"الـصواني الأسواني".. إفطار إجباري على الطريق!
...............................................................
بقلم مصطفى الجعفري
..........................
| |
كل بيت يحرص على إخراج صينية الإفطار | |
أسوان (مصر) - تلملم الشمس خيوط ثوبها الذي يكسو المحافظة الهاجعة بين أحضان جنوب مصر إيذانا باقتراب موعد الإفطار.. فيصيح أبو حمدي في أهل بيته يتعجلهم لإعداد "صينية الإفطار" ليحملها خلفه ابنه وينطلقا واقفين بها على الطريق السريع بجوار العشرات من أقرانه الذين اصطفوا بانتظار أي مارٍّ سواء في سيارة أجرة أو خاصة أو راكبًا دابته أو ماشيًا على قدميه ليجبروه إجبارا على تناول الإفطار معهم!.
ويصل حرص أبناء محافظة أسوان في تحصيل أجر إفطار الصائم عملا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "من فطّر صائما ولو على شق تمرة كان له من الأجر مثل أجر الصائم دون أن ينقص ذلك من أجره شيئًا"، لدرجة وقوف بعضهم أمام السيارات في نهر الطريق لإجبار سائقيها على التوقف، وتناول الطعام معهم، ويجلس كل رب أسرة على رأس صينيته (مائدته) ويوزع الطعام على الجالسين.
"طه المحفوضي" موظف بالمعاش يحكي لـ"إسلام أون لاين.نت" عن تلك الظاهرة الأسوانية بجدارة التي تتجدد كل رمضان: "بعد خروجي على المعاش من سلاح الحدود -منذ سنوات كثيرة- أكرمني الله بقطعة أرض كانت بعيدة عن العمران آنذاك، فكنت أحرص على إخراج صينية الإفطار في المندرة (غرفة استقبال الضيوف في الصعيد) مع فتح الباب على مصراعيه لرؤية المارة الذين لا يجدون مطاعم تقدم وجبات إفطار في تلك المنطقة، ودعوتهم".
ويواصل الحديث ابنه حمدي الموظف بإدارة أوقاف أقليت قائلا: "سافرت عدة محافظات وشاهدت أهلها يقدمون الوجبات السريعة أو بعض التمر أو العصير للمسافرين على الطريق.. لكن أن يتم إجبار الناس على النزول وتناول طعام الإفطار على مائدة فهذه خاصية تتميز بها أسوان لذلك فنحن متمسكون بها ونتوارثها جيلا بعد جيل".
ويضيف: "الحقيقة أنني لم أكن أعرف مغزى هذا السلوك إلا عندما كبرت.. ففي الصغر كنا نقلد ونفرح بالأكل خارج المنزل مع أصحابنا الصغار وبجوار آبائنا، بل كنا نبحث عن الصينية التي تحوي طعاما أفضل وأشهى لنجلس عليها.. وكان آباؤنا يجلسوننا مع بعضنا نحن الصغار ويقومون بتوزيع النايب علينا وهو نصيبنا من اللحوم أو الطيور".
"ومن المعروف حتى اليوم أن يجلس رب الأسرة على الصينية التي خرجت من بيته؛ لأنه يعرف ما بها حيث سيتولى توزيع "النايب" على مشاركيه"، بحسب المحفوضي.
أما خالد عبد الرحمن (سائق) فيقول: "لقد اعتدنا منذ أيام المرحوم والدي على هذه العادة، إلا أنني بحكم عملي قد أضطر للإفطار خارج المنزل -لكن الصينية في البيت تخرج كالمعتاد- وأتعرّض لنفس هذه المواقف، حيث نجد أهالي القرى الموجودة على الطرق السريعة بطول المحافظة يفعلون نفس الشيء وكأنه ميراث أسواني أو عرف وتقليد يتمسكون به".
ويستطرد "أحيانا أُسرع حتى لا يوقفني أحد وأستطيع الوصول إلى البيت في وقت مبكر لكنني لا أفلح في كثير من الأحيان؛ لأنني إذا (فلتُّ) من أحدهم يصطادني الآخر".
لا خصام على طعام
من جهته يقول عبد الحافظ الضبعة أحد القيادات الشعبية بأسوان: "نخرج بما أفاء الله به علينا من خير وفضل طوال الشهر الكريم في الصينية الكبيرة، ومعنا جيراننا الذين يفعلون نفس الشيء، في صورة من صور الترابط والتكافل الاجتماعي فيما بين أبناء البلدة أو الحي الواحد".
وتعيد هذه الصورة -وفقا للضبعة- "قيمة أكل العيش والملح معا وتأكيد المحبة والود وعدم التخاصم بين أبناء القرية أو الحي الذين يجتمعون على هذه الصواني الرمضانية صدفة فيذوب ما كان بين بعضهم من خلافات حول أمور المعيشة اليومية، دون حتى أن يذكروها أو يتعاتبوا فيها".
ويردف: "كما أن هذه الصواني تكون ملاذا لمن تأخر عن اللحاق بموعد الإفطار في بيته حيث نقوم بتوقيفه بدابته سواء كانت سيارة أو ماشية أو حتى إن كان ماشيا على قدميه، لتناول طعام الإفطار، وإن رفض وكان من أهل البلدة وبيته بعيد نأخذ عليه حق عرب يستوجب منه الاعتذار والإفطار معنا في يوم آخر".
ويلتقط خيط الحديث صالح الشوكي (مزارع) قائلا: "لقد اعتدنا هذا الفعل وتوارثناه عن آبائنا وأجدادنا ونوّرثه لأبنائنا من خلال إشراكهم في تجهيز وإعداد الصواني الرمضانية التي تضم كل خيرات ربنا.. لدرجة أننا لا نفطر داخل بيوتنا طوال الشهر الكريم، ونفس الشيء تفعله حريمنا (زوجاتنا) ولكن لبعض الأيام فقط".
ويوضح "حيث تجتمع السيدات الكبار في أحد البيوت وكل واحدة معها صينيتها لتناول الإفطار الجماعي مع البنات الصغيرات والزوجات الحديثات.. وإن كانت هذه الظاهرة بدأت تندثر بشكل كبير بين النساء، فإنها ستظل مستمرة لدى الرجال إذ تعتبر فرصة لتقوية العلاقات الاجتماعية وتصفية الخلافات التي تقع طوال العام سواء على الجيرة أو الزراعة وغيرها".
06/11/2014