شيخ الوراقين في سور الأزبكية
...............................................................
|
عم حربي في مكتبته وسط سور الأزبكية بالقاهرة |
القاهرة: محمد عجم
«أي كتاب بـ2 جنيه»، «فرصة.. أوكازيون.. الكتاب بجنيه»، «اتفضل يا أستاذ.. عربي ولا إنجليزي؟».. عبارات اعتاد على سماعها الجمهور الزائر لـ«سور الأزبكية» الواقع بالقرب من ميدان العتبة بالقاهرة، ينطق بها باعة الكتب لجذب الزبائن وراغبي الثقافة الذين يتكاثرون في هذه البقعة المخصصة لبيع الكتب القديمة أو النادرة ذات الأسعار الرخيصة.
بين هؤلاء ستجده جالسا أمام مكتبته في شموخ، يرتدي جلبابا بسيطا، سنوات عمره التي تقترب من الستين تحفر مجراها في وجهه، بينما تنعكس شيخوخته على شعره وشاربه بعد أن تحولا للون الأبيض، كل من يذهب أو يأتي يلقي عليه التحية في حرارة، ولما لا فهو شيخ «الوراقين - العم حربي»، صاحب مكتبة «دار الحسن» أقدم مكتبات السور. بداية يُعرف لنا عم حربي أن «الكُتبي» أو «الوراق» هو ذلك الشخص الذي يشتري الكتاب ويصنفه ويبيعه للزبون، كذلك يقوم بعملية «ترميم» للكتاب إذا كان في حاجة، لأنه يتعامل مع الكتاب القديم الذي لا يكون في حالة الجيدة كأن يكون منزوع الغلاف أو كعبه مفكوك، أو ورقاته مقطعة، فيقوم بإصلاح تلك العيوب وإعادة تجليده حتى يخرج الكتاب في أحلى صورة.
ورث عم حربي مهنة بيع الكتب في السور أبا عن جد وبدأها في عمر مبكر، يقول مسترجعا سنواته الأولى: «جدي كان أحد أقدم الباعة في السوق منذ نشأته، بل كانت صورته وهو يمسك الكتب تنشر في صدر الصفحة الأولى لجريدة «الأهرام» المصرية وقت الاحتفال بعيد العلم، وشاركه فيها أبي وعمي، ومع ثلاثتهم بدأت هذه المهنة وعمري سبع سنوات، وذلك بناء على رغبة والدتي حتى لا أثير المشاكل في المنزل». ويضيف: «كان السور في ذلك الوقت بجوار الأوبرا الملكية القديمة بوسط القاهرة، وكانت مكتبة جدي عبارة عن كشك خشبي فوق الرصيف وكانت مكتبة كبيرة تمتد حوالي 12 مترا، كانت مهمتي الأولى التي كلفت بها أن أقف بجوار الكتب وأقوم بالنداء (بقرش صاغ) أي أن ثمنها قرش واحد لكي أجذب الزبائن، إلى جانب تنظيف الكتب من الأتربة وإعادة ترتيبها، بالإضافة إلى مهمة أخرى شاقة ومتعبة هي إنارة (كلوبات) الإضاءة كل عشر دقائق لعدم وجود إنارة في تلك المنطقة في هذا الوقت». كانت تلك المهام هي بداية تعلم الطفل حربي للمهنة التي واصلها بجوار دراسته التي قطع فيها شوطا حتى الشهادة الثانوية، كما كانت بداية حبه للقراءة وطريقه للتثقف، وعن ذلك يحكي: «في فترة القيلولة كان أبي وجدي ينصرفان للبيت للراحة قليلا بينما أظل أنا بجوار المكتبة لأني أصغرهم، وعند سور الأوبرا تحت الأشجار كانت فرصتي للقراءة والمعرفة، بدأت بقراءة مجلات الأطفال الشهيرة في ذلك الوقت وأشهرها (سمير) و(ميكي) و(حكايات تان تان) و(الوطواط) و(سوبر