الصراع.. على مياه النيل
...............................................................
| |
امرأة مصرية تملأ دلو مياه من شاحنة توزع المياه في قرية برج البرلس التي تقع على ضفاف النيل | |
القاهرة: محمد عبده حسنين
ما أن تهدأ الخلافات بين دول حوض نهر النيل حول توزيع حصص المياه وكيفية استخدام مياه أطول أنهار العالم (6695 كم)، حتى تنفجر مرة أخرى، وبوتيرة أسرع من سابقتها. فبين الحين والآخر يشتعل الصراع وتنفجر الأزمة بين دول الحوض العشر (مصر، والسودان، وأوغندا، وإثيوبيا، والكونغو الديمقراطية، وبوروندي، وتنزانيا، ورواندا، وكينيا، وإريتريا)، تتبع فيه كل دولة جميع حيل التفاوض وأدوات التهديد من أجل الفوز بأكبر قدر ممكن من المكاسب. لكن في النهاية تظل الأمور تراوح مكانها، وتفشل المفاوضات في الوصول إلى نتيجة، بسبب تمسك وتشدد جميع الأطراف.. فيبقى الوضع كما هو عليه.
تنقسم دول حوض النيل في هذا الخلاف إلى فريقين: الأول يضم دول المصب (مصر والسودان)، والثاني دول المنبع (باقي الدول العشر بقيادة إثيوبيا وتنزانيا). تعتبر دول المصب أن مياه النيل مصدرها الأساسي للحياة، وترفض تغيير الاتفاقات التاريخية القديمة التي منحتها حقوقا مكتسبة، بل وتطالب بزيادة حصتها الحالية من المياه. لكن في المقابل، تعتبر دول المنبع أن هذه المياه تنبع من أراضيها، وبالتالي فهي ملك لها ويجب أن تستفيد منها بشكل أكبر.
ومما يدعم هذا الخلاف ويشعله، ثبات كميات المياه وتزايد سكان دول حوض النيل وزيادة المشروعات الزراعية، حيث تتوقع إحصاءات غير رسمية صادرة عن منظمة الـ«نيباد»، أن يصل تعداد سكان مصر إلى 121 مليون نسمة بحلول عام 2050، فيما سيصل عدد سكان السودان في العام نفسه إلى 73 مليون نسمة، وإثيوبيا إلى 183 مليون نسمة. وبالإضافة إلى هذا، فما يزيد الأمر تعقيدا، تدخل جهات أجنبية، وعلى رأسها إسرائيل، بالتحريض لإشعال الأزمة وضرب المصالح العربية في أفريقيا. تفجر الأزمة حاليا مرة أخرى جاء بعد فترة سكون ليست بالطويلة، بدت وكأنها أشبه بـ«استراحة المحارب»، حيث بدأت هذه المرحلة الجديدة من النزاع بين دول المصب ودول المنبع في اجتماع وزراء دول حوض النيل في مايو (أيار) الماضي في العاصمة الكونغولية كنشاسا، بعد رفض مصر والسودان التوقيع على «اتفاق إطاري للتعاون بين دول حوض النيل» لإعادة تقسيم المياه، وإنشاء مفوضية لدول حوض النيل، ما لم ينص الاتفاق صراحة على ثلاثة شروط وبشكل واضح وليس في الملاحق الخاصة به. أول هذه الشروط، التأكيد على الحقوق التاريخية لكل من مصر والسودان في مياه النيل، التي ينظمها عدد من المعاهدات الدولية وقعتها دول بريطانيا وإيطاليا وبلجيكا خلال الفترة الاستعمارية. وثانيها ضرورة إخطار كل دولة مسبقا عن كل المشروعات التي يتم تنفيذها على النهر وفروعه بما يضمن تدفق المياه بشكل طبيعي. وثالثها عدم جواز تغيير أي من بنود هذه الاتفاقية القانونية الأساسية إلا بإجماع الآراء. أما البنود الأخرى الأقل أهمية، فيمكن التصويت عليها وفق قاعدة الأغلبية المطلقة، وفي جميع الأحوال ينبغي أن تكون دولتا المصب، مصر والسودان، ضمن هذه الأغلبية المطلقة.
