نزاع الجيران ليس أبدا كالاستيطان
...............................................................
بقلم : مســـعد غنيم
....................
في مقال بعنوان "مصالحة دائمة أم خلافات نائمة؟" على صفحات "مصرنا"، تسائل د. أحمد أبو مطر في عجب وسخرية :" ما دخل هذا المحتل (يقصد إيران) بقمة عربية ستبحث وضع قطاع غزة في ظل اجتياح الاحتلال الإسرائيلي، ومتى كان هناك احتلال مقبول نصفق له واحتلال مرفوض نقاومه؟". بداية، قد يساعد تحليل هذا التساؤل المحوري للمقال على فهم الرسالة التي يستهدف الكاتب إيصالها إلى القارئ. وأول مايصدم العقل في صياغة هذا التساؤل هو المخالفة الصارخة لأبجديات اللغة وبديهيات التاريخ، ففي مساواة الاحتلال بالاستيطان مغالطة تاريخية فاضحة، وتلاعب واضح باللغة. وما يدهشني هو مدى هشاشة وتهافت هذا الطرح الذي لايصمد لأي مناقشة جادة، بله وعي ومستوى قارئ "مصرنا".
المبادئ الجيوبولوتيكية للإمبريالية
إيران دولة كبيرة في المنطقة وذات تاريخ حضاري معروف منذ آلاف السنين، وهناك أكثر من نزاع بين دول الخليج (العربي/ الفارسي) على الحدود السياسية بينها، ولايقتصر على النزاع الإيراني الخليجي كما هو معلوم حتى بالتاريخ المعاصر. بينما إسرائيل – وليس يهود فلسطين - كيان صهيوني استيطاني مزروع في فلسطين فقط منذ 60 عاما، بقوة الإمبريالية الغربية لأسباب جيوبوليتيكة معروفة لكل مهتم بالشأن السياسي لوطنه. وشتان بيت نزاع حدودي بين "جيران قدماء"، مع احترام ادعاءات كل جار كما يدفع بها أمام المؤسسات الدولية للفصل في النزاع، وحتى مع تفهم المطامح والمطامع الإقليمية البديهية لأي قوة إقليمية، فهذا شأن الجغرافيا والتاريخ دائما؛ شتان بين هذا ومشروع استيطاني معلن بكل صلافة القوة والهيمنة، قائم على تهجير شعب بترهيبة بالقتل والهدم والتدمير. أما والأمر كذلك بديهيا، فما غرض كاتبنا من المساوة بين الحالين هنا؟
" يمكن القول صراحة إن الإمبراطورية البريطانية هي المسئولة الأولى عن خلق هذه "الشعوبية" في خريطة العالم الحديث، التي لايزال موروثها باقيا حتى اليوم: من ذلك ماوقع في التسعينات من صدام بين الملل والنحل، بين الهندوس والمسلمين والسيخ في الهند، وبين التاميل والسنهال في سريلانكا، وبين اليونان والترك في جزيرة قبرص، وبين الهنود والفيجيين في جزيرة فيجي، وبين اليهود والفلسطينيين، وبين الصينيين والماليزيين في ماليزيا، وغير ذلك كثير من الصراعات العرقية على طول المستعمرات البريطانية السابقة وعرضها في أفريقيا". تلك كانت كلمات Peter J. Taylor في كتابه Political Geography (2000). ومن نافلة القول التذكير بالسياسة الاستعمارية التقليدية "فرق تسد"، فمن أمثلة تلك النزاعات الحدودية في المنطقة، النزاع الشهير حول "حلايب" و"شلاتين" على الحدود المصرية السودانية والتي تهب بين حين وآخر لأسباب غير معلنه، وفي آخر نزاع تحركت القوات السودانية "لتحرير" المنطقة المحتلة!. وهناك نزاع أقل حدة بين ليبيا ومصر على تبعية بعض مناطق الصحراء الغربية المصرية، ونزاع المغرب والجزائر، والمغرب وجارها الجنوبي، وكثير كثير غيرها مما لايتسع المقام لسرده، زرعه الاستعمار البريطاني والأوروبي عموما، في إطار المبادئ الجيوبولوتيكية للإمبريالية.
رسالة يأس مرفوضة
هل يمكن لمصر أو السودان أو ليبيا أو الجزائر أو المغرب مثلا، أن تقارن بين هذا النزاع واستيطان اليهود الأوربيين والروس لأرض فلسطين؟ هل القضية الفلسطينية هي نزاع على حدود أم اغتصاب وطن؟!!! حقيقة إن هذا الخلط والخطل، لايخدم إلا المشروع الصهيوني وتثبيته في المنطقة، وإعطاءة مشروعية الوجود، وتحويل الاغتصاب والاستيطان إلى نزاع حدودي بين جيران، وهو الأمر الذي نعتقد أنه خطأ فادح بل وتزوير فاضح للتاريخ، ولايصب في مصلحة القضية الفلسطينية والعربية.
إن إيران ليست العدو بكل تأكيد، مهما كانت خلافاتها أو احتلالها لبعض المناطق الحدودية مع جيرانها، ويجمعنا معها الجغرافيا والتاريخ بكل عمقه وعبقه الإسلامي، أما إسرائيل فهي شذوذ جغرافي – تاريخي مصيره إلى الزوال بحكمهما معا، برغم الجيوبولوتيكا الإمبريالية.
بهذا التحليل الجوهري لمقال د. أحمد ابو مطر، أؤكد لسيادته أن ما أظنه صحيحا في مقاله هو أمنيته بأن يكون مخطئا، فهو في ظني مخطئ كل الخطأ، ومنطقه متهافت أيما تهافت، ورسالته مغرضة أسوأ غرض، وأن مثل هذا الفكر الإنهزامي الداعي إلى بث اليأس من أي جهد عربي، وبالتالي الاستسلام للمشروع الصهيوني، مفهوم عقلا وتاريخا،و مرفوض بداهة. وإن بكائيات المقال على الشأن العربي، وكأنه يعنى به أو يهتم له، لم تمنع احتمالية قوية لحمل المقال لرسالة داعية إلى الانتحار الحضاري لصالح المشروع الصهيوني بداهة، وأعتقد أن مثل تلك الرسائل الضمنية لن تنجح في أن تمحو ذاكرة أمة عريقة في الحضارة، أو تزيف تاريخها بسهولة، فهي ليست نبتا صناعيا، مهما بدت في اللحظة الآنية شتاتا، أو ضعفت حكاما وإرادة، فالتغيير سنة الكون، وتاريخ الأمم العريقة لايقاس بعشرات السنين، وليس وقفا على أشخاص مهما تحكموا وحاولوا.
2 فبراير 2009
مصرنا ©