دماء الميدان وساقية الأخوان
| |
البنا | |
د.أحمد لاشين
................
أذكر أنني في صغري ،وأثناء زيارتي لقريتنا الريفية البسيطة،منعني جدي رحمه الله من اللعب بجوار الساقية المجهورة التي تقع على حدود بلدنا،وأمام نظرته الحاسمة المفعمة بالخوف من شيء خفي لم أكن لأدركه في حينها،لم أجد بداً من الإمتثال لأمره.وبعد الإلحاح صرح لي أن الساقية المهجورة التي جف ماؤها من سنين،لن تدور إلا بالدم،فسكان الساقية من أشباح وأرواح لن يرضوا إلا بدماء البشر حتى يرفعوا لعنتهم وتعود المياه لمجاريها.
ومع الأيام،أصبحت أرى تلك الساقية المهجورة في كل أشكال حياتنا السياسية والاجتماعية،فلابد من دماء تُرضي الملاعين،حتى يحلوا عن دنيانا الجافة،دماء تضيع عبثاً تبث الحياة من جديد في عروقنا الناشفة.والحالة المصرية الآن خير مثال على ذلك،فدماء الميدان منذ ما يقارب العام،منحت روحاً أبدية الألم لموتى السياسة المصرية،بداية بالأخوان والأحزاب والتيارات والإئتلافات،ساقية السياسة المصرية دارت من جديد بعد توقف دام لأكثر من ستين عاماً تحت ظل الحكم العسكري ،الذي يتسم برؤية واحدة أحادية يتوهم دائماً أنها الحق.وأمام كل مطلب جديد،أو هدف لم يتحقق بعد يُقدم الميدان مزيداً من دماء شباب لا حول لهم ولا قوة،ولا ذنب إلا أنهم فتية آمنوا بحقهم في بداية جديدة تستحق التضحية.فرغم ما يشوب الميدان أحياناً من عبثية وعشوائية وتشويه،إلا أنه لا يمكن إنكار ما مثلة التحرير من منعطف تاريخي أصيل في التاريخ المصري.
جماعة الأخوان التي ظلت محظورة لعقود،كانت على قمة هؤلاء المنتفعين المستفيدين من دوران ساقية الدم،فظهر لها ذراع سياسي ممثل في حزب الحرية والعدالة لأول مرة في التاريخ،بعد أذرع التنظيمات السرية والمليشيات العسكرية في الداخل والخارج،وانظلقوا يسعون في الأرض يلملمون أوراق الصناديق في نهم المحرومين ،يصدرون المشهد بتيار سلفي متعنت ليقدموا أنفسهم بوصفهم المنقذ من تشدد السلفية وميوعة الصوفية وتعنت العلمانية وتخاذل الليبرالية،بوصفهم المخلصين من سنوات القهر والفقر.وعلى مذبح العسكر قدموا التنازلات السياسية ليرضوا السلاطين الجدد.وفي المحصلة النهائية كلما زاد الميدان نزيفاً زاد الأخوان صلفاً وعلواً،وكأنهم لم يخرجوا يوماً من نفس الأسوار التي جسمت على صدر الجميع.
الدماء التي حركت ساقية الأخوان التي جفت بعد سنوات من الصفقات والاعتقالات،تذهب الآن هباءً منثورا،بلا ثمن ،فمنذ أحداث محمد محمود التي بدأت بمليونية قندهار المدفوعة مقدماً ضد وثيقة السلمي، والتي انتهت بعبثية لا تليق بالمشهد الدامي،والأخوان يصرحون بأن الانتخابات أولاً وأخيراً،وكأن صندوق الانتخابات مائدة هبطت عليهم من السماء،بلا ثمن غالباً يدفعه غيرهم لينالوا هم الغاية ويحددوا الوسيلة.فشرعية الثورة والميدان أصبحت تقلق مضاجع الأخوان،وقرروا استبدالها بشرعية الصندوق وديمقراطية الأغلبية في مجتمع يمارس عنصريته وطائفيته قبل أن يقف في طابور الانتخابات.