هذا الأمر جعل دول المنبع تعلن أخيرا عن نيتها توقيع الاتفاق الإطاري، وإنشاء مفوضية دول حوض النيل من دون مصر والسودان مع فتح الباب لانضمامهما مستقبلا، بحيث تستطيع الذهاب إلى الدول المانحة لتمويل مشروعاتها النيلية والزراعية. والجهات المانحة تشمل: البنك الدولي، والبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وأميركا، والوكالة الكندية للتنمية الدولية، ووكالة التنمية الألمانية، ووزارة الخارجية الدانمركية، ووزارة الخارجية الهولندية، وهيئة التنمية الدولية السويدية، والوكالة الفرنسية للتنمية، ووزارة الخارجية الفنلندية، ووزارة الخارجية النرويجية، والمؤسسة الإنجليزية للتنمية الدولية.
وقد اتخذت هذه الجهات موقفا حاسما تجاه هذا الأمر، وأصدرت بيانا واضحا في بداية شهر يوليو (تموز) الماضى ، أكدت فيه «ضرورة إقامة مفوضية تشمل جميع دول الحوض العشر، باعتبارها الركيزة الأساسية لتوفير الرخاء والسلام والأمن لجميع شعوب دول الحوض». وشددت على «التزامها بدعم مبادرة حوض النيل، التي انطلقت عام 1999، بما يزيد عن 250 مليون دولار على هيئة منح ونحو مليار دولار على هيئة قروض كرد فعل لما أبدته دول حوض النيل مجتمعة من رغبة جادة للعمل معا من أجل تحقيق التنمية المستدامة والاستخدام المنصف للمصادر المائية».
وأوضحت الجهات المانحة أن قيام بعض الدول بتوقيع اتفاقية الإطار المؤسسي والقانوني لمبادرة حوض النيل، وإقامة المفوضية العليا من دون دول حوض نيل كاملة، لن يتيح تحقيق المنافع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية المرجوة من المبادرة، وبالتالي، فإن الجهات المانحة ستمتنع عن تمويل أي مشروعات ما لم توقع جميع الدول على الإطار القانوني للاتفاقية وأن تكون مصر والسودان ضمن المفوضية.
ورحبت مصر بموقف المنظمات والدول المانحة، وحذرت من تداعيات قيام دول المنبع بالتوقيع منفردة على أي اتفاق من دون انضمام دولتي المصب، مصر والسودان. كما حذرت من خطورة الاندفاع وراء ادعاءات زائفة لا أساس لها من الصحة تروجها أيد خفية في بعض دول المنبع تدعي زورا معارضة مصر جهود ومشروعات التنمية بهذه الدول، في حين أنها كانت وستظل الداعم الرئيسي والشقيقة الكبرى لدول حوض النيل.
ويعتبر محمود أبو زيد، وزير الري والموارد المائية المصري السابق ورئيس المجلس العربي للمياه، أن موقف الدول المانحة هذا ليس بجديد ولا يشكل مفاجأة. يقول إن هذه الجهات أكدت منذ دعمها لمبادرة حوض النيل عام 1999 ضرورة إقامة مفوضية تشمل جميع دول الحوض العشر، واشترطت التعاون بين هذه الدول وإقامة مشروعات مشتركة مقابل تقديمها الدعم اللازم.
ويقول محمود إبراهيم أبو العينين، أستاذ العلوم السياسية ووكيل معهد البحوث والدراسات الأفريقية بالقاهرة، إن موقف الجهات المانحة عامل إيجابي يحافظ على حقوق مصر والسودان التاريخية، وهو محاولة لتصحيح الخطوة غير الموفقة التي حاولت دول المنبع اتخاذها بمحاولة التوقيع على اتفاقية منفردة من دون موافقة دول المصب.
ويشير إلى أن عدم اعتراف هذه الدول «بحقوق مصر التاريخية والمعاهدات الدولية السابقة، هو أمر غير سليم وغير قانوني». ويشرح أن هذه الاتفاقيات «قانونية ورسمية ومعترف بها دوليا، كما أنها مرتبطة بتقسيم الحدود داخل القارة، وبالتالي لا يجوز الإدعاء بعدم الأخذ بها بدعوى أنها تمت في وقت احتلال، لأنها ستفجر مشكلات كبيرة بالقارة، ليس فقط على صعيد تقسيم مياه النيل، وإنما خلافات حدودية وقبلية، إلا إذا تراضت جميع الأطراف وبمحض إرادتها على تعديل هذه البنود بنصوص أخرى».
