إعرف عدوك، ولا تعرف نفسك !
...............................................................
بقلم : مســـعد غنيم
....................
بساطة الحس الإنساني المشترك
البساطة الشديدة هي ما يميز العباقرة عندما يطرحون القضايا، ويقترحون الحلول فيما يخص الشأن الإنساني العام. في مطلع الثمانينات من القرن الماضي، كتب الفيلسوف زكي نجيب محمود مقالا في أهرام (زمان) يطرح سؤالا بسيطا: من يعطي من؟، وذلك اعتراضا منه على اتجاه رسمي يصور منحة العيد للعاملين بالدولة المصرية وكأنها منة من الرئيس أو من حسابه الخاص، وأوضح ببساطة، حقيقة تركيب الصورة الإعلامية المفروضة على الشعب، وهي أن الرئيس هو الذي يعمل عند الشعب وبأجر وليس العكس، وبالتالي من يعطي من؟، وتعرض في نقدة من وجهة نظر مواطن عادي يقرأ أرقام ميزانية وإنفاقات الدولة بالملايين – ذلك الزمن- ولايرى المواطن أكثر من الملاليم، وتسائل عن جدوى تلك الملايين طالما لم تصل إلى الشعب صاحب المولد أصلا؟ .ومع انفجار الأزمة المالية العالمية الحالية، فإن ما جري لا يفهمه معظم الناس، من ألغاز سوق المال، وتعقيدات كهنوت الاقتصاد، فكان أبسط وأضح تفسير هو الذي قدمه الفيلسوف الأمريكي نعوم تشوموسكي (عالم لسانيات أصلا) بقوله أن الأزمة المالية الحالية هي نتيجة فشل الأغنياء، وسيدفع ثمنها الفقراء، هكذا ببساطة عبقرية.
قناة ثقافية ضبابية
خطر ذلك ببالي، كمشاهد عادي غير متخصص، يشعر بالأسر للشاشة الصغيرة مثله مثل معظم سكان القرية الكونية، وجاءت لحظة استحضار الوعي تلك، نتيجة تذكري لذلك الوعي الإنساني العبقري لفلاسفتنا، وأنا أشاهد قناة مصرية جديدة، تبدو ثقافية راقية المستوى، ورفيعة اللغة، وتخاطب العقل المثقف، والوجدان المصري، ببساطة وسلاسة هادئة وغير فاقعة مثل معظم القنوات العربية. ولكنى استشعرت الخطر عندما شاهدت إعلانا متكررا عن ضرورة إزاحة الضباب وكشف السواتر عن ذلك المجهول أو المغيب المسمى إسرائيل، وذلك من مدخل معرفي بحت، والمعرفة كا يقولون، قوة، ولايبدو هناك ضير من ذلك، بل إن الأمر يبدو ضرورة، ومع ذلك لم يفارق التوجس عقلي الشاك بطبيعته!، ولما رأيت أن البرنامج لم يسمي المطلوب معرفته بالعدو، بل ركز بطريقة ضبابية على واقع تغييبه عن عقل المشاهد، دون التعرض للأسباب، إزداد توتر قرون استشعاري، ولما رأيت وجها من وجوه من سماهم الأستاذ فهمي هويدي كتاب المارينز، يطل بقوة من تلك القناة، تيقنت أننا أمام طرف جديد من أطراف الأخطبوط الإعلامي للهيمنة الأمريكية، كما سماها هربرت ماركيوز، فيلسوف الشباب في الستينيات من القرن الماضي، وصاحب كتاب الإنسان ذو البعد الواحد، والذي اتهم فيه الإعلام الأمريكي بتغييب عقل المواطن وصب كل المواطنين في قالب واحد ذو بعد واحد، ولم يفرق في ذلك بين آلة الإعلام الأمريكية ونظيرتها السوفيتية الشيوعية آنذاك، وكان هذا الفيلسوف واحد من أولئك المفكرين الذين فجروا ثورة الشباب عام 1968 في معظم جامعات العالم شرقا وغربا، ومنها مصر أيضا. ولما كنت بحكم معرفتي بتعدد جبهات هجوم الهيمنة الصهيو- غربية، أعلم أن الإعلام في الصراع في القرن الحادي والعشرين يكاد يكون له النصيب الأكبر من مهام الهجوم وتحقيق الأهداف من ذلك الصراع الكوني الأبعاد، فقد تعمقت أكثر في مشاهدة تلك القناة، وحاولت، اقتداء ببساطة الفلاسفة، أن أستوضح ملامح استراتيجية تلك القناة، والغرض منها ببساطة، فظهر لي بوضوح عدة محاور.