مان)، بعدها استمر حبي للقراءة والمعرفة حتى وصلت لقراءة كتب متخصصة في علم النفس والفلسفة، فالمثل يقول (طباخ السم بيدوقه)، ولو لم أعرف الكتاب ومضمونه لن أستطيع تسويقه وبيعه، ويمكنني أن أعرفه من المقدمة أو من الفهرس أو بقراءة فصل، فيجب علي أن أعرف مضمون الكتاب ومحتواه حتى أدل الزبون عندما يسألني». بخلاف ذلك يرى عم حربي أن هناك مواصفات أخرى للكُتبي الناجح، يبينها بقوله: «أول شيء أن يحب المهنة وعليه ألا يتعامل فقط مع الكتب بمفهوم التجارة، فنحن نتعامل مع فكر والفكر ليس للبيع وليس للتجارة، وثانيا أن يكون مثقفا، نعم يمكن لشخص أن يحب المهنة فقط، لكن أن يصبح وراقا أو كُتبيا عليه أن يتحلى بالصبر حتى يثقف نفسه، فالقراءة عادة لا تأتي بين يوم وليلة، كذلك يفترض أن يكون على علاقة طيبة مع الزبائن التي ترتاد مكتبته». «مافيش مثقف مصري إلا وجاء سور الأزبكية»، هكذا يؤكد عم حربي، الذي التقى على مدار أعوامه الطويلة بالكثير من المثقفين وكبار الأدباء الذين ترددوا على مكتبته أمثال: نجيب محفوظ ومصطفى محمود وتوفيق الحكيم ويوسف السباعي، والجيل التالي لهم كجمال الغيطاني ويوسف القعيد وخيري شلبي، بخلاف بعض السياسيين. يقول الرجل بابتسامة: «كان صاحب جائزة نوبل نجيب محفوظ يتردد كثيرا على السوق ليسأل عن كتب في الفلسفة، وأتذكر عندما كان عمري 14 سنة توجهت إليه لأظهر له ثقافتي فسألته ظنا أني سأحرجه (أنت تكتب الرواية فلماذا تقرأ في الفلسفة؟) فما كان منه إلا أن ابتسم وأجاب بكل ود (لما تكبر سوف تعرف)، كذلك في أحد المرات جاء الرئيس المصري الراحل محمد نجيب قبل وفاته بعدة سنوات وعرفني عليه السائق الخاص به، وسألني عن توافر كتابه (كلمتي لبلادي.. مذكرات أول رئيس لمصر)، فعرفته أنه ممنوع فما كان منه إلا أن قام بهز رأسه وانصرف، كذلك قابلت هنا هواري بومدين رئيس الجزائر الأسبق، إلى جانب الكثير من المثقفين العرب والمصريين».
يقطع حديثنا قدوم أحد الزبائن للسؤال عن رواية «الجريمة والعقاب»، فيجيبه عم حربي سريعا: «لا.. رواية الجريمة والعقاب لدستويفسكي غير موجودة الآن»، ثم يتابع حديثه معنا بنبرة تنم عن عدم الرضا: «نوعية زبائن سور الأزبكية اختلفت حاليا، فهم الآن مثل من يذهب للصيدلية لصرف الدواء، يأتي الزبون بورقة فيها اسم الكتاب الذي يريده واسم مؤلفه بل ورقم الطبعة، وإذا تفقد الكتب يرتدي القفازات خوفا من الأتربة، ومن يفعل ذلك أعتبره شخصا مضطرا للقراءة، فهو يأتي إلينا بسبب دراسته أو لإتمام بحث أو لأنه متقدم لمسابقة، أما الزبون المثقف الذي يدخل إلى المكتبة ويتفقد الكتب أصبح نادر الوجود، وأنا أقدّر هذا الأخير لأنه مثقف وحتى لو لم يشتر أكون سعيدا به، كما أنه الآن لا أحد من المثقفين يتردد على السوق فلا أرى أجيالا جديدة منهم رغم رواج حركة الكتب في السنوات الأخيرة».
