يحي حقي وأدب الصدق
...............................................................
|
محمود الفقي |
بقلم: محمود الفقي
...................
في المجلس الثقافي البريطاني، وبينما كنت أختلس فيها قراءاتي في الأدب الإنجليزي في أوقات الفراغ، لن أنسى ما رأيته في شريط فيديو يعرض أدب تشارلز ديكنز، وقد اخترت ديكنز بالذات لأني أحب أدبه حبا شديداً، بل إني أرى أنه قد فاق شكسبير في تصوير المأساة والشقاء الذي ألم بالمجتمع الإنجليزي فور دخول عصر الآلة والصناعة مما أثر على كل البشر العاملين فقط لسد رمقهم والذين ظلمتهم الآلة وحلت محلهم. أقول لن أنسى هذه الكلمة: "عاش ديكنز حياة شقاء وفقر وضنا، ودخل أبوه السجن لما حاصرته الديون، وتقلب ديكنز بين أعمال ومهن كثير وهو بعد صبي في طراوة الصبا وماتت أمه، وإنا نقول: لولا السجن والفقر والضنا ما كان شارلز ديكنز."
نعم أؤمن أن المعاناة هي التي تخرج الأديب، لكن أي أديب نحتاجه اليوم؟ الموغل في تصوير الواقع بحذافيره وألمه وشقائه، أم السابح في بحور من الرومانسية والخيال لا يحط على الأرض ولا يسمع آهة الحزانى؟ أجيب: نحتاج الصدق وكفى. وهذا هو ما لفت نظري في يحي حقي، فأدبه هو البساطة بعينها، وهو التلقائية التي تجعلك تقول: هذا الأديب مني وأنا منه. إنه يعبر عني. إنه صادق وبسيط وتلقائي ولا يتعالى علي ولا يتكلم من برج عاجي. يقول حقي: أبدا لم يكن طريق الشعر معبّدا لي. يقول حقي هذا في مقدمة كتابه فكرة فابتسامة، ويؤكد أن تحسره على عجزه عن كتابة الشعر من أكبر الأدلة على قدر المرأة عنده، وهي التي حقها أن يصاغ لها قصيد جماله من قبس جمالها، ورقته من وحي رقتها. وأنا أقول إن كان الشعر أوزان وقوافي فقط فبئس الشعر ذاك يا حقي. الشعر في رأيي هو قمة أدوات التعبير ولو خرج النثر جميلا فما المانع أن أعتبره شعرا لو أنه ترك فيّ نفس الأثر الذي يحدثه الشعر، وفي النهاية فاللغة ما هي إلا أداة اتصال فقط. عاش حقي مثل ديكنز حياة شقاء في طفولته، وعن ويكيبيديا أعجبني هذا الوصف الجميل المليء بالمعاني لصفاته الخلقية بكسر الخاء:" كان يحيى حقي قصير القامة ، " لايزيد طوله عن المتر " إلا ( بِلُكَّمِيَّة ) ـ على حد تعبيره ـ له وجه طفل سمح ، وردي اللون ؛ و رأس كبير ، زحفت جبهته حتى منتصفه، وفم لا تفارقه البسمة الخجول الغامضة، الودود المتوددة، في عينيه بريق حاد يجعلهما كعيني صقر، يشع منهما ذكاء فريد نصفه دهاء ونصفه حياء، و نفاذ بريقهما لا يكاد يتخلله سوى رعشة الخجل، ينكفئ بين العينين أنف ليس صغيراً، ترتاح على جانبيه وفوق كرسيي خديه، عدستا (منظار) كجناحي فراشة،تزيد مسحة الذكاء إشعاعاً وانطلاقاً، ذلك (المنظار) الذي اعتاد عليه منذ وقت مبكر جداً من طفولته،مثله في ذلك مثل كل أفراد عائلته؛ في يده اليمنى يمسك عصاً معقوفة من الأعلى،قد يغطي مقبضها أحيانا بمنديل من قماش أبيض، كما يغطي رأسه بـ (بيريه). انتهى نقلي من ويكيبيديا، وإني أقول: إني لمست هذا بنفسي عندما استمعت إليه في برنامج:" زيارة لمكتبة فلان" الذي أحرص على متابعته، وتقدمه المذيعة نادية صالح على البرنامج العام، فكم كان طيبا صادقا بسيطا متواضعا عفا حييا، نحسبه كذلك ولا نزكيه على الله، وأسأل الله له ولأبي ولجميع موتانا الرحمة والمغفرة.
