلاغ عن يوم الهجوم،[وحتى لو اختلفت الساعة ـ والتعليق لهيكل]. وهذا الجاسوس ـ أياً كان ـ لم يكن عميلاً مزدوجاً، فليست هناك ورقة واحدة في رئاسة الجمهورية ولا في المخابرات العامة تحتوي إشارة عن نشاطه، وهذه نقطة حرجة. وكان وجود مثل هذا الجاسوس ظاهراً حتى في أول رسالة بعثت بها رئيسة وزراء اسرائيل جولدامائير إلى الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون وذلك قبل أن تنشب العمليات بعشر ساعات على الأقل، ولذلك فإنه من الحيوي أن يعرف كل مصري من هو؟! ـ ولماذا؟! ـ وكيف؟!!"
تهمة أخرى أراد هيكل الصاقها بمبارك، الطريف فيها هذه المرة انها جريمة اغتيال سياسي، تمت خلال فترة الرئيس جمال عبد الناصر، دون علمه!
وأصل القضية كما يرويها هيكل أن تمرد المهدية على نظام الرئيس السوداني جعفر نميري، اسفر عن نشوب صراع مسلح بين الفريقين سنة 1970، وأن مبارك ذهب الى السودان في صحبة نائب الرئيس أنور السادات، لبحث ما يمكن أن تقوم به مصر لتهدئة موقف متفجر جنوب وادي النيل، ولتعزيز موقف النميري في تلك الظروف العربية الحرجة ـ والكلام لا يزال لهيكل ـ. وكانت أول توصية من بعثة أنور السادات وقتها هي الاستجابة لطلب الرئيس السوداني، بأن تقوم الطائرات المصرية المتمركزة أيامها في السودان بضرب مواقع المهدية في جزيرة "آبا" لمنع خروج قواتها إلى مجرى النيل، والوصول إلى العاصمة "المثلثة"، ودارت مناقشات في القاهرة لدراسة توصية بعثة السادات في الخرطوم، وكان القرار بعد بحث معمق أن لا تشترك أي طائرات مصرية في ضرب أي موقع، وأنه لا يمكن لسلاح مصري أن يسفك دماً سودانياً مهما كانت الظروف.
ثم حدث بعدها بأيام أن زعيم المهدية السيد الهادي المهدي اغتيل. وراجت حكايات عن شحنة متفجرة، وُضعت داخل سلة من ثمار المانجو، وصلت إليه!
الأستاذ هيكل، وبعد أن روى لنا أصل القضية، كتب مُعلقاً: "قيل ـ ضمن ما قيل عن عملية الاغتيال ـ أن اللواء حسني مبارك[وهو الرجل الثاني في بعثة الخرطوم مع السادات ـ والتعليق لهيكل] ـ لم يكن بعيداً عن خباياها، بل إن بعض وسائل الاعلام السودانية وقتها ـ وبعدها حين أصبح مبارك رئيساً ـ اتهمته مباشرة بأنه كان اليد الخفية التى دبرت لقتل الامام الهادي المهدي".
قارئي الكريم، لست أدري لماذا يُذكرني "توثيق" هيكل لهذا الاغتيال الدنيء باغتيال آخر دنيء مسكوت عنه، تم في الحقبة نفسها، وبدون علم ناصر أيضاً!
فقد أوردت اعتماد خورشيد في شهادتها على انحرافات صلاح نصر "ملك التعذيب"، ما نصه: "اكتشفت ان صلاح نصر لم يبلغ الرئيس عبد الناصر بمهمة اغتيال فاروق إلا بعد تمامها وبعد أن اعتبرها احدى انجازاته العظيمة للمحافظة على النظام الجمهوري ومنع عودة الملكية التى كانت أمريكا تخطط لعودتها مع بعض الملوك العرب في المنطقة كما كان يقول ليبرر جريمته الشنعاء".
