قراءة فى كتاب ( من أوراق السادات )
...............................................................
بقلم : عمرو صابح
......................
كان الرئيس الراحل أنور السادات مولعا برواية قصة حياته للعالم ، فقد حكاها عشرات المرات وفى كل مرة كان يضيف وقائع ويحذف أخرى لكى يزيد من أهمية دوره وزعامته ، والطريف فى الأمر أن الرئيس السادات على كثرة ما روى من قصص عن حياته سواء عبر أحاديث صحفية وتليفزيونية أو عبر كتب ومذكرات لم يأت أبدا بوثيقة واحدة تثبت صحة رواياته حتى أصدر عام 1978 مذكراته النهائية فى كتاب باسم ( البحث عن الذات ) صاغه له كلا من الدكتور رشاد رشدي والصحفي أنيس منصور ، صدرت هذه المذكرات عام 1978 والرئيس السادات فى ذروة سلطانه وقد أصبح نجما عالميا من وجهة نظر الغرب بعد قيامه بزيارة إسرائيل واتخاذه لقرار السلام المنفرد مع العدو التاريخي لمصر والعرب ، بما يجعل تلك المذكرات كلمته النهائية فى ما رواه من أحداث سواء اتفقنا أو اختلفنا معه ومع رؤيته للأحداث التاريخية ، فالكتاب فى النهاية يحمل أسمه كسيرته الذاتية المعتمدة .
وفى هذا الكتاب رسم السادات لنفسه صورة أسطورية كشخصية حكيمة نبيلة متدينة دقيقة التفكير وهاجم فيه بضراوة شخصية سلفه الرئيس جمال عبد الناصر وصوره كشخص حقود متهور وعصبى وصور عهده كمصيبة ضربت مصر ، وقال أنه ترك له مصر بلدا ممزقا بالفتن والأزمات السياسية و الاقتصادية والعسكرية ، كما هاجم المشير عبد الحكيم عامر ووصفه بالجهل والشللية وإدمان الأخطاء والانسياق وراء معاونيه ، وبالنسبة للأستاذ محمد حسنين هيكل فلم يذكر الرئيس السادات أسمه طيلة صفحات الكتاب من شدة ضيقه منه وقام بتسميته (المستشار الصحفي للرئيس عبد الناصر) وألصق به تهم الحقد على العائلات الكبيرة وفبركة البيانات واستغلال قربه من الرئيس عبد الناصر فى تكوين مركز قوى، ووصف رجال عبد الناصر من مجموعة مايو شركاؤه في الحكم بالعمالة للسوفيت والديكتاتورية والقمع والتجسس على الناس وهاجم اللواء محمد نجيب و الفريق محمد فوزي و الفريق محمد صادق الذى سانده فى انقلاب مايو 1971وأتهم الفريق سعد الدين الشاذلي بانهيار الأعصاب والتسبب فى الثغرة، وبلغت المهزلة ذروتها عندما حكى الرئيس أسباب عدم عمله بمجلة روز اليوسف أثناء فترة فصله من الجيش قبل الثورة وبررها بأن المجلة لم تكن تحتمل كاتبين كبيرين مثله هو و إحسان عبد القدوس ، وكذلك عدم عمله بمجلة الهلال لنفس السبب وهو وجود كاتبين كبيرين مثله ومثل الأستاذ كامل الشناوى وأنصب معظم غضب الرئيس الراحل على الاتحاد السوفيتي الذى أتهمه بمحاولة إذلال مصر والسيطرة عليها وغزوها بالفكر الشيوعى ، وهكذا لم يسلم أحد من اتهامات الرئيس السادات إلا صديقه الملك فيصل حيث يعترف السادات بصداقته له حتى فى ذروة الخلافات المصرية السعودية أثناء حرب اليمن التى كان أنور السادات خلالها هو المسئول عن ملف السعودية واليمن ومقاومة النشاط السعودى المضاد لمصر حتى قام أحرار السعودية بإبلاغ الرئيس عبد الناصر باتصالات السادات المريبة بكمال ادهم مدير المخابرات السعودية فأنهى الرئيس عبد الناصر مسئولية السادات عن هذا الملف ومن الغريب أن علاقات السادات بالسعوديين عادت بشكل ملفت للنظر عقب وفاة الرئيس عبد الناصر بزيارات مدير المخابرات السعودية كمال أدهم المتكررة لمصر ولقاءاته بالسادات ، كما يشيد السادات بصديقه وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر وصديقه شاه إيران محمد رضا بهلوى هكذا قال الرئيس السادات كلمته وترك لنا كتاب ( البحث عن الذات ) .
