دولة لا تحترم عقول أبنائها
...............................................................
| |
مجدى خليل | |
مجدى خليل
.....................
في سنة 1909 أبتكر عالم الإدارة الأمريكي بيتر دراكر مصطلح "مجتمع المعرفة" وهو تطوير لمقولة فرانسس بيكون في القرن السادس عشر "المعرفة قوة" والمعني واضح في العبارتين أن المعرفة هي أساس تحديث وتطوير وتقدم المجتمعات الانسانية، وأن مجتمع المعرفة يتعامل مع الأمور بشكل نسبي وتنتفى فيه مقولة "الحقيقة المطلقة"، فالمطلقات تتحول في مسارها الأخير إلى "دوجما" يتم تكفير ومطاردة وربما قتل من يشكك فيها ،وتصير مصدرا للصراع والاقتتال بين البشر، ولهذا يقول مراد وهبة "إذا كانت الحقيقة موضع شك في حدها الأدني وموضع إنكار في حدها الاقصى كان من اللازم فصل الحقيقة عن المعرفة والاكتفاء بالمعرفة دون الحقيقة"، بمعنى أن يصير النسبى هو مجال المعاملات البشرية ويحتفظ كلا لنفسة بالحقائق المطلقة.
في مصر والمنطقة العربية هناك فجوتان رئيسيتان تفصلهما عن الحضارة الحديثة وهما "فجوة المعرفة"، و "فجوة الحريات" والنتيجة لغياب مجتمع المعرفة ومجتمع الحريات هو سيادة الخرافة والجهل والتخلف والتعصب الديني وظهور ما يسمي ب "فجوة الآمل" فى مجتمع ارقى وافضل،.
عندما غزت الحملة الفرنسية مصر 1798بدا واضحا ضخامة الفجوة المعرفية بين الغازي بجيوشه ومركباته وأسلحته الحديثة وبين المماليك الذين كان يستعملون النبل والرماية في القتال، وكانت النتيجة هروبهم مذعورين أمام مدافع نابليون وهم يرددون يا ولي الالطاف نجنا ممن نخاف حتى أن بعضهم كان يظن أن أسلحة نابليون هي نوع من العفاريت والجان. وسقط الجهل سريعا أمام المعرفة وهو نفس ما حدث مع طالبان عقب أحداث 11 سبتمبر، فالمعادلة محسومة لصالح العلم والمعرفة فى النهاية.
لقد أدرك محمد على مؤسس النهضة الحديثة في مصر هو وأبناؤه من بعده وخاصة سعيد وإسماعيل حجم هذه الفجوة وسبل علاجها، فقاد نهضة مصر على أساس المعرفة والاستعانة بالنخبة المثقفة والمتعلمة "طبقة الانتلجنسيا" في تحديث وتطوير مصر والحاقها بالعالم الحديث، ببناء ممرات معرفية من المتقدم إلى المتخلف عبر البعثات العلمية والاستعانة بطبقة النخبة.
النخبة إذن هي التى ساهمت فى بناء مصر الحديثة وقادت نهضتها والتي اجهضت فيما بعد على يد "ثورة يوليو العسكرية" ،والنخبة في أوروبا هي التي قادت النهضة عبر ترسيخ عالم المعرفة، والحريات وسيادة القانون، وحاكمية الشعب ببناء الديموقراطيات الليبرالية الحديثة، وقيام شرعية الحكومات على فكرة التعاقد مع المواطنيين، فالمواطن العادي هو أعلى منصب في النظام الديموقراطي.
وعبر الاطلسي وفي أمريكا تم بناء هذه الدولة الضخمة العظيمة على أسس وقواعد وفلسفة النخبة وهم ما أطلق عليهم "الأباء المؤسسون".
النخب هي إذن هى التي قادت النهضة سواء في الغرب أو الشرق واستبعادها وتحييدها واضطهادها ،والذي يحدث فى شرقنا التعس، هو الذي جاء بالتخلف وبحراس التخلف ومدعى ملاك الحقيقة المطلقة. في مصر بدأ المشروع الليبرالي التحديثي النهضوي مع قدوم محمد على وانتهي بمجئ العسكر "1800 � 1952" ثم بدأت مرحلة أخرى وهي المرحلة التي يسميها سعد الدين إبراهيم ب "العصر الشعبوى" ،ويمكن تقسيمها إلى "العصر الشعبوي القومي العربى 1952 � 1970" والعصر الشعبوي الإسلاموي 1970 � 2007" حيث استبعدت الانتلجنسيا الحقيقية وحل محلها مثقف السلطة وكتبة الحكومة ومنافقي السلطان، وارتفعت الشعارات المضللة الكاذبة، وتم حشد الأمة في مواجهة أعداء القومية "لا صوت يعلو على صوت المعركة" ثم في مواجهة أعداء الإسلام الوهميين عبر الحرب المستدامة على العالم وعلى الغرب وعلى الحداثة.
