أما آن الأوان لفرنسا أن تعتذر عن جرائمها الاستعمارية؟
...............................................................
| |
الندوي | |
محسن الندوي
.................
مقدمة:
خضعت مجموعة من دول العالم العربي للاستعمار الفرنسي؛ الذي بدأ في اختراق المنطقة المغاربية منذ 1832 من خلال احتلال الجزائر؛ ووصلت السيطرة الاستعمارية ذروتها بعد فرض الحماية على المغرب سنة 1912 .
و نفس الوضع عاشته سوريا في المشرق العربي؛ فقد فرض الانتداب الفرنسي عليها بضوء أخضر من عصبة الأمم المتحدة عام 1922؛ و ذلك بادعاء المساعدة في إنشاء مؤسسات للدولة؛ بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية. و خلال فترة الانتداب هذه كانت الدولة الخاضعة للانتداب الفرنسي موحدة؛ تجمع سوريا و لبنان؛ و بعد انتهاء فترة الانتداب في أواخر أربعينيات القرن العشرين؛ نشأ كيانان مستقلان هما الجمهورية السورية والجمهورية اللبنانية. و قد استمرت الهيمنة الاستعمارية الفرنسية؛ حتى حدود الستينيات من القرن العشرين (بخصوص المغرب العربي)؛ حيث انسحبت فرنسا على وقع مقاومة شرسة؛ سواء في المغرب أو في الجزائر أو في تونس ... لكن هذا الانسحاب لم يكن تاما؛ لأنه كان من جنس الاستقلال المشوه و الناقص الذي قبل به الانتهازيون؛ خدمة لمصالحهم الخاصة؛ و ضدا على مصلحة أوطانهم.
المبحث الاول - الاستعمار الفرنسي للدول المغاربية : مقاربة تاريخية
تعرضت الجزائر للغزو الفرنسي في عام 1830م، ويعود الطمع الفرنسي في الجزائر إلى عهد نابليون، حيث كان يعتبر الجزائر سوقًا خارجية ضرورية لتطوير الصناعة الفرنسية؛ ولذلك قررت فرنسا احتلال الجزائر ولم يبقَ أمامها إلاَّ الذريعة المناسبة للغزو. ووجدت فرنسا ضالتها عندما عجزت الجزائر عن سداد دينها لفرنسا، وحدثت بينهما تجاذبات ثُمَّ منازعات، وفي إحدى هذه المنازعات قام حسين باشا والي الجزائر بضرب القنصل الفرنسي بمروحة كانت في يده، واتخذت فرنسا هذا الحادث التافه مبرِّرًا لاحتلال الجزائر. ومن ثَمَّ فرضت فرنسا الحصار على ميناء الجزائر في شهر يونيو 1827م والذي استمر حتى عام 1830م، حيث تم اجتياح الجزائر عسكريًّا بقُرابة ستين ألفًا من الجنود الفرنسيين، ودارت معركة غير متكافئة انتهت بتوقيع حسين باشا وثيقة استسلامه. وفي صباح يوم 5 من يوليو 1830م دخلت القوات الفرنسية إلى مدينة الجزائر، وقد استغرق إخضاع كافَّة المدن الجزائرية أربعين عامًا كاملة؛ بسبب مقاومة الشعب الجزائري الباسلة.
وقد هبَّ المغرب لنصرة الجزائر بعد وقوعها في براثن الاحتلال الفرنسي، وقد كانت الدولة المغربية في هذه الفترة وحتى منتصف القرن التاسع عشر دولة قوية ومُهابة، وذلك على الرغم من عدم تمكُّنها من تخليص مدينتيها سبتة ومليلة من يد الاحتلال الإسباني، فإنَّ الدولة المغربية هي الدولة العربية الوحيدة التي لم تنضوِ تحت راية الخلافة العثمانية، ورغم ذلك استمر المغرب في مساندة المقاومة الجزائرية بعد أن عجز الجيش العثماني عن حمايتها.
وبالطبع لم تكن المساعدات المغربية خافية عن المستعمر الفرنسي الذي اقتنص هذه الفرصة وكشف عن أغراضه الاستعمارية تجاه المغرب، فأقدمت فرنسا على التعجيل بغزو المغرب بحجة إيقاف الإمدادات التي تصل منها إلى الجزائريين فتعينهم على التمرد والمقاومة. وبالفعل استطاع الجيش الفرنسي أن يضع قدمه في المغرب بعد انتصاره على جيشه في معركة وادي إيسلي في 14 من أغسطس 1844م، وأُرغمت المغرب على الدخول في معاهدة حماية مع فرنسا.
