لعبة التحطيب وغية الرجال
...............................................................
|
مهرجان التحطيب يسهم في بناء الثقافة القومية وإرساء أصولها والكشف عن ينابيعها ومد روافدها في شريان الوطن. |
كتب ـ عبدالمنعم عبدالعظيم
رسمت مدينة الأقصر جدارية جديدة ضمتها إلى جداريات معبد الأقصر في مكان يتوسطه مسجد سيدي أبوالحجاج الأقصري القطب الصوفي الكبير ومسجده المقام فوق أطلال كنيسة رومانية في قاعة معبد فرعوني قديم وتتعانق فيه المسلة والمئذنة وبرج الكنيسة بانوراما رائعة أضفت على الحدث جمالا على جمال.
الجدارية هذه المرة جدارية بشريه أبدعها المخرج الفنان عبد الرحمن الشافعي مستشار رئيس هيئة قصور الثقافة للفن الشعبي وشارك في إخراجها د. سمير فرج رئيس المجلس الأعلى لمدينة الأقصر والدكتور أحمد مجاهد رئيس الهيئة العامة لقصور وبيوت الثقافة وكتيبته بإقليم جنوب ووسط الصعيد الثقافي وقصر ثقافة الأقصر.
المكان ساحة سيدى أبوالحجاج الأقصري، والحدث الذي جذب أنظار العالم وجاء الناس من كل صوب وحدب يتحدثون بجميع اللغات لمشاهدة أبطال لعبة التحطيب بمحافظات المنيا وأسيوط وسوهاج والأقصر في مهرجانهم الثاني.
الأول أقيم منذ عشر سنوات، وقبلها كان يقام ضمن فاعليات مهرجان آمون ويتبناه الاتحاد الإقليمى للأندية الريفية برئاسة الفلاح المصري محمد النادي إسماعيل عضو مجلس الأمة (مجلس الشعب الآن) ورئيس الاتحاد أيامها واستمر لمدة خمس سنوات وتوقف عقب النكسة.
ولعبة التحطيب أو غية الرجال كما يسمونها في صعيد مصر تستهويني منذ نعومة أظافري، ولا أترك مولدا ولا ساحة تحطيب دون أن أكون ضيفا عليها، أشعر أنها ميراث الرجولة والفتوة وتراث الجنوب الخالد، لهذا ظللت طيلة الأيام الخمسة للمهرجان أتابع البطولة وأسجل أحداثها.
والتحطيب له جذور قديمة ومتأصلة في التاريخ المصري، فقد بدأ في العصر الفرعوني كطقس من الطقوس المنتظمة التي تؤدى في الأعياد الدينية، وبدلا من العصي الخشبية كانوا يستخدمون لفافات البردي الكبيرة حتى لا يصاب المتبارون بالأذى، ثم تطور التحطيب باختزال اللفافتين إلى واحدة ثم تحويلها إلى عصي بتطور استخداماتها في مجال الدفاع عن النفس.
ورغم محلية التحطيب إلا أنه كان نبعاً ارتشفت منه كثير من الحضارات مثل فن «اليوشو» الياباني والمبارزة القديمة التي انتشرت في معظم الحضارات الغربية، والتي تتشابه طقوسها وأخلاقياتها مع الجذور القديمة للتحطيب الفرعوني.
إن العصي المستخدمة في التحطيب ليست عصي عدوان، فهي رياضه لها أخلاقيات ورغم اعتمادها على الهجوم والدفاع وفكرتها القتالية، إلا أنها تدعو إلى التسامح والإخاء كما أنها تعبر عن كرامة ابن الصعيد وشهامته.
اجتمع أبطال اللعبة في جنوب مصر بساحة معبدهم التليد يقفون في دوائر ممسكين بالعصي في أيديهم ويقومون بالرقص على أنغام المزمار والربابة وفرق فنونهم الشعبية فرقة الأقصر وفرقة قنا وفرقة سوهاج وفرقة مزمار جراجوس بقوص وفرقة مزمار جهينة بسوهاج، يتقابل الرجلان فيما يشبه الحلبة حيث يحيطهم المتفرجون من كل جانب في شكل دائرة غالبا ومستطيل أحيانا يمسك كلا من المتنافسين بشومة (عصا) ويقوم كلا الرجلين بتقديم التحية للزمار (نقطة من النقود) ممسكا بالعصا وراقصا بها بشكل استعراضي يستخدم فيه جسمه واقفا على قدم واحدة وناصبا ظهره في مشهد يوحي بالشموخ والمهابة.
يتحرك الاثنان بعد ذلك بشكل دائري ممسكاً كلاً منهم بالعصا وهو يلفها فوق رأسه ورأس خصمه بمسافات معينه وتلعب العصا في حد ذاتها دوراً دفاعيا مرة، وهي أن تكون قادرة علي تغطية كامل الجسم عند التعرض للضرب من قبل الخصم وهجوميا مره أخرى.