وراجت الشعارات الكاذبة المضللة في العصر الشعبوي، فعبد الناصر الذي أسس الدولة العسكرية الأمنية البوليسية التي اذاقت المواطن الذل كان يرفع شعار "كرامة الإنسان" ، والسادات الذي كان يصرخ "لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين" هو الذي اطلق على مصر دولة العلم والإيمان وصرح بأنه "رئيس مسلم لدولة مسلمة"، ودشن في دستور 1971 أسس الدولة الدينية عبر المادة الثانية وأكدها بوضوح بتعديلات 1980 والتى جعلت الشريعة المصدر الرئيسى وواقعيا الوحيد للتشريع.والنظام الحالى الذي رفع شعار الشفافية وطهارة اليد، وأن الكفن ليس له جيوب، والصدق هو أكثر الطرق للاقناع سار على نقيض هذه الشعارات تماما.
الدولة الفاشية الشعبوية تحتقر مثقفيها الحقيقيين وتطلق عليهم أدواتها لنهش لحومهم وسمعتهم ومطاردتهم عبر بوليسها ومحاكمها.الدولة الفاشية الشعبوية تقف دائما لمساندة "حراس التخلف" في مواجهة "دعاة التقدم".
تذكرت كل هذه المعاني بعدما تشرفت بالمشاركة والتنسيق للبيان الذي أصدره مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان بشأن تعديل المادة الثانية من الدستور المصري والتي تنص على أن "الإسلام دين الدولة ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع" ووقع على البيان حوالي مائتي شخص يمثلون قمة النخبة المثقفة فى مصر نذكر منهم على سبيل المثال وليس الحصر أحمد عبد المعطي حجازي، أحمد عكاشة، حازم الببلاوي ، جابر عصفور، رشدي سعيد، فؤاد زكريا، فؤاد عبد المنعم رياض، محمود أمين العالم،صلاح فضل، هالة مصطفي، محمد السيد سعيد، وسيم رشدي السيسي، سيد القمنى،جمال البنا، فريدة النقاش، محمد سلماوي، محمد نوح، يوسف القعيد، داود عبد السيد، جمال عبد الجواد، بهي الدين حسن، أمينة النقاش، حسين عبد الرازق، سعد هجرس، عبد المنعم تليمة.. وغيرهم الكثير والذي لا يتسع المقال لذكره.
تم تسليم رسالة المثقفين إلى قمة السلطة فى مصر، من رئيس الجمهورية إلى رئيس الوزراء إلى رئيس مجلس الشعب وغيرهم. ودعما لرسالة المثقفين وموقفهم التاريخى من رفض الدولة الدينية فقد تبنيت مع مجموعة من اصدقائى نشر هذا البيان كإعلان مدفوع الاجر بكامل أسماء الموقعين عليه ،لكى تصل الرسالة بوضوح إلى المسئولين والرأى العام ولتسجيل موقف للتاريخ، وقد نشر البيان بالفعل فى صحيفتى وطنى والاهالى وسوف يتم توزيعه عبر وكالة توزيع بالانجليزية على اوسع نطاق.
وقد أستند الموقعون على أن النص على دين محدد للدولة ينطوي على إخلال بالموقف الحيادي المفترض للدولة تجاه مواطنيها الذين ينتمون إلى عقائد وأديان متعددة حتى وصل الأمر إلى حد منع البهائيين من استخراج بطاقات هوية شخصية بديانتهم الحقيقية، وقد قالت السيدة بسمة موسى الاستاذ بكلية طب أسنان القاهرة فى ملتقى مركز القاهرة إنها تحمل بطاقة هوية منتهية الصلاحية لأن الدولة ترفض إخراج بطاقة جديدة لها بهويتها البهائية، وتصر على ذكر كلمة مسلمة في خانة الديانة،أى تغيير اجبارى لعقيدة الشخص ، ورغم أن ذكر خانة الديانة في بطاقات الهوية هو أيضا يمثل فرزا طائفيا مقيتا ومعيارا لتسهيل التمييز السلبي ضد غير المسلمين.