المبحث الثاني- انتهاكات فرنسا لحقوق الانسان المغاربي في الحقبة الاستعمارية :
المطلب الاول - تصريحات القادة الفرنسيين المحرّضة على انتهاكات حقوق الانسان ابان الاستعمار:
لقد ارتكبت المجازر والمذابح الجماعية في حق شعوب مدنية كل ذنبها أنها رفضت وجود الأجنبي على أرضها فكان ذلك فمنذ السنة الأولى للاحتلال بالجزائر أي منذ 1830 ، جاء في تقرير اللجنة الإفريقية عام 1833 إلى الحكومة الفرنسية التي كانت كلفتها بالتحقيق في الجرائم ما يلي:
"هذه هي طريقتنا في الحرب ضد العرب.. قتل الرجال وأخذ النساء و الأطفال ووضعهم في بواخر ونفيهم إلى جزر الماركيز البولينيزية باختصار: القضاء على كل من يرفض الركوع تحت أقدامنا كالكلاب، لقد أحصينا القتلى من النساء والأطفال فوجدناهم ألفين وثلاثمائة، أما عدد الجرحى فلا يكاد يذكر لسبب بسيط هو أننا لم نكن نترك جرحاهم على قيد الحياة" الضابط الفرنسي مونتايناك :"لقد حطّمنا ممتلكات المؤسسات الدينية وجردنا السكان الذين وعدناهم بالاحترام.. وأخذنا الممتلكات الخاصة بدون تعويض .. وذبحنا أناسا كانوا يحملون عهد الآمان .. وحاكمنا رجالا يتمتعون بسمعة القديسين في بلادهم.. لأنهم كانوا شجعانا."
المطلب الثاني - جرائم فرنسا متعددة نذكر منها :
اولا- عمليات الإبادة الجماعية:
لقد كان الضباط الفرنسيون يعملون ما في وسعهم للقضاء على شعوب بأكملها بالبلدان المغاربية المستعمرة، وخاصة بالجزائر ومحو شخصيتهم الوطنية وهويتهم العربية والاسلامية ، وهذا بإراقة دم السكان الأبرياء العزل وتنظيم حملات إبادة جماعية تقشعر الأبدان لفظاعتها ويصعب على العقل البشري تصورها، وهذه بعض العينات و النماذج الدالة على ذلك:
في 26 نوفمبر من عام 1830 نظمت الحامية الفرنسية في مدينة البليدة بالجزائر مذبحة رهيبة ضد السكان العزل، لم يرحم فيها شيخ مسن ولا عجوز ولا امرأة ولا حتى الأطفال الرضع. لقد تفنن الضابط ترولير قائد الحامية في تنظيم هذه المذبحة بحيث حول المدينة إلى مقبرة في بضع ساعات ، إذ امتلأت الشوارع بجثث القتلى الذين يجهل عددهم . لقد وقعت هذه الجريمة على إثر الهجوم الذي نظمه المقاومون ضد الحامية الفرنسية بالمدينة، وبعد انسحاب هؤلاء قامت القوات الفرنسية بالانتقام من السكان العزل.وقد بلغ عدد القتلى في مدينة سطيف الجزائرية في مايو 1945م ما يقرب الأربعين ألفاً.
ويشنع الكونت هيريسيون على هذه القبائح التي لا مبرر لها فيقول : " فظائع لا مثيل لها، أوامر الشنق تصدر من نفوس كالصخر يقوم بتنفيذها جلادون قلوبهم كالحجر.. في أناس مساكين جُلُّ ذنبهم أنهم لايستطيعون إرشادنا إلى ما نطلب إليهم أن يرشدونا إليه ".
وقد تفنن المستعمرون في طرق إبادة هذه الشعوب، ومما أبدعوه في هذا الباب طريقة يسمونها "جهنم" حيث يتبع الجنود الهاربين من النساء والأطفال والرجال إلى الكهوف فيشعلون عند باب الكهف ناراً عظيمة، فيموت من بداخله حرقاً أو خنقاً ".