ترجع جذور هذا الصراع إلى ثمانين عاما مضت، وتحديدا إلى عام 1929، حين وقعت بريطانيا (الدولة الاستعمارية السابقة)، نيابة عن أوغندا وتنزانيا وكينيا، اتفاقا مع الحكومة المصرية يتضمن إقرار دول الحوض بحصة مصر المكتسبة من مياه النيل، وحق مصر في الاعتراض على إنشاء هذه الدول مشروعات جديدة على النهر وروافده. كما لحق بهذه الاتفاقية اتفاقية أخرى بين مصر والسودان عام 1959 منحت مصر بموجبها حق استغلال 55.5 مليار متر مكعب من مياه النيل ومنحت السودان 18.5 مليار متر مكعب من مياه النيل يحق لها استخدامها، على أن تتعاون الدولتان في دراسة وتنفيذ مشروعات أعالي النيل لتقليل فاقد المياه في هذه المنطقة وتعظيم إيراد النهر.
لكن، ومنذ استقلال دول حوض النيل في منتصف الستينات، هناك مطالبات متزايدة من جانب حكوماتها بإعادة النظر في هذه الاتفاقيات القديمة، بحجة أن الحكومات القومية لم تبرمها ولكن أبرمها الاحتلال نيابة عنها، وأنها جزء من ميراث الفترة الاستعمارية، كما أن هناك حاجة لدى بعض هذه الدول لموارد مائية متزايدة. ولذلك أعلنت دول مثل تنزانيا وإثيوبيا وكينيا منذ استقلالها، رفضها لهذه الاتفاقية وعدم الاعتراف بها. وظلت هذه الدول تهدد بتنفيذ مشروعات سدود وقناطر على نهر النيل لحجز المياه داخل حدودها والتقليل من كميات المياه التي ترد إلى السودان وبالتالي مصر. وعلى الرغم أن هذه التهديدات لم ينفذ أغلبها، فإنها تبقى جاهزة في كل وقت لتصب مزيدا من الزيت فوق النار.
ويقول أبو زيد إن «القضية معقدة وعميقة، وبالتالي تحتاج إلى وقت للوصول إلى حلول وسط، لكن بشرط عدم التصعيد بين هذه الدول والتحدث بلغة متشددة». ويرى أن الخلاف بين هذه الدول ليس في مبدأ الاستفادة من مياه النيل والحصص الممنوحة لمصر والسودان، ولكن في كيفية صياغة هذه البنود في الاتفاقية المزمع إنشاؤها.
ورجح أبو زيد وجود «أياد خفية ودول مثل إسرائيل تعبث في قضية مياه النيل وتحاول التأثير على دول المنبع للإضرار بمصلحة مصر». ويدعو الحكومة المصرية إلى «الحذر من ذلك، والاهتمام أكثر بتفعيل المشروعات المشتركة مع دول حوض النيل لعدم الإضرار بها، مع التركيز على النبرة الهادئة في الحوار مع هذه الدول، وعدم فرض شروط مسبقة تدفع هذه الدول إلى العناد والبعد عن الحوار».
ويعتبر أن قيام دولة في جنوب السودان لا يشكل خطرا كبيرا على موارد النيل وعلى حصة مصر من النيل، ويقول: «جنوب السودان سيستخدم حقه الطبيعي في المياه بالإضافة إلى مياه المطر، فالمشكلة ليست في قلة أو ندرة المياه، فما يستخدم من مياه النيل لا يتعدى 5%، وإنما المشكلة تكمن في إدارتها بطريقة تكاملية وحسن استغلالها من دون الإضرار بمصالح باقي الدول».
