الربيع العربي الإسلامي: رؤية خلدونية
| |
إبن خلدون | |
بقلم : مسعد غنيم
....................
" الذي يحتاج فيه لأمر هؤلاء [الثوار أو الخوارج] إما المداواة إذا كانوا من أهل الجنون، وإما التنكيل بالقتل والضرب إن أحدثوا هرجا، وإما إذاعة السخرية منهم وعدُّهم من جملة الصقّاعين". قد تدهش عزيزي القارئ عندما تعرف أن هذه "الوصفة العلاجية" لتعامل الحاكم مع الثوار عمرها أكثر من 600 سنة! إذ أن قائلها هو إبن خلدون المفكر الإسلامي ومؤسس علم الإجتماع الذي ولد في تونس عام 1332م. ومات في مصر عام 1406م.، وكأن الربيع العربي قد إتبع مساره من تونس إلى مصر!. المدهش هنا هو أن تلك الوسائل الثلاث للتعامل مع الثوار تتطابق مع ما تم التعامل به مع ثوار 25 يناير 2011. فقد بدأ تعامل نظام مبارك مع الإحتجاجات المستمرة قبل الثورة بإستخفاف لا يجوز إلا مع فاقدي الأهلية أو المجانين، ثم عندما إنفجرت الثورة في وجهه، بادر بالتنكيل والقتل بلا أدنى رحمة، وبرغم ذلك نجحت الثورة في خلعه. فكان أن قام باقي نظامه بإذاعة السخرية من الثوار والعمل على شيطنتهم لإيقاف تدفق تيار الثورة إلى منتهاه الطبيعي وهو إجتثاث نظام مبارك من جذوره وليس الإكتفاء برأسه فقط. الجدير بالذكر هنا أن إبن خلدون قال هذه المقولة عندما كان وزيرا أو يتطلع إلى الوزارة!!، لكن لا عن هوى بل عن نظر!، وذلك كما كتب المفكر المغربي الكبير عبد الله العروي في كتابه "مفهوم العقل – الطبعة الرابعة 2007 – ص 213".
كان هذا عن أمر الثوار وطبيعة تعامل السلطة معهم طبقا لرؤية تاريخية من فكر إبن خلدون. تلك الرؤية تضع الأساس لمقالنا هنا للإجابة على تساؤلنا بنهاية مقالنا السابق: "...أم أن مصر مقدر لها أن تفقد حقبة زمنية أخرى تتقدم فيها إلى الأسفل والخلف معاً قبل أن تحقق نهضة ملموسة مبنية على العلم والمعرفة في توازن مع روحها المتأصلة في الإيمان؟!".
هذه محاولة أخرى للفهم ولقراءة المشهد الثوري المصري بعد مرور سنة، وهذه المرة في ضوء التحليل التاريخي الإجتماعي طبقا لرؤية إبن خلدون. في مقدمته الشهيرة المؤلفة عام 1377 م.، جاء في نهاية الباب الثالث الخاص بالدولة وأطوارها ما معناه " أن التطلع إلى معرفة مستقبل الدول، من جانب الحكام والمحكومين على حد سواء، يزيد حدة وإلحاحا في نهاية كل دور من أدوار الدولة، عندما تهرم وتضعف عصبيتها (قوتها)، فيقل أنصارها ويكثر أعداؤها، وفي نفس الوقت عندما يستبحر العمران (التقدم الحضاري) وتتعدد الصنائع والعلوم (التكنولوجيا والمعرفة). فتتداخل، لمدة معلومة، مميزات البداوة (أساس الدولة المستحدثة، وليس المقصود بها التخلف) ومميزات الحضارة (معالم الدولة القائمة أو الحديثة على زمن ابن خلدون).