ويعترف الرائد مونتانياك الذي كان يقود الجيش الفرنسي الاستعماري بنواحي سكيكدة عام 1843 بجريمة قطع رؤوس العرب، لاعتقاده أن العرب بدءا من خمسة عشر سنة يجب أن يقتلوا ، وباعتبار آخر:" يجب أن نبيد كل من يرفض الزحف كالكلاب عند أرجلنا..." كما اشتهر هذا القائد العسكري بممارسة التقتيل ضد المدنيين حتى أثناء توقف المقاومة المسلحة، ويفضل تقطيع الرؤوس بدلا من الإيداع في السجن، واستراتيجيته المفضلة كانت حرب الإبادة وتقتيل السكان الأصليين دون أدنى اعتبار لجنسهم.
وفي هذا الصدد كتب مونتانياك لأحد أصدقائه :" تطلب مني ماذا كنا نفعل بالنساء، كنا نحتفظ ببعضهن كرهائن، بينما كنا نقايض أخريات بأحصنة وبيع ما تبقى منهن في المزاد العلني كقطيع غنم ، ويقول في موضع آخر:" هذه هي طريقتنا في الحرب ضد العرب يا صديقي.. قتل الرجال وأخذ النساء و الأطفال ووضعهم في بواخر ونفيهم إلى جزر الماركيز البولينيزية باختصار : القضاء على كل من يرفض الركوع تحت أقدامنا كالكلاب".
ثانيا- الخضوع والاستعباد من اجل مصالح فرنسا :
والتي يلخصها قادة فرنسا المستبدين بما يلي "يستطيع العرب أن يثوروا, لكن سوف يتم إدماجهم.. السكان المحليون يجب أن يوضعوا أمام الخيار الضيق وهو إما أن يندمجوا أو يختفوا" .أما في المغرب, وحيث التركيز على البعد العسكري فقط, فإن التأريخ الرسمي لعهد الحماية المغربية بدأ سنة 1912 بالتوقيع على معاهدة فاس بين فرنسا والسلطان ، فيما كان الغزو الفرنسي العسكري على الأرض قد بدأ عام 1907, ولم ينته عملياً إلا باستقلال المغرب كلياً عام 1956. وخلال فترة الاستعمار الأولى 1912 إلى 1934 عملت فرنسا على انخراط المغاربة في جيشها الإمبراطوري الذي خاض الحرب العالمية الأولى, وزادت نسبة المغاربة في الجيش وأعداد قتلاهم بشكل كبير في حقبة ما بعد الحرب ووصولاً إلى مرحلة الحرب العالمية الثانية. إن نسبة الفرنسيين في الفرق المتمركزة في المغرب, أو التي خاضت المعارك انطلاقاً من المغرب انخفضت بعد الحرب الأولى إلى ما يقارب 40% فقط، في حين كان البقية من المغاربة. فالجيش الفرنسي مثلاً في الحربين العالميتين كانت معظم قطاعاته المنطلقة من أفريقيا مشكلة من جنود أفارقة سود تحت قيادة الضباط الفرنسيين للدفاع عن "مصالح فرنسا الإمبراطورية" ومحمياتها الأفريقية.وكان من الآثار بالغة التدمير لتلك السياسة هو شحن العلاقات الشعبية بين المحميات الأفريقية بالتوتر والكراهية بسبب استخدام قطاعات عسكرية مكونة من شعب أفريقي معين لاحتلال أو قمع شعب أفريقي آخر. مثلاً استُخدِم السنغاليون في الحرب ضد الجزائر والمغرب, وهكذا, بما كان يوفر استراتيجية تفريق إقليمي تضمن عدم بروز أي روح كفاحية جماعية ضد القوة المستعمِرة نفسها, وتحويل العداء إلى ما بين الشعوب الخاضعة للقوة المستعمرة للدفاع عنها وعن محميتها المغربية".
ثالثا- تجويع الناس وافقارهم :
لقد وظف المستعمر الفرنسي المستبد أبناء جلدته في مؤسسات الدول المغاربية المستعمرَة، وأقصى أهل البلاد الأصليين ، ومن ذلك أن فرنسا وظفت في الجزائر في الدوائر العقارية 200 موظف منهم ثمانية فقط من الجزائريين، فيما لم يبلغ عدد المغاربة في وزارة الشؤون الإجتماعية في المغرب سوى أربعة من الحُجَّاب فيما قارب الفرنسيون المائتين والخمسين.
