ثقافة التوريث: ليس دفــاعـا عـن مـبـــارك!
...............................................................
بقلم : مســـعد غنيم
....................
كواحد من الغالبية المهمشة من الشعب المصري، من الطبيعي أن أكون في صف المعارضة لأي نظام كان وما زال سببا رئيسيا في تهميش وإفقار الغالبية العظمى من الشعب المصري تحت شعار "عدم المساواة في توزيع الثروة أفضل من العدل في توزيع البؤس" بحسب قول ابن الرئيس في جرأة تاريخية نادرة على تحدي ما استقر عليه حكماء الزمان من أن "العدل أساس الملك"، وباستخفاف مستفز لغالبية الشعب المصري تعود بنا إلى عصر "أنتم عبيد إحساناتنا"، وهذا ما يبدو أنه هدفه.
إلا أن تجاوز الحق من قبل النظام لايبرر للمثقف الحقيقي بحسب معايير إدوارد سعيد، أن يقابله بتجاوز مثله. فالمثقفون الذين هم صلب الطبقة الوسطى المنقرضة في مصر، هم القيمون على القيم العليا للمجتمع والحافظون لها. ومن الإنصاف أن نقول أن التوريث في مصر أصبح ظاهرة إجتماعية غير مقصورة فقط على التوريث السياسي لمصر. فتوريث الوظائف العامة في الحكومة ومؤسساتها وشركاتها في قطاع الأعمال أصبحت تقريبا حصريا على ورثة شاغليها من موظفي الدولة. بمعنى أوضح فقد أصبح التوريث للوظائف والمناصب، على حساب الكفاءة والقدرة، ثقافة عامة لا تقتصر على طبقة اجتماعية بعينها.
قد يكون مقبولا أن يورث رجال الأعمال مواقعهم الوظيفية في إدارة أعمالهم إلى أبنائهم وبناتهم، رغم أنه ينافي أبسط مبادئ إدارة الأعمال التي تقول بفصل الملكية عن الإدارة. ولكن لأن الأعمال في مصر لا تدار في أغلبها بمعايير السوق الحقيقية، بل تدار بالاحتكار والزواج من السلطة وبالفساد، فإن تلك الأعمال لا تتعرض لمنافسة حقيقية قد تكشف عدم أهلية أصحابها أو ورثتهم في إدارتها. هذا باستثناء الصين التي كسرت هذا الاحتكار المحلي واستطاعت بعبقرية أن تنجح في غلق مئات المصانع المصرية. هذا الأمر يفسر لنا تدني مؤشر التنافسية العام لمصر عام 2007 . جاء ترتيب الاقتصاد المصري متدنيا للغاية حسب مؤشر أداء الأعمال، حيث احتلت مصر مركز المركز 165 بين 175 بلدا، وهو ترتيب يعكس المزيد من التراجع بالقياس إلى ترتيبها المتدني في العام الماضي حيث احتلت المركز 141 بين 150 بلدا. المفاجاة هنا أن المجلس القومي المصري للتنافسية هو الذي نشر هذا التقرير على موقعه:
http://www.encc.org.eg/all_report_show.aspx?
lang=1&t_id=19
ولعل هذا التدني في التنافسية يفسر فشل مشروع تحديث الصناعة الذي بدأ في عام 2000 بمنحة أوروبية قيمتها 350 مليون يورو، تمثل أكبر منحة خارج دول الاتحاد الأوروبي. إنتهى المشروع فنيا عام 2005، واستمر بشكل فني آخر دون تحقيق نتائج ملموسة في تحديث الصناعة الذي هو في حقيقة الأمر تحديث لمصر في الواقع.
تقول الأوليجاركية الحاكمة في مصر بمنطق الحرية المطلقة لقوى السوق طريقا واحدا للتنمية في مصر حتى لو أدى الأمر إلى سوء توزيع لثروة مصر، وأن ذلك هو الذي سيوفر الحافز لرأس المال، ومن ثم يتيح تراكمه الذي يزيد من حجم الأعمال وبالتالي مزيد من التنمية وتوفير الوظائف للمصريين. حتى بنفس هذا المنطق فإن نتائج "أعمالهم" المتدنية بشهادتهم، تقول أنهم فشلوا فشلا ذريعا في "إدارة أعمالهم" بالأصالة وبالتوريث معا. بمعنى آخر فإنه ليس من حق رجال الأعمال أن يورثوا مناصبهم الإدارية لأبنائهم، لأن تنمية مصر ليس مفوضا لهم بدون مسائلة وحساب، أو هكذا أتصور، طالما أنهم بعد زواجهم غير الشرعي بالسلطة قد أخذوا حريتهم "على الآخر" في تشريع القوانين لتسهيل أعمالهم على حساب العمال، فعلى الأقل عليهم أن يديروا أعمالهم، أو بالأحرى أعمال مصر، لصالح مصر، وهو الأمر الذي فشلوا فيه بالفعل بدليل تدني درجة تنافسية مصر. المؤكد أن الأمر الذي نجحوا فيه هو الاستحواذ على المعونات الأمريكية والأوروبية دون تطوير حقيقي لأعمالهم أو تحديث لصناعة مصر التي ألقاها النظام المصري على مسئوليتهم.