ويقول ضياء الدين القوصي، مستشار وزير الري السابق، إن هناك ما يزيد على 1600 مليار متر مكعب تصل مياه النيل كل عام، ولا يصل لدولتي المصب، مصر والسودان، منها، سوى 84 مليار متر مكعب، أي ما يعادل 5%، في حين أن الـ95% الباقية إما تستخدم في باقي دول الحوض، وإما تضيع أجزاء كبيرة منها في التبخر. إلا أن القوصي يعتبر أنه يتم تضخيم الأزمة أكثر مما تحتمل، ويقول: «مبادرة دول حوض النيل بدأت عام 1999، ويتم الآن التفاوض حول اتفاقية جديدة بشكل عادي وطبيعي». ويعتبر أن «مثل هذه الأمور العميقة والتاريخية، يجب أن تأخذ وقتا، فهناك كثير من الاتفاقيات الدولية التي استمر التفاوض عليها لأكثر من عشرين عاما، وبالتالي فإن عامل طول الوقت ليس مشكلة».
وعلى خلاف معظم الخبراء، يرى القوصي أن «لا إسرائيل ولا غيرها قادرة على تمويل مشروعات كبيرة في دول الحوض بحيث تأثر على حصة مصر من المياه»، ويشير إلى أن تكاليف السدود والمشروعات المائية مرتفعة للغاية، لا يقدر عليها غير الجهات الدولية المانحة، التي رفضت دعم أي مشروعات من دون أي اتفاق جماعي. ويقول: «الحديث عن تدخلات خارجية معظمه وهمي ومبالغ فيه».
ويستبعد محمود إبراهيم أبو العينين أن «يصل النزاع بين هذه الدول إلى حرب»، ويعتبر أنه «من الأفضل ومن مصلحة جميع هذه الدول التعاون فيما بينها والابتعاد عن تحريض الدول الأخرى، لأن هذه الدول تحاول الوقيعة بين دول القارة من أجل مصالح آنية، في حين أن على دول المنبع البحث عن مصلحتها الدائمة وليست الوقتية، التي تتمثل في التعاون مع جيرانها ومحاولة استغلال مياه النيل على النحو الأمثل».
ويرجع أبو العينين ضعف الدور التنموي المصري داخل هذه الدول إلى عدم وجود اتفاقيات بين هذه الدول تسمح بمشروعات مشتركة وإمكانية للتعاون، وهذا ما تسعى إليه، ففي حال التوصل إلى اتفاقية جديدة فيمكن لهذا الدور أن يزيد ويكبر. يشار إلى أن محاولات الوصول إلى صيغة مشتركة للتعاون بين دول حوض النيل، بدأت عام 1993 من خلال إنشاء أجندة عمل مشتركة لهذه الدول. ثم عام 1995، طلب مجلس وزراء مياه دول حوض النيل من البنك الدولي الإسهام في الأنشطة المقترحة.
وعام 1997، قامت دول حوض النيل بإنشاء منتدى للحوار من أجل الوصول لأفضل آلية مشتركة للتعاون فيما بينهم. ثم اجتمعت لاحقا عام 1998 من أجل إنشاء الآلية المشتركة التي تم التوقيع عليها في فبراير (شباط) 1999 في تنزانيا، وتم تفعيلها لاحقا في مايو (أيار) من العام نفسه، وسميت رسميا باسم «مبادرة حوض النيل». وتهدف إلى الوصول لتنمية مستدامة من خلال الاستغلال المتساوي للإمكانيات المشتركة التي يوفرها حوض نهر النيل، وتنمية المصادر المائية لنهر النيل لضمان الأمن والسلام لجميع شعوب دول حوض النيل.
وحرصت مصر منذ عشرينات القرن الماضي على المشاركة في بعض الأنشطة والآليات التي تحقق النفع لجميع دول حوض النيل، ومنها مشروعات تطهير الحشائش في أوغندا، الذي تقدم مصر له دعما يبلغ 18.5 مليون دولار، ومشروعات حفر الآبار في كينيا باستثمارات تقدر بنحو خمسة ملايين دولار، ومثلها في تنزانيا، ومشروعات التعاون بين مصر والسودان، بجانب برامج التدريب لمبعوثي دول حوض النيل في مصر، إلا أن نقطة ضعف الموقف المصري دائما أنها الدولة الأولى المستفيدة من هذا النهر، على الرغم من عدم وجود أي من منابعه بأراضيها.
المزيد: