ماركيز ومحفوظ: بين الأدب والسياسة
| |
ماركيز ومحفوظ | |
بقلم : عبد الله السناوى
......................
التجربة تباينت بعمق بين أديبين ودورين كلاهما وضع بصمة لا تمحى وحصل على جائزة نوبل للأداب.
«جبرائيل جارسيا ماركيز» أعاد اكتشاف أمريكا اللاتينية بعوالمها الخفية ومواريثها الدفينة فى الذاكرة وأسس تيار «الواقعية السحرية» الذى يمزج بصورة مدهشة بين الأساطير الخرافية والحقائق السياسية وأرخ للحالة الوجدانية فى القارة.. و«نجيب محفوظ» أسس الرواية العربية الحديثة وبنى شخصياته من مادة التاريخ والحياة اليومية وقوة الدراما وأضفى عليها روحا فلسفية عميقة.
رغم اختلاف المدارس الأدبية وطبيعة أدوار الرجال فإن هناك شيئا مشتركا عميقا وحقيقيا أثره باق فى الوجدان الإنسانى.
فى روايتى «مائة عام من العزلة» و«الثلاثية» النزوع ذاته لتأريخ الحالة الوجدانية لمجتمعين متباعدين عبر قصص عائلية تمتد فى الزمن حقبة بعد أخرى وجيلا تلو آخر.
عائلة «بونديا» تقابل عائلة «السيد أحمد عبدالجواد» و«ماكوندو» التى اختلقها «ماركيز» من خياله تقابل «الجمالية» التى استولت بطابعها الشعبى والتاريخى على مخيلة «محفوظ».
فى الروايتين الأكثر شهرة واقعيتان من نوعين مختلفين لكنهما بذات درجة الصدق الفنى.
ورغم أن «ذقاق المدق» لا تضاهى أعمالا أخرى لـ«محفوظ» إلا أنها اكتسبت شعبية لافتة فى القارة اللاتينية، فالعوالم تتداخل فى انسحاق الروح الإنسانية.. «أنت لا تعرف كم إنى شقية» بتعبير بطلة الرواية «حميدة».
برؤيته الإنسانية تجاوز «محفوظ» محليته المصرية إلى عالمه العربى وإلى عوالم بعيدة لم تخطر له على بال.
كانت القارة اللاتينية عند واحدة من أخطر لحظات تحولاتها التاريخية.
فى وقت متزامن شهدت تطورين جوهريين، أحدهما كشف خواء الواقع وصاغ المخيلة العامة من جديد بروايات «ماركيز» ومعاصريه والثانى جدد فى الفكرين الاقتصادى كـ«نظريات التبعية» والسياسى الذى راهن على التحولات فى بنية النظام الدولى لاكتساب الحق فى الالتحاق بالعصر وبناء نظم ديمقراطية حديثة.
للتراجيديا اللاتينية تحدياتها التى دعت «ماركيز» للتقدم على مسارحها الغاضبة مثقفا ملتزما وصحفيا موهوبا وأديبا لا يضارع.
أحال فى أدبه ما هو استثنائى إلى أمر عادى وما هو أسطورى إلى وقائع طبيعية.
عند كسر الحواجز المتخيلة حدث كسر آخر لأوهام العزلة وسطوة الجنرالات ونظم الحكم الكارتونية.
ساعدت أعماله الأدبية مثل «وقائع موت معلن» و«الحب فى زمن الكوليرا» و«الجنرال فى متاهة» و«خريف البطريرك» فى إفساح المجال العام لإزاحة ركام العفن.
«ماركيز» فاجأ العالم فى الأربعين من عمره عام (١٩٦٧) بروايته «مائة عام من العزلة» التى وصفها الشاعر اللاتينى الأشهر «بابلو نيرودا» بأنها أفضل ما كتب بالإسبانية بعد «دونكيشوت» وحاز «نوبل» بعد خمسة عشر عاما فى (١٩٨٢) بينما تأخر وصولها المستحق إلى أديب العربية الأكبر حتى عام (١٩٨٨) وهو فى السابعة والسبعين من عمره.
الأعمال الكبرى التى كتبها «محفوظ» واستحق بسببها نوبل انتهى منها جميعا فى العام ذاته التى نشرت فيه لأول مرة رائعة «ماركيز».
«أولاد حارتنا» نشرت فى نفس توقيت «مائة عام من العزلة».
لماذا وصلت إلى «ماركيز» مبكرا رغم مواقفه الشجاعة ضد «الإمبريالية الأمريكية» وحكم الجنرالات فى أمريكا اللاتينية ونصرته للقضايا الإنسانية فى كل مكان وتأخرت فى الوصول إلى «محفوظ» الذى بدا كـ«حضرة المحترم» وفق إحدى رواياته.
لم يكن على أى نحو قريبا من النموذج الماركيزى، التزم بصورة شبه صارمة حدودا لا يتعداها فى العمل العام وتجنب أية صدامات مع السلطات الحاكمة لكنه عبر عن انتقاداته أثناء حكم «جمال عبدالناصر» فى رواياته «اللص والكلاب» و«الشحاذ» و«ميرامار» و«السمان والخريف» و«ثرثرة فوق النيل».