والضرب هنا ليس ضربا حقيقيا وإنما هو ملامسة العصا للخصم، وقبل أن يتحول التنافس إلى عداء ومشاحنات يقوم اثنان آخران باستلام العصا من كلا الاثنين وتعاد الكرة مرة أخرى.
وتعد لعبة التحطيب إحدى الظواهر الشعبية في الصعيد التي ترمز في مجملها إلى تجسيد قيمة؛ البطل الشعبي ابن النيل في مواجهة التحدي وتحقيق الانتصار كما يقول الدكتور حامد محسب أستاذ الرقص الشعبي بالمعهد العالي للفنون الشعبية، ليس للذات بل للجماعة بأسرها صحيح أن التحطيب لعبة بالأساس، لكنها انعكاس لمفاهيم المجتمع ورؤيته للكون، فكل جماعة من قرية أو مركز تأتي لتشجيع لاعبها وإعلان انتصاره باعتبارها الفئة التي تستحق هذا النصر.
إن التحطيب صراع أبطال ممثلين لجماعات، وهنا الجوهر المشترك الذي يجعل لعبة التحطيب جزءاً جوهرياً من المجتمع لا يمكن فهمه بعيداً عن ظروف هذا المجتمع الحضارية التي تعيننا في النهاية على فهم وتفسير عاداته وتقاليده وفنونه وآدابه.
وللتحطيب مضمون درامي عميق يمكن استدعاؤه من السيرة الهلالية خلال فكرتي البطولة والفروسية، "بل إن بعض المحيطين من حاملي الموروث بالفطرة يؤكدون أن التحطيب استخراج من حرب الهلالية"، ولكن في الأحوال كلها يمكن البحث عن المضمون الدرامي للتحطيب من خلال فهمنا عموماً للسير الشعبية، ومفاهيم الفروسية والبطولات الشعبية وارتباطها بالخير المطلق.
وأهم حلقات التحطيب كما يقول الدكتور محسب تتم في الموالد الكبيرة، مثل مولد سيدي عبدالرحيم وسيدى العارف بالله بسوهاج، وسيدي أبي العباس، وسيدي أبي الحجاج الأقصرى، ومولد النبي صلى الله عليه وسلم بارمنت "حيث يعلن عن رفع العصاية من بعد العصر حتى المغرب. ولمدة أسبوع أو اثنين، ويجتمع المحطبون من كل المحافظات، حيث يدعو لاعبو المحافظة التي يقام فيها المولد لاعبي المحافظات الأخرى، والآن يرسلون بطاقات دعوة إلى أصدقائهم. ويؤكد الشكل الاحتفالي لرقصة التحطيب والذي يفرض طبيعة خاصة للفرجة والأداء والمضمون الدرامي، ليس فقط المعنى أو العبرة المأخوذة من اللعب، بل يبحث في المفاهيم الدرامية المتحققة في لعبة التحطيب أو رقصة التحطيب، فهناك مفاهيم مشابهة للصراع والتمثيل والإيهام، إلى آخره من مفاهيم الدراما، وهذا ما يجعلنا نكتشف الأصول الدرامية التي خرجت منها لعبة التحطيب.
واللعب بالعصا له أصول قديمة تمتد حتى مصر القديمة الفرعونية، فلقد ظهرت هذه الرياضة كمبارزة بالعصا وكرياضة خشنة للشجعان، "انتشرت بين جميع طبقات الشعب، ثم تحولت على مر العصور بين الطبقات العليا من الشعب إلى المبارزة بالسيف. وانتشرت بعد ذلك اللعبة بين الفلاحين في الريف بالوجهين البحري والقبلي وأنشئت لها مدارس لتعليم فن المبارزة."
ولقد أثبت المؤرخ هيرودوت في كتاباته أن المتبارين كان يصيب بعضهم بعضاً بإصابات قاتلة "ولو أنه لم يسجل في التاريخ المصري القديم آية إشارة لحدوث حوادث مؤسفة نتيجة لتلك المباريات التي كانت أشبه بمعارك غايتها النيل من الخصم بإصابته بضربات قد تكون مؤثرة أو عديمة التأثير"، لكنها على أقصى تقدير لن تقتله إلا في حدود بعض الحالات الشاذة. هذا عن أصول أو تراث التحطيب.