وبين صلف قادتهم القدامى الذين صرحوا بأن من لا يرضى بحكمهم فعليه مغادرة البلاد، وقاداتهم الحاليين الذي اعتبروا أن سكان التحرير وغيره من الميادين ما هم إلا عملاء وخونة،وكأنهم لم يكونوا يوماً مع ضمن هؤلاء ،ومحاولات التواصل مع القوى العظمى العالمية،للحصول على شرعية دولية لوجودهم الشبه ديمقراطي،والسعي خلف التعتيم على الوعي العام،والمساهمة في صنع حالة من الضبابية الإعلامية حول أحداث مجلس الوزراء،وطرح أنفسهم كبديل شرعي وتشريعي لسلطة المجلس العسكري،دون أن يقدموا تضحية واحدة تّذكر في نهر الدماء ،يؤكد على ما ذهبت إليه في البداية أن ساقية الأخوان تدور دائماً بدماء الميدان.
وأنا لم أنكر يوماً أن الميدان احتوى العديد من العناصر صاحبة المصلحة بعيداً عن مصلحة الوطن،ورغم أن الأخوان كانوا جزءً من هذا المشهد في وقت ما،إلا أن من يُقدم نفسه للموت ومن شارك بأهله وعرضه أمام سطوة القوة الغاشمة التي لم تفرق بين متآمر وشهيد،لا يستحقوا من جماعة الأخوان المسلمين كل هذا التجهيل والنفي،لصالح أحلامهم في تكوين حزب وطني جديد،ينفرد بسلطان البلاد والعباد.أنا لا ألوم حزب الحرية والعدالة على نشاطه المجتمعي ودعاياه النشطة،وكنت من أوائل اللائمين على بقية الأحزاب الهشة الفاشلة،ولكن أليس لهذا الانتصار الساحق والأغلبية الكاسحة ثمن يُدفع لأصحاب الفضل!!،بدلاً من سياسات التضليل التي تمارسها الجماعة على رؤوس الأشهاد.
فمجرد ادعاء أننا شعب واعي اختار الأصلح لأنهم الأخوان،يساهم في حملة تضليل ممنهج ضد نفس هذا الشعب الذي يعاني من الأمية والفقر والجهل،ألم يكن الأصلح أن تساهم الجماعة في التعليم والتربية والتوعية بدلاً من قوافل التموين وأنابيب البتوجاز!!،ألم يكن من الأفضل أن يٌقدم الحزب بدائل سياسية توافقية مع مختلف القوى السياسية بدلاً من السعي للتفرد بمجلس منزوع الصلاحيات والإمكانيات!!،فهل الآن حلت هتافات سرادقات فرز الأصوات،محل هتافات الميدان واسقاط النظام.!!
نحن الآن أمام عسكر يصمون الجميع بالعمالة ويتعاملون مع السياسة من باب الأوامر العسكرية،وتيار ديني يسعى لمصالحة واتصالاته واقرار شرعية مشكوك في شرعيتها من الأساس،وأحزاب وقوى متنافرة متصارعة تهدم ما تبقى من ثورة قد لا تحتفل بعيدها القادم،وشعب يقف أمام الصناديق ليختار على أساس طائفي ،وانتخابات بلا دستور يقود المسيرة السياسية،والأهم عالم سفلي من الجياع بدأ في احتلال جزء لا يستهان به من المشهد الاجتماعي وينذر ببلد على شفا الاحتراق،وفي النهاية ساقية تدور بدماء ميدان استهلك شبابه وشيوخه وعرضه لصالح حلم بوطن أصبح بعيد المنال،إن لم نتوافق ونتفق على صالح هذا البلد،الذي اقسم به أنه لن يأتي عليه العام الجديد إلا وقد عاد إلى نقطة الصفر،إذا استمر بنا الحال على ما هوعليه من انقسام وضلال.
ahmedlashin@hotmail.co.uk