قراءة في رواية (أصوات الصمت )
...............................................................
| |
| |
محمد الأسعد الكاتبة | |
محمد سهيل أحمد
....................
" الفن لا يعرف الضوضاء " رولان بارت
•· في بيت قديم الطراز مطل على البحر في مدينة خليجية تلتقي مجموعة من الاصدقاء ، يجمعهم قاسم حياتي مشترك هو انهم اقتلعوا جميعا ، بيد لا تعرف الرحمة من أرضهم الأولى ليختاروا العيش او ليختارهم العيش في هذه المدينة الكومبرادورية الطراز الواقعة بين البحر والصحراء . يقتاتون على أحلام وذكريات .. كلما هددتها معاول الزمن بالتلاشي والانمحاق ، قاموا بتأجيجها بكل ما توفرت لديهم من وسائل .. بانشاء مسرح ..بالحوار .. بالشجار.. بالغناء ، بالحجارة بل حتى بالصمت نفسه . إنها مسرحية هم ، هذه المرة مؤلفوها وممثلوها ومخرجوها .
مستوى الخطاب .. دلالات الخطاب
تهدف العملية النقدية الى سبر أعماق الخطاب الإبداعي للنص إلى اعتماد محورين اساسيين هما :
الرؤية التي ينطلق منها الناقد
المنهج الذي يتبناه للوصول الى ما يهدف اليه .
هذه القضية أثارت اهتمام عدد لا حصر له من نقاد الأدب والمهتمين باللسانيات ودارسيها على مر التاريخ بدء بأرسطو ، مرورا بالجرجاني ووصولا الى بارت ولوكاش و تودوروف وفراي . ثمة من ركز على الرؤية وأهمل المنهج في حين ان هناك من ركز على المنهج وأهمل الرؤية . ولاعتماد قراءة نقدية تتحرى الجدية لعمل ذي نسيج فريد من نوعه مثل ( أصوات الصمت ) ؛ لا مناص من تبني جملة من الحفريات والكشوفات والمقاربات التحليلية المصحوبة بتمازجات ديناميكية متوازنة من خلال تعشيق كلا الاشتغالين : الرؤية والمنهج احدهما بالآخر . يقول الناقد د. عبد الله ابراهيم : " اللغة الأدبية لا تستعير مكونات العالم الخارجي إنما تعبر عن وعي ومعان ومدلولات ونظم فكرية شاملة،وتقوم بتخليق عوالم جديدة من تعالق الدالات اللغوية بعضها ببعض، ويقوم القارئ أو الناقد بكشف تلك العوالم الجديدة حال الانتهاء من قراءة النص او إثناء عملية القراءة " ( 2) . هذا الاشتغال ينطوي على قدر من الاستعانة بالكشوفات اللسانية كون السرد جملة كبيرة .عموما يبدو من الصعب اطلاق احكام نهائية حول طبيعة الضوابط العامة لحركة الرواية ونموها .
ثريا النص : بنية عنوان
لم يأت اختيار الروائي محمد الاسعد ل ( أصوات الصمت ) عنوانا لروايته عبثا . يتوفر قدر كبير من القصدية في اختياره لثريا نصه الروائي على نحو دلالي يقودنا الى تأكيد العلاقة بطبيعة كل منهما ، أي عفوية الاكتشاف و قصدية الاختيار :
" على ان العنوان ليس بنية نهائية ، انما هو بنية صغرى لا تعمل باستقلال تام عن البنية الكبرى " ( 3 ) . من الواضح وجود وشيجة مباشرة بين عنوان الرواية وفكرتها المحورية المؤسسة على أكثر من مستوى لظاهرة الصمت سياسيا ، حياتيا او طبيعيا ؛ ذي صلة بالواقع المادي للكون . " حين تغيب كل الأصوات تظل مسموعة أصوات الصمت " (4)
أصوات الصمت : بنية مكان
تعامل الأسعد مع المكان تعاملا غير تقليدي . صحيح أن علاقة الرواية بالواقع حصرا هي التي تحدد خصوصيتها ، الا ان الكاتب آثر أن تدور أحداث روايته في أكثر من وسط ومكان . وفي ضوء وجهة نظر فنية نجد أن أحداث الرواية تتركز في حاضنتين مكانيتين محوريتين هما الكويت من جهة وفي غرفة ببيت قديم من بيوت الكويت مطل على البحر وهي التي أمست بمثابة الوعاء الذي يضم ما نثره الكاتب من شخوص مافتئت تتمرد على نمذجتها :
المحور الأول هو الكويت يشكل تاريخيا البقعة التي احتضنت أعدادا كبيرة ممن لجئوا إليها من فلسطينيي نكبة 48 ونكسة حزيران 67 . هذه الحاضنة - في تأثيرها المباشر على مجريات النص - قد تبدو سلبية عابرةpassive الا ان اية مضاعفات غير مرغوبة قد تنتج عنها ستكون في حدودها الدنيا خاصة حين ندرك ان الرواية لا تعتمد التناول التقليدي في التعامل مع حوادثها من حركة أحداث متعاقبة تعاقبا كرونولوجيا يؤثر احدها في الآخر . ان هذا الصنف من الروايات يبدو وكأن مؤلفه يبدأ من النهاية أو من الوسط او من أي نقطة زمنية . وهي مهمة لها صعوباتها ، لا ريب ولها مجالداتها ، على حد سواء .
ومع الأيام يتبلور شكل من اشكال النوستالجيا لدى تلك الشخوص . ولعل هناك من يعترض على جدوى تكريس عدد من المشاهد واللوحات والانطباعات السردية لوصف البيئة المكانية المحيطة ببيت الاصدقاء لكن المؤلف نجح في ملئها بتفصيلات تبدو اعتيادية غير نافرة ولا مفتعلة .
. اعتقد ان واحدة من ملامح هذا الاقتناص وحصر الشخوص في وسط مكاني ضيق يكمن في المجهود الذي بذله الكاتب للتحكم بالشخوص ومن ثم القيام بتحريرها بطريق إطلاقها في ثنايا العمل بين الفينة والفينة . وهذا ما يذكرنا بالكثير من الأعمال الروائية وغير الروائية التي تتخذ من القبو او الشقة او النفق أرضية تتحرك على خشبتها أحداث الرواية كرواية ( ميرامار ) لنجيب محفوظ وسواها .
هنا المكان الحقيقي هو اللامكان !
التجويف قلب شجرة تمر هند ، خشبة مسرح حانوت بائع شاي في بغداد ، غرفة في بيت عربي من بيوت الكويت :
" ولكن ها هي مسرحية غاب أبطالها وغاب المكان ذاته بالمعنى الحرفي " (5)
لقد اولى الأسعد مسألة العناية ب( مخلوقاته ) عناية كبرى اذ تبنى آلية اتخاذ بعض الشخوص التي صادفها في حياته كمقتربات لشخوص الرواية محيلا اياها الى كائنات تبصر وتسمع ، تحضر وتغيب ، تتذمر وتثور .
الزمن في الرواية
لئن كان الزمان بعدا رابعا للمكان ، فإن حفريات محمد الأسعد اعتمدت على إعادة لصق و ترصيف ما تشظى من احداث . اذن فالرواية كمحصلة لم تكن بناء كلاسيكيا تتنامى فيه الشخوص والأحداث عبر تعاقبات كرونولوجية تقليدية .لقد عمل الأسعد على تفتيت ثيمات المتن ومن ثم اعادة الصاقها بعمليات كولاج في ثنايا العمل على نحو يتساوق ورؤيته الداخلية بأنساقها الحداثوية المتقنة .