فجأة قرر الأستاذ أنيس منصور صديق الرئيس السادات وجليسه أن يصدر كتابا تحت أسم ( من أوراق السادات ) جمع فيه سلسلة من الحكايات رواها له الرئيس السادات حتى عام 1977 كما ورد فى الكتاب ، ويبدو اختيار الرئيس السادات لأنيس منصور بالذات كجليس دائم له ومعبر عن أفكاره وكاتب لمذكراته ذو دلالة عن كيفية تفكير الرئيس الراحل ، فأنيس منصور أشتهر منذ بداية عمله بالصحافة بالكتابة عن تحضير الأرواح وقراءة الفنجان ، والمخلوقات الفضائية التى هبطت من السماء وبنت لنا الأهرامات ثم عادت إلى السماء مرة أخرى ، ولعنة الفراعنة والوجودية والرحلات ولم يعرف عنه أى اهتمامات سياسية غير مدح عبد الناصر و ثورة يوليو فكان من أشد المؤيدين للثورة ولعبد الناصر وقد دبج مقالات عديدة فى الإشادة بالرئيس عبد الناصر وحكمته وزعامته المتفردة ، كما كان وثيق الصلة بشقيقه شوقى عبد الناصر ، وقد ظل أنيس منصور يرثى الرئيس عبد الناصر عقب وفاته ولمدة عام كامل بعدها حتى سبتمبر 1971، ويبدو ذلك الأمر فى حاجة إلى طبيب نفسى خاصة فى ظل انقلاب أنيس اللاحق على عبد الناصر و عهده ، فالزعيم رحل ورجاله فى السجون والثورة تم الانقضاض عليها فما داعى أنيس إلى النفاق إلا إذا كان مازال يتحسس اتجاه الرياح القادمة حتى يتبعها ،وبعدما أطمأن أنيس إلى بداية الحملات الظالمة لتشويه عبد الناصر وعهده ورجاله وإثر اختيار السادات له كمعبر عن أفكاره شارك فى حملة الهجوم على عبد الناصر وعهده بنشاط فائق ووجه للرئيس الراحل أبشع وأقذر التهم فى مقالاته ، ثم جمع معظم تلك النفايات فى كتاب سماه ( عبد الناصر المفترى عليه والمفتري علينا ) ، وبين كل حين و أخر يقوم بتوجيه شتائم جديدة للرئيس عبد الناصر بدون سبب وكأنه مصاب بحساسية جمال عبد الناصر فكلما تذكر اسمه انتابته الحكة والتى لا تهدأ إلا بعد أن يسب الزعيم الراحل .
فهم أنيس جيدا شخصية الرئيس السادات ونرجسيته وحبه للعظمة فلعب دورا خطيرا فى تضخيم العقد النفسية لدى السادات وكان أول من شبهه بالأنبياء فمرة يشبهه بالنبى نوح ، وتارة بالنبى موسى وأخرى بالمهدى المنتظر، وتوضح لنا مقالاته حقيقته ، فقد كان من أشد الصحفيين دفاعا عن مشروع بيع هضبة الأهرام المشبوه لمجموعة من اللصوص والأفاقين الأجانب لإقامة مشروعات سياحية على الهضبة الأثرية بعقد امتياز مدته 99 سنة وصور غضب الشعب على تلك الجريمة التاريخية بالفجيعة الوطنية ، وكان ومازال رائد التطبيع مع إسرائيل فى الصحافة والثقافة وبقراءة مقالاته نجد أنه لم يهاجم إسرائيل وقادتها مطلقا بينما ينصب هجومه على عبد الناصر والفلسطينيين والعرب عامة ، وعندما ظهرت شركات توظيف الأموال الإسلامية فى مصر كان أنيس منصور من أشد المؤيدين لها ودبج المقالات فى الإشادة بها وعمل مستشارا إعلاميا لعدد منها ، وعندما اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الأولى ضد الاحتلال الاسرائيلى كتب يقول ( ما يجرى من مقاومة بالأراضى المحتلة يتم تحت تهديد من منظمة التحرير الفلسطينية ) للتهوين من شأن الانتفاضة والإيحاء بكونها تتم تحت ضغط من الخارج وليست نابعة من مأساة الشعب الفلسطينى ، وعندما تولى بنيامين نتنياهو رئاسة وزراء إسرائيل للمرة الأولى وشاعت نكات تسخر من أسمه فى مصر، كتب يوضح معنى أسمه وأنه أسم جميل يعنى ( عطية الله ) مستنكرا السخرية منه ، بينما كان هو نفسه الذى كتب أن صوت الرئيس عبد الناصر أخنف وأن الحقد يطل من عينيه ، والملفت للنظر فى قصة أنيس منصور الذى بلغ من العمر85 سنة وأصدر أكثر من 160 كتاب ، أنك إذا حاولت البحث عن مشروع فكرى له كصاحب لكل هذا الكم من الكتب لن تجد شيئا إلا مجموعة من كتب التسالى والترجمات عن الغير والتى تحمل حكايات وقصص مكررة كتبها وصاغها عشرات المرات تحت مسميات مختلفة ولا تحمل أى إضافة مفيدة للفكر العربى و الثقافة العربية ولن يبق منها شيئا فى مستقبل الأيام .
يقول الأستاذ أنيس فى مقدمة كتاب ( من أوراق السادات ) أن كتابه تفريغ لجلسات طويلة مع الرئيس السادات يحكى الرئيس الراحل فيها قصة حياته ، وإن كان تركيزها الأساسي على العلاقات المصرية السوفيتية فى عهدى الرئيسين عبد الناصر و السادات ، وأول ما يخطر على بال القارئ أن الكتاب يحوى مذكرات جديدة للرئيس الراحل كانت فى حوزة الأستاذ أنيس ولكن يتضح لنا أن تلك المذكرات نشرت من قبل على صفحات مجلة أكتوبر التى أنشأها الرئيس السادات وقام بتعيين الأستاذ أنيس رئيسا لتحريرها ، كان الرئيس السادات يأمل أن تنافس مجلة أكتوبر مجلة الحوادث اللبنانية التى كانت تحظى بشعبية واسعة فى العالم العربى ولكن الأستاذ أنيس فشل فى مهمته رغم الإمكانيات الضخمة التى وفرها له الرئيس الراحل ونجح الأستاذ أنيس بمهارة لا يحسد عليها أن يهوى بتوزيع المجلة التى لم تستطع أن تنافس حتى مجلة ميكى فى مصر .