إذا تفقدت مكتبة شيخ الوراقين ستجدها لا تتخصص في نوعية محددة من الكتب، فهو يبيع كل الكتب بمختلف مجالاتها، وأيضا الكتب الدراسية والمجلات والجرائد القديمة، وجميعها تباع بربع أو ثمن سعرها أو أقل من ذلك بكثير مقارنة بسعرها الأصلي لدى دور النشر، لكن كيف تأتي هذه الكتب إلى السور؟ يجيبنا عم حربي وهو منهمك في ترتيب بعض الكتب داخل المكتبة وقد ارتدى نظارته الطبية: «هناك عدة طرق، فهناك أشخاص يجدون لديهم كما من الكتب لا يحتاجون إلى بعضها فيقومون بعرضها علينا فنذهب إليهم ونشتري ما نحتاج منها، وأحيانا نشتري الكتب من دور النشر التي تعرضت لبعض العيوب أثناء الطباعة أو النقل، أما أكثر الطرق التي قلت حاليا فهي (المزادات) التي تعلن عنها الهيئات الحكومية حيث يتسابق باعة الكتب للحصول على هذه المزادات، وأتذكر أنه في عام 1956 اشترى جدي مزادا بنحو 7 آلاف جنيه من إحدى الهيئات وكان مبلغا كبيرا جدا في ذلك الوقت». يواصل وقد عاد إلى الجلوس أمام مكتبته: «أحمد الله أنني أمتهن مهنة الكُتبي ولجمال هذه المهنة تمسكت بها طوال هذه السنوات، فأنا أعتبر السور بمثابة أبي وأمي.. لذا كتبت فيه أبياتا من الشعر»، ثم يبدأ في ترديدها بزهو: «سور الأزبكية يا عظيم اسمك.. جدي وأبويا زمان رسموا حروف اسمك.. وعهد أخدته على نفسي أزين حروف اسمك.. عقاد وطه ونجيب علمهم زمان اسمك.. سور الأزبكية يا عظيم الزي.. سور الأزبكية ولا زيك زي.. كريم من يومك ولا حاتم بني طي».
إلقاء الرجل لأبياته جذبت بعض جيرانه الكتبية للالتفاف حوله، ومع انتهائه منها يصفق الجميع له، وتتعالى أصواتهم «عم حربي هو كبيرنا، راجل صاحب فضل علينا ودايما شايف مصالحنا». مع انصرافهم يتبدل زهو عم حربي بحالة من الحزن ترتسم سريعا على وجهه وتترجم في كلماته: «رغم عشقي لمهنتي ولسور الأزبكية وتقديري لقيمته الثقافية والتاريخية فإنني لم أعلّم المهنة لأبنائي فكما هو معروف المثقف بطبعه فقير، وكذلك بسبب الظلم الذي يقع علينا في سور الأزبكية من جانب الجهات الحكومية، فالسور كثير التنقل من مكانه وعلى مدار 18 سنة ماضية تم نقلنا من مكاننا 4 مرات لأسباب مختلفة، وفي كل مرة نفقد الكثير من الكتب، إلى جانب كون التنقل عملية مرهقة ومكلفة لنا ماديا ونفسيا، وبسبب هذه التنقلات نفقد الزبائن أيضا وبالتالي يفقد السور قيمته، والكثير الآن عندما يسمعون عن سور الأزبكية يتساءلون عن مكانه لأنه لم يعد معروفا لهم، ولولا وجود السور في معرض القاهرة الدولي للكتاب كل عام لبحث كل كُتبي عن مهنة أخرى». يشير عم حربي إلى أنه وجميع الباعة في السور يعتبرون معرض الكتاب السنوي «موسم شغل»، وهو ما يجعله يقارن بين حالة البيع والشراء أثناء المعرض وبين باقي أيام العام قائلا: «الفرق كبير، فإذا تردد علي زائر أو اثنان في اليوم ففي المعرض أبيع لألف زائر»، مبينا أن مكتبات السور داخل المعرض يكون عليها زحام شديد وهو ما يراه شيخ الباعة دلالة على أهمية سور الأزبكية كشريان حياة لخدمة الثقافة والمثقفين، ولهذا فهو ينتقد بشدة المسؤولين عن تنظيم المعرض والناشرين الذين يهاجمون وجود السور في المعرض ويطالبون بإلغائه وقصره على دور النشر.
ومن خلال هذا اللقاء يوجه شيخ الكتبية رسالة للمثقفين المصريين والعرب: «أطلب من المثقفين رد الجميل لسور الأزبكية، بمعنى تأييدنا بقلمهم ومساندتنا حتى لا يحدث تنقل آخر جديد للسور، فالسور (جامعة شعبية) كما قال عنه الأديب يوسف القعيد، وسيظل الحامي للكتاب طالما هناك حياة، لأن الكتاب سيظل هو الوعاء الرئيسي للمعرفة ولو بعد 100 عام ولا بديل عنه».