كيف تعامل روائي كمحمد الأسعد مع إشكالية الزمن خارجيا كان او ماله صلة بالنمو الداخلي للأحداث ؟ لقد وظف الروائي الآليات التالية في تعامله مع الزمن داخل المعمار الروائي :
أولا : من خلال الرصد العياني المشهدي ، ( تقنية الكاميرا أو المسح الضوئي ) كوصفه لصف من أشجار النخيل الهندي:" لم تكن الشجيرات آنذاك تتجاوز خاصرتي طولا ولهذا كثيرا ما مررت على رؤوسها المروحية المنحنية براحة يدي ، هكذا لمجرد لمسها غير واع انه سيجيء يوم أسير فيه تحت هذا النخيل ذاته هرما هرما ضئيلا أتذكر شظايا من ذلك الماضي ، أحاول تجميعها ورصها بحنان لم اكن امتلكه في تلك الأيام " ( 6). اذن فالروائي يحصر زمن الرواية بفترتين أولاهما حينما كانت الأشجار قصيرة قبل عقود ؛ كان ذلك في أوائل عهده بهذا المكان وكان حينها شابا منصب القامة ، وها هو يمر بالأشجار نفسها وقد تسامقت ليبدو ضئيلا قياسها بطولها ، ومن ثم ليمسي ذلك النماء قياسا لتقادم الكائنات في السن شأنه شأن حلقات جذوع الشجر والشقوق الظاهرة على جوانب اسماك القرش . وبغض النظر عن رشاقة هذا التشبيه البلاغي فأن الكاتب تمكن من حصر حركة شخوصه ضمن حيز مكاني محدد ، نظرا لأن الثيمات السردية محسومة ومعاد ترتيبها لتكون خاضعة لإحساس الكاتب بالزمن الداخلي للعمل ، وهو ما منح المتن ديناميكية لا تقليدية متساوقة مع لا تقليدية تناوله للخطاب السردي الذي يضم في ثناياه رسم الشخصيات ، مصائرها ، أخيلتها على نحو متعالق مع ثيمتها المركزية المؤسسة على تضادية الصمت والصوت . هذا ما نفذه الروائي في أكثر من لوحة كوصفه التأملي للدروازة : " لم تعد الدروازة ، أي البوابة ، دروازة الى أي شيء ، فهي منذ عرفتها أربعة طرق تتقاطع " (7)
يرى بعض النقاد أن المعيار الأساسي الذي يعتمد عليه تصنيف المتون هو الزمن ، كما يرون ان ثمة أربعة نظم تستأثر بالصياغات البارزة في الخطابات السردية وهي التتابع ك (ثلاثية ) نجيب محفوظ حيث تجري الإحداث على وفق تتابع متونها في الزمان وكذلك رواية ( بقايا صور ) لحنا مينا .
والنظام الثاني هو التداخل وهو ما نجده في عدد كبير من الروايات العربية مثل ( البحث عن وليد مسعود ) و( صيادون في شارع ضيق ) لجبرا ابراهيم جبرا و( موسم الهجرة ) للطيب صالح و( اصوات الصمت ) حيث أن متونها صيغت على نحو تتناثر فيه مكونات المتن في الزمان . . فالحدث السابق لا يكون سببا للاحق إنما يجاوره . أما النظام الثالث فهو التجاور أي تقديم المتن الذي ينتظم على محورين أو أكثر وهذا يفضي إلى تزامن عناصر المتن كونها تحدث في زمان واحد وأمكنة مختلفة كرواية إبراهيم أصلان ( مالك الحزين ) و( يوم قتل الزعيم ) لنجيب محفوظ . والمنظومة الرابعة هي التكرار . هنا ؛ لا تكتفي بعض المتون بأن تقدم مرة واحدة وإنما تعتمد نظاما يكررها اكثر من مرة ، تبعا لعدد الشخصيات المشاركة في المادة الحكائية ، وهذه المنظومة تعطي للرؤية السردية مكانة متقدمة في صوغ المتن ، ولما كانت الرؤى مختلفة ؛ وجب هنا اختلاف المتون لا بترتيبها انما بالتركيز على ناحية دون اخرى، وهذا يؤدي الى أن يعاد تقديم أجزاء كبيرة من المتن وربما المتن كله اكثر من مرة كمنجز فوكنر في ( الصخب والعنف ) ولورنس داريل في ( رباعية الاسكندرية) .ولعل ( اصوات الصمت ) خلطة من هذه النظم ، بدرجات ، سوى ان الغالب هو واحد منها لا اكثر ولا اقل ، هو الأسلوب التداخلي .
وجهة النظر : بنية السارد
ان تعدد وجهات النظر او الرؤى من العوامل المساعدة على تبلور الصياغات الفنية والبنائية للرواية البوليفونية متعددة الأصوات ، الا ان ذلك لا يعني بالضرورة ان كل تعدد في وجهات النظر او في زوايا السرد يقود آليا الى صياغة رواية متعددة الأصوات .. فقد نجد رواية حديثة تتسم بتعددية وجهات النظر الا انها تظل رغم ذلك رواية ذات صوت واحد حيث تتحرك كل وجهات النظر هذه ضمن مستوى صوت واحد (صوت المؤلف المنفرد في وجه العالم ) . ان مثل هذه الأصوات لا تمثل سوى تنويعات على لحن واحد وبشكل أدق تنويعات على طبقة صوتية واحدة . هذا ما يجده القارئ المتلقي في ( أصوات الصمت ) : " ولكنني اسمع أصواتهم في أحلامي "
" نحن معتادون على أن نبدأ بالموجود في مقدمة الصورة "
" المفاجأة انهم أنصتوا جميعا الى الطش وهو يشرح فكرته متحمسا ذات ليلة "
" بعد ايام حدثنا المتصوف عن لقائه بمن أطلق عليه مفتي الديار المسرحية "
( 8) . لاحظ تنوع الصياغات في استخدام الضمائر .