عرفه الناس من رائعته: قنديل أم هاشم التي صورت المجتمع المصري بحلوه ومره أروع تصوير. وقنديل أم هاشم إنما تأتي إبرازا للجدلية التي تحدث عنها رجاء النقاش في حديثه عن حقيقة التشابه بين الطيب صالح الذي رحل عن عالمنا مؤخرا وكبار الكتاب، فالمشكلة التي عالجها الطيب في (موسم الهجرة إلى الشمال) هي نفسها عالجها توفيق الحكيم في روايته (عصفور من الشرق) وعبر عنها يحي حقي في روايته (قنديل أم هاشم)، وعبر عنها الروائي اللبناني سهيل ادريس في روايته (الحي اللاتيني) والمشكلة هي مشكلة الصراع بين (الشرق والغرب)، كيف تواجهها الشعوب الجديدة؟ كيف تعالجها، وتتصرف فيها، هل تترك ماضيها كله وتستسلم للحضارة الغربية وتذوب فيها وتقلدها تقليداً كاملاً، هل تعود هذه الشعوب إلى ماضيها وترفض الحضارة الغربية؟ أم هل تتخذ موقفاً ثالثاً يختلف عن الموقفين السابقين؟ وما هو هذا الموقف الجديد؟ وربما يستدرك علي أحد فيقول كيف تثني على حقي الذي يقول نصاً في قنديل أم هائم على لسان إسماعيل :" المصريون جنس سمج ثرثار ، أقرع أرمد ، عارٍ حافٍ ، بوله دم وبرازه ديدان." لكني أجيب بأن حقي لم يوافق أصلا على ما قاله إسماعيل، بل أصل هذا العمل تصوير للصراع الدائر بين المسلم الشرقي المصري الذي يقطعه القلق والصراع بين التخلف والجهل في أهله ووطنه – ما كان من تمسحهم بأعتاب الأولياء وصب زيت القنديل في عيون قريبته حتى عميت وغير ذلك – وحبه وتحنانه عليهم من جانب وبين تطلعه وطموحه لاستنساخ تجربة الغرب المتقدم من جانب آخر. لكن هذا لا يخلو من ألم ولوم شديد يظهر في هذا العمل في عودة إسماعيل لحضن أهله وحنانه وحبه لهم ورأفته بأمه وأبيه وقريبته وأهله أجمعين. بل ربما يكون هذا ما دفع بعض النقاد إلى القول بأن حقي ينحاز للجهل في قنديل أم هاشم. وهكذا يظهر عشق حقي لمصر الذي كان يحمل عرقا تركيا لم يحمله على أن يتعالى على أهل بلده. لقد ظل حقي صديقا مقربا من العلامة محمود شاكر قرابة ثلاثة وخمسين عاماً. وفي كتاب الأستاذ صلاح معاطي " وصية صاحب القنديل" الذي يتحدث فيه حقي عن أصدقائه المقربين وذكرياته معهم عد حقي شاكر ثاني أقرب خلصائه إليه. وقد كتب محمود شاكر مقالة في الأهرام عقب وفاة حقي كانت بعنوان:" يحي حقي: صديق الحياة الذي افتقدته" ولم تخل المقالة بالطبع من تبيان ما كان بينهما من بعض الاختلاف في وجهات النظر والأمزجة والطباع.
يلخص حقي الصفات الواجب توافرها فيمن يريد أن يكون أديبا فيقول:" الدراية بالأدب القديم نثراً وشعراً ومعرفة تاريخ بلده والتعبير عن مجتمعه، وأن يكون قدوة لغيره، وأن يلتصق بمجتمعه جيداً." والكلام وإن كان بسيطا لكن يظل دليلا يفضح كثيرين ممن أخذوا لقب أديب بقوة الذراع في حاضرنا، لأنه يؤكد أنهم ليسوا بأدباء على الأقل من وجهة نظر أديبنا الكبير حقي.
وإني أرى أن حقي هو أفضل من كتب القصة القصيرة في أدبنا على الإطلاق. صحيح أن هناك أسماء أخرى بارزة في كتابة القصة القصيرة مثل يوسف إدريس بل ومصطفى محمود الذي أعتبره قويا في هذا الجانب بالذات لكن يبقى أن أقول إن حقي قد تفرد برشاقة اللفظ وصدق المعاني في هذا الجانب بالذات وهو القصة القصيرة، وهو ما يؤكده حقي حينما يكشف عن حبه الشديد لكتابة القصة القصيرة دون غيرها من فنون الأدب. وحتى في سيرته الذاتية التي أبدعها في كتابيه " خليها على الله"، و "كناسة الدكان"، لم يتخل حقي عن وصفه وتصويره لمجتمعه المصري بكل حذافيره لكن بصدق وعفوية وتلقائية وإخلاص كما يؤكد الناقد الأدبي يوسف الشاروني.
وأختم باقتباس كلمات حقي التي تؤكد تدينه وعميق انتمائه للإسلام في كتابه "من فيض الكريم" :" ليس في كتاب غير القرآن مثل هذا الإلحاح المفضل على الإنسان ليعمل عقله ويتدبر الكون ويفهم أسراره، ومثل هذا الحثّ على العلم وطلب العلم الذي ارتفع إلى مقام الفرائض.. إنه يفتح الباب على مصراعيه أمام قوى الإنسان العقلية لتتفجر وتنطلق من مكانها بغير رهبة، ثم يتساءل: هل بعد هذا إقرار بكرامة الإنسان وبرهان على الوثوق به والأمل فيه? ليس في القرآن لعنة تلاحقه منذ مولده."
mfiqy@yahoo.com
مصرنا ©