محمود أمين العالم – النضال على كل الجبهات
...............................................................
د / صلاح السروى
.............................
|
المفكر والمناضل الكبير محمود أمين العالم |
كان المفكر والمناضل الكبير محمود أمين العالم أكثر منا شبابا , نحن الجيل الذى تتلمذ على يديه فى مدرسة النضال الوطنى والفكر العلمى والنقد الأدبى , وعندما كنا نسأله عن سر حيويته كان يقول مازحا " شاغبوا تصحوا ". لقد عاش الرجل مقاتلا شرسا صلبا من أجل ما آمن به , ونذر حياته وعلمه وفكره لقضيته – قضية العدالة للكادحين والعناة , وقضية الاستقلال الوطنى , وقضية الوعى العلمى والاستنارة العقلية , فخاض الراحل العظيم المعركة تلو الأخرى . فعلى جبهة النقد الأدبى خاض معركته الشهيرة , بالاشتراك مع رفيق دربه الدكتور عبدالعظيم أنيس , ضد جبهة المنادين بعزل الأدب عن واقعه , مناديا – فى المقابل - بأن يكون الأدب متراسا من أجل الدفاع عن حق الانسان فى الحرية والعدل , وسيفا على أعداء الانسانية وحرية الشعوب , وبشيرا بقرب خلاص الانسانية وانعتاقها من ربقة الجور والاستعباد والاستغلال . فأصدر كتابه الشهير المشترك مع عبدالعظيم أنيس " فى الثقافة المصرية " الذى عرضا فيه تصورهما لدور الأدب فى عصر حركات التحرر وانفتاح الوعى الانسانى على آفاق الحرية والعدل , عصر انتصار الاشتراكية واندحار الاستعماروبداية فجر جديد للبشرية , واعد بالآمال الكبار وبقرب تحقق الأحلام العظام , كان الزمان يبتسم ويفتح أحضانه للمستعبدين والمقهورين ويعدهم بقرب الانتصار وحتمية الوصول .
كان زمان اندحار الفاشية , وهزيمة الاستعمار فى كل ربوع الأرض وبزوغ عالم جديد , دستوره العدل وكلمة سره الحرية وطريقه الثورة . لذلك كان انجاز العالم وأنيس انجاز التاريخ ووعده , انجاز التخطى الظافر للرومانتيكية الباكية الذليلة التى وصلت الى حد الابتذال , وصولا الى اكتشاف العلاقة الوثقى بين حركة الوعى الجمالى والوجود الاجتماعى , كانا – معا - يعانقان الشوق الانسانى للانعتاق , وكانا يترجمان التوق البشرى للخلاص .
لكن العالم لم يتوقف عند هذا المنجز ولم يتمسك به على نحو دوجمائى جامد بل سرعان ما تجاوزه , منفردا هذه المرة , مطورا اياه وباعثا فيه روحا عصرية جديدة , ليتفاعل مع أفكار الثلث الأخير من القرن العشرين , ليلتقى مع البنيوية التى كان اول من نقل ترجمة لها الى العربية عام 1963, فأسماها بالهيكلية , ولكنه لم ينحرف عن بوصلته الأثيرة وهدفه الانسانى النبيل , فزاوج بينها وبين المنهج الاجتماعى الذى ظل وفيا على مدار عمره . ف.. "البحث حتى من الناحية المنهجية الاجرائية مشروط بالضرورة تاريخيا واجتماعيا وثقافيا ".. فيما يقول فى "ثلاثية الرفض والهزيمة" , أى مشروط بأوضاع وظروف يمليها القانون التاريخى والواقع الاجتماعى والمعطى الثقافى . ومما قد يدهش البعض أن محمود العالم قد هاجم فى ذات الوقت مقولة الأدب الملتزم أو الهادف , مؤكدا أن كل أشكال الأدب والفن مرتبطة , على نحو ما بالايديولوجيا , سواء أكانت ظاهرة أو خفية . ومن ثم يصبح الحكم ليس على أساس الالتزام من عدمه بل على أساس الالتزام بأى وجهة على وجه التحديد .