يقول الأستاذ أنيس فى المقدمة التى وضعها للكتاب ( لم يلجأ الرئيس السادات إلى ورقة أو كتاب ينقل منه بعض ذكرياته أو خواطره أو يراجع ما جاء فيها من تواريخ ) تبدو هذه العبارة شديدة الصدق خاصة عندما تتعلق بالرئيس السادات الذى كان معروفا عنه كراهيته للقراءة وللأوراق والوثائق ، وحبه للحكايات التى كل شهودها وأبطالها أموات ، وإن كان هذا يعطينا فكرة عن قيمة الكتاب كحكاوي وقصص بلا دليل تمثل وجهة نظر الرئيس الراحل ، كتب الأستاذ أنيس على الغلاف الأخير للكتاب ( نجد فى هذه الأوراق رصدا دقيقا لأحداث ثورة يوليو سنة بسنة و كشفا لأسرار ثورة مايو وتوثيقا تاريخيا لمعركة أكتوبر باليوم و الساعة و الدقيقة ) هكذا كما يوحى لنا الأستاذ أنيس سوف نجد فى تلك الأوراق تاريخ مصر لمدة تزيد عن 20 سنة وسوف نكتشف معا زيف كل تلك الكلمات بل أن أخطاء التواريخ لا تعد فى ذلك الكتاب ومنها أن مبادرة روجرز كانت قبل أخر زيارة لعبد الناصر للاتحاد السوفيتى بينما هى تمت أثناء زيارة عبد الناصر الأخيرة ، وأن كوسيجين زار مصر يوم الثغرة 16 أكتوبر1973 بينما وقعت الثغرة مساء يوم 14 أكتوبر 1973 ، وأن الانفصال تم يوم 26 سبتمبر 1961 بينما هو تم يوم 28 سبتمبر 1961 ، ويقول السادات أنه فى أغسطس 1967 كانت قد مرت على معرفته بعبد الناصر 19عاما بينما هو يعرفه منذ عام 1938 أى منذ 29 عاما ، وفى صفحة 243 من الكتاب صورة للسادات بالملابس العسكرية يعبر أحد الجسور من غرب القناة إلى سيناء وحوله قادة القوات المسلحة وأمامه المصورين والتعليق المكتوب عليها ( الرئيس السادات مع القوات المسلحة لحظة العبور ) بينما الثابت تاريخيا أن حرب أكتوبر لم يتم تصويرها لدواعى السرية ، وأن المشاهد والأفلام التى تذاع عنها هى تصوير لمناورة تمت عام 74 وكانت طبق الأصل من معارك العبور عام 1973 ، كما أن الرئيس السادات لم يزر سيناء أثناء الحرب ولم يكن مطلوبا منه ذلك ، فلمصلحة من يضع الأستاذ أنيس هذا التعليق على صورة تم التقاطها بعد انتهاء الحرب بأكثر من سنة وواضح فيها أنها تتم فى جو هادئ واحتفالى ، وهكذا اجتمعت موهبة الرئيس السادات فى تلفيق الوقائع والتواريخ مع موهبة الأستاذ أنيس فى عدم مراجعة ما يكتبه، وفى هذا الصدد أتذكر هنا كتاب للأستاذ أنيس أسمه ( عاشوا فى حياتى ) طبعة مكتبة الأسرة عام 2000 فى صفحة 658 من الكتاب يروى الأستاذ أنيس هذه الواقعة عن لقاء جمعه بأم كلثوم والشاعر والكاتب الكبير كامل الشناوى ودار عن أحوال مصر بعد النكسة عام 1967وعن الرئيس عبد الناصر الذى يتم تصويره بالغائب عن الوعى ، وشهد اللقاء مناقشة بين أم كلثوم و كامل الشناوى بحضور أنيس منصور ، يروى الأستاذ أنيس تفاصيل المقابلة الحامية وتأثر كوكب الشرق مما ورد فيها ، كل هذا يحكيه أنيس منصور بينما يخبرنا التاريخ أن الأستاذ كامل الشناوى توفى فى 30 نوفمبر 1965 قبل النكسة بأكثر من عام ونصف ، فمن الذى حضر وتكلم مع أم كلثوم و أنيس هل هى روح الأستاذ كامل الشناوى ؟ هل حضرها الأستاذ أنيس ؟ وكيف نستطيع تصديق حرف واحد يخطه كاتب على تلك الشاكلة من الجهل والاستخفاف بعقول القراء وتلفيق وفبركة الحكايات ؟!!
والآن بعدما أدركنا نوعية الرئيس راوى الحكايات وحقيقة الكاتب صاحب الصياغة نبدأ قراءة أوراق السادات معا مسلحين بالصبر والقدرة على عبور سطور من الأكاذيب .