تعرف اللسانيات الحديثة الخطاب بأنه جملة كبرى فمكوناته هي مكونات الجملة وهي الزمن temps ووجهة النظر او الجهة aspect والصيغة mode
كيف نجح الاسعد في تقديم وجهة نظره ككاتب وكسارد عليم حاضر وسط كم هائل من المواقف ؟
اولا باستخدام السارد الأحادي المتعدد الوظائف فهو تارة سارد عليم وتارة ذو رأي ذاتي وأحيانا هو عدسة كاميرا . هذا التنوع مع تغليب واحد من المستويات الصياغية ( صيغة الانا ) ، كما ذكرنا ، جاء لصالح العمل اذ وفر مساحة مساحة واسعة من الشاشة التي دارت فيها احداث العمل بما صاحبها من مقدرة حرة على المناورة بالغوص الى الأعماق ومن ثم العودة الى السطح حسبما تقتضيه الرؤية .
وجهة النظر : الشخوص والوعاء الفكري
الآخرون .. مخلوقات محمد الأسعد هم مبعث اهتمامه الأول والأخير منذ السطر الأول لعمله الروائي: " لم يعد الأصدقاء يعشون في حر البيت الخشبية المطلة على البحر " (9)
من هم أولئك الأصدقاء ؟
عاطف ،علي الطش احمد النمول ، المتوحد الكرملي ، ابو عواد ، الميت ، السدرة الوحيدة صاحب التجويف ، جامع الإيجارات البدين وآخرون ..
هؤلاء يشكلون - عبر افعالهم وضجيجهم وحواراتهم الساخرة - عصب الرواية حيث يمارس المؤلف شكلا من اشكال التماهي وهو يسرد حكايته او بالأحرى حكاياته المتتالية .ففي الوقت الذي يقوم السارد المحوري بعملية السرد باستخدام صيغة الأنا ، تضج أرضية العمل وفضاؤه بمجموعة من الأشخاص لاشك انهم من لحم ودم عمد المؤلف الى اقتناصهم من بحر المدينة المائج ، مانحا إياهم أسماء دلالية تختلف عن اسمائهم الحقيقية ، مبقيا على خطوطهم الفكرية والسايكولوجية العامة . اذن فالمعادلة عبر الرواية ستكون كما يلي :
السارد العليم ازاء نفسه في تأملاتها وانثيالاتها الداخلية
السارد العليم ازاء الآخرين :
" انا بحاجة إليهم الآن لكي ابدأ حكايتي ، وهم بحاجة إلي ، ربما ليعودوا إلى الحياة مرة أخرى " .( 10) هذه الجملة تعكس مدى التحام الراوي بالآخرين مبقيا على مسافة بينه وبينهم ، تارة من اجل الشعور بالاستقلالية وتارة من اجل التأمل . غير ان الهدف الأول والأخير لاختيار أنماط من الشخصيات غير تقليدية ( ميتا- شخصية ) هو توظيفهم من اجل أداء أدوارهم ، كل حسب دوره على مسرح الحياة . وهي مسرحية جديرة بأن تؤدى لأنها مسرحية ذات هدف ، وليست كتلك المسرحية التي اشار اليها شكسبير في مسرحية ( مكبث ) التي اقتبسها فوكنر ليضعها في مقدمة روايته الشهيرة ( الصخب والعنف ) :
" ما الحياة الا ظل يمشي ، ممثل مسكين
يتبختر ويستشيط ساعة على المسرح،
ثم لايسمعه احد : انها حكاية يحكيها معتوه ، ملؤها الصخب والعنف ،
ولا تعني أي شيء " (11)
ان شخوص ( اصوات الصمت ) والنصوص المسرحية المتداخلة التي سعوا لادائها مكرسة لهدف نبيل هو القضية الفلسطينية ، تتلوها أهداف أخرى تتعلق بالموقف من الحياة والفلسفة وعموم الحالة السياسية الراهنة التي تحياها المنطقة العربية ونظرة الكاتب إزاء الحياة.