ويستطرد الدكتور محسب أن التحطيب المأثور الآن تعدل شكله بتغير وظائفه، ومع ذلك فهو جزء أساسي من تقاليد الريف المصري، فهو إحدى المهارات التي يتعلمها الشاب في الصعيد، مثله مثل حمل السلاح، مع اختلاف الوظيفة، فالتحطيب بالدرجة الأولى له وظيفة تسلية، أما حمل السلاح وإطلاق النار فله وظيفة قتالية بالدرجة الأولى، وخاصة في مسائل الثأر والدم. إذن فلرقصة التحطيب أصول فرعونية، وللتحطيب نفسه وظائف متعددة أيضا، ولكن يبدو أن أهمها:
- علامة على القوة والفتوة.
- سلاح حربي.
- لعبة في أوقات الفراغ والسمر والاحتفالات.
والمفهوم الأخير هو السائد حالياً.
والعصا هي العنصر الأساسي في رقصة التحطيب. كانوا قديماً يستخدمون الشومة الغليظة، (الزقلة) وهذه غير مستخدمة الآن لأنها تؤذي، وتسمى العصا الغشيمة أو شوم محلب، أي شومة شديدة مكسورة من الشجرة بالقوة، يستخدمون بدلاً منها عصا من الخيزران، أو شجر الليمون ويبلغ طولها تقريباً من 160سم إلى 180سم بما يشير إلى أهمية مسك العصا.
ويقول الدكتور محسب أن مسك العصا يختلف من شخص إلى آخر حسب قوته. وهناك البعض الذي لا يستطيع مسك العصا من طرفها لأنها ثقيلة، ولابد من أن يترك قبضتي يد من طرفها لكي يستطيع التحكم بها، ولكن أصول الحرفنة أن يستطيع الراقص أن يمسكها من طرفها.
والملاحظ أن كل لاعب انتصر لمحافظته، واعتبرها بلد التحطيب الأولى، ولكن عموماً لن نجد فروقاً نوعية كبيرة، لكن إن هى إلا تصورات من اللاعبين لإثبات جدارة محافظاتهم.
ولاحظ محسب أن المراكز ربما داخل المحافظة الواحدة تختلف في مقدار عنف اللعبة تبعاً لقربها من الجبل أو بعدها عنه، فكلما بعدنا عن نهر النيل، ووادي النيل، وذهبنا إلى الجبل اتسم التحطيب بالعنف نظراً إلى قسوة الجبل، وصعوبة العيش.
ولاحظ أن شكل الفرجة، والعرض هو الذي يقبل التعديل، والاختلاف ليس تبعاً للإقليم أو المحافظة، ولكن تبعاً للمناسبة، والدوافع، وظروف التجمع.
وفي حالة وجود فرقة موسيقية في بعض الاحتفالات ينصب السامر الشعبي ليؤثر في بعض اللحظات المهمة، مثل فتح الباب، وكذلك تؤثر بالضرورة في الحركات نفسها، فتأخذ الطابع الاستعراضي أكثر. ووجود الموسيقى مرتبط بالمناسبة أيضاً. كما أن الدافع إلى التجمع حول حلقة تحطيب له أثر أيضاً، فإذا كان التجمع عشوائيا أو مفاجئاً أو أسرياً يجمع بعض الأصدقاء والأقارب على سبيل التسلية، أو ربما للتحدى بين صديقين أعلنا التحدى لسبب أو لآخر، كل هذه الحالات تكون غير منتظمة بشكل مسبق، ويكون الطابع الصراعي فيها غالباً، أما في الاحتفالات والأعراس فإن الطابع الاستعراضي يكون هو الغالب كتعبير عن السعادة والبهجة بالمولد أو العرس.
والتحطيب ينقسم إلى تحية، ثم حركات استعراضية، ثم حركات الرش، وفتح الباب، وقد يدخل اللاعب مباشرة في التحام مع الآخر ليفتح الباب، وقد يتفقان على تطويل فترة الاستعراض، حيث تتم بالاتفاق. وجوهر اللعبة في حركات الرش، وفتح الباب بعد السلام. أما الحركات الاستعراضية فهي نسبية، وقد لا يرغب في الإطالة فيها أو القيام بها، وأحياناً يسهب اللاعبون في الاستعراض لإمتاع الجمهور.
ولقد أكد اللاعبون أن التحطيب لعبة ليس هدفها العنف، ومن الأفضل لذلك أن يخرج اللاعبان متعادلين، إنها لعبة للمتعة، ولذلك فهي تحترم التقاليد المختلفة للجماعة، "فالكبير يبدأ اللعب، ولا يجب التكبر عليه في أثناء اللعب لأن الكبير أكثر خبرة".
إن المجموعة الموجودة من اللاعبين، والأصدقاء حول الدائرة يكون لهم دور تأميني مهم جداً، فعندما تأخذ الحماسة اللاعبين، ويدخلان في مشاحنة حقيقية، وعند احتمال إصابة أحدهما يتدخل اللاعبون والأصدقاء من الخارج. ويأخذون العصا بكلمة سو حتى يوقفوا الشجار، وإلا فسينقلب اللعب إلى مبارزة حقيقة. وهكذا فإن التحطيب لعبة استمتاع، وليست لعبة عنف.