الرئيس السادات هو المتحدث الأوحد على صفحات الكتاب فهو الذي يروى لنا الأحداث منذ بداية الكتاب وحتى نهايته ، وهذه أول نقاط التشابه بين هذا الكتاب وكتاب الرئيس السادات ( البحث عن الذات ) ، وبينما فصول كتاب ( البحث عن الذات ) مرتبة تاريخيا من الأقدم فالأحدث ، فإن فصول هذا الكتاب غير مرتبة تاريخيا ، يلفت النظر في هذا الكتاب أنه يتخذ موقفا أفضل نسبيا من شخصية الرئيس عبد الناصر مقارنة بكتاب البحث عن الذات ، وإن لم يذكر كل الحقيقة ، فالسادات يصف سلفه الرئيس عبد الناصر بالطيبة و الهدوء والذكاء الشديد والقدرة على التخطيط والدهاء السياسي ، و يعترف أنه قائد ثورة 23 يوليو وزعيم الضباط الأحرار ومفجر الثورة وعقلها المدبر وكاتب بيانها الأول مع عبد الحكيم عامر ،وأنه رجل إذا قال فعل وإذا وعد فأنه يفي بالوعد وأنه لم يكن أبدا شيوعيا ، كما يذكر بعض أعمال عبد الناصر مثل تأميم القناة و إعادة بناء الجيش بعد النكسة وحرب الاستنزاف ولكن كل ذلك ليس صحوة ضمير من السادات بل لكى يصور عبد الناصر كضحية لتعنت وغدر السوفيت وليتهم السوفيت بقتل عبد الناصر وتحطيم معنوياته ، وفى فصل من الكتاب عنوانه ( التصنيف اللعين ) يعاود السادات هجومه على عبد الناصر ويمدح الملك فيصل ويروى وقائع مختلقة عن إحساس عبد الناصر بالهزيمة المعنوية بعد موقف الملك فيصل من مصر بعد النكسة فى مؤتمر القمة بالخرطوم فى أغسطس 1967 ولكن الحقائق التاريخية تروى أن مؤتمر القمة بالخرطوم عقب النكسة كان بمثابة عودة الروح للرئيس عبد الناصر الذى تم استقباله من الشعب السودانى بصورة أسطورية لا توصف خاصة أنها كانت أول زيارة له لقطر عربى بعد الهزيمة وهذه الزيارة التاريخية مسجلة فى جريدة مصر الناطقة لمن يرغب فى رؤيتها ،وكانت حفاوة عشرات الألوف من أبناء السودان بالرئيس عبد الناصر هى السبب الذى جعل استقباله الحدث الأول إعلاميا فى العالم وقتها وقد نشرت كل الصحف العالمية فى صفحاتها الأولى تغطية للاستقبال وصور التفاف الشعب السودانى حول القائد العربى عبد الناصر ، ونشرت مجلة ( نيوزويك ) الأمريكية على غلافها صورة للرئيس عبد الناصر محاطا بعشرات الآلاف من أبناء الشعب السودانى وكتبت تحتها ( المجد للمهزوم هذه أول مرة فى التاريخ يتم فيها استقبال قائد مهزوم بأكاليل الغار كالفاتحين و المنتصرين ) ، وعندما مر موكب الملك فيصل خلف موكب الرئيس عبد الناصر هتفت له الجماهير السودانية ( وراء جمال يا فيصل ) ، وفى هذا المؤتمر تم تكريس المقاومة و رفض العدوان وخرج المؤتمر باللاءات الثلاثة الشهيرة ( لا صلح ، لا اعتراف ، لا تفاوض ) ، فمن أين أتى الرئيس السادات بتلك الحكاية الغريبة ؟ !
كما يهاجم الكتاب بشدة وبألفاظ تحمل معانى السب والقذف الأستاذ محمد حسنين هيكل ، فالسادات يتهمه أنه مركز القوة الثاني في نظام عبد الناصر بعد مركز القوة الأول الممثل في مجموعة مايو ، كما يتهمه ببلبلة الشعب وزرع اليأس فيه من اندلاع حرب التحرير بمقالاته بجريدة الأهرام قبل حرب 1973 ، ويقول السادات أن موقف هيكل أثناء حرب 1973 كان ضد مصر ! ، وأنه عاير مصر و قواتها المسلحة بسبب الثغرة وأن هيكل أعتبر حرب 1973 هزيمة فادحة لمصر أسوأ من هزيمة 1967 ، ويكتب الأستاذ أنيس على لسان الرئيس السادات هذه الكلمات بالنص عن موقف هيكل من انتصارات 1973 ( تحدث بلغة الفوازير و الشماتة و السفالة أللأخلاقية دون وازع من ضمير وهو شئ يبعث على الخزي و الاحتقار وان هيكل يمثل نوع من الانهزامية القبيحة والشماتة العارية فى مصر و شعب مصر و جيش مصر ) .
ولم يكتف السادات بذلك بل أتهم هيكل بالجبن والرعب من مجموعة مايو حتى وهم فى سجون السادات لامتلاكهم ملفات ضده .