يبدو أن هذه المقولة تنطبق حرفيا على المشهد الثوري المصري. هذا يدل على أن مجريات الأمور في المشهد المصري التي نحاول قرائتها وتفسيرها، على تعقدها وغموضها بالنظر المباشر، إنما هي من طبائع أطوار ومراحل تطور الدول والمجتمعات عبر التاريخ، طبقا لرؤية إبن خلدون. بالتالي لا يجب أن تكون هناك مفاجأة أو إندهاش لو قرأنا التاريخ جيدا، أو حتى لو قرأنا فقط إبن خلدون!. ها نحن نرى أن لسان حالنا اليوم بدءا من رجل الشارع إلى المثقف يطرح نفس السؤال: إلى أين تتجه مصر؟ وهو عنوان مقالنا السابق. وها قد رأينا أن هذا التساؤل قد جاء طبيعيا من حيث درجة إلحاحه وتوقيت طرحه. فهو سؤال لا يُطرح، كما رأينا في قول إبن خلدون، إلا في مراحل إنتقال الدول من مرحلة الإنهيار إلى إعادة البناء. وعلى التوازي يتم طرح نفس السؤال عندما تواجه الدول بواقع التقدم الإجتماعي والتاريخي حولها، وكذا مع التطور التكنولوجي وتعاظم المعرفة. وهذا هو الآن حال المجتمعات العربية، ومنها مصر، من تخلف هو ناتج طبيعي عن الحكم الإستبدادي لمبارك المتهم بالعمالة للمشروع الصهيو – غربي مقابل بقاؤه، بل وتوريثه الحكم لخلفه أيضا!.
كان هذا عن مطابقة التساؤل عن مستقبل مصر لطبائع مراحل تطور الدول كما يراها ابن خلدون. فماذا عن طبيعة الصراع القائم بين عناصر القوى المحلية من تيار إسلام سياسي ومجلس عسكري وثوار ليبراليين في منظور إبن خلدون؟ من المدهش أيضا أنه لا محل للمفاجاة هنا ولا للإندهاش! وذلك من منظور تطور التاريخ. لقد وضع إبن خلدون الأساس الذي يفسر هذا الصراع، بل ويحدد نتيجته أيضا حتى بعد أكثر من 600 سنة!. يتعرض إبن خلدون في الباب الثاني من المقدمة إلى أن تأسيس الدولة لا يكون إلا بالعصبية (أجلى مظاهرها القوة العسكرية) وهي قوة طبيعية. فهي إذن الوسيلة الضرورية، أما الأصل فهو شأن آخر: "إن الدولة العامة الإستيلاء العظيمة الملك أصلها الدين إما عن نبوة أو دعوة حق". هنا يميز إبن خلدون بين الوسيلة والأصل في قيام الدولة، الوسيلة هي القوة العسكرية (بتعبيرنا العصري) والأصل هو الدين. لايكتفي إبن خلدون بهذا، بل يبحث في العلاقة الجدلية بين الأمرين فيقول من جهة: "إن الدعوة الدينية من غير عصبية لاتتم"، ومن جهة ثانية: "إن الدعوة الدينية تزيد العصبية قوة على قوة العصبية".
بإسقاط هذا الكلام على الواقع المصري، يمكن قرائته كالتالي: إن أصل الدولة المصرية يتأسس على الدين، وهو الإسلام الآن، وكان قبل ذلك مسيحيا وفرعونيا. وأن تيار الإسلام السياسي، بفرعية الإخواني والسلفي، لايمكن له أن يبقى ويدعي أنه يعمل على الدعوة الدينية (وهي سبب وأصل التنظيم) بدون دعم القوات المسلحة المصرية ممثلة في مجلسها العسكري الأعلى. كما أن صعود تيار الإسلام السياسي بصفته الدعوية الدينية سيزيد من قوة الدولة المصرية ممثلة في قواتها المسلحة بإضافة الجزء المعنوي الذي يُتَضمن في العقيدة الدينية. يمكننا أن نضيف أيضا أن ما يتم قرائته على أنه صفقة بين العسكر وتيار الإسلام السياسي ما هو إلا نتاج طبيعي لتفاعل "العصبية" مع "الدين" بحسب إبن خلدون.
