فيومي في موقع استراتيجي
...............................................................
مســعد غنيـــم
................
منذ عشر سنوات وبعد سنوات قليلة من بدء نشاط مدينة السادس من أكتوبر، وعلى بعد بضعة كيلومترات كان ذلك الصبي يقف هناك ببشرة كالح لونها توشي ببياض سابق ذكرني بوصف جمال حمدان للمصريين بأنهم يولدون بيضا ويموتون سمرا، ساترا جسمه النحيل بالكاد بجلباب لايكاد يبين لونه من لون الصحراء وكأنه يتماهي مع الطبيعة حوله ليهرب من عيون الضواري المفترسه، ويمتلئ الجلباب بالهواء الساخن من حين لآخر في حركات قوية لآعلى وللاجناب كأنما يريد أن يفلت من الجسم النحيل ويهرب من بؤس صاحبه إلى عالم ربما يكون أرحب، وينتعل "شبشبا" فرعونيا في قدمه الضخمة من كثرة السير حافيا، وتأبي أصابع القدم أن تلتزم بحدود الشبشب. كان هناك واقفا على جانب الطريق وحيدا وبعيدا عن الميدان المزدحم الذي يفصل المنطقة السكنية عن المنطقة الصناعية في طريق عودتي إلى مدينة نصر بالقاهرة. كان الصبي يحمل بضع أكياس بلاستيك صغيرة يحوى كل منها عشرات من حبات الترمس جاهزة للأكل يبيعها لراكبي السيارات المتدفقة من المدينة حاملة مديري وموظفي المصانع والغالبية من المشرفين والعمال، كـ"تصبيرة" مصرية من الجوع في طريق عودتهم لبيوتهم بعد يوم عمل شاق.
وقد شد انتباهي أنه يقف بعيدا عن منطقة السوق في الميدان الكبيرحيث حركة البيع والنشاط الإنساني على أشدها. ولأني لم أفهم لأول وهلة لماذا يقف على هذا البعد من السوق حيث فرص البيع أقل، فأمرت السائق سمير أن يتوقف لأشتري بضعة أكياس من الترمس تسد بعض من رمقي ورمق السائق ولأساله عن سبب اختياره هذا الموقع البعيد ليبيع فيه. وجاءت إجابة الصبي كلطمة على وجهي، حيث لم تقتصر إجابته على القول باللسان، بل نطق بها وجهه كله بابتسامة تحمل كل معاني الأمل والرضا العميق قائلا: ربك هو الرزاق يابيه. وفجأه أدركت غبائي المركب، أولا أني نسيت، في زحمة عملي مديرا لإحدى الشركات واستخدامي للكمبيوتر في التنبؤ بالمبيعات التي تؤرقنا جميعا في إدارة الشركة، أن هذا التنبؤ العلمي غير يقيني بالمرة وأن فلسفة العلم مبنيه على هذا الأساس، فالعلم فلسفيا هو " كل مايمكن إثبات خطأه". بمعنى أن هذا الصبي ربما يكون مصيبا في اختياره لموقع البيع وأنا لا أملك يقينا الدليل على خطأه. ثانيا أن العلم اللايقيني لم يحسم الفاصل بينه وبين الميتافيزيقيا، بمعنى أن إيمان هذا الصبي بالله وبأنه هو الرزاق هو إيمان مصري قديم وأصيل منذ اعتمد بقاء المصريين على النيل الذي يأتي من السماء، حتى قبل أن يأتي إليها يوسف من البدو حاملا رسالة السماء، وأن الرضا هو مبتغى لايصل إليه أغنى الأغنياء إلا من رحم ربك، وهذا الصبي القادم من الفيوم هو الرضا نفسه.
وعندما قمت بتحليل الموقف أدركت أن وقوفي عند الصبي لم يكن صدفة بل هو نتاج عوامل مادية واضحة جدا، ذكرتني بمواقع محطات الوقود والاستراحات على الطرق السريعة في الولايات المتحدة عندما أقمت فيها فترة وفي سفري إليها بين الحين والآخر. كنت أتعجب من أني أجد الاستراحة بالضبط عندما أشعر بالجوع أو بالحاجة لدخول الحمام أو التزود بالوقود، ثم أدركت فيما بعد التخطيط اللوجيستي وراء اختيار تلك المواقع. هذا الصبي اختار موقعه الاستراتيجي بالتجربة والخطأ، وسيلة قديمة، فطرية وعلمية أيضا.