تبدو هذه الاتهامات نوع من العبث و السخف غير المقبول وهى تعكس طبيعة السادات الغادرة ، فهيكل هو الذى سانده بكل ما يملك أثناء أحداث مايو 1971 ومازال الأستاذ هيكل يفتخر بدوره فى تلك الأحداث ، رغم أن معظم أنصار هيكل ومحبيه يعتبرونها نقطة سوداء فى تاريخه ،وهيكل كتب مقالاته عن الحرب عام 1971 والتى بدأها بمقال ( تحية للرجال ) بالاتفاق مع السادات فى إطار تحالفهما معا ضد رجال عبد الناصر الذين كانوا يلحون على السادات ببدء العمليات فى موعدها المقرر قبل نهاية ربيع 1971 ، بينما كان كلا من الرئيس السادات و الأستاذ هيكل يريدان استنفاذ كل وسائل الحل السلمى قبل الشروع فى حرب جديدة ، و الأستاذ هيكل هو كاتب التوجيه الاستراتيجي الصادر من الرئيس السادات إلى الفريق أحمد إسماعيل ببدء العمليات المسلحة يوم 6 أكتوبر 1973 ، وأختلف الرجلان عقب الحرب عندما أحس هيكل بنية السادات البحث عن حل سلمى منفرد برعاية أمريكية وهو ما أعتبره هيكل إهدار لتضحيات الرجال من 1967 إلى 1973 وتباعدت على إثر ذلك رؤى الرجلين وخرج هيكل من الأهرام بأمر السادات ، ورغم كل ذلك التاريخ من التعاون بين الرجلين أنهال السادات بالسب و القذف بحق الأستاذ هيكل بدون دليل على صدق اتهاماته ، وقد أثبتت الأحداث صحة وجهة نظر الأستاذ هيكل كما أثبتها هو بكتبه ووثائقه التى كشفت حقيقة السادات وحقيقة خياراته ، وعندما يتحدث السادات عن مجموعة مايو يتحول الحديث إلى سباب و شتائم جارحة وتهم عجيبة فهم مجموعة من الأغوات وخدام السلاطين ، والسادة ( على صبرى ، شعراوى جمعة ، سامى شرف) فى رأى السادات مجموعة من التافهين ، ورغم ذلك يتهمهم بالرغبة فى التخلص من عبد الناصر والتأمر عليه والهجوم على مبادئ ثورة يوليو واستغلال مرض عبد الناصر للتجهيز لثورة شاملة ضده وينقل وقائع توحى بأنهم كانوا لا ينفذون تعليمات عبد الناصر وفى نفس الوقت يتهمهم بالسذاجة والغباء السياسى و قصر النظر ، مما يجعل القارئ متحير فى فهم هؤلاء الرجال وشخصياتهم ، وعندما يذكرهم بالاسم يقول عن السيد سامى شرف وزير شئون رئاسة الجمهورية الأسبق و سكرتير الرئيس عبد الناصر للمعلومات أنه كان عميلا سوفيتيا يتجسس على الرئيس عبد الناصر لحساب السوفيت وهى تهمة باطلة ألصقت زورا بسامى شرف ، وقد نفاها كلا من وزير الخارجية الأسبق محمود رياض، وسفير مصر الأسبق ووزير خارجيتها مراد غالب ، ومستشار السادات وصديقه فى بداية حكمه محمد عبد السلام الزيات فى مذكراتهم،كما نفاها الأستاذ هيكل جملة وتفصيلا موضحا أن ولاء سامى شرف الأول والأخير كان لمصر ولعبد الناصر ، ولم يكتف السادات بذلك بل يقول عن سامى شرف بالنص( سامى شرف يعلم جيدا أنه إنسان محدود وأنه لا يستطيع أن يكون فى المقدمة وإنما لابد أن يعيش فى ظل أحد ، أى أنه يكون الرجل الثانى أو الظل لأى أحد ) ويقول عنه أيضا ( أنه صورة من الغباء ، وأنه مرتبط بشعراوى جمعة ولكنه من الممكن أن يرتبط بأى إنسان أخر لأنه لا يستطيع أن يقف على رجليه فهو كالأطفال التى لم يتم فطامها بعد ) . كما يصفه أنه دائم البكاء و سريع الانهيار .
تبدو تلك الصفات بعيدة تماما عن صفات السيد سامى شرف الذى يعرفه الجميع كرجل شجاع ذو مبادئ ظل بجوار الرئيس عبد الناصر حتى رحيله كمثال حى للوفاء والتفانى فى خدمة مصالح مصر وعرف عنه النظام و الدقة الشديدة والذاكرة الحديدية والجلد فى العمل والذكاء الحاد والنزاهة المطلقة ، والرجل الذى دفع ثمن ولائه لمبادئ الثورة عشر سنين من عمره فى السجن عقب انقلاب السادات ، ومازال حتى الآن يدافع عن الثورة وعن الزعيم بالوثائق والأدلة وليس عبر شتائم رخيصة .
عندما كتب سامى شرف مذكراته تحدث فيها بالأدلة والوثائق عما يعرفه وعمن عرفهم ولم يشتم ولم يسب من ظلمه بل على العكس عندما سأله الكاتب الصحفى الراحل عبد الله امام فى كتابه ( عبد الناصر كيف حكم مصر ؟ ) هل حزن على السادات عندما علم بمقتله ؟ أجابه الرجل النبيل ( نعم حزنت عليه لقد ظلمنى وشهر بى ولكنى حزنت على نهايته)
وتتواصل سلسلة الشتائم فيقول السادات عن السيدين على صبرى و ضياء الدين داوود بالنص فى صفحة 144 من الكتاب ( فقد رفضت دعوتهما إلى بيتى حرصا على نظافة بيتى و أى مقعد يجلس أى منهما عليه ) وهى كلمات تدين السادات ولا تليق بمقامه ، حقيقة أن خطبه توضح أنه كان منفلت اللسان ودائم السباب لخصومه السياسيين فقد وصف الشيخ المحلاوى بالكلب ووصف العقيد القذافى بالجنون ووصف العرب بالأقزام على رؤوس الأشهاد ولكن ذلك أصبح تاريخا ومضى ، وكان من الأفضل بالنسبة للأستاذ أنيس لو كان فعلا محب للسادات ومهتم بصورته إلا يعيد نشر تلك الشتائم للقراء لأنها تسئ للسادات قبل أن تسئ لخصومه
وعن خلافاته مع الفريق صادق وزير الحربية الذى سانده فى انقلابه عام 1971 يهاجمه الرئيس بضراوة هو ومعاونيه ويصفهم بالإهمال والجهل العسكرى وأن الفريق صادق جندى خائف من القتال و كاذب ولا يستطيع القتال وأرتكب جريمة لا يمكن غفرانها وأن السادات يتمنى محاكمته ليعرف الناس أبعاد جرمه والكارثة التى كاد الفريق صادق يتسبب فيها لمصر بتأخيره المعركة مع إسرائيل بينما تقول وقائع التاريخ أن الرئيس السادات فى يوم 26 مايو 1972 أقال وزير الحربية الفريق محمد صادق ومساعده وقائد البحرية وقائد المنطقة العسكرية المركزية ومدير المخابرات وطردهم جميعا من مناصبهم عقب تفجر الخلاف بين الرئيس السادات وهؤلاء القادة قبلها بيومين فى اجتماع مجلس الأمن القومى ، عقب عرض الرئيس لأفكاره بخصوص شن حرب محدودة تجعلنا نكسب عشرة ملليمترات على الضفة الشرقية لقناة السويس ، يبدأ بعدها عملية التفاوض السياسى وعندما رفض القادة تلك الأفكار واحتدت المناقشة بينهم وبين الرئيس ، أنهى الرئيس الاجتماع غاضبا وقرر طردهم من مناصبهم وهكذا تحول اختلاف الرؤى بين الرئيس ووزير حربيته الى جهل وإهمال وتأمر كعادة الرئيس السادات فى أى اختلاف فى وجهات النظر معه .