الخلاصة، أن رجال وسيدات أعمال مصر الجدد يورثون إدارة أعمالهم إلى أبناءهم بغض النظر عن كفائتهم وبذلك ويضحون بتنافسية مصر ويدمرون برامج التحديث والتطوير. لا مفاجأة إذن في أن يؤيد رجال الأعمال خطة توريث "إدارة" مصر، ولتذهب الديموقراطية إلى الجحيم وكذلك ليبراليتهم الجديدة، هذا رغم تباكيهم على الديموقراطية التي ذبحها عبد الناصر!
ليت الأمر في شأن التوريث "الإداري" يقتصر على رجال الأعمال، فإن إدارة المؤسسات الكبرى في مصر هي تحت قانون الوراثة جيلا بعد جيل، وتلك المؤسسات تتميز بأهم ما في الموضوع، وهو المال، إنها المؤسسات التي تمر من خلالها ثروات مصر الكبرى. قناة السويس مثلا، جميع وظائفها من العليا حتى الدنيا، من المدير الكبير وحتى الساعي!، هي حكر محتكر على عائلات بعينها، ويكاد يكون مستحيلا أن ينفذ منه جديد قادم مهما كانت كفاءته! وقس على ذلك قطاع البترول بجميع شركاته، وجهاز الإعلام في معظمه أيضا ممثلا في الصحافة والإذاعة والتليفزيون، وغيرها من مواقع عبارة عن هيئات سيادية تتميز كلها بالرواتب العالية التي لايتخيلها حتى الموظف العادي في الحكومة نفسها.
أما عن قطاع الفن، فحدث عن التوريث ولا حرج، يكفي نظرة على أسماء الفنانين والفنانات لتعطي فكرة عن حجم التوريث، هذا فقط عن أبناء وبنات الفنانين الذكور، أما أبناء النساء الفنانات فهم كثر أيضا ولكن بأسماء أزواجهن. وهنا قد يقال أن الموهبة الفنية تورث، وهذا صحيح إلى حد ما، ولكني لا أعتقد أنه بهذا الشكل الوبائي. أعتقد أن ما يحكم قطاع الأعمال من احتكار ينطبق هنا على قطاع الفن أيضا. كما أعتقد أن غياب المعايير والفساد في قطاع الثقافة بصفة عامة قد غيب النقد الحقيقي الذي يمثل روح الفن والأدب. وهنا أيضا نستطيع أن نحتكم بسهولة إلى نتائج أعمال رجال ونساء الفن، آباء وأمهاتا وأبناء وبناتا، كم جائزة مرموقة حصلوا عليها؟ كم أوسكار رشحوا له؟ كم ناقد عالمي محايد كتب عنهم؟ أعتقد أن الإجابات واضحة. إنهم يعيشون بفنهم الردئ، إلا فيما ندر، على أسر واحتكار المشاهد العربي بحكم الثقافة واللغة فقط.
وما قيل عن القطاع الحكومي وقناة السويس والبترول والصحافة والتليفزيون والمؤسسات السيادية، يقال بسهولة ويسر عن قطاع الرياضة، وما أدراك ما الرياضة. أول ما قد يتبادر إلى ذهن القارئ المهتم بالرياضة أن ابن المدرب الأمريكي كان ضمن تشكيل الفريق الذي هزم منتخب مصر، ولك نتائج أعماله تثبت براءته من الفساد، فقد لعب جيدا جدا، وأحرز هدفا في مرمى مصر. هل يمكن الآن أن نفهم سببا من أسباب هزائمنا الكروية، وهو التوريث بلا كفاءة تبرر، رغم اجتهاد المجتهدين وإخلاص المخلصين. هل نبالغ إذا قلنا أن الأهداف التي تدخل المرمى المصري هي أكثر مما نتخيل، وأن وباء التوريث "عمال على بطال" هو أحد أهم المداخل لتدني درجة تنافسيتنا على المستوى القومي.
أما وقد قيل ما قيل، طالما أن شعبا بجميع طبقاته قد ارتضى التوريث ثقافة وأسلوبا اجتماعيا مقبولا، بالحق وبغيره، بالكفاءة وبغيرها، للقفز إلى مواقع الثروة والنفوذ والوظائف من أعلاها إلى أدناها، فلا أعتقد أنه يحق لهذا الشعب الاعتراض على توريث مصر كلها، "بالمرة". ليس دفاعا عن مبارك، ولكن حسبنا الله ونعم الوكيل، والعزاء الوحيد هو أن مصر تاريخها طويل ونفسها أطول، أطول من اللازم في كثير من الأحيان، ولكنه يقصر في أحيان نادرة!.
30 يونيو 2009
06/11/2014