بيكاسو المصرى
...............................................................
| |
يمثل رافع الحركة التالية لجيل الرواد المعروفين من أمثال سعيد وناجى وكامل وعياد (تصوير: محمد مصطفى) |
القاهرة: عبد الستار حتيتة
من يشاهد المعرض المقام في «قاعة بيكاسو» في ضاحية الزمالك بالعاصمة المصرية، يعتقد للوهلة الأولى أنه أمام تجربة حديثة من الأعمال الفنية التشكيلية المحفزة على التفكير والتخيل والاستمتاع بالفوارق الهشة بين مفردات المادة والروح والإنسان والحيوان والنبات. إنه معرض الفنان المصري سمير رافع، الذي تغرب في أوروبا قبل أن يلقى نحبه قبل نحو خمس سنوات. وحين تكتشف أن تجربته الغنية التي تعود لما قبل منتصف القرن الماضي، ما زالت قادرة على الصمود والمنافسة، تتملكك رغبة، ليس فقط لمشاهدة المعرض من جديد، بل لمعرفة الكثير عن هذا الفنان الغني والمستغني، الذي كان عازفا بطبعه عن الشهرة والأضواء.
ومن النادر في البلاد العربية أن يقتفي المتذوقون للفن أعمال فنان بعينه، إذ اعتاد غالبية الناس التعامل مع ما هو موجود أمامهم من أعمال، وما تلقي به مقادير المعارض التشكيلية الكثيرة المنتشرة في القاهرة. لكن بالنسبة إلى أعمال الفنان سمير رافع، فإن الوضع يبدو مختلفا، وكأن هذا الفنان أصبح على موعد من مرحلة جديدة من الشهرة وإثارة الجدل، بعد موته. وما يثير الشجون في أعماله المتنوعة بألوانها وتعبيراتها الخلابة، تلك الظلال التي تأتي من سيرته الذاتية، حيث عاش غريبا في بلاد الأغراب.
فرغم أنه من أهم مؤسسي حركة الفن التشكيلي المصري الحديث، فإن سمير رافع اختار لنفسه الغربة، وأمضى فترة كبيرة من أخريات حياته في اقتفاء أثر كبار الفنانين العالميين، بل التقى الكثير منهم وجها لوجه، وتدارس معهم مستقبل الفن واللون والتعبير بالفرشاة. ولد رافع في مطالع القرن الماضي، وبالتحديد في عام 1926. وكان على موعد مع طريق طويل لإعادة تشكيل المفردات الحياتية وإدخالها في سياقات مختلفة. واقترن ولعه بالرسم والتصوير بولعه بالكتابة الفنية، التي سخر لها نصيبا من وقته.. بدأ حياته بتأليف كتاب عن تاريخ الفن، واستمر في كتابة ما يرى أنه مفيد ومهم للقراء، من مقالات ومقابلات مع كبار الفنانين العالميين، مثل سلفادور دالي، وبابلو بيكاسو، وخوان ميرو، وجياكوميتي ودي كيركو، وغيرهم من أبرز فناني القرن العشرين. ولم يكن رافع فنانا منقطعا للفن وحسب، بل شارك في عدة أحداث سياسية مهمة شهدتها المنطقة العربية في القرن الماضي، منها الثورة الجزائرية، فأقام لفترة في الجزائر، وكان خلالها قريبا من الزعيم الثوري، الرئيس الجزائري فيما بعد، أحمد بن بيللا.
وجرت عليه بعض مواقفه السياسية، مشكلات عدة، ليعود إلى باريس مواصلا فيها حياته في محراب فنه، وحيدا ومريضا، حتى وفاته فيها في عام 2004، حيث ترك وراءه نحو ألف لوحة، وأكثر من ثلاثة آلاف رسم.
ويضم المعرض الضخم الذي خصصته قاعة بيكاسو في القاهرة لأعمال رافع مجموعة مختارة ومتميزة من أهم أعماله، يعود بعضها لأيام صباه الأولى، حتى أيامه الأخيرة التي اتسمت بقلة إنتاجه الفني. وترى في لوحاته التي اصطفت على جدران القاعة مجسمات لملامح بشرية وحيوانية ونباتية ذات ألوان منطفئة تعبر عن غربة الفنان وعذابه. تخرج رافع في كلية الفنون الجميلة بالقاهرة عام 1948 من قسم الزخرفة. وكان لبعثته إلى فرنسا للدراسة، في الخمسينات، وحيازته درجة الدكتوراه في تاريخ الفن من جامعة السوربون، وما تلا ذلك من سفر إلى الجزائر، علامة فارقة في مسيرته الفنية، نظريا وعلميا.
ويمثل رافع الحركة التالية لجيل الرواد المعروفين من أمثال سعيد وناجى وكامل وعياد. وتنقسم لوحاته إلى عدة مراحل فنية، منها رسومه الأولى وهو في مرحلة الصبا في أواخر ثلاثينات القرن الماضي، لكن الفترة الأكثر نضجا تبدأ بمرحلة تشمل أعماله في فترة الأربعينات (حتى 1947)، وتتميز بكثرة إنتاجه لأعمال ذات ملامح سريالية بألوان أحادية خافتة، تمتزج فيها المخلوقات في وجوه معبرة عن الوحدة وعن التحول أيضا، وكأن الفنان كان يريد أن يقول إن الكائنات تنتمي إلى أصل واحد، وإن تعددت أشكاله. أما المرحلة الثانية فهي تشمل الأعمال التي أنجزها رافع في عام 1948، وتبدو ملامح هذه الأعمال أكثر وضوحا رغم انتمائها للمدرسة السريالية نفسها، إلا أن ألوانها وخطوطها كانت أكثر تحديدا وأكثر لفتا للانتباه، بل أكثر استحواذا على لب المشاهد. أما الأعمال التي جاءت بعد ذلك، خاصة بعد سنة 1949، فقد بدا أن الفنان رافع كان يزيد من تكويناته اللونية والتجريدية، مع محاولات لربط هذا العالم الخيالي بالواقع المصري بتفاعلاته وإرهاصاته التي سبقت ثورة عام 1952. كما تضمنت لوحاته جانبا مما أنجزه خلال إقامته بقية عمره بباريس، وكذا أعماله التكعيبية، وتلك التي أدخل فيها تشكيلات عدة على مفردات المرأة. ترى وجه امرأة مهزومة الملامح بجواره وجه كلب بعينيه الصغيرتين، كرمز على الوفاء. وترى وجه امرأة منتصرة ومقتدرة، وبجواره نظرة الذئب الغادرة، كأنه يتربص بها.