وبخصوص الفريق سعد الدين الشاذلى رئيس الأركان أثناء حرب أكتوبر 1973 فالرئيس الراحل يتهمه بالانهيار النفسى أثناء المعركة و بالتسبب فى حدوث الثغرة وانه طالبه بانسحاب كامل للقوات المصرية من سيناء للتصدى الثغرة والبحث عن حل سياسى لمنع حدوث كارثة للقوات المسلحة وكل تلك الاتهامات تم تكذيبها من جميع قادة حرب أكتوبر وعلى رأسهم المشير الجمسى الذى نفى انهيار الشاذلى ونفى مطالبته بالانسحاب الكامل من سيناء ونفى تسببه فى الثغرة ، بل أتهم السادات بها ضمنا عندما قال أن العمل السياسى خذل العمل العسكرى فى حرب أكتوبر، ويروى السادات تفاصيل الخطة العسكرية التى أمر الفريق الشاذلى بتنفيذها لتدمير القوات الإسرائيلية فى الثغرة والتى لم ينفذها الشاذلى ، بينما الوقائع التاريخية تثبت أن القادة العسكريين المصريين قاموا بوضع خطة عسكرية سميت (الخطة شامل) لتصفية الثغرة وإبادة القوات الإسرائيلية الموجودة بها ، حتى يزيلوا ما اعتبروه إهانة للعسكرية المصرية وتضحياتها فى المعركة ، بسبب حصار الجيش الثالث المصرى ، ومما دعم خطتهم وصول إمدادات عسكرية جديدة لمصر من الاتحاد السوفيتى والعرب تكفى لنجاح الخطة ، ولكن السادات طلب منهم الانتظار ورفض التصديق على تنفيذ الخطة ، الطريف أن الرئيس السادات الذى يقول أنه رسم خطة عسكرية محكمة لتصفية الثغرة أجهضها الشاذلى يقول فى صفحة 480 فى كتاب ( من أوراق السادات ) أنه بعد عودته للجيش طلب منه عبد الناصر دخول امتحانات الترقى وأنه فشل فى الإجابة على أسئلة الامتحان ويعترف السادات أنه لولا تدخل جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر فى تبديل ورقة إجابته بورقة أخرى صائبة لرسب فى الامتحان لأنه كان غائبا عن الجيش لمدة 6 شهور ولا يتابع تطورات سلاح الإشارة الذى كان ضابطا به فكيف نقرأ هذا الاعتراف بفشله فى امتحان للترقى فى سلاح الإشارة ثم نصدق قصة وضعه خطة عسكرية محكمة لتصفية الثغرة .
يشيد الرئيس السادات بالفريق أحمد إسماعيل ويصفه بالذكاء والدقة ويعترف أنه أختاره لمنصبه وهو يعلم بإصابته بمرض السرطان وان الأطباء أخبروه أن حالة الفريق أحمد إسماعيل لا تؤهله لتحمل أعباء الحرب ، كما أن الكورتيزون الذى يتعاطاه كعلاج يؤثر على قراراته ويجعله غير قادر على التفكير السليم ،كما يقول أنه كان يعلم بخلافاته الحادة مع الفريق سعد الدين الشاذلى .
يبدو هذا الكلام شديد الغرابة فإذا كان الرئيس السادات يعلم كل ذلك عن حالة الفريق أحمد إسماعيل فلماذا تركه يقود القوات المسلحة فى حرب 73، تأتى الإجابة عن كل تلك التساؤلات فى مذكرات الفريق الشاذلى الذى يحلل أسباب اختيار السادات للفريق أحمد إسماعيل بالذات .
