| | | | تأملات في ثقافة القطيع ...............................................................
د. عبد القادر ياسين .......................
ثـمـة منظومتان لأثر الفقر على الشعـوب ، منظومة توّلد التذمر والرفض والتعبير عن ذلك بشكلٍ ظاهرٍ ، ومنظومة توّلد "الرضا بما قسم القضا" ... وهناك أسباب عديدة تؤدي إما للمنظومة الأولى وإما للمنظومة الثانية . والشعوب التي طال عهُدها بالإستبدادِ والقمع وتقديس الحكام و"الإمتنان" الشديد لهم هي الشعوب التي تعيش في ظلِ المنظومةِ الثانيةِ مكتفيةً بسخريتها من الأمور العامة واللاعبين على مسرح الحياة العامة في الأحاديثِ الخاصةِ. وفي بعض الشعوبِ تأخذ هذه الآلية شكل إفرازِ النكاتِ على السياسيين ، وغالباً ما تكون هذه النكات مرآةً لما كانت الشعوبُ تودُ أن تعبر عنه جهاراً ولكنها لفقدانها (لأسبابٍ عديدةٍ) سبل وإمكانية ذلك فإنها تترجم حقائق رأيها في شكل سخريةٍ ونكاتٍ تبلغ أحياناً حدَ العبقريةِ في قدرتها على تكثيف الآراء والانطباعات في عباراتٍ ومشاهدٍ صغيرةٍِ . وليس ثمـة شك في أن الحكامَ الطغاة يدركون بوضوح أن استقلال شعوبهم الاقتصادي ووجود طبقة متوسطة ذات استقلالية اقتصادية هما بوابة الجحيم بالنسبة لهؤلاء الحكام الطغاة ، والتي من خلالها ستمر الشعوبُ من "أرضِ السلبيةِ" إلى "أرضِ المشاركةِ والمسائلةِ" وهو آخر ما يرغب فيه الحكامُ الطغاةُ ، فكيف لهم بأن يسمحوا بأسئلةٍ علنيةٍ عن مصادرِ شرعيتهم.
السلبية والتعليم والعمل الجماعي
تقوم النظمُ التعليمية الحديثة في المجتمعات المتقدمة على أساليبٍ تربويةٍ لا يكون المدرسُ فيها بمثابة جهازِ إرسالٍ (مُحاضر) ولا يكون الطالبُ فيها بمثابةِ جهازِ إستقبالٍ (مُستمع) . وإنما تقوم على المُشاركةِ والحوارِ وتبادلِ وجهاتِ النظرِ وتقسيم التلاميذ إلى مجموعاتٍ تقوم بنفسها بالبحث عن الأجوبة والحقائق كما تقوم بتقديم خُلاصات بحثها بنفسها بعد جلساتِ تشاورٍ بين أعضائها وبعـدوقت يمضـيـه الطلاب في المكتبات . ويؤدي ذلك لتأصيلِ " روحِ الفريقِِ " وتعويدِ الأفرادِ على المُشاركة الإيجابية والإيمان بأن لكل إنسان الحقَ في البحث عنَ الحقيقة بنفسه والتعبير عما يُحصله من معارف... ويتم كلُ ذلك في جو تشيع فيه روحُ السماحة واحترام حق كل إنسان في الاختلاف دون أن يكون معنى الاختلاف تقسيم الناس إلى فريق أعلى وفريق أدنى . كـمـا يتم ذلك دون إضفاء "قدسية" على المدرسين أو المؤلفين أو حتى القادة . وبسبب ذلك تتأصل قيمةُ روحِ العملِ الجماعي الفريق والتي هي المصدر الأول لوجود مواطن إيجابي . والعكس صحيح ، ففي ظل نظم التعليم القائمة على التلقين وكون العلاقة بين المدرس والتلميذ هي علاقة بين "مُرسل" و"مُستقبِل" فإن روحَ العملِ الجماعي تذبل ولا يُتاح لها النمو المنشود ، ويكون من الطبيعي أن تنمو في ظل ذلك السلبية وما تعنيه من تقاعس عن المشاركةِ في الأمورِ العامةِ بعد أن تَرسَخَ في العقولِ أن واجبَ كل منا أن " يستقبل " المادة التي يرسلها المدرسُ ويحفظها عن ظهرِ قلبٍ ويقوم بمفرده بتفريغها على ورقةِ الإجابةِ . كذلك فإنه عندما يكون النظامُ التعليمي قائماً على "كمية المادة محل الدراسة" وليس "نوعية القيم المراد زرعها في العقول" ، وعندما يكرس النظامُ التعليمي "تقديس الحكام" و"الإمتنان العميق" لهم ، وعندما تسود الثقافة والبيئة التعليمية روحُ البعـدِ الواحد ، فالصوابُ هو أمرُُ محددُُ بالذات ، وليس روح التعددية وهي جوهر التمدن والتحضر والتقدم ، وعندما تخلو برامجُ التعليم من تأصيل قيمة قبول النقد وتعلم النقد الذاتي ، عندما تتوافر كل هذه الأبعاد في البرامج التعليمية والبيئة الدراسية فمن الطبيعي أن تكون مؤسسةُ التعليمِ قد شاركت ، بدورٍ رئيسي ، في تدعيمِ التفكيرالسلبي عند المواطنين في مواجهةِ الحياةِ والشؤون العامة والقضايا السياسية والمجتمعية بما في ذلك تقاعسهم المفهوم عن المشاركةِ في الحياةِ السياسيةِ وكفرهم بجدوى ذلك ناهيك عن إفتقادهِم في المقام الأول لعنصر الاختيار والذي هو جوهر عملية المشاركة في الحياة السياسية .