وعلى جبهة الفلسفة كان على محمود العالم أن يشتبك مع فلسفات عصره وأفكار زمنه مبشرا بجدارة العقل الجدلى بقيادة المعرفة الانسانية , ومنازلا العقل المثالى والوضعى , الداعى الى الاقتصار على التحليل اللغوى , المتخلى عن التعاطى مع المبادىء العامة والكلية فلاترى الوجود كلا واحدا , بل "آحادا" متفرقة أو " كثرة " , وأن عمل الفيلسوف يقتصر على مجرد .. " تحليل العبارات العلمية " , فيما يقول زكى نجيب محمود فى (المجلة 1957) , ويصبح معها اليقين لامعنى له .. " فهوتحصيل حاصل " , ويصبح الجمال والأخلاق ذاتيين .. "لاصدق فيهما ولاكذب " , هنا يهاجم محمود أمين العالم منتصرا للفكر الذى يعمل على الارتقاء بوعى الانسان بذاته وعالمه , القادر على انجاز التقدم والحرية , للرؤية الموضوعية الجدلية التى تحتوى على .." احترام العقل البشرى واحترام الوعى البشرى , وفيها تفاؤل موضوعى غامر بالمستقبل البشرى " . (معارك فكرية ص20) .ومدافعا عن الفلسفة القائمة على الرؤية المعرفية الشاملة , المستمدة من التعميم الموضوعى والنقد الواعى للقوانين العلمية , التى تمثل - فى ذات الوقت - سلاحا للسيطرة على هذه القوانين وتوجيهها لخدمة التقدم الانسانى . ولاينسى العالم أن يهاجم الحتمية الميكانيكية بذات الطريقة التى هاجم بها الاقتصار على مجرد التحليل اللغوى , مبرزا , وهو الباحث القديم فى فلسفة العلم حيث كان موضوع رسالته للماجستير , " أن الهدف الحقيقى للعلم هو محاولة كشف العلاقات الكامنة وراء المدرك الحسى المباشر" . وصولا الى القانون الرابط والحاكم للظواهر المدركة , بما يزيد من وعينا بالعالم وبالوجود , وبالتالى من قدرتنا على التعامل معه دون أساطير .
لقد دافع محمود العالم عن العلم وربطه بالحرية , ودافع عن الحرية وربطها بالحق الانسانى فى العدل والعيش الكريم للجميع , مهاجما من اقتصر فهمهم لها على أنها مجرد رد فعل للعبث - وفى ذات الوقت – من اقتصروا بها على حرية رأس المال والاستغلال . حيث ربط الحرية بالدلالة الاجتماعية , وبقدرتها على تحقيق ازدهار المجتمع الانسانى وتفجير طاقاته الابداعية الخلاقة , وتحقيق العدل والخير للجميع .
كما ناقش أفكار معاصريه من فلاسفة العالم واشتبك معها فى دراسات رصينة وعميقة تشى – رغم تواضعه الجم - بقوة رؤيته وجسارة عقله , فناقش أفكار سارتر وجارودى وهربرت ماركيوز ..الخ .
كما اشتبك مع قضايا ومفاهيم ثقافية كبرى ك " الأصالة والمعاصرة " و" القومية العربية " و " التطور الحضارى العربى " و " صدمة الحداثة " و " اشكالية النهضة العربية " و " الغزو الثقافى " و " الاسلام والثورة" و " شخصية مصر " و " حركة التحررالعربية " ..... الخ الخ . وفى كل ذلك كان باحثا دؤبا ومخلصا الى أقصى مايمكن من الاخلاص , عن مصلحة الوطن والانسان وحقهما فى التقدم والحرية .
وعلى جبهة السياسة كان محمود أمين العالم الفارس المبرز الذى لايشق له غبار, الذى اشتبك مع كل محاولات افساد الحياة السياسية فى مصر , وبيع الوطن للسماسرة وتجار الشنطة , مدافعا عن ثروة مصروارادتها الحرة واستقلالها السياسى وعدلها الاجتماعى , ومدافعا عن انتماء مصر العربى وعن الثورة الفلسطينية , و الطبع - أولا وأخيرا - عن الاشتراكية والحلم الانسانى البهيج فى الحرية والعدل .
لقد مات المناضل المثال , المفكر الرمز, الصوفى العاشق للحياة , الدمث الخلوق الرحيم الصلب , الراقى الحس والذوق والسلوك .
مات محمود أمين العالم لنبكيه يوم نبكى غزة , ونأمل فى انتصارها بأثر من تفاؤله التاريخى العلمى , مات العالم ليتركنا نبحث من بعده عن كيفية اكمال المشوار الذى أفنى فيه حياته , فتحمل السجون والتعذيب وجرب المنافى وآلام الاغتراب من أجل قضية صنعت اسمه وأعطاها عمره .