بعد تبيان موقع كل من العسكر والإسلام في القراءة الخلدونية للمشهد المصري بعد 25 يناير 2011، أين إذن موقع الليبراليين / العلمانيين في هذه القراءة؟ يقول المفكر عبد الله العروي بعد أن يبين الطبيعة الجدلية بين "العصبية" و "الدين" : "إن ما يتغير، أو يُحوَّل في التعبير الخلدوني، هو ظهور مسلك آخر إلى العلم وبروز قواعد تهذيبية وتنظيمية جديدة، تخالف وأحيانا تعارض الأولى دون أن تنفيها أبدا نفيا تاما." ما يعنيه العروي هو أن هناك إتجاها ثالثا يقع بعد العصبية والدين وهو العلم أو بالتعبير الشائع العلمانية أو الليبرالية، وهذا الإتجاه قد يخالف أو يعارض البداوة ولكن دون أن ينفيها تماما. يوضح العروي هذا التحول من أقوال إبن خلدون كالآتي: "على قدر عظم الدولة يكون شأنها في الحضارة إذ أمور الحضارة من توابع الترف والترف من توابع الثروة والنعمة والثروة والنعمة من توابع المُلك". كلمة الحضارة في لغة إبن خلدون تقابل البداوة، وهو لا يعني بالبداوة هنا التخلف بل القدر الطبيعي الأولي والضروري لتنظيم ولتهذيب المجتمع البدوي.
المقابلة بين البداوة والحضارة هنا يمكن أن تفسر أصل الصراع القائم بين التيار الإسلامي والإتجاهات الليبرالية في مشهد الربيع العربي الإسلامي عموما. في قراءته لإبن خلدون يقرر عبد الله العروي "أن العمران البدوي هو قاعدة الدولة بمعنى أنه سابق عليها زمنيا، وكذلك بمعنى أنه دائما حاضر أثناء كل مراحل التطور الحضاري. لذلك كلما إنحصرت الحضارة عاد إلى الظهور من جديد!!". ولعلنا نتفق على أن ثلاثة عقود من التخريب في مقومات حضارة مصر والنهب لثرواتها طوال فترة حكم مبارك قد حصر حضارة مصر إلى مشارف الحضيض، فكان من المنطقي طبقا لنهج إبن خلدون حتمية ظهور ملامح الفكر البدوي! مع بروز مشروع تيار الإسلام السياسي بإتجاهه السلفي العام. تتبدى ملامح العمران البدوي في في طبيعته الفكرية ومنظومته المعرفية من خلال "العلوم الكشفية" (مكتسبات المعرفة بالسحر والكيمياء وما يتفرع عنهما، أو بالإطلاع على وقائع محجوبة عن الشاهد بوسائل كالنظر في مواقع النجوم) وهي التي تقابل "العلوم العقلية" (مكتسبات المعرفة بالصنائع أي العلوم).
يوضح عبد الله العروي مقصد إبن خلدون في هذه المقابلة بأن الفرق الأساسي هو في داخل المجتمع البدوي نفسه!، ليس بين العلوم الكشفية والعلوم العقلية التي لا تظهر وتزدهر إلا في نطاق العمران المدني، بل بين العلوم الكشفية والعلوم الشرعية. ويعرض كيف ساق إبن خلدون مثالا في غاية الوضوح، حيث قال: "وللبادية طب يبنونه في الغالب على تجربة قاصرة على بعض الأشخاص.. وربما يصح منه البعض إلا أنه ليس على قانون طبيعي... والطب المنقول في الشرعيات من هذا القبيل وليس من الوحي في شئ.. إن النبي هو الذي بعث ليعلمنا الشرائع ولم يبعث لتعريف الطب ولا غيره من العاديات (النواحي المادية)..." ثم يستدرك ابن خلدون ويقول في شأن الطب الشرعي: "إلا أن استعمل على جهة التبرك".