وقد كان العمال في صفاقص بتونس من عمال شركة الفوسفات الفرنسية يسكنون بمعدل 10 عمال في كل كوخ، فيما تحدثت الصحف الفرنسية عن مدينة التنك ( مراكش ) حيث يسكن 200000 من العمال وعائلاتهم في بيوت أو أكواخ من التنك أو الخشب الذي يلتقطونه من مخلفات الشحن، وقد تحدثت إحدى الصحف الفرنسية عن القسوة البالغة التي يعيشها العمال المغاربة وعائلاتهم في هذه البيوت من غير توفر أي إجراءات تضمن صحتهم وسلامتهم.
ونتيجة لضعف رواتب العمال في مراكش وانتشار الفقر بأبشع صوره كتب أحد أطباء وادي الداد في جنوب مراكش: " إن الأطفال في هذه البلاد يأكلون التراب. لماذا ؟ أذلك من الفقر أو الجوع أم أنها عادة مجهولة المنشأ ؟ لا أستطيع أن أقول شيئاً، ولكن هذا الواقع ماثل هنا. إن الأطفال يأكلون التراب ويصابون بالأمراض الخطيرة : فقر الدم وتضخم الطحال.. ".
ورغم الاستغلال الواسع للموارد الطبيعية والقوى البشرية فإن المستعمر لم يقدم أبسط الخدمات الإنسانية وهي الصحة والتعليم ففي الجزائر التي اعتبرتها فرنسا جزءً منها لم يستطع سوى 12% من أطفال الجزائر ممارسة عملية التعلم، وانخفضت النسبة في مراكش إلى 10%، وفي أفريقيا الغربية إلى 7.6 %، وفي تشاد إلى 4.7%، فيما ارتفعت في أفريقيا السوداء إلى 18% من أطفال تلك البلاد.
ويخلص هنري كلود إلى أن نسبة التعليم في المستعمرات الفرنسية جملة لا يتجاوز 9 % من أطفال المستعمرات الفرنسية.
وأما الخدمات الصحية فجرى تأمينها في المناطق التي ينتشر فيها الفرنسيون فيما كان لكل 10000 جزائري طبيب واحد، وتصل هذه النسبة في الأقاليم الجنوبية للجزائر إلى 30000/1، وفي مراكش 45000/1 فيما لكل 50000 شخص في غينيا طبيب واحد.
رابعا- جرائم فرنسا النووية في شمال افرقيا:
في 13 فبراير من سنة 1960م نفذت فرنسا تفجيرا نوويا (عملية اليربوع الأزرق)في منطقة (رفان) في أقصى جنوب غرب الصحراء الجزائرية ، بلغت قوته ستون(60)كيلو طن ، أي ما يعادل ثلاثة أضعاف قوة القنبلة التي ألقت بها الولايات المتحدة الأمريكية على هيروشيما في عام 1945م. هذه القنبلة تلتها قنبلة (اليربوع الأبيض) ثم (اليربوع الأحمر) حسب ترتيب الألوان الثلاثة للعلم الفرنسي . و في الأخير اختتمت فرنسا جرائمها بالقنبلة الرابعة و الأخيرة التي سميت (اليربوع الأخضر). و قد طالت هذه الجرائم فترة ما بعد الاستقلال ، حيث نفذت فرنسا ما بين 1960-1966م أكثر من عشرين تفجيرا نوويا على الأراضي الجزائرية ؛ و ما يزيد عن أربعين تجربة نووية ، مما أدى إلى تلوث المنطقة برمتها في محيط مائة وخمسين كلم من موقع الانفجار .
و هنا تجدر الإشارة إلى أن جزر بولينيزيا الاستوائية الموجودة في قلب المحيط الهادي ، قد عاشت نفس التجارب النووية مع فرنسا .
و قد استهدفت فرنسا الجار الغربي للجزائر ، أي المغرب ، بدءا بضرب أسوار مدينة طنجة بسلاح المدفعية في السادس من غشت 1844م بقيادة (دو جوانفيل). و في الحادي عشر من غشت 1844م ضربت وحدات الأسطول الفرنسي مرسى الصويرة . و في الرابع عشر من غشت اندلعت معركة إسلي ؛ ليوقع المغرب بعدها معاهدات أفقدته هامشا كبيرا من سيادته.