ووجدت أنه ما كان لي أن أتوقف في الميدان الكبير لأني أكون بالكاد خارجا من المصنع ورأسي ما زال مملوءا بمشاكل العمل وحسابات كفاءة التشغيل، ولا أكون منتبها للطريق بالقدر الكافي، وأيضا لأني لا أحب أن أشارك في مأساة المرور في ذلك الميدان المزدحم بتوقفي في الممنوع الذي لم يعد عند المصريين ممنوعا. وللمرور من الميدان يضطر سمير سائق العربة إلى عمل مناورات وحسابات دقيقة لتفادي البائعين الجائلين لشتى أنواع الخضر والفاكهة الذين يحتلون مواقع مختارة- أيضا- بعناية شديدة في ذلك الميدان المزدحم حيث يقومون في استرتيجية محددة باقتطاع جزء لابأس به من الطريق العام ضمانا لقطع الطريق على الزبون وإجباره على التفكير في الشراء. وعند وقوف العربات للشراء يختنق الطريق والبشر أيضا في مشهد مروري مصري أصيل. ومن ناحية أخرى تنتشر في الميدان عربات الفول والكشري والترمس بألوانها الزاهية وروائح طعامها الشهية التي تستثير معدتي الخاوية لولا خوفي من التوابل والحريفات التي لايكون الطعام شعبيا إلا بها. وفي شرائح طويلة على طول تقاطع دائرة الميدان مع الطرق الجانبية تتراص مواقف شبه عربات نصف نقل حيث لاملامح ولا أرقام مميزة وأحيانا بلا أبواب وبلا غطاء دائما ويقودها غالبا أطفال في سن حول الخامسة عشر، تقوم بنقل العمال، مثل عمال التراحيل في الريف، من الميدان الرئيسي من وإلى أكثر من خمسة آلاف مصنع منتشرة في المنطقة الصناعية في ذلك الوقت. أما مواقف الميكروباز (ميكروباس) التي يركبها الركاب الأكثر حظا من صغار الموطفين فتقع بالضبط في عنق زجاجة الطرق الجانبية عند تقاطعها مع نفس دائرة الميدان ويمثل تفاديها التحدى الأكبرللسائق سمير. أما المشاة من جميع أشكال البشر فيملأون الميدان حركة في جميع الاتجاهات بلاضابط ولا رابط. مشهد فولكلوري متكرر يمثل اللامعقول نفسه في معظم ميادين مصر البعيدة عن خط سير المسئولين المهمين.
إذنن ما كان لي أن أتوقف في الميدان المختنق، رغم أن المدينة لم يتجاوز عمرها وعمر تخطيط شوارعها وميادينها أو عدم تخطيطها بضع سنوات، وأن وقوفي عن الصبي بائع الترمس كان لأن تركيزي على الطريق بعد عبور الميدان المستحيل يصبح أكثر، ولأن مشاهد الطعام وروائحة المختلفة تكون قد أعملت عملها في الغدد اللعابية واستثارت المعدة لتطلب الطعام بالضبط حيث يقف الصبي الهزيل الراضي بنصيبه من الدنيا حاملا أكياس الترمس الباهتة ولكن الشهية للجوعى مثلي.
لم أزل أذكر تلك الواقعة بعد مرورعشر سنوات، قرأت فيها المزيد عن فلسفة العلم والمعرفة والإبستمولوجيا، وتصفحت فيها كثيرا من صفحات التاريخ، وتعلمت فيها المزيد من استراتيجيات وتكنولوجيا الإدارة، واكتسبت قليلا من حكمة هذا الشعب المصري الأصيل. هذا الشعب الصامد لكل أنواع القهر الداخلي والخارجي على مر العصور ومازال راضيا، وربما هنا تكمن مصيبته في قوته وضعفه، وكما يقول جمال حمدان:"فعيوب الشخصية المصرية خطيرة وليست بالهينة أو الشكلية، فهي التي أوردتنا مورد التهلكة في الماضي ووسمت أو وصمت وسودت تاريخنا بالعبودية للطغيان في الداخل دائما وللاستعمار في الخارج غالبا، وهي التي تهدد حاضرنا بنفس الشكل بالخضوع للديكتاتورية الغاشمة في الداخل وبالركوع للعدو الأجنبي الغاصب في الخارج".