يُخطئ من يظن أن حكم دولة العسكر، برجالها ومؤسساتها، كان مقطوع الصلة بالحكومات والاستخبارات الغربية، وحتى الاسرائيلية! بل ان العكس هو الصحيح! فشعارات من قبيل: "معاداة الكيان الصهيوني" و"اليهودي الماكر" و"مناهضة التطبيع" إلى غير ذلك، أثبتت عقود حكم دولة العسكر(1945ـ2001) أنها محض أمراض وعُقد نفسية، تم غرسها بحرفة ودربة في وجدان الشعوب!
دلوني ـ بالله عليكم ـ على مفكر أو اكاديمي عربي ينطبق عليه مدح ادوارد سعيد للأكاديمي الاسرائيلي "اسرائيل شاحاك"، فقد وصف الأنسني الراحل شاحاك في تقديم لكتابه "الديانة اليهودية وتاريخ اليهود: وطأة 3000عام"، بقوله:
"اسرائيل شاحاك رجل فائق الشجاعة، وينبغي أن يُكرم للخدمات التى قدمها للانسانية. ولكن المثال على العمل الدؤوب والطاقة الأخلاقية التى لا تفتر، والتألق الفكري، الذى وضعه شاحاك قدوة تُحتذى، هو في عالمنا اليوم، احراج للحالة الراهنة ولجميع الذين تعني لهم كلمة[مثير للجدل] كل ما هو[مكدر] و[باعث على الاضطراب]"
الشعوب العربية لا تعرف شيئاً عن جيرانها اليهود ودولتهم، وهنا يكمن الخطر الحقيقي! تجربة دولة العسكر في استخدام اليهود ودولتهم "فزاعة" لتمرير الفاشية، لا ينبغي لها أن تتكرر! فلنُحصن أنفسنا بالمعرفة، عن كل شيء، حتى "اسرائيل"، بالانفتاح عليها من الداخل والتواصل مع الضمائر الحية هناك! ترك الأنظمة "وحدها" في مواجهة اسرائيل، يزيد احتمالات الاتجار بآلام "الشعوب"!
نحن عانينا من القرن العشرين دون أن نعيشه(**)، فلنمض بالثورة حتى "داخل حدود الضمير"! وهكذا نسترد في القرن الواحد والعشرين الحياة من جديد!
كلمة أخيرة، أظن الأوان قد حان ليلحق الأستاذ هيكل وتلاميذه، بدولة العسكر، فالجسد العربي العاجز حتى عن مجرد زفرات الموت، يستصرخ الأستاذ هيكل، ويُطالبه: إما أن يلقي إلينا بأسرار دولة العسكر التى عاصر قيامها وسقوطها "غير منقوصة"، لنستعين بها على القادم والذى أخشى أن يكون تنويعاً على لحن أساسي! وإما أن يصمتْ ويكفْ عن مُتاجرة تُذكرنا بكتبة تقارير التنظيم الطليعي السري، وقد كان هو نفسه أحدهم، بحسب دراسة "وثائقية" لحمادة حسني، بعنوان: "عبد الناصر والتنظيم الطليعي السري1963ـ1971"! وليعلم شيخنا أن كتابة التقارير وتتبع العورات، ما عاد يصلح في "زمن" معرفة وثورة اتصالات!
ليست الحياة إلا وداعاً مستمراً للأفكار
ـــــــــــــــــــــــــــ
(*) تحضرني في هذا السياق طُرفة! فقد خرج علينا، بعد ثورة 25 يناير المجيدة، شباب فريق "كايروكي" المصري بأغنية: "مطلوب زعيم". كلمات الأغنية شديدة البساطة، غير أنها توقظ حنيناً ماضوياً لأمير صالح وليس مؤسسات حكم شفافة!
(**) العبارة مأخوذة من: جابرييل جارثيا ماركيز، ترجمة أحمد عبد اللطيف، ما جئت لالقاء خطبة، (القاهرة: روافد للنشر والتوزيع، 2011).