| | | | حكاية شعب اخترع الزراعة.. ويستورد الآن غذاءه ...............................................................
بقلم : عبدالعزيز السباعي صالح .................................
قبل السد العالي كان النيل يفيض ويغيض فلا تزرع غالبية الأراضي إلا مرة واحدة في العام ومع ذلك كانت مصر بلداً زراعياً من الدرجة الأولى وتمثل سلة غلال يعتمد عليها كثير من الدول والشعوب.. وبعد ثورة الوطنيين "الأحرار" في وجه الأجنبي الدخيل بدا في الأفق سعي نبيل لتوصيل خيرات البلاد لكل أبنائها وشهدت سنوات المد الثوري أهدافاً تتسم بالطموح والبراءة، منها غزو الصحراء وزراعة الأراضي البور وإنشاء المصانع وتوفير الخدمات وتحقيق الاكتفاء الذاتي.. وقد لخص أصحاب الأقلام هذه الأهداف في شعارات براقة ورددها السياسيون أمام الجماهير فاحتلت مكانة بارزة في قاموس المرحلة وحفظ الجميع عن ظهر قلب: "نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع، ومن كانت لقمته من فأسه كانت كلمته من رأسه"، وقد استلزم تحقيق هذه الأهداف توفير مياه الري طوال العام وتكريس مصدر دائم للطاقة الكهربية فظهرت فكرة إنشاء السد العالي.. الذي احتاج بدوره إلى تمويل فدفع الثوار إلى تأميم قناة السويس فكان ما كان واستطاع المصريون السيطرة على القناة التي حفرها أجدادهم ونجحوا في إدارتها وبنوا السد العالي وبدأ العمل في إعمار الوادي الجديد واستصلاح صان الحجر وزراعة مديرية التحرير.. *** جرت في النهر مياه كثيرة وذهب أقوام وجاء غيرهم وتبدلت السياسات وتغيرت التوجهات وتباينت أحوال العباد وتعقدت ظروف البلاد. كان المعنيون بتفعيل شعارات الثورة البراقة قد طلبوا المشورة من مراكز الأبحاث العالمية حول تجدد المياه الجوفية في الوادي الجديد من عدمه فجاءتهم الإجابة من الخارج بأن الخزان الجوفي محدود الكمية وستنفد مياهه بعد سنوات قليلة فصدقوا الخبر الغريب وضربوا صفحاً عن إعمار الوادي البعيد.
أما أراضي صان الحجر والحسينية فقد غمرتها مياه الصرف الصحي عبر "بحر البقر" برائحتها الكريهة وأمراضها الخبيثة وتأثيراتها السلبية على الزرع والضرع والعابر والمقيم.. وبعد أن وصل المستفيدون من مجانية التعليم إلى مواقع صنع القرار وتسيير أمور العباد والتخطيط لشئون البلاد لم يزد الوضع إلا سوءاً وتعقيداً وغرابة ومجافاة للمنطق؛ فرغم زيادة أعداد معاقل التعليم ومراكز البحث العلمي والأكاديميات المتخصصة في جميع المجالات باتت أراضي الكنانة تستورد التقاوي والمبيدات والكيماويات وطرق الزراعة والتراكيب المحصولية ومع هذا الوضع المعكوس لم يتحرك عالم أو خبير أو رجل صناعة أو مستثمر ولم يتحرك مركز بحث أو كلية أو جامعة أو أكاديمية لتعديل الأمور وإعادتها إلى نصابها.. بل فتحوا أبواب البلاد على مصاريعها لمحاصيل الغريب وصناعات الغريب وأفكار الغريب.. استوردوا الدقيق ودعموه ليخترق الأسواق بأقل من تكلفة مثيله المحلي بدلاً من التوسع في زراعة القمح البلدي وجلبوا شركات أجنبية لجمع زبالة أبناء البلد وكأنهم عجزوا عن إماطة الأذى عن مساكنهم وشوارعهم (وهذا من أضعف الإيمان).
لم تقف حدود الاستيراد ومحاولات الاستعانة بالأجانب عند السمسرة والعمولات والسعي وراء الكسب السريع فقط بل تعدتها إلى ما هو أخطر وأقذر.. استورد الخونة مبيدات مسرطنة وكيماويات فاسدة وبذوراً عليلة وتربصوا بالمشاريع الوطنية فحاصروها في البدايات وقتلوها في المهد وتواطأ مع الخونة والمخربين خلق كثيرون حاربوا المنتج المحلي وأغرقوا البلاد بنفايات الخواجات واستغلوا في ذلك مدخرات المصريين في البنوك التي حصلوا عليها بضمانات واهية وبعد ذلك هربوها وهربوا وراءها رغم أنف قانون الطوارئ وكل الجهات الرقابية. ومن ينجح بعد كل ذلك في فلاحة أرضه يحمل محصوله ويدور به على الشون والمطاحن والصوامع والمستودعات وقد أغلقت جميعها أبوابها في وجهه لتكون جاهزة لاستقبال المحاصيل القادمة عبر البحار والموانئ حتى ينعم المزارع الأجنبي بمخصصات الدعم من خزانة أرض الكنانة.. ويظل الفلاح المصري الكادح البسيط يلف ويدور ويتوسل وينوح: "مين يشتري القمح مني".. ولا من مجيب. على صفحات جريدة الأهرام الرسمية كتبت سكينة فؤاد عدداً من المقالات وجمعتها بعد ذلك في كتاب حول مشروع القرى المتكاملة الذي تبنى زراعة الأصناف البلدية الخالصة بوسائل مصرية صميمة بتمويل كامل من الاتحاد الأوروبي يجمع في منظومته الحيوان والنبات والهواء والمياه والتراث بمستوى يليق بكرامة المصريين المعاصرين أحفاد الفراعين وخير أجناد الأرض.
تقول الوقائع: إن وزير الزراعة الذي أمر بتصفية مشروع البتلو لم يتورع عن محاصرة مشروع القرى المتكاملة وبمجرد أن أتى المشروع أكله أغار عليه واستولى على معداته وآلاته وتحول الموضوع برمته إلى قضايا ومنازعات في أروقة القضاء. وفي الطرف الآخر من العالم قررت منظمة اليونسكو تطبيق المشروع في كندا والولايات المتحدة بعد فشل تطبيقه في مصر "أم الدنيا" بسبب المعوقات والعراقيل والمشاكل التي حاصرت القائمين عليه.
*** خلاصة الحكاية أن الأفكار الجيدة القابلة للتطبيق متوافرة وكثيرة فلا يوجد لدينا فقر أفكار.. نحتاج فقط إدارة صادقة ونوايا صافية وطليعة مؤمنه ونخبة مخلصة.. إذا توافرت هذه العناصر ستتمتع مصر بالاكتفاء الذاتي ويعود خيرها لكل أبنائها بدلاً من أن يذهب إلى الغريب.
| | ..................................................................................... | |
| | | | |
|
|