لا ننسى أن فرنسا تحالفت مع إسبانيا في مواجهة المقاومة الريفية الباسلة بسلاح الغازات السامة المحظورة دوليا بموجب معاهدة فرساي و مواثيق جنيف و الجمعية العامة للأمم المتحدة ، و ذلك بعد فشل إسبانيا في إحراز أي انتصار ضد بطل الريف محمد بن عبد الكريم الخطابي . و تؤكد الكاتبة الإسبانية ماريا روسا دي مادارياغا تورط فرنسا في حرب الغازات السامة إلى جانب إسبانيا ، من خلال رسالة القايد حدو بن حمو إلى امحمد ، أخ عبد الكريم الخطابي ، المؤرخة في 24 يونيو 1922م( وجدت في أرشيف الوزير الفرنسي المكلف بالشؤون الخارجية في المغرب ، المجلد 518 ) أخبره فيها بأن باخرة فرنسية وصلت في السادس عشر من الشهر المذكور إلى مليلية محملة بـ 99 قنطارا من الغازات ، دون تحديد نوعها ؛ فأخبره بأنه قد تم إرسال ثلاثمائة جندي إلى فرنسا ليتدربوا في مصنع على كيفية تركيب و استعمال الغازات السامة خلال الحرب.(مغاربة في خدمة فرانكو : ص:41 ).
هذا، وقد كشف برينو باريلو باحث في التاريخ الفرنسي متخصص في التجارب النووية الفرنسية في ندوة تاريخية عقدت بالعاصمة الجزائر ، أن فرنسا استخدمت 42ألف جزائري ك" فئران تجارب" في تفجير أولى قنابلها النووية بصحراء رقان في أقصى الجنوب الجزائري ، الأولى كانت بتاريخ 13أكتوبر/تشرين الأول 1960و الثانية تم تفجيرها في 27ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه . وأشار باريلو الى إنّ معظم الصحراء الجزائرية متضررة من الاشعاعات النووية المنتشرة عبر الرياح، ويبقى سكان تلك المناطق مهددين بما تفرزه شظايا البلوتونيوم، موضحا إنّ اتفاقية إيفيان التي وقعتها فرنسا مع جبهة التحرير الجزائرية والتي كانت مقدمة لاستقلال البلاد فيما بعد، نصت على استكمال الطرف الفرنسي لتجاربه النووية في الصحراء الجزائرية، مضيفا انّ فرنسا أجرت 210تجارب نووية بين 1960و1996، وتعدّ بذلك ثالث قوة نووية بعد الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي البائد..
المبحث الثالث – فرنسا اليوم والحنين الى الاستعمار العنصري:
اولا – فرنسا اليوم :" الذئب ارتدى لباس الحمل "
بمناسبة احتفال فرنسا بعيدها الوطني الذي يخلّد في 14 يوليوز كل عام، تظاهر مئات الأشخاص يوم الثلاثاء 13 يوليوز2010 في باريس رافعين لافتات تطالب فرنسا بإنهاء ما أسموه علاقات التبعية التي تربطها بمستعمراتها السابقة في أفريقيا. وردد المشاركون في المسيرة هتافات تندد بدعوة الرئيس نيكولا ساركوزي لقادة 13 بلدا أفريقيا للمشاركة في احتفال فرنسا اليوم بعيدها الوطني .واعتبر المتظاهرون أن الهدف من تلك الخطوة هو "تأكيد ولاء" تلك البلدان لباريس، في الوقت الذي تحل فيه الذكرى الخمسون لاستقلال 14 مستعمرة فرنسية سابقة في أفريقيا الواقعة جنوب الصحراء.وردد المحتجون عبر مكبرات الصوت هتافات تندد بما أسموه "الاستعمار الجديد" الذي تمارسه فرنسا في البلدان الأفريقية التي كانت تخضع لحكمها المباشر.وقالت القيادية في الحزب الجديد المناوئ للرأسمالية، جيزيل فيلهاندلير إن المشاركين جاؤوا للتعبير "عن استنكارهم لمحاولة الذئب ارتداء لبوس الحمل"، مشيرة إلى أن السلطات الفرنسية تسعى إلى "استغفال الأفارقة واللعب على ذاكرتهم التاريخية حينما تدعوهم للاحتفال في العاصمة الاستعمارية السابقة بتحررهم النسبي من نير الاحتلال عام 1960".وأضافت السياسية اليسارية أن المتظاهرين يريدون إيصال رسالة إلى قادة فرنسا، مفادها أنه "يجب على باريس إنهاء علاقات التبعية التي تربطها بالمستعمرات السابقة وإلغاء ديونها على تلك البلدان وإغلاق قواعدها ومراكزها العسكرية في أفريقيا التي تضم حوالي 8000 جندي".ونددت فيلهاندلير بما وصفته بتواطؤ الحكومات الفرنسية المتعاقبة، منذ 1958 مع الأنظمة الاستبدادية والانقلابية في القارة الأفريقية، واعتبرت أن ذلك النهج السياسي أدى إلى "نهب موارد البلدان الأفريقية من كبريات الشركات الفرنسية والحكام المحليين الفاسدين وإبقاء الأغلبية الكاسحة من سكان تلك البلدان في حالة من الفقر المدقع والجهل المطبق".