يقول الفريق الشاذلى أن أسباب هذا الاختيار هى كراهية أحمد إسماعيل الشديدة للرئيس عبد الناصر الذى طرده من منصبه كرئيس للأركان عام 1969 بسبب نجاح هجومين إسرائيليين فى فترة ولايته ( ستة أشهر فقط ) ، ولولاء أحمد إسماعيل المطلق للرئيس السادات الذى أعاده للجيش بعد طرده منه ثم عينه رئيسا لجهاز المخابرات العامة ثم وزيرا للحربية ، ويتهم الفريق الشاذلى الفريق أحمد إسماعيل بضعف شخصيته العسكرية و أنه يفضل تلقى الأوامر و تنفيذها بدلا من إصدارها ، وهو ما أستغله السادات لفرض أفكاره على سير المعركة العسكرية عام 1973 ، ويضيف الفريق الشاذلى أن علم السادات بمرض الفريق أحمد إسماعيل كان دافعا له لتعيينه ليضمن السيطرة عليه ، كما أن السادات كان يعلم بالخلافات الشخصية الحادة بين الشاذلى و أحمد إسماعيل لذا قام بتعيينهما معا ليضمن عدم اتفاق القوات المسلحة ضده وبعد أن وضحت لنا تلك النقطة من خلال تحليل الفريق الشاذلى ، نعود لمواصلة تفنيد الأكاذيب الواردة فى الكتاب فنجد السادات يصف حقبة الستينات بأنها كانت هزائم متوالية يبدو هذا الرأى شديد التعسف وينم عن جهل شديد أو حقد مريض تجاه تلك الحقبة التى شهدت أنجح خطة خمسيه فى تاريخ مصر حققت معدل نمو بلغ 7% ومصدر هذا الرقم تقرير البنك الدولى رقم [870 - أ] عن مصر، الصادر فى واشنطن بتاريخ 5 يناير 1976، وهذا يعنى أن مصر استطاعت فى عشر سنوات من عصر عبد الناصر أن تقوم بتنمية تماثل أربعة أضعاف ما استطاعت تحقيقه فى الأربعين سنة السابقة على عصر عبد الناصر، كانت تلك نتيجةً لا مثيل لها فى العالم النامى كله، حيث لم يزد معدل التنمية السنوى فى أكثر بلدانه المستقلة خلال تلك الفترة عن اثنين ونصف فى المائة ، بل أن هذه النسبة كان يعز مثيلها فى العالم المتقدم، باستثناء اليابان، وألمانيا الغربية، ومجموعة الدول الشيوعية ، وفى الستينات تم بناء السد العالى الذى اختارته الأمم المتحدة عام 2000 كأعظم مشروع هندسى و تنموى فى القرن العشرين، كما تم بناء مجمع مصانع الألمونيوم فى نجع حمادى وهو مشروع عملاق بلغت تكلفته ما يقرب من 3 مليار جنيه ، وفى ظل النكسة حافظت مصر على نسبة النمو الاقتصادي قبل النكسة ، بل أن هذه النسبة زادت فى عامى 1969 و 1970 وبلغت 8 % سنويا ، وأستطاع الاقتصاد المصرى عام 1969 أن يحقق زيادة لصالح ميزانه التجارى ،لأول و أخر مرة فى تاريخ مصر ، بفائض قدرها 46,9 مليون جنية بأسعار ذلك الزمان ، كما تحمل الاقتصاد المصرى عبء إعادة بناء الجيش المصرى وبناء أكبر حائط صواريخ فى العالم بدون مديونيات خارجية ، وكان اقتصاد مصر أقوى من الاقتصاد الكورى الجنوبى ، وثمن القطاع العام الذى بناه المصريون فى الستينات بتقديرات البنك الدولى بلغ 1400مليار دولار ، وعدد المصانع التى أنشأت بلغ مايقرب من 1200 مصنع ، وفى تلك الفترة تم استصلاح ما يقرب من 2 مليون فدان بفضل السد العالى و استطاعت مصر عبد الناصر أن تحقق الاكتفاء الذاتى من كل محاصيلها الزراعية ماعدا القمح الذى حققت منه 80% من احتياجاتها ، وفى عام 1969 وصل إنتاج مصر من القطن إلى 10 ملايين و800 ألف قنطار ، وهو أعلى رقم لإنتاج محصول القطن فى تاريخ الزراعة المصرية على الإطلاق وصلت المساحة المزروعة أرز فى مصر إلى ما يزيد على مليون فدان ،وهى أعلى مساحة زرعت فى تاريخ مصر كل تلك الانجازات يراها الرئيس السادات هزائم متوالية ، وهكذا بينما يبدو الرئيس السادات عنيفا ودائم السباب لمن أعتبرهم خصومه السياسيين سواء قبل انقلابه أو بعد انقلابه ، وشديد النقمة على الاتحاد السوفيتى الذى حاربت مصر بأسلحته كل حروبها ، و شديد التباهى بقراره طرد الخبراء السوفيت من مصر فى يوليو 1972 الذى أتخذه منفردا وبدون التشاور مع أحد غير الفريق صادق وزير الحربية المصرى وقتها و فاجأ به الجميع ، وهو يتصور أن الأمريكيين سوف يكونوا سعداء ، إلى درجة تدفعهم إلى الاستجابة لأى شئ يطلبه ، وهو ما لم يحدث كما نعرف ، يقول وزير الخارجية الأمريكي هنرى كيسنجر عن القرار فى مذكراته ( لماذا لم يقل لنا السادات ما كان ينوى فعله ؟ ربما لو أبلغنا مسبقا لكنا قدمنا له شيئا فى المقابل ؟ فى السياسة كما فى كل شئ أخر ، فأن لا أحد مستعد لدفع ثمن لشئ حصل عليه بالفعل ) ، الغريب أن الدكتور محمود فوزى وزير خارجية مصر ورئيس وزرائها الأسبق يروى فى مذكراته أنه كان هناك تفاهم بين الرئيس عبد الناصر و الرئيس اليوغوسلافى تيتو على إن اتخاذ مصر لخطوة مثل إخراج السوفيت من المنطقة لن تمررها مصر إلا بمقابل إجبار الولايات المتحدة لإسرائيل على الانسحاب من الأراضى العربية المحتلة فى إطار حل شامل للصراع العربى الاسرائيلى ، لأن غرض الرئيس عبد الناصر الحقيقى من وجود الخبراء السوفيت كان رفع مستوى المواجهة من المستوى الأقليمى بين العرب و إسرائيل إلى المستوى العالمى بين الاتحاد السوفيتى و الولايات المتحدة ،وهكذا نجد السادات قد قدم بقراره هذا هدية مجانية للولايات المتحدة الأمريكية التى نجده دائما هادئ الأعصاب وفى غاية السعادة وهو يتحدث عنها وعن صديقه العبقرى هنرى كيسنجر واثقا فيه مدركا أن كل أوراق اللعبة فى يد أمريكا بعدما حول الرئيس السادات قضية الصراع العربى الإسرائيلى إلى لعبة بيد الأمريكيين .