اصوات الصمت ليست رواية ايديولوجية في المقام الاول . ان قصودها ، على الرغم من محلية بعض توجهاتها ، تظل ذات توجه شمولي انساني . انها رواية وجهة نظر . ولكن اية وجهة نظر ؟ يلخص هذه الفكرة الكاتب اللبناني محمد دكروب قائلا :
"ان الروائي محايد في التفاصيل ، سواء تجاه الشخصيات ام اتجاه الأحداث .. وغير محايد في المحصلة العامة للعمل الروائي ككل " ( 12 ) "
أصوات الصمت : هندسة العمائر
على الرغم من أن مسألة الشكل والمضمون أصبحت من البديهيات المحسومة منذ أمد بعيد ،الا ان المتلقي لابد وان يلاحظ المهارة التقنية العالية التي بذلها المؤلف للوصول بنصه الى ما هو عليه . فبعد انتقاء كل شخصية و ثيمة كيما تمنحان اشعاعيهما ضمن ثيمة مركزية كبرى تنصب على تضادية الصمت والصوت وهما الخاصيتان اللتان احالهما الى عنصرين يكمل احدهما الآخر ، مال الأسعد الى استخدام عدد من التقنيات برز في مقدمتها حشد من الحكايات التي تتحلق حول البؤرة المركزية فعملت على منحها قدرا اكبر من الإمتاع والجمالية ضمن إطار شكلاني منفتح . فمنذ الفصل الرابع وسكان الفيللا منهمكون بتأليف مسرحية وتوزيع ادوارها فيما بينهم باحثين عن مسرح لعرضها .تستقطب هذه الصبوة وقت الجميع بدء بالمؤلف مرورا بالأصدقاء عبورا الى القارئ المتلقي .
لكن ما دلالات هذا الحراك ؟
الدلالة الأولى هي رسالة تحمل في طياتها ارفع انماط الخطاب الإبداعي إلى من يهمه او لا يهمه الأمر ، وأن منفذيها موجودون على خشبة مسرح الأحداث . ربما تشوب مسرحيتهم بعض الاخطاء، لكن هذا المسعى يظل اكثر صدقا ونبلا من تلك المسرحية السمجة التي لم تعد تقنع الجمهور في سوح الأداء السياسي في عالمنا العربي .
الدلالة الثانية : هي قبل ذلك صرخة بوجه لصوص الأرض الذين قدموا من شتى الأصقاع :
" حين تغيب كل الأصوات ، تظل مسموعة أصوات الصمت. لدي إحساس ان هذا الفلم ( فلم الصبار ) كان يصور أصوات الصمت الثقيلة على أسماع هؤلاء اللصوص " (13)
الدلالة الثالثة : ان هذه المسرحية اشارة تحذير وصرخة صامتة بوجه كل المتخاذلين ان كفى كذبا !
و لايكتفي الاسعد بإثراء عوالم الرواية بثيمة المسرحية ببعديها السياسي والفلسفي بل يوظف عددا من القصص episodes التي تتراوح بين الحكاية الأسطورية الهندية حول مشاهدة احدى المسرحيات المقدسة ، وتلك الخرافة الساخرة التي رواها جمال ( الميت ) كيف انه سار ذات يوم من جنين الى عمان ليطلب من الملك تزويجه ! إضافة إلى حشد من الصياغات التأملية ذات الطابع الشعري العميق والرشيق في آن معا او المحملة بالهجاء اللاذع ، او التي تتخذ من قوانين الميكانيك الكوانتي الإحصائية الاحتمالية حجر زاوية باللاحتمية في العالم الأصغر ، والقول بوجود ميدان في الطبيعة لا تخضع فيه الاحداث للسببية . لقد بذل الروائي جهدا خارقا في توفيرها جنبا الى جنب ضخ شحنات عالية من الجذل الممتزج بالأسى والإمتاع الذي سبق وان شعرنا به ونحن نقرأ روايته ( شجرة المسرات ) التي استوحت رؤاها من رحلة ابن فضلان الى بلاد الخزر وسواها من بلدان ، غير انه في ( أصوات الصمت ) قدم لنا رؤية اكثر أصالة واستقلالية عبر نص بدا من الواضح ان كاتبه تقصد ان يكون موحيا مختزلا في آن معا .