المثير أن أعماله الانتقادية ليوليو نشرت على حلقات فى صحيفة «الأهرام» على عهد الأستاذ «محمد حسنين هيكل» وتضمنتها برامج التثقيف فى منظمة الشباب الاشتراكى. وهذا وضع يختلف بالكلية مع التجربة اللاتينية فضلا على أن المجتمع المصرى كله يختلف فهو أكثر تجانسا وأعرق تاريخا.
فى تجربة «ماركيز» فإن الحروب الأهلية ووطأة التبعية للولايات المتحدة والقهر والفساد والجوع وهزلية الحكومات استدعت أن يكون المثقف على الجانب الآخر واضحا وحادا وإلا فقد صفته كمثقف وصلته بالحالة الوجدانية لقارته.
ارتبط بصداقة عميقة مع الزعيم الكوبى «فيدل كاسترو» أفضت إلى حملات نالت منه بقسوة.
فى تفسيره فإنها صداقة فكر مع مثقف كبير.
ارتبط بصداقة أخرى مع «تشى جيفارا» وأيد الجماعات الثورية فى الستينيات والسبعينيات لكنه دعم التوجهات الديمقراطية فى القارة عند لحظة تحولاتها الكبرى.
فى الحالتين حافظ على اعتقاده الاشتراكى دون أن يكون حزبيا.. وهو التوجه الأكثر شعبية فى دول القارة الآن.
انتصر للقضية الفلسطينية ودعم «ياسر عرفات» ووقع على بيانات بلا حصر ضد التغول الإسرائيلى على حقوق الفلسطينيين، واحتذى المواقف ذاتها ضد الحصار الأمريكى على العراق قبل غزوه وأدان الاحتلال. كان عربيا ملتزما بأكثر من آخرين فى قصور الحكم ودور الصحف.. عربيا بالمعنى الذى اعتاده أحرار العالم فى التوحد مع الضحايا والمظلومين.
اللافت أنه لم يدع مرة واحدة لزيارة القاهرة رغم أن زوجته من أصول مصرية. بصورة ما فإنه أكثر تقديرا لـ«تجربة جمال عبدالناصر» من «نجيب محفوظ» ربما تأثرا بآراء صديقه الحميم «فيدل كاسترو» والجو العام فى القارة كلها الذى رأى فيها إلهاما سياسيا على ما كان يعلن الزعيم الفنزويلى الراحل «هوجو شافيز».
«ماركيز» التقدمى غير «محفوظ» المحافظ غير أن كليهما حافظ بصرامه على التزامه تجاه أدبه والصدق فيه حتى الكلمة الأخيرة.
شخصية «محفوظ» دعته ألا يكتب سيرته الذاتية لكنه كتب عن أصدائها وأودع إشارات فيها داخل أعماله نفسها بينما شخصية «ماركيز» الأكثر انفتاحا على العالم دفعته أن يكتب سيرته «عشت لأروى» وأن يودع بعضها كأى أديب كبير فى روح أعماله.
بسبب خيارات «محفوظ» لم يحظ بذات المكانة التى حازها «ماركيز».. والحياة خيارات فى النهاية.
مكانة «ماركيز» تأكدت من مواقفه وقيمته تجاوزت قارته.. وعندما رحل تبارى الذين حارب خياراتهم السياسية فى مدحه كقول رئيس المفوضية الأوروبية بأنه «صوت أمريكا اللاتينية الذى أصبح صوتنا» دون أن يوضح أى معنى يقصد.
شيء من هذا القبيل حدث عند وفاة الزعيم الأفريقى «نيلسون مانديلا»، فبعض جلاديه أمعنوا فى مدحه بأكثر من رفاقه الحقيقيين ربما كشيء من التكفير عن الخطايا القديمة.
لم تكن تجربة «نجيب محفوظ» مماثلة.
أدباء ومثقفون حاولوا إقناعه أن يحتذى رفيقه اللاتينى وأن أحدا لا يستطيع أن يقترب منه فاسمه أكبر من الرئيس لكنه بالتكوين الشخصى لم يكن مهيأ للعب هذه الأدوار.
هو يقرأ ويتابع من بعيد ويبدى رأيه فى أوساطه دون أن يعلنه على الرأى العام.
لمرة واحدة تقريبا تحت ضغط «توفيق الحكيم» خرق هذه القاعدة بالتوقيع على بيان يؤيد مطالب الحركة الطلابية المصرية عام (/١٩٧٢) مع نخبة من كبار الأدباء والمثقفين.
مع رحيل النموذج الآخر الأكثر إلهاما فإن سؤالا طبيعيا يطرح نفسه: أيهما كان أفضل بالنظر إلى طبيعة «نجيب محفوظ» أن يحتذى النموذج الماركيزى أو أن يكون هو نفسه متفرغا لأدبه وإنتاجه الكثيف الذى أودعه المكتبة العربية كأعز ما فيها؟
06/11/2014