وقد أثرت بالفعل المادة الثانية من الدستور المصري عمليا على مسألة حياد الدولة، وفي إنتهاك حق المساواة بصرف النظر عن الدين وفي اجتياح مظاهر التدين السطحي المريض والتعصب الديني كافة مناحي الحياة في مصر وإشاعة مناخ التطرف على حساب حرية البحث العلمي والفكرى والأبداع الأدبي والفني وحرية الضمير الإنساني، وأصبحت مناهج التعليم وسائل الأعلام المملوكة للدولة مصدرا رئيسيا لإشاعة التطرف الديني حتى وصل الأمر أن تنشر وزارة الأوقاف للسيد محمد عمارة كتابا يكفر المواطنيين الذين لا يؤمنون بالإسلام ويبيح إستحلال أملاكهم ودمائهم. وبفضل هذه المادة خالفت مصر المواثيق الحقوقية الدولية التي وقعت عليها.
لقد أظهرت "معركة المادة الثانية" بوضوح تحالف الليبراليين والاشتراكيين والعلمانيين والمرأة والأقباط ودعاة الدولة المدنية الحديثة في مواجهة التيار الإسلامي الذي يهدد بسحق كل من يقترب من المادة الثانية والتي يعتبرونها القنطرة الشرعية التي ستوصلهم إلى حكم مصر وتحويلها إلى دولة طلبانية جديدة. ويقف في خندق واحد مع الإسلاميين النظام الحاكم ببرجماتيته المعهودة، والتي حولت كل شيء في مصر إلى عالم من الزيف والفساد من آجل الاستمرار في الحكم.
حتى زوجة السادات السيدة جيهان،رغم دفاعها المستميت والدائم عن زوجها الراحل، قد صرحت مؤخرا لقناة اوربت بأن المادة الثانية من الدستور كانت أحد أخطاء السادات والسادات بشر وجل من لا يخطئ وعلى القائمين على الحكم الآن تغييرها. لقد قيل أن السادات قاد العبور والسلام والانفتاح الاقتصادي وزرع المادة الثانية من الدستور عام 1971 وأضاف لها الالف واللام الشهيرة عام 1980 لتصبح الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع أو بمعني أوضح المصدر الوحيد، وكانت هذه المادة هي السبب في اغتياله حيث أعطت الشرعية لظهور التنظيمات الإسلامية بأجنحتها المتطرفة والإرهابية والتي حاكمت السادات بناء على رؤيتها للشريعة ومن ثم إغتالته. السادات صنع أشياء كثيرة كما قلت من النصر إلى السلام ولكن النظام الحالى عاجز حتى عن إزالة الألف واللام من المادة الثانية.. هل رأيتم عجز أكثر من هذا؟
السؤال الحقيقى من يستطيع إنقاذ مصر من كبوتها وقيادة نهضة جديدة بها، النخبة Elites أم الرعاع Mobs؟.
فى تصورى لا يختلف باحثان جادان فى ان النظام المصرى الحالى لا تعنيه كثيرا فكرة نهضة مصر وأنما ما يعنيه فقط هو الاستمرار فى الحكم بكل أدوات القمع وفى نفس الوقت تحاشى استفزاز الغوغاء ومن ثم دعم اجندتهم المتخلفة. عدم استفزاز الغوغاء ومن ثم دعم اجندتهم المتخلفة هى ليست وصفة للاستقرار وانما روشتة للخراب.
لا أمل في نهضة مصرية حقيقية إلا بقيادة النخبة لهذه النهضة، والدولة والإسلاميون يقفون كحائط سد في مواجهة هذه النخبة. لقد انتصر "حراس التخلف" على "دعاة التقدم" في معركة المادة الثانية ولكن المعركة مستمرة .. ولا توجد حلول توافقية فيما يتعلق بدينية ومدنية الدولة، فالدولة الدينية قتلت بحثا وهي فكرة فاسدة تاريخيا وحاضرا .. والمعركة مع حراس التخلف مستمرة حتى تنتصر إرادة التقدم والحداثة والمدنية والانفتاح والسلام والنهضة.
magdi.khalil@yahoo.com