سيمياء الشعر
في خضم التزاحم الحاصل بين سلطة النقد وسلطة القراءة ، اجدني ، وعلى نحو ذاتي اميل لسلطة القراءة التي تمثلها القراءة الاولى للنص مع ما يرفق ذلك من تذوق عفوي لمكنونات الجمال في شذرات النص ومنمنماته ، الى ان يحين الوقت الذي تتذاوب فيه السلطتان اثناء القراءآت اللاحقة مع تغليب لسلطة النقد وهي تتحول الى فعل قصدي ممنهج .
عرفت الاسعد شاعرا وناقدا قبل ان اعرفه روائيا . لايمكن ، هنا، تغييب دور الأسعد كشاعر في عمله الروائي هذا . لكن من الضرورة بمكان الإشارة الى ان المقصود بالشعر هنا ليس الصياغات اللغوية وحدها ، انما كل ما يحتويه الشعر من علاقات لغوية وظاهراتية وموسيقى داخلية وإيقاع .:
" ان السردية في الشعر فرع من اصل كبير هو الشعرية poetics " ( 14) . ان خلخلة الحدود الفاصلة ، بين الشعر والنثر ، وذلك بإدخال تكنيكات بناء القصيدة في الرواية ، قد أكدها الكتاب المعاصرون التالون لبروست وجويس:
" ربما يكمن أهم ميراث يتركه لنا هذا الخط من الشعر في الرواية في الوعي الواضح بإلغاء الحدود الزائفة ، بإلغاء التقسيمات البلاغية . لم تعد ثمة رواية ولا قصيدة، بل ثمة مواقف ترى وتحلل في نظامها اللفظي الخاص " (15) . والواقع ان محمد الأسعد استخدم التقنين والاختزال آليتي اشتغال لا في الجانب الشعري وحده بل في كل تفصيل من تفاصيل العمل . ولاجدال في ان رواية الأسعد جاءت حاصل كم وعي يحفل بالحداثة لكاتب يدرك تماما مطبات اللغة التقريرية وانتكاساتها ، بل وحتى فخاخ اللغة الشعرية ، على حد سواء .
( اصوات الصمت) قصيدة في رواية أو رواية في قصيدة : عمل إبداعي يتأبى على التصنيف لكنه لا يتنكر لجنسه .
في صمت وتواضع ، يترك الأسعد لنصه الجميل ان يفرض حضوره عملا
ابداعيا هاما لا يرفد المشهد الروائي العربي وحسب انما يبوئه مكانته التي يستحق عملا رياديا في كل سطر من سطور أوديسة غير قابلة للنسيان .باختصار .. (أصوات الصمت) علامة فارقة في مسار الرواية العربية . يقول ميلان كونديرا نقلا عن بروخ : " ان السبب الوحيد لوجود الرواية هو أن تقول شيئا لا يمكن أن تقوله سوى الرواية " !
محمد سهيل أحمد
احالات
..............................................
( 1) اصوات الصمت ، محمد الاسعد ، الدار العربية للعلوم ناشرون ، بيروت ، لبنان الطبعة الاولى 2009
(2 ) المتخيل السردي ، مقاربات نقدية ، عبد الله ابراهيم، المركز الثقافي العربي ، بيروت ، الطبعة الاولى 1990
(3) ثريا النص ، مدخل لدراسة العنوان القصصي ، محمود عبد الوهاب ،الموسوعة الصغيرة ، دار الشؤون الثقافية العامة ، بغداد ، الطبعة الأولى 1995
( 4) أصوات الصمت ص 52
(5) أصوات الصمت ص15 .
( 6) المصدر أعلاه ص9
( 7 ) المصدر أعلاه ص58
( 8) المصدر أعلاه صفحات متفرقة
(9) المصدر السابق ص7
(10) اصوات الصمت ص7
(11) الصخب والعنف ، وليم فوكنر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت ط4 1984،ص3
( 12) موقف في نظرية الرواية ، محمد دكروب ، مقدمة كتاب الكاتب والمنفى / م س / ص45 / لم يتوفر اسم المطبعة ولا سنة الإصدار
(13) اصوات الصمت ، ص52
(14) المتخيل السردي ، عبد الله ابراهيم ص104
(15) وردت العبارة على لسان خوليو كورتاثار ، انظر كتاب أدب أمريكا اللاتينية لمؤلفه سيزار فرنانديث مورينو، ترجمة احمد حسان عبد الواحد سلسلة عالم المعرفة ، الكويت ، ج2 1988 ص119
06/11/2014