التفكيرالسلبي وسيادة القانون
تتشدق معظمُ الدول العربية بأنها " دول سيادة القانون " ، وهو أمر يحلق في "سماءِ الكلامِ والتمني" ولا وجـود لـه في الواقعِ . فمعظمُ هذه الدول تسود فيها القراراتُ الكبرى الصادرة عن " سيادة الرئيس" أو "صـاحب الجلالـة" ، وهي قرارات غير ديمقراطيةٍ وكثيراً ما تكون مساندة للفساد والانحراف والمصالح الشخصية مع غيبةٍ شبه كاملةٍ لسيادة القانون. وفي ظل مُناخٍ كهذا ، لا يكون من المُستغرب أن تتفشى السلبية ، فالناسُ يشعرون بجدوى المشاركة في الأمور العامة عندما تكون محكومةً بحقٍِ بسيادةِ القانون وعلى العكس فإنهم ينكمشون داخل ذواتهم ويتقاعسون عن المشاركةِ عندما تسود تصرفاتُ الأقوياءُ النابعة من الهوى أو المصلحةِ وغالباً ما تكون غير ذات جدوى بالنسبة للمجتمع . وهكذا ، فإن هناك علاقة طردية بين "عـدم سيادة القانون" و "سلبية المواطنين" .
لقد أفرزت الأنظـمـة العربيـة ما يمكن أن نطلق عليه " ثقافة القطيع " . فالحكومةُ من جهةٍ تتعامل مع الشعب كقطيع من الأغـنـام . والشعب ، من جهـتـه ، يعتاد على ذلك فيسلك المواطنون أشكالاً عديدة من السلوك تدخل كلها ضمن سلوك القطيع حيث تتواري الفردية التي هي أساس حقوق الإنسان. ومن الواضح أن ثقافة القطيع لا يمكن ان تفرز الا السلبية، فالإيجابية موقف فردي للإنسان بوصفه فرداً لا عضواً من أعضاء القطيع . و ينسجم مفهوم القطيع ونظرة الحكومة للشعب كقطيع مع فكرةِ الشعبِ المجردة و المطلقة والتي لا تعني دائماً أن الشعبَ هو مجردُ لفظٍ للتعبيرِ عن مفرداتٍ مفصلةٍ هي المواطنين .وهكذا تكتمل الصورة : فالطغيان يخلق كياناً وهمياً اسمه "الشعب" (ليس هو بالضرورة المواطنيين) ويخلق ثقافة القطيع وفي ظلها ينعم الطغاة بسلبية هائلة من المواطنين (أفراد القطيع) تبلغ قمتها عندما يكون السواد الأعظم من المتعلمين مخاصمين للمشاركة في أية انتحابات وهو عرضُُ طبيعي لثقافة القطيع .
ويـبـدو لي أن الزعمـاء العرب باقون في السـلطـة حتى قيـام السـاعـة ، طـالمـا أن الشعوب العربية ، بملايينها الـ 300 إرتضـت أن تكون مجرد قـطيـع من الـخراف!!
| | ..................................................................................... | |
| | | | |
|
|