يستكمل عبدالله العروي توضيح مفهوم إبن خلدون بشأن العلوم الشرعية فيقرر أن الشرع إذن، في هذه الأوضاع، قانون يهدف إلى تهذيب الأفراد حتى يصبحوا قادرين على تجاوز القبيلة وتكوين أمة تبقى خاضعة لقواعد الفطرة. أما ما يمس الحياة المادية (العاديات) فهو من قبيل المتوارث، متأثر بمعارف مروية، غير مبنية على وحي كالشرع، بل على الرؤيا.
كان هذا بعض من فكر إبن خلدون كما قرأه المفكر المغربي عبد الله العروي في كتابه "مفهوم العقل"، فما الذي يمكن إستخلاصه منه وتطبيقه على مشهد الربيع العربي الإسلامي والحالة المصرية تحديدا؟ نحن نلاحظ أن مقولة "الإسلام هو الحل" قد اختفت نسبيا من الخطاب الإعلامي لتيار الإسلام السياسي ربما لأسباب المناورة السياسية أثناء وبعد ثورة 25 يناير. ليس معنى هذا الإختفاء إلغاؤها بالطبع. هذا الشعار هو الذي يجسد المفارقة التي يواجهها تيار الإسلام السياسي في سياسة البلاد بما يجب في عصر العلم الحديث. هناك تحدي أمام هذا التيار، وقد وصل إلى السلطة التشريعية حتى الآن، وهو أن يضمن تحقيق النمو الإقتصادي الذي هو بالواقع "إقتصاد معرفي" مبني على العلم أي على العقل أو "العلوم العقلية" بتعبير إبن خلدون. تلك العلوم العقلية، كما يتضح من ظاهر تعبير ابن خلدون، لا تكون صحيحة مطابقة لمسلماتها البديهية إلا إذا تحاشت ميدان الإلهيات ولم تستعمل إلا في غيرها. هذه النتيجة الأخيرة هي التي تظهر المأزق "العقلي" أمام التيار الإسلامي في رفعه شعار "الإسلام هو الحل" وهو مبني على ما يرتبط بـ "العلوم الشرعية" بشكل أو بآخر!.
في هذا المقام، تقتضي أمانة النقل أن نوضح، كما يقرر العروي، أن ابن خلدون بقى طوال حياته وفيا لمنطق الفقه، معتبرا الشرع بالأساس قانونا تنظيميا وتهذيبيا لمجتمع مختلط، ولكن لهذا السبب بالذات، كما يقول العروي، يتغير وضع الشرع بتغير الأحوال المجتمعية، فإذا ما استبحر العمران (التقدم الحضاري) يقترب الشرع من السياسة العقلية إلى حد التداخل والإمتزاج. هنا يبدو وفاء ابن خلدون لأصول الفقه، وربما لمنهجية مقاصد الشريعة، أي لذلك العقل المصلحي النفعي الذي يتلو بالضرورة تغلغل العقل التجريبي (العلم) في المجتمع المدني.
يمكننا أن نستخلص من كل هذا أن هذا التداخل والإمتزاج المفترض بين العقل (العلم) والإيمان الذي قرأه المفكر عبد الله العروي في مقدمة ابن خلدون هو أكبر تحدي حضاري أمام المسلمين وقد وصل من يحمل إسمهم (تيار الإسلام السياسي) إلى سدة الحكم في بعض الدول العربية بعد الثورة. من المنطقي أن هذا التحدي هو بنفس القدر مطروح أمام المسلمين ذوي التوجهات الليبرالية العلمانية، وكذا أمام غير المسلمين من مسيحيي مصر، لأن الوطن واحد، ولأن التاريخ له سننه المقروءة، ولأن التغيير الحادث في العالم أسرع مما يتخيله راكبو السيارات السريعة على طرق العلم، ناهيك بخيال راكبي الجمال على دروب فكر الصحراء.
مسعد غنيم
مارس 2012