هذا الصبي الفيومي يمارس نشاطا إنسانيا ويجتهد قدر استطاعته بعد أن أهملته الدولة الفاسدة في تعليمه وصحته، ولايبدو عليه أي أثر لنشاطه الإنساني في مظهره أو مخبره، ربما لأنه يرسل لأمه في الفيوم بضعة الجنيهات التي يكتسبها كل شهر لتعيل إخوته الصغار في محافطة صعيدية لم تنل حظها من الاستثمار الذي تخططه مجموعة من الوزراء الهواة الذين فهموا من الرأسمالية وجهها الاقتصادي، إن كانوا قد فهموا حقا، ولم يدركوا حتى الآن وبعد عشر سنوات الجانب التنموي الاجتماعي الذي هو الهدف والمبتغى.
تتبجح الحكومة المصرية هذه الأيام بأنها حققت أكبر معدل للنمو في تاريخها الحديث حيث تخطى الـ 7%، ولم تذكر أن أكبر معدل سابق للنمو تحقق في عهد عبد الناصر في منتصف الستينيات لأنه يشكل لهم كابوسا مزعجا وشبحا مازال يخيفهم بعد 38 سنة من وفاته ربما لأنه كان منحازا لهذا الصبي وأمثاله من الفقراء، والفارق أن معدل النمو الحالي لم يترجم في تنمية مجتمعية حقيقية مثلما تحقق في الستينيات بنجاح معقول، وبمعنى أوضح فإن المستفيدين الآن من هذا النمو هم شريحة ضيقة جدا من المصريين والأجانب ولا يبدو أن السواد الأعظم من الشعب يهم الحكومة أو النظام في شي طالما أن العصا الغليطة موجودة وترزية القوانين جاهزين. تلك الشريحة التي استأثرت بالثروة وبالتعليم، لا بالعلم، لم تعد تنتمي لهذا البلد، فهم لايشعرون به ولا يفهمونه، ويتعاملون مع جمهورالناس باعتبارهم عبء عليهم تحمله وتحمل جهلهم وقذارتهم، ويتصورون أن مصانعم وشركاتهم تدار فقط بالكمبيوتر والتكنولوجيا والروبوت، والواجهات الرخام وحملات الترويج والإعلان وحفلات الاستقبال في الفنادق الكبرى ونشاط العلاقات العامة.
إن ذلك الصبي الفيومي لديه الذكاء الفطري ويعمل جاهدا من أجل البقاء رغم تخلي الدولة عنه وعن أهله، ثم تأتي نفس الدولة لتروج بمنطق سفيه أن الشباب لايريد أن يعمل ، أو أنه غير مؤهل لسوق العمل، وكأنما المسئول عن تأهيله حكومة في المريخ، ثم تشتكي بعد ذلك تلك الحكومة ورجال أعمالها من سوء جودة المنتج المصري وارتفاع تكلفته، مما يتسبب في إفلاس المصانع والشركات يوميا في المدينتين الصناعيتين في 6 أكتوبر و10 رمضان بسبب إغراق السوق بالمنتجات الصينية، ولم يدركوا أن صانع المنتجات الصينية الرخيصة والأجود هو ذلك الصبي عندما تتبناه وترعاه حكومة رشيدة تعمل لصالح وطنها بتنمية قدرات مواطنيها.
خاطر أخير ورد إلى ذهني وهو أنه ربما ذلك الفتي لم يتزوج بعد ويسكن عشة في الدويقة تحت سفح المقطم يرقد الآن تحت صخوره المنهارة ينادي على الحكومة أن تنتشله من تحت الأنقاض وهي مشغولة بمنع المصورين والصحفيين من تصوير الكارثة الإنسانية التي لم تحرك للنظام جفنا، لأنه إن لم تستح فاصنع ماشئت.
mosaadg@hotmail.com
06/11/2014