ثانيا - فرنسا تمجّد الحقبة الاستعمارية الاجرامية قانونا وتشريعا:
أقر البرلمان الفرنسي قانونا سمّي بقانون العار قانون 23 فبراير2005 ، القانون الذي مجّد الأعمال الشنيعة التي قام بها الاستعمار الفرنسي في مستعمراته المختلفة عبر العالم نظرا لما يحتويه من تضليل للحقائق وتشويه وتحريف للتاريخ ونظرا لإهانته لذاكرة الشعوب وتاريخها.
ينص هذا القانون في مادته الأولى على ما يلي: «تعبر (الأمة الفرنسية) عن عرفانها للنساء والرجال الذين شاركوا في المهمة التي أنجزتها فرنسا في مقاطعاتها السابقة بالجزائر، المغرب، تونس والهند الصينية وفي كل البلدان التي كانت تحت السيادة الفرنسية. وتعترف (الأمة الفرنسية) بالآلام التي كابدها والتضحيات التي بذلها المرحلون الأعضاء السابقون في التشكيلات الإضافية والمدمجون، المفقودون والضحايا المدنيون والعسكريون خلال الأحداث المتعلقة بمسار استقلال هذه المقاطعات والأقاليم السابقة وتعرب لهم ولعائلاتهم بصورة علنية عن عرفانها...».
ان القانون رقم 158-2005 لـ 23 فبراير 2005 المتعلق بعرفان الأمة وبالمساهمة الوطنية لفائدة الفرنسيين المرحلين أهمل وأغفل جملة وتفصيلا الطرف الآخر، أو بالأحرى الوجه الأسود للاستعمار الفرنسي والممارسات اللأنسانية والجرائم والنهب والسرقة والتنكيل والتعذيب والتجهيل وطمس الهوية ومحو الشخصية والتاريخ والدين.
كما نص القانون على إدخال مقررات وبرامج دراسية جديدة تبرز الإيجابيات الحضارية للحقبة الاستعمارية!. وليس من قبيل الصدف أيضا أن تقرر السلطات الفرنسية إقامة نصب تذكاري بمقبرة «مارينيان» بجنوب فرنسا تخليدا وتمجيدا لأعضاء سابقين في منظمة الجيش السري التي اغتالت وقتلت عشرات الآلاف من الجزائريين.
والتساؤل الذي يلح في الطرح هو : كيف تصادق فرنسا على قانون يمجّد الاستعمار والأعمال الوحشية في عصر العولمة ومجتمع المعرفة والمجتمع الرقمي، في عصر حقوق الإنسان والعدالة والمساواة والحوار بين الشعوب والأمم والحضارات والديانات!
يبدو أن بلد «الحرية ـ العدالة ـ المساواة» حنّ إلى القرنين الثامن والتاسع عشر ليعود من النافذة ويعود ويذّكر الإنسانية جمعاء بأعمال يخجل منها أي إنسان في العالم ينعم بعقل سليم وبقيم إنسانية.
ان قانون 23 فبراير 2005 يعتبر بكل المقاييس قانون عنصري، يزّيف ويحرّف التاريخ والذاكرة الإنسانية كما يعتبر تدخلاً سافراً في شؤون المستعمرات السابقة لفرنسا.