إعرف إسرائيل، ولا تعرف ناصر
المحور الأول والأهم، هو دعم التطبيع مع المشروع الصهيوني، بالتمهيد النفسي للمواطن المصري والعربي عن طريق تعويده على الحياة الثقافية والاجتماعية الإسرائيلية بدعوى معرفة ذلك المجهول، وفي نفس الوقت يتم تجاهل الواقع الدامي في غزة والاستيطاني في الضفة والانعزالي بجدار التعصب الأسمنتي والمعنوي. ومن ناحية أخرى لايتم أي تأطير ولا تحديد لمن هو ذلك المجهول من وجهة نظر صراعية واقعية، لا من حيث التاريخ ولا من حيث اللحظة الآنية. وقد يقال بأن ذلك هو إطار السلام وثقافة السلام التي تستبعد منغصات الماضي الدامية، وتلطف حدة الصراع الحالي، من أجل مستقبل البشر في المنطقة في التنمية الآمنة، ولكننا لم نسمع بهذا في تاريخ أو أحداث جارية شرقا أو غربا، من أن الناس تتجاهل أسس صراعاتها ببساطة وكأنها ستختفي فقط بالنوايا الحسنة!. وكأن المشروع الصهيوني شأن ثقافي طبيعي في المنطقة العربية وليس جسما سرطانيا ضد الجغرافيا والتاريخ والثقافة أيضا. والغريب المدهش في منطق تلك القناة أنها في الوقت الذي تستدعي فيه المشروع الصهيوني إلى وعي المشاهد من مدخل ثقافي إنساني مسالم، من منطلق "إعرف عدوك" دون تسميته بذلك، لاتبدأ بالأهم، على الأقل من وجهة نظر أرسطو بقوله "‘عرف نفسك"، فتستبعد تلك القناة في باقي برامجها أي إشارة إلى المشروع الناصري باعتباره تاريخا حدث ووثيق الصلة بالمشروع الصهيوني باعتباره أقوى مشروع عربي معارض له!، وهذا الاستبعاد يتم لسببين على الأقل، الأول هو تغييب فكرة المقاومة ذاتها، والثاني هو تغييب التوجه الاشتراكي للمشروع الناصري في الاندفاعة غير الواعية لليبراليين الجدد نحو الاندماج الشديد بالقتصاد العالمي رغم الأزمة المالية العالمية ببعديها الهيكلي والقيمي في الأساس، والذي تبلور في الانحياز الأعمى لرأس المال باعتباره قاطرة النمو، في حتمية تذكرنا بالحتمية الشيوعية، وفي إهمال البعد الاجتماعي للتنمية وكأن التنمية هي لذاتها وليس لخدمة المجتمع، تماما كما أوضح فيلسوفنا الراحل زكي نجيب محمود.
مصر الفرعونية أولا، وليذهب العرب إلى الجحيم
المحور الثاني هو الدعوة إلى الفرعونية، من مدخل تأكيد الشخصية المصرية وعمق وعظمة حضارتها، الأمر الذي لايختلف عليه اثنان في العالم كله، وهي دعوة قديمة يتم استحياؤها لآغراض سياسية وليست حضارية أو تنتموية. ولكن تعمد القناه استخدام اللغة العربية باللهجة المصرية العامية في تقديم بعض البرامج الثقافية والتسجيلية، يظهر بوضوح درجة الشوفينية والشعوبية المصرية ضد ما هو عربي بطريقة غير مباشرة، ويؤكد هذا الاستنتاج، صياغة اسم برنامج رئيسي فيها بعنوان " في البدء كان..." وكأنه مقابل قناة " إقرأ" العربية الإسلامية، وخطورة هذا البرنامج من حيث الإسم، استحضار الديني بخصوصيته، في ثوب الثقافي التاريخي برغم عموميته، وذلك باستخدام مطلع الإنجيل في " في البدء كان الكلمة"، وكأنه ضد استخدام مطلع القرآن "إقرأ"، ورغم الصيغة الثقافية العقلانية لكل من المطلعين، إلا أن الإيحاء الممكن فهمه هنا هو استحضار الديني القديم (القبطي) الذي هو استمرار للفرعونية العظيمة، حضاريا بشكل ما على الأقل، خاصة في تطور اللغة القبطية من الفرعونية، مقابل الديني الوافد (الإسلام) منذ أربعة عشر قرنا بلغته العربية البعيدة، وحضارة البدو الجافة ولا أقول الجلف!.
أتمنى أن تكون انطباعاتي كمشاهد غير متخصص، خاطئة، وأن تلك القناة ذات الوجه الثقافي الناعم ليست نغمة متوافقة مع سيمفونية الفوضى الخلاقة في جبهتها الثقافية الإعلامية، وأنها لا تسعى لمزيد من انفصال مصري عن واقعه التاريخي العربي الإقليمي، ومناط أمنه القومي الحقيقي، وأنها لا تسعى لصب الزيت على نار الفتنة الطائفية المصنوعة في الغرب أصلا، وأنها لاتسعى للتطبيع على المستوى الشعبي، بعد فشل النخبة القليلة جدا التي اندفعت في التطبيع في إطار مصالحها الشخصية أو الفئوية الليبرالية، ضد التيار الساحق للرفض الشعبي بالحس الإنساني المشترك الذي لايحتاج لفلسفة الفلاسفة، ولا تنظير المنظرين، ليقول شعبان عبد الرحيم "أنا باكره إسرائيل".
25 يناير 2009
مصرنا ©