إن العصا اختلفت كثيراً عن الماضي، حيث كانت من شجر الدوم، ثم أصبحت من الخيزران الخفيف أو من شجرالليمون حتى لا تضر. ويعد ضرب المنافس في يده، وهو ممسك بالعصا خطأ، وضربة حقيقية عند فتح الباب خطأ، فيكفي لمسه عند فتح الباب لمسة خفيفة، أو حتى مجرد الإشارة إليه بالعصا، وربما بالعين، لتأكيد الفتح نفسه، أما الضرر فاحتمالاته في الغالب أصبحت محدودة، أما العصا القديمة الغشيمة، والتي كانت عصا ثقيلة جداً في الماضي فلقد تحولت إلى تراث، وتاريخ.
ولكل عنصر من عناصر التحطيب دور حيوي يرتبط بشكل الفرجة، فالموسيقى، والحركة، والمضمون الدرامي، كل منها يكمن في الوجدان الشعبي.
ويقول الدكتور محسب إن التحطيب من فوق ظهر الحصان بين رجلين، يمكن اعتباره إحدى ثمرات التزاوج الثقافي بين ثقافة البدو وثقافة الصعيد، حيث إن الخيل ورقصها من فنون البدو، والتحطيب من فنون الصعيد، بالإضافة إلى رقص العصا، ويتحرك الرجل في تمايل مع العصا على أنغام المزمار، وإيقاع الطبول، وعزف الربابة في حركات يستعرض فيها مهارته في استخدام العصا مع المرونة، والليونة، والتوافق الموسيقي.
وبينما نجد أن التحطيب عامل مشترك بين جميع محافظات الصعيد، نجد أن اللعب، والرقص بالعصا تشتهر بها عائلة النزاوية في محافظة سوهاج، حتى سميت الرقصة باسم رقصة "النزاوي".
ونرجع شهرة الصعيد بفنون التحطيب إلى عصر الفراعنة، ونجدهم لا يستخدمون السيف في المبارزة، حيث لا يستخدم هذا النوع من السلاح في هذه المنطقة، وتستخدم العصا في الدفاع عن النفس، واللعب وقت الفراغ.
والتحطيب من فوق ظهور الخيل لا يزال محتفظا بكيانه حتى الآن، وخاصة في الصعيد، وكثيراً ما تقام حلقات لرقص الخيل، والتحطيب ابتهاجاً بإقامة زفة عرس، أو احتفالاً بذكرى مولد أحد أولياء الله الصالحين، أو للاحتفال بجني المحصول، حيث تقام حلبة الرقص والتحطيب في مكان متسع، وعلى أنغام المزمار البلدي أو الصعيدي يتبارى الفرسان والخيالة في إظهار بطولاتهم، وشجاعتهم، ويتفننون في أساليب الكر، والفر، والنزال، ويعتمد ذلك على ذكاء الفارس، وقوة صبر الحصان عند الاحتدام والنزال.
"ويحتاج رقص الخيل إلى خيول أصيلة لديها الاستعداد لأداء الرقصات على أنغام المزمار، وللخيل أشكال مختلفة من الرقص يحددها ميول الحصان، وتكوينه، واستعداده، وتقبله للمران على نوع معين من التشكيلات المتعددة الإيقاعات. ويظهر رقص الخيل مدى تمكن الفارس من حصانه، والسيطرة عليه، وتفاهمه معه، ومدى طاعة الحصان في تأدية كل ما يتطلب منه بمرونة، ورغبة في الرقص والأداء. ويعتبر ركوب الخيل عموماً مظهراً من مظاهر الإجلال والإكبار، حيث يمتطيه رجل الدين في الاحتفالات الدينية، ويمتطيه الفارس في معاركه، وتمطيه العروس حينما تزف إلى عريسها، وكذلك العريس حينما كان يذهب لإحضار عروسه.
انتهت فاعلية مهرجان التحطيب القومي الثاني بالأقصر الذي كان مناسبة لإحياء تراث اللعبة وتبني وزارة الثقافة لإقامتة سنويا إسهاما في بناء الثقافة القومية وإرساء أصولها والكشف عن ينابيعها ومد روافدها في شريان الوطن كله إيمانا بأهمية الثقافة كإنجاز علمي على طريق الحضارة، كما قال الدكتور أحمد مجاهد رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة.
عبد المنعم عبدالعظيم ـ الأقصر (مصر)
Monemazim2007@yahoo.com
06/11/2014