ثالثا- فرنسا اليوم دولة الاستعلاء بامتياز:
في محطّة جولته المغاربية في الجزائر بعد فوزه مباشرة، أعاد الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي تأكيد موقف الإدارات الفرنسية من الجرائم والارتكابات التي مارستها إدارات الحرب الاستعمارية ضدّ الشعب الجزائري، في الإقرار بما حدث ولكن من دون الاعتراف بالمسؤولية وما يترتّب عليها. وفي لقاءاته وتصريحاته الصحافية، أصرّ ساركوزي على القول «انسوا التاريخ والثورة والجرائم وتعالوا نتحدّث في الأمور التي تهمّ بلدينا في الوقت الحاضر كأمور النفط والغاز والبزنس»!.
أما في محطّته الإفريقية في 2007 فقد أغضب الرئيس الفرنسي الأفارقة حين قال «إن الأفارقة لا تاريخ لهم»، وذلك في خطبة ألقاها في العاصمة السنغالية داكار، ذكر فيها «أن مأساة إفريقيا تكمن في أن الرجل الإفريقي لم يدخل كلياً إلى التاريخ، والأفارقة لم يقحموا أنفسهم حقيقة في المستقبل»!. ودفع هذا الكلام المؤرخة أدام با كوناري وهي زوجة الرئيس المالي السابق والأمين العام للاتحاد الإفريقي ألفا عمر كوناري إلى حضّ الأكاديميّين الأفارقة إلى كتابة تاريخ القارة، ليكون ذلك بمثابة ردّ على الرئيس الفرنسي. وقالت باكوناري إن تلك التأكيدات الساركوزية مبنية على كليشيهات وعلى نظريات «أوكليدية» حول إفريقيا وعلى تصور استعماري، وهي تقول «إن إفريقيا لا تاريخ لها»
رابعا- فرنسا اليوم : من الاستعمار العسكري الى الاستعمار الثقافي الفرنكفوني الجديد
ان مصطلح الفرنكوفونية، قد قام الجغرافي الفرنسي أونيزيم ركلوس Onesume Reclus باشتقاقه عام 1871م، وهو مكون من مقطعين: فرنكو (من فرنسا) وفوني (من صوت)، ونادراً ما تصادف هذا المصطلح قبل عام 1930م رغم اشتقاقه عام 1871م، إلا أنه أخذ في الانتشار منذ عام 1960م، وقد تم انتشاره عام 1962م عندما بدأت فرنسا إحياء النزعة الأدبية الإفريقية لبعض حكامها كليوبولد سنغور (السنغال) ، أو وهاماني ديوري (النيجر) ، أو الحبيب بورقيبة (تونس) ، أو بعض الحكام الآسيويين كالزعيم سيرمانوك؛ إذ أفردت مجلة إسبري Esprit عدداً خاصاً عن اللغة الفرنسية والمتحدثين بها وآدابهم، وانطلقت الكلمة.
يصف الكاتب المصري محمد حسنين هيكل الفرانكفونية بأنها "تيار غريب طارئ"، فيقول "وأخيراً وفجأة ظهر على ساحة المنطقة مشروع طارئ باسم الفرانكفونية، وهو مشروع منظمة غريبة لا تعبر بالنسبة إلى الأمة عن هوية، ولا أمن ولا مصلحة، ولا أمل، بل قامت على إنشائه الدولة الفرنسية بسلطتها، وتوجهه الدولة الفرنسية بأدواتها، وتديره الدولة الفرنسية بأجهزتها".
وقد اعتمدت فرنسا؛ في استعمارها الفرنكفوني الجديد على النخبة السياسية و الثقافية في البلاد التي استعمرتها مثل المغرب والجزائر وتونس ؛ لذلك كانت هذه النخبة أول حاضن لهذه الطموحات الاستعمارية؛ و أول مروج لها؛ و ذلك تحت يافطة الانفتاح اللغوي؛ و التبادل الثقافي؛ و ترويج قيم الحداثة .. والهدف طبعا الذي لا يخفى على احد، هو اقصاء اللغة العربية، عن طريق استبدالها تارة باللغة الفرنسية وتارة اخرى باللهجات المحلية وبالتالي محاولة طمس الهوية العربية والاسلامية لشعوب هذه البلدان وهو الامر الذي لم يحصل ولن يحصل ابدا.
والتساؤل الذي يطرح نفسه هو متى ستعتذر فرنسا لشعوب المنطقة عن فظائع حقبتها الاستعمارية ؟