مشكلة المذكرات الواردة فى كتاب ( من أوراق السادات ) أنها فقدت صلاحيتها فكل ما يرويه السادات فيها ثبت كذبه و زيفه سواء بالنسبة لخصومه أو بالنسبة لأصدقائه ، فخصومه كلهم أصدروا شهاداتهم ومذكراتهم عن عهده مدعمة بالأدلة و الوثائق مما فند كل أكاذيبه ، وأصدقاؤه وعلى رأسهم كيسنجر تكفى قراءة مذكراته لتبيان مدى استخفافه بالسادات وتعجبه من قراراته وينتقد كيسنجر فيها عدم قدرة السادات على الاستفادة من كل أوراق الضغط التى كان يمتلكها عقب حرب 73 وتبديده لها دون فائدة كما يحلل كيسنجر شخصية السادات بما يدين السادات .
أن خيار السادات بتسليم كل مفاتيح الشرق الأوسط إلى الولايات المتحدة دفعت مصر ثمنه ومازالت تدفعه حتى الآن من انهيار دورها الأقليمى ومكانتها الدولية وتبعية اقتصادها وسوء أحوال شعبها ومن محاربة الصهيونية إلى الاعتراف بالاغتصاب الصهيونى لفلسطين ثم العلاقات الخاصة مع إسرائيل ومن الانحياز للطبقات الفقيرة والمتوسطة إلى الانحياز لرجال الأعمال والسماسرة ومن الاستقلال الاقتصادى الكامل والتخطيط الشامل للتنمية إلى التبعية الاقتصادية وربط الاقتصاد المصرى بالاحتكارات الرأسمالية العالمية ومن محاولة اللحاق بركب العلم وتنمية البحث العلمى إلى تخريب التعليم وإهمال البحث العلمى ، ومن قيادة العالم العربى والعالم الثالث بمواقفها المؤيدة لحقوق الضعفاء والمعادية للاستعمار إلى دولة تدور فى فلك السياسة الأمريكية ، وخيار السلام ثبت أنه أكذوبة قايض فيها السادات استقلال إرادة مصر بسيناء منزوعة السلاح وقبل السادات معاهدة سلام بشروط سبق و رفضها عبد الناصر وهو مهزوم تأمر الرئيس السادات على كل من سانده ووقف بجواره ، مجموعة مايو التى جعلته رئيسا زج بأفرادها فى السجون وشهر بأفرادها ونعتهم بأبشع التهم ، وجمال عبد الناصر الذى حماه ورعاه ولولاه ما أصبح رئيسا وما دخل التاريخ من الأصل أنهال عليه بالسباب والاتهامات وهدم مشروعه القومى ونقض عهده وشوه سيرته ، وشركاؤه فى انقلاب مايو ( هيكل ، الليثى ناصف ، الفريق صادق ، محمد عبد السلام الزيات ، محمود فوزى ) تخلص منهم جميعا بطرق مختلفة ، وهكذا حتى وصل به الأمر فى نهاية عهده إلى اعتقال كل رموز مصر .
روى السادات تلك الحكايات لأنيس منصور وهو فى ذروة قوته وكمبرر للقطيعة مع السوفيت والانحياز للولايات المتحدة الأمريكية وهى مرهونة بوقتها وكان يجب على الأستاذ أنيس إلا ينشرها حفاظا على صورة الرئيس الراحل لأن أى قراءة موضوعية لتلك المذكرات يثبت مدى قصور فكر الرئيس الراحل وخطأ اجتهاداته السياسية وهو أمر كان يجب ألا يفوت الأستاذ أنيس منصور الذى لم يرحم حتى صديقه وصاحب الفضل عليه الرئيس السادات فوضع أسمه فوق أوراقه كما تعود أن يترجم الكتب ويضع أسمه فوقها بمنتهى الصفاقة ، وحتى الآن يبدو غير مفهوما سبب نشر تلك الأوراق الآن إلا أذا كان الأستاذ أنيس يرغب فى تصفية حساباته مع من بقى حيا من خصوم السادات كالأستاذ هيكل والسيد سامى شرف والفريق سعد الدين الشاذلى وحتى لو كان هذا غرضه فقد فشل فى اختيار سلاحه وأساء للسادات أكثر مما أساء لخصومه ، وأثبت وجهة نظر خصوم الرئيس الراحل فيه كسياسى مغامر تحليلاته واجتهاداته كلها خاطئة وعصره كله يبدو كخطأ تاريخى مازالت مصر تدفع ثمنه .
نقلا عن الفكر